تأصيل

تعدد الزوجات وأثره في حماية المجتمع

 

الاستخلاف في الأرض غاية من الغايات الكبرى التي وجد الإنسان لأجلها على الأرض، والاستخلاف يتطلب التناسل والتكاثر، وحتى لا يتحوَّل التناسل إلى فوضى حفَّته الشرائع السماوية بقيودٍ وقوانين تضبطه وتحفظ المجتمع من أخطاره، لكي تُلبَّى الحاجات الغريزية بصورةٍ آمنةٍ ومعتدلة بما يَصلح للسواد الأعظم من البشر، ومن ذلك سنة تعدُّد الزوجات التي جاءت بها الشرائع السماوية وأقرَّها وأطَّرَها الإسلام بالعدل والمودة والرحمة.

مقدمة:

شرع الإسلام الحنيف الكثير من السنن الحسنة التي تعالج مختلف حاجات البشر، وتحقيقًا لغايات ومقاصد قد تظهر للإنسان وقد تخفى عليه، ومن ذلك إباحة تعدُّد الزوجات بأكثر من واحدة، ولم يترك أمر التعدُّد مُرسلاً بغير ضابط أو قيد، بل وضع الضوابط والشروط التي تحكم القيام بهذه الشعيرة بما يضمن القيام بها بأفضل طريقة وفائدة لجميع الأطراف.

مشروعية التعدد:

المقصود بالتعدد: التزوج بأكثر من زوجة في وقت واحد.

وقد أباح القرآن الكريم التعدُّد بقوله تعالى: ﴿‌فَانْكِحُوا ‌مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3]. قال ابن كثير: «انكحوا ما شئتم من النساء سواهن، إن شاء أحدكم ثنتين وإن شاء ثلاثًا وإن شاء أربعًا»[1].

وجاء في السنة النبوية أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، (فأمره النبي ﷺ أن ‌يتخيَّر ‌أربعًا ‌منهن)[2]. وحصل مثل ذلك للحارث بن قيس[3]. ووجه الدلالة من هذين الحديثين: أنَّ النبي ﷺ منع من الزيادة على الأربع، مما يدل على مشروعية ما هو دون ذلك.

أما الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعية زواج الرجل من أربع نسوة، ولا يجوز له الزيادة على ذلك[4].

أحكام التعدد:

يخضع التعدُّد للأحكام التكليفية الخمسة؛ فيكون التعدُّد حرامًا أو مكروهًا إذا كان يُفوِّت مقصود النكاح، أو ليس فيه عدل بين الزوجات، أو كان فيه ضياع لمن يعول، ويصير واجبًا إذا لم تكفه زوجته وخشي على نفسه الوقوع في الحرام، فيتزوَّج ما يكفيه. ويكونُ مندوبًا إذا كان يرغب بالنكاح لكنه يستطيع أن يملك نفسه.

ضوابط التعدد:

التعدد له شرطان أساسيان، هما: 1- العدل، 2- القدرة (المالية والجسدية).

ويقصد بالعدل هنا: العدل الظاهري في الأمور المادية ونحوها؛ من مأكل ومشرب وملبس ومبيت وسفر ونفقة، وقد حذَّر الإسلام من الجَور في أمر التعدُّد، فعن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط)[5].

أما العدل الباطني من ميل القلب بالحب أو الكُره أو الجماع فلا يتعيَّن وجوبُ العدل فيه، وهذا يتبين من قول النبي ﷺ: (اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)[6].

فالعدل الذي اشترط الإسلام تطبيقه في قوله تعالى: ﴿‌فَإِنْ ‌خِفْتُمْ ‌أَلَّا ‌تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: 3] هو العدل الظاهري وهو لا يتعارض مع العدل المذكور في قوله تعالى: ﴿‌وَلَنْ ‌تَسْتَطِيعُوا ‌أَنْ ‌تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ [النساء: 129]. قال الحافظ ابن حجر: «فإذا وفَّى لكل واحدة منهن كسوتها ونفقتها والإيواء إليها: لم يضرَّه ما زاد على ذلك من ميل قلب أو تبرع بتحفة»[7].

أما القدرة فللفقهاء في تحديد معنى حديث: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)[8] قولان يرجعان إلى معنى واحد؛ أصحهما: أنَّ المراد معناها اللغوي وهو (الجماع) فيكون تقديره: من استطاع منكم الجماع بقدرته على مؤنة النكاح فليتزوج، ومن لا يستطيع الجماع لعجزه عن مؤنته فعليه بالصوم ليدفع شهوته، أما القول الثاني: يرى أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح؛ سمِّيت باسم ما يُلازمها. وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطعها فليَصُم ليدفع شهوته؛ لأن العاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة فوجب تأويل الباءة على المؤن[9].

لوسائل الإعلام الموجَّهة دور كبير في التنفير من فكرة التعدد وتشويهها، خاصة عن طريق المسلسلات التي يشاهدها قطاع كبير من النساء وفيها تشعر المرأة المتزوَّج عليها بالاحتقار المجتمعي والمهانة النفسية وضروب كثيرة من القهر

نفور النساء من التعدد:

الجمهرة من نساء الأرض على اختلاف مشاربهن لا يحببن سماع موضوع التعدد، وهذا الموضوع يثير حفيظتهن، ولذلك أسباب عديدة، منها على سبيل المثال:

  • طبيعة المرأة وما جبلت عليه من الغيرة، والعاطفة التي ترفض أن يشاركها نساء أخريات في زوجها.
  • قصص التعدد الفاشلة، حيث غياب العدل وفقدان حسن العشرة، وظلم الأبناء، وما يشاهدن ويسمعن في سياقات منفرة لصراع الزوجات وتربُّصِ بعضهنَّ ببعض.
  • وسائل الإعلام الموجَّهة في التنفير من فكرة التعدد وتشويهها، خاصة عن طريق المسلسلات التي يشاهدها قطاع كبير من النساء وفيها تشعر المرأة المتزوَّج عليها بالاحتقار المجتمعي والمهانة النفسية وضروب كثيرة من القهر.
  • تحريض الصديقات والجارات والقريبات للمرأة الأولى ضد زوجها بشيء من التربُّص أحيانًا والمكر أحيانًا أخرى.
  • تعرُّض بعض النساء -وخاصة المتعلمات منهن- لتأثيرات الحركات النسوية وتحرير المرأة، فيصبحن لا يُردن الانصياع لقبول التعدد معتقدات أنه لا يعدو أن يكون تفسيرات واجتهادات لبشر يخطئ ويصيب، أو غير آبهات بهذا الحكم الشرعي.
  • حملة الأفكار العلمانية أو المتأثرين بها من الرجال والنساء.

شبهات في طريق التعدد ودحضها:

الشبهة الأولى: (استحالة تحقيق العدل):

يُثير الذين يرفضون التعدُّد شبهