مسألة السلطة والسلطان من أخطر أركان الاجتماع البشري، إذ منها يبدأ حفظ المصالح أو نشر الفساد، ويُعدُّ التنازع والتناحر فيها أشد خطرًا لأنه يمنع من حفظ المصالح ويفتِّح أبواب الفساد، وإن تَصوُّر السلطة والسلطان في الوسط الأُسري فرعٌ عن هذا التصوُّر الأكبر، فهو ينسجم في تصوّره وأحكامه مع الفطرة السوية، إذ يصدر كلاهما من مشكاة واحدة، والفطرة السوية للوالدين تجعلهما أحرص الناس على أولادهما وأشفقهم بهم وأرعاهم لمصالحهم، وولاية التزويج من فروع هذه الولاية.
تندّد النسوية بمبدأ ولاية الآباء على البنات في التزويج، وبالذات تزويج “الصغيرة”، والحق أنّه ليس في التصوّر الشرعي إجماله وتفصيله ما يجعل الفتاة “خروفًا يُساق قهرًا للمذبح”، على ما تدّعي كثير من أدبيات النسوية في تشبيهاتها؛ وإنما سبب تصوير المسألة على هذا النحو هو الممارسات الخاطئة والمخالفة شرعًا، بالتوازي مع أجندة إعلامية وثقافة درامية مليئتين بالمغالطات لدى المعترضين. والسطور التالية تهدف لتحليل مكامن الخلل في هذه الدعوى.
مفهوم الولاية في التصور الشرعي:
مسألة السلطة والسلطان من أخطر أركان الاجتماع البشري، إذ منها يبدأ حفظ المصالح أو نشر الفساد. ويُعدُّ التنازع والتناحر فيها أشد خطرًا لأنه يمنع من حفظ المصالح ويفتِّح أبواب الفساد، حتى جرى المثل بمقولة “المركب ذات الريّسين تغرق” أو “كثرة الطباخين تفسد المرق”.
وفي الحديث: عن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: (إذا كان ثلاثةٌ في سفر فليؤمروا أحدهم). قال نافع: ”فقلنا لأبي سلمة: فأنت أميرنا”([1]). والقصد بالإمارة هنا إمارة حقيقية تُلزِم البقية بالسمع والطاعة المرهونتين بكونهما في الحق، قال الشارح: “فيه دليل على أن الرجلين إذا حكَّما رجلاً بينهما في قضية فقضى بالحق فقد نفذ حكمه”([2])، فاختيار ذي السلطة (حيث كان ثمة اختيار) واتباعه أو الامتناع عن ذلك كله مرهون باتباع الحق.
ويمتاز التصور الشرعي للسلطة عمومًا بمجموعة مميزات تجعل له الأحقية التامة وتكفل له الاستعلاء على ما عداه من تصورات:
- انسجام التصور الشرعي مع الفطرة الإنسانية، فالتكليف والطاقة (الوُسع) من مشكاة واحدة وإلى مردّ واحد.
- كفاية الناس مؤنة التناحر في ترتيب شؤون الرياسة والأتباع في مختلف السياقات، فقد عَرَّفت الشريعة أهل السلطان وحدود السلطة والطاعة والعصيان والظلم …، وذلك في مختلف المقامات والمراحل العمرية. فسلطان الآباء على الأبناء –مثلاً- تختلف صلاحيته وحدوده ومظاهر ممارسته بحسب الجنس والفئة العمرية وعوامل أخرى موضّحة في مواطنها.
- سنّ الله تعالى سنّة السلطان كما سنّة التسخير، قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ [الزخرف: 32]، فامتنعت بذلك الحرية المطلقة على بني آدم في هذا الوجود. ولذلك لم يقدر أحد حتى اليوم على التملص منها مهما ادّعى تحرره بنبذ سلطان الدين وعبودية الله، فتجده قطعًا عبدًا لغير الله تعالى وتابعًا لسلطانٍ سواه.
ثم إن تَصوُّر السلطة والسلطان في الوسط الأُسري فرعٌ عن هذا التصوُّر الأكبر، فهو كذلك ينسجم في تصوّره وأحكامه مع الفطرة السوية، إذ يصدر كلاهما من مشكاة واحدة. والفطرة السوية للوالدين تجعلهما أحرص الناس على أبنائهما وأشفقهم بهم وأرعاهم لمصالحهم، ولذلك كانت الوالدية نوع قوامة من حيث إن كلا الوالدين يقومان على ذريّتهما بما يصلح أمرها في الدنيا والآخرة في جميع جوانب الحياة: التنموية، والتعليمية، والصحية، وغيرها.
فإذا خصصنا ولاية الأب على البنت في موضوع الزواج، نجد تسلسل التصور يبدأ بجَبْل الرجل على مواصفات الرجولة من الفتوّة والقوّة والمروءة والغَيْرة على العِرض؛ ليُؤهَّل لما كُلِّف به من القيام على حِمَى أهله، بالكفاية والحفظ والصيانة دينًا ودنيا. وخُصَّ لأجل ذلك بدرجة السلطان الشرعي في الأسرة، اللازمة هيبتها لاعتبار رياسته، ومنع التنازع والتناحر القيادي الذي يهدم قوام أي مجتمع (والأسرة مجتمع مصغّر). ثم جُعِل الأب هو الأقدرَ على النظر في حال الرجال بعين الرجولة، والأحقَّ بائتمان ابنته لرجلٍ غيرِهِ سيليه في أمانتها، ومن هنا كان الاعتبار الشرعي لإذن الأب في الزواج أو صلاحيته للتزويج، على اختلافات درجة ذلك الاعتبار وتفاصيله بحسب المتقرر شرعًا.
بناء على فهم أصل التصوُّر هذا يتَّضح أنَّ مكمن الخلل يبدأ من الجهل به جملة وبأحكامه تفصيلاً، ثم مما قد يعتري فطرة الوالديّة من اضطراب أو تشوّه بسبب عُقدٍ دفينةٍ من آثار التربيات السابقة، فضلاً عن بعض أساليب التربية الخاطئة التي تقوم في غالبها على التعنيف والتسلُّط([3])، وتخلو في كثير منها عن خشية الله تعالى واتّقائه في الأنفس التي اؤتمن عليها. فهل كان عجبًا بعد ذلك أن تضطرب ممارسات الوالدية اليوم كل مُضطَّرَب، وأن تتسع الفجوات بين الأبناء ووالدِيْهم حتى تصل للبغض والعداوة والقطيعة؟ أو كان إنصافًا أن يُلام التصور الشرعي الكامل والمتكامل على نقصان العلم به من المُنتسبين إليه، ويُجتَرأ على الدين بسبب جرائر بعض المتدينين؟!
خُصَّ الأب بدرجة السلطان الشرعي في الأسرة -اللازمة هيبتها- لاعتبار رياسته، ومنع التنازع والتناحر القيادي الذي يهدم قوام أي مجتمع (والأسرة مجتمع مصغّر)، ثم جُعِل الأب هو الأقدرَ على النظر في حال الرجال بعين الرجولة، والأحقَّ بائتمان ابنته لرجلٍ غيرِهِ سيليه في أمانتها، ومن هنا كان الاعتبار الشرعي لإذن الأب في الزواج أو صلاحيته للتزويج، على اختلافات درجة ذلك الاعتبار وتفاصيله بحسب المتقرر شرعًا
تحرير مصطلح “تزويج الصغيرة” ومكامن النزاع النسوي:
ينتهي الصِّغَر في الشرع بالبلوغ، وتناط بالبالغ بمجرد بلوغه الأحكامُ الشرعية المختلفة، فإذا وصل الشخص سن البلوغ لم يعد طفلاً، بل انتقل عن مرحلة الطفولة وأصبح مكلفًا.
والبلوغ شرعًا يحصل بتحقق علامات البلوغ في الفرد بحسب جنسه، أو بالوصول لمرحلة عمرية معينة إذا لم توجد العلامات، وكلاهما عيّنه الفقهاء على اختلاف في بعض التفاصيل.
أما التصور النسوي –القائم على الفكر الغربي– للبلوغ المعتبر للتزويج فلا يَعتَدّ بالتصور الشرعي جملة ولا تفصيلاً؛ وإنما يعتبر أن البلوغ المعتبر هو بعد التخرج من الجامعة على أقل تقدير أو بعد تحصيل وظيفة أو بناء مسار مهني “Career” على أحسن تقدير، وهذه التفرقة من أسس النزاع النسوي بالذات مع التصور الشرعي.
ثم إنهم يجعلون ما دون سن 18 سنة طفولة، وإن ظهرت على الشخص علامات البلوغ!
ثم أساس النزاع الثاني أن النسوية لا تفرّق التفرقة الفقهية بين مرحلتين في التزويج: عَقْد النكاح (ما يسمّى عرفًا كَتْب الكِتاب)، والدخول أو الوَطْء (أي المعاشرة). فالأول هو الذي اختلف فيه الحكم الفقهي في المذاهب الأربعة بين الجواز والمنع، ولكل مدرسة فقهية أدلّتها. أما الثاني فلا يجوز حتى تتحقق شروطه الشرعية المسرودة في المراجع الفقهية.
– لذا فإن النسويين عند إطلاقهم مصطلح “تزويج الصغيرة” أو “الأطفال” فإنهم يعنون بذلك غالبًا البنت البالغة شرعًا، وقد يعنون به المعاشرة لا مجرد الخطبة أو عقد النكاح!
فلا بد عند التصدي لهذا الفكر ومزاعمه توضيح أنه لا يوجد “تزويج صغار” أو “تزويج أطفال” بهذا التصور في الإسلام، وإنما هي مصطلحات مضلِّلة لأهداف معلومة([4]).
التصوير النسوي لأضرار تبكير الزواج:
تُقسِّم الرؤية النسوية أضرار التزويج المبكر إلى قسمين: الضرر المتعلق بالطاقة البدنية والاستعداد النفسي للمعاشرة الزوجية، والأضرار المتعلقة بحق المرأة في فترة عزوبية تتيح تحصيل “الثلاثية النسوية”: تحصيل الشهادة الجامعية و”الكارير”([5]) والسياحة في الأرض (تحت شعار “رؤية الدنيا أو العالم”) قبل التقوقع في قفص الزواج.
أما النوع الأول من الضرر: فمردودٌ عليه بالفعل في التصور الشرعي للمسألة، وهو الذي يشغل الحيز الأكبر في أحكام المسألة كما سبقت الإشارة، وعرَّف فيه الفقهاء الصغيرة، والإطاقة، والفَرقَ بين عقد النكاح والدخول، وحالاتِ الجواز وشروطَها، وحالاتِ المنع وضوابطَها، إلى غير ذلك من التفاصيل التي إذا طُبّقت على الوجه المشروع تحققت المصلحة وانتفت الأضرار. فعندما تقع مشكلة في هذا الجانب، فهي بلا شك ناتجة من تبعيض وتجزئة العلم والتطبيق الخاطئ للتصور الشرعي المتكامل، وهذه آفة أمة الإسلام اليوم في كل مناحي الحياة ومسائلها، وحلها ليس في تنزيل تشريع جديد أو قصقصة القائم، بل في تجديد التربية على كامل الإسلام عقيدة وشريعة وأدبًا.
إن التصور النسوي لطبيعة الحياة ومسيرتها هو تصور ضيق، خاص بفئة محدودة من الناس، أما عموم الفتيات في الأوساط التي اعتادت التزويج المبكّر ولم تخالطها درامية التصورات النسوية فقد لا تخطر “الثلاثية النسوية” -تحصيل الشهادة الجامعية، والكارير “المسار المهني”، والسياحة في الأرض- ببالهنَّ من الأساس
أما إذا كان الكلام على حق البنت في الاختيار (وهو النوع الثاني من الضرر): فلماذا تؤيِّد الرؤية النسوية تصرُّف الأب الذي يمنع ابنته الزواجَ ممن ارتضته ورغبت فيه، بحجة أنها ما زالت “صغيرة”، ورغبة في إكمال دراستها الجامعية وبناء مسارها المهني وتكوين ذاتها كما يقال؟! لماذا يعدّ هذا الأب بطلاً في عرف النسوية والآخر شيطانًا، مع أن كليهما يقرر بالنيابة عنها وفق الولاية الشرعية، وبدافعِ مصلحتها في تقديره؟
ثم من أين جاءت الرؤية النسوية بقطعيّة اختيار الفتاة للثلاثية النسوية على الزواج إذا خُيّرت بينهما؟ إن التصور النسوي لطبيعة الحياة ومسيرتها هو تصور ضيق خاص بفئة محدودة من الناس، أما عموم الفتيات في الأوساط التي اعتادت التزويج المبكّر ولم تخالطها درامية التصورات النسوية فقد لا تخطر هذه الثلاثية ببالهنَّ من الأساس. فإن قيل إنها ستتحسّر لاحقًا حين تخالط الدنيا على ما فاتها منها، خاصة في ظل ما بلغته قريناتها من “إنجازات” بينما هي حبيسة الدار والعيال؛ فالرد أن هذا التصور الاختزالي للأمومة وربابة البيت قد تم تفنيده([6])، وأن التحسّر وارد على كل حال -حتى فيمن حققت الثلاثية المزعومة- وأن كل موازنة يحصل فيها مُكتسب ومفتقد بالضرورة.
الاستشهاد بحديث “زوّجني أبي”:
بناء على ما ترى النسوية أنها رصدته من أضرار التزويج المبكر، راحت تطالب مرة بإبطال صلاحية التزويج للأب في الشريعة، أو تحريم تزويج “الصغيرة”، أو إسقاط ولاية الآباء على البنات بالجملة. ثم جاءت النسوية “المتأسلمة” تؤيد هذه المطالب بصبغةٍ دينيةٍ تتخيَّر أجزاءً من نصوص منتقاة من الأحاديث والآيات، وتتكئ على جانب من جوانب تفسيرها بمعزل عن السياقات الكلية، وبعيدًا عن منهجية جمع النصوص والتوفيق بينها. ومن أظهر ما تستشهد به النسوية “المتأسلمة” أو بالأحرى تقتصر عليه لإثبات حقانية مطالبها، هو هذا الحديث:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: “جاءت فتاة إلى رسول الله ﷺ، فقالت: يا رسول الله، إن أبي زوجني ابنَ أخيه يرفع بي خسيسته، فجعل الأمر إليها (أي خَيَّرها أن تقبل أو ترفض). قالت: فإني قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء”([7]).
وفي هذا الاستشهاد نظر من وجوه:
- بدايةً، فالحديث من الشهرة بمكان بحيث لم يُغفِل ذكره عالم تناول مسألة التزويج، فهو ليس خافيًا على أهل العلم، وليس اكتشافًا للنسويين! هذه الملاحظة وحدها تُلْجِم الدرامية التي تذيع بها النسوية “المتأسلمة” هذا الحديثَ في معرض أيِّ كلام عن التزويج المبكر، كأنما هي التي روته مباشرة عن رسول الله ﷺ، أو وقفت عليه متفرّدة في غفلة من أهل العلم منذ 14 قرنًا، فجاءت بتأويل وفهم لم يسبقها إليه سابق! ومن عجب أنها تُغفل في المقابل نماذج زواج السيدتين عائشة وفاطمة عليهما الرضوان، مع أنهما من حوادث التزويج المبكر المعتبرة، وفيهما من التفاصيل ما اعتنى به الفقهاء وفَرَّعوا بناء عليه أحكامًا. من ذلك ما ذكره النووي رحمه الله: “واعلم أن الشافعي وأصحابَه قالوا: يستحب ألا يزوج الأبُ والجدُ البكرَ حتى تبلغَ، ويستأذنها لئلا يوقِعَها في أَسْرِ الزوج وهي كارهة، وهذا الذي قالوه لا يخالف حديثَ عائشة؛ لأن مرادَهم أنه لا يزوجها قبل البلوغ إذا لم تكن مصلحةٌ ظاهرةٌ يَخاف فوتها بالتأخير كحديث عائشة، فيستحب تحصيل ذلك الزوج؛ لأن الأب مأمور بمصلحة ولده فلا يفوتها”([8])، وتفصيل هذا سيأتي.
- كذلك أغفَلَت النسوية كل أطراف الحديث وتفاصيله، فيما عدا “لحظة” تخيير النبي ﷺ للفتاة السائلة. منها تفصيلتان بيّنهما أهلم العلم في تأصيل التصور الشرعي للمسألة:
- ما ورد في الحديث من قول الفتاة “ليرفَعَ خَسِيسَته”:
تقصد أن والدها أراد تزويجها ليرفع مكانة ابن أخيه الاجتماعية أو المالية. ومن هذه التفصيلة شَرَط الفقهاء ضِمن ما شرطوا لصحة التزويج أن يكون هدفُه مصلحةَ الفتاة نفسَها، لا لمجرِّد هوى الأب. ولا يمنع ذلك انتفاعَ غيرها بمنافع المصاهرة، ووقتها تكون منفعةً تابعة، لكن القصد ألا يكون تزويجُها على حساب مصلحتها أو بإضرارها هي.
- وكذلك قول الفتاة “قد أَجَزتُ ما صَنَع أبي”:
في مشهد لا يتَّفق مع روح النسوية الدرامي، لا نجد “بطلة” الحديث طارت فرحًا “بتحرير” النبي ﷺ لها من “سطوة” أبيها “الظالم” الغاشم! بل صادرت ذلك الكارت الأخضر بنفسها واكتفت بالهدف الرسالي لشكواها تلك (أن تعلم غيرُها من النساء)، ولم تنطلق لترفُض الزيجة وتعطي نفسها فرصة “الوقوع في الحبِّ” مع شخصٍ من اختيارها، أو فرصة “تحقيق الذات” بالتصدُّر في عملٍ ما على الساحة المجتمعية لتصير تاجرةً أو “سيدة أعمال” مثلاً! بل فَوّتت على نفسها كل تلك “الفرص الذهبية” النسوية لإثبات أهليتها وجدارتها بوصفها كيانًا إنسانيًّا مستقلاً، وقَبِلت تزويج أبيها لرفع خسيسة ابن أخيه!
والمحصّلة في النهاية بعد كل الإخراج النسوي الدرامي للواقعة أننا أمام تطبيق نموذجي لتزويج فتاة بمعرفة أبيها، ولمصلحة ابن أخيه، بموافقة بطلته التي “حرّرت” النساء من بعدها من سلطان الآباء!
من أين يبدأ الإشكال حقيقة؟
الشاهد من هذا الحديث ويشهد له غيره من الوقائع المطردة في سير السلف بل في سيرة البشرية عمومًا قديمًا وحديثًا، أن تزويج البنت بمعرفة أبيها خاصة ووالديها عامة عرف سائد وعمل طبيعي مقبول بل متوقّع، ولا تجد فيه غالب الفتيات غرابة أو أمرًا معيبًا، بل هذا ما يتوقعنه ويرغبن فيه، بغير حزازات وحساسيات؛ فمسألة انفراد المرأة بالرأي والاختيار للزوج، والتصور الرومانسي للتعارف العِشْقي بالتصوير النسوي أو الغربي ليس هو الواقع المثالي ولا الخط العام الذي تسير عليه البشرية، وليس هو الأصلح لها، ولا ترغب غالب الفتيات فيه؛ فغاية ما يهم الأطراف انطباق شروط الكفاءة الشرعية وارتضاء بعضهم البعض بالقدر الذي يُعِين على تحقُّق مقاصد الزواج والعِشرة الطيبة. وكذلك فإن غالب الناس إلى اليوم منسجمون مع “هُويتهم الجندرية (الجنسية)” ذكورة وأنوثة، فتوقعات كل طرف من الجنس الآخر عطاء وأخذًا في محلها. وفي ظل كل هذه الحيثيات التي تبدو للمنظور النسوي العصري اليوم مانعةً من إقامة بيت هانئ، تجد تلك البيوت ضمّت أُسَرًا سَويّة أنجبت نُجباء الأفراد والذَّراري (جمع ذريّة) التي لم يَجُد مَن بَعدهم بمثلهم.
وكذلك ثبت من تاريخ تلك الأزمان وسير رجالها أنهم تعايشوا وتعاملوا مع نسائهم وبناتهم بنفس أحكام الشريعة التي أصّلوا لها وأوصلوها إلينا؛ فلو كان تعرُّض النساء اليوم للظلم في مسألة التزويج المبكر بالذات سببه الخلل في التأصيل الشرعي من حيث صلاحية ولاية الأب للتزويج، لكانت أزمان العلماء الذين أصّلوا وقعّدوا أولى الأزمان بظهور تلك الآفات فيها، وأحوالهم أول النماذج التطبيقية لصور الظلم هذه. ولا يعني ذلك عصمتهم من الزلل والخطأ، أو انعدام وقوع حالات الطلاق أو الخلافات الزوجية أو الشدّة الأبوية عندهم.. بل وقعت وأُثبتت حيث وُجدت منذ عهد المصطفى عليه الصلاة والسلام (ومنها هذا الحديث محلّ الكلام)، لكنها عُولجت بالشرع ولم تُتخذ حُجّة للتبرؤ منه أو التمرُّد عليه من جهة، ثم من جهة أخرى لم تكن ظواهر مجتمعية على مستوى العموم، ولم تكن غالبة على طبائع المعاملات آنذاك، وهذا وحده يدعو للنظر فيما استجد فينا نحن حتى كثر فينا الفساد مع كون الأحكام هي هي.
بالإضافة إلى أن هذه الأخطاء في الممارسات -التي لا تخلو منها طبيعة ولا ممارسة بشرية- لا تقارن بالكوارث والمصائب التي خلفتها الأفكار النسوية و”التحررية” في العلاقات الأسرية وبين الجنسين!
هذا الاستقراء يدل على أنَّ الإشكال الناشئ لاحقًا بخصوص مبدأ التزويج لا يستقيم أن يكون في المبدأ ذاته، فلو كانت العلّة فيه لاعتلّت الأجيال التي مارسته منذ القدم على مدى قرون! وإنما نشأ ما نشأ من مشكلات بسبب ما طرأ من وجوه خلل في الأطراف الممارسة له.
مسألة انفراد المرأة بالرأي والاختيار للزوج، والتصور الرومانسي للتعارف العِشْقي بالتصوير النسوي أو الغربي ليس هو الواقع المثالي ولا الخط العام الذي تسير عليه البشرية، وليس هو الأصلح لها، ولا ترغب غالب الفتيات فيه؛ فغاية ما يهم الأطراف انطباق شروط الكفاءة الشرعية وارتضاء بعضهم البعض بالقدر الذي يُعِين على تحقُّق مقاصد الزواج والعِشرة الطيبة
مشكلة الظلم في الولاية:
مما يؤسف له أن الواقع اليوم ينطق عن شواهد وحوداث تجعل ولاية بعض الآباء على أهليهم تضرّ بدل أن تنفع، وتؤذي بدل أن تحمي، وتجلب السوء بدل أن تدفعه! والحقُّ أنَّ مثل هذا يُقال حتى في ولاية الأم وربابتها في بيتها، وهذا جزء من مشكلة الفساد والانحراف في كافة فئات المجتمعات، والحاصل هنا أنه إذا لم يكن فضل الأمهات يَسْقُط عن مجموعهن بإساءة الأفراد منهن، كذلك لا وجاهة للدعوة بإسقاط الولاية عن مجموع الآباء بسبب إساءة الأفراد، وأن التعامل مع هذه الأخطاء يكون بالتعليم والتوعية لا الإنكار والإلغاء.
وعلى ذلك، لا خلاف في أن الوليّ الظالم بتعدّيه حدود الله تعالى مُؤاخَذ شرعًا على ظُلمه في ولايته، سواء بــ:
- استغلال سلطانه في خلاف ما استُؤمِن عليه: كإيقاع الضرر عمدًا، أو الامتناع عن دفعه تهاونًا، أو تفويت مصلحة ظاهرة عنادًا، أو غير ذلك من تصرّفات بمحض الهوى، بالتعريفات الشرعية لكلٍّ.
- تعدّي حدود سلطانه المُخوّل له شرعًا: فالجد غير الأب غير الأخ غير من يليهم في صلاحية وحدود ومسؤوليات الولاية.
وفي الحديث المتّفق عليه: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)([9])، فهو ظلمةٌ يوم القيامة بما يحجُبُ صاحبَه عن نور الله تعالى ورضاه يوم الحساب، وهو كذلك ظلمات في الدنيا بما يضيّق صدر الظالم ويكدِّر نفسه وصَفْوَ باله، ويمحق أثر البركة في حياته … إلى غير ذلك من مظاهر الظلمات التي شرحها أهل العلم.
وقد جعل الشارع لكل مسلم مخارجَ شرعيةً من الظلم الواقع عليه، بحسب حيثيات السياق وعوامل أخرى مبيّنة في مواضعها؛ فللمرأة نصيبُها من الحلول الشرعية عند تعرُّضها للظلم من قائم عليها بخلاف أمر الله تعالى فيها، من ذلك مثلاً:
- الحلول الشرعية بالموعظة والتذكير والتخويف من الظلم وعاقبته… إلخ.
- الحلول الاجتماعية باللجوء إلى المعارف والوجهاء لثني الأب عن ظلمه أو قراره غير الصائب.
- اللجوء للقضاء أو السلطات، كما جاء في الحديث السابق والذي طلبت فيه الفتاة ردّ الزواج لأنه لم يراع مصلحتها.
- عَرَضَ أهلُ العلم لمسألة إسقاط ولاية التزويج بالكلية عن الأب الذي ثبت أنه عاضل لابنته([10]) وتنتقل لمن يليه من الأولياء أو للقاضي أو من يقوم مقامَه في أهل منطقتها، وتفاصيلها مبسوطة في كتب الفقه.
ومن المخارج الشرعية المعتبرة في التعامُل مع الوالدين المسيئين إجمالاً: استحضار أنَّ الله تعالى محاسبهما ومجازيهما على الإحسان والإساءة؛ وأنه ليس للأبناء صلاحية المجازاة تلك شرعًا، وإنما عليهم التصبّر ودوام الطاعة في المعروف دون تضرر، بالتعريف الشرعي للطاعة والمعروف والضرر.
الصبر والدعاء بالفرج عامة في ذاتهما حل مُعتبر لا شك لكل كرب، وقد يضاف لهما حلول أخرى لمن وجدها، أو يقومان بنفسيهما لمن عَدِمَها؛ وليسا مُخدّرًا عبثيًّا أو هروبية مذمومة، إذ لا مفرّ مما لا بُدّ منه إلا بالتعايش معه على طريقة، ولا يملك المرء أن يتبرأ من والديه ولا أن يتملّص من درجة ارتباط بهما ما عاشا
ختامًا:
في معمعة الخطاب النسوي وغيره من الخطابات التي تخلط المسائل والملفات لتنتهي دائمًا إلى لوم الشريعة أو “رجالها”، لا بد أن ينتبه المسلم إلى أنه لا وجاهة لأي ربط بين الأحكام الشرعية وإيقاع الضرر من أي وجه؛ لأن الشريعة شُرِّعَتْ أصلاً بين الناس جلبًا للمصالح ودفعًا للمضارّ، بالتعريف الشرعي للمصلحة والضرر، وعلى هذا الأساس كان بُنيان التصور الشرعي كله، وعمل العلماء فيه بالاجتهاد والتأصيل؛ فهم ليسوا بأنفسهم المشرّعين ابتداء، وإنما هم أهل العلم بالشرع تأصيلاً وتقعيدًا وبيانًا، وبينهما فرق.
بالتالي فأي ظاهرة فساد تنتشر، وأي ضرر يقع على أي أحد في أية علاقة فمردّه ليس إلى التزام الشرع على تقادم أصوله في مقابل تجدد الأزمان، بل مردُّه إلى مخالفة التصور الشرعي المتكامل بدرجة ما أو شكل ما، بدءًا من الفهم الخاطئ والمنقوص والتبعيضي، مرورًا بالتوقُّعات الواهمة والرؤى الدرامية للوجود، وانتهاء بالممارسات التي لا تُراعي في الله إلًّا ولا ذِمَّة.
وأول الإصلاح الحقيقي في هذه المسألة يبدأ من الكفّ عن شيطنة مبدأ “التزويج” في حد ذاته، الذي يُصوِّر أيَّ زواجٍ يتمُّ بغير أن تكون المرأة بدأته من تلقاء نفسها وبمحض اختيارها وكامل هواها، ومرَّت فيه بمراحل العلاقة النمطية بالمعايير العالمية، أنه زواج مَشين مَعيب قهريٌّ سادي! فثمَّة تصوّر متكاملٌ للزيجة المعتبرة شرعًا، إذا استقرَّت أركانه كانت الزيجة شرعيةً مشروعة، ومؤهّلةً لأن تكون طيبةً هانئة، ولو خالفت أيَّ تصوُّرٍ دراميٍّ أو غيرِ شرعيٍّ ابتداءً.
أ. هدى عبد الرحمن النمر
كاتبة ومؤلّفة ومتحدِّثة في الفكر والأدب وعُمران الذات.
([2]) معالم السنن، للخطابي (2/261).
([3]) لمزيد بيان في التصور الشرعي للتأديب التربوي بمختلف الوسائل ومنها الضرب، يُراجع كتاب: “قرة أعين” للكاتبة.
([4]) ومن الملاحظ أن هذا الفكر يسكت -بل يشرع قانونًا- حرية ممارسة الجنس خارج إطار الزوجية لمن كان في عمر “الطفولة” هذا في البلدان الغربية، بحجة الحرية الشخصية.
([6]) يراجع مقال: “صراع المرأة بين تحقيق الذات وربابة البيت” المنشور في العدد الحادي والعشرين من مجلة رواء، ومقال: “هل في التصوُّر الشرعي للزواج امتهانٌ لكرامة المرأة؟” المنشور في العدد الثاني والعشرين من المجلة.
([7]) أخرجه النسائي (3269) وأحمد (25043).
([8]) شرح النووي على مسلم (9/206).
([9]) أخرجه بتمامه مسلم (2578)، وأخرج البخاري منه (2447): (الظلم ظلمات يوم القيامة).
([10]) قال ابن قدامة: “ومعنى العضل: منع المرأة من التزويج بكفئها إذا طلبت ذلك، ورغب كل واحد منهما فى صاحبه…، فإن رغبت في كفء بعينه، وأراد تزويجها لغيره من أكفائها، وامتنع من تزويجها من الذي أرادته، كان عاضلاً لها” المغني، لابن قدامة (9/383-384).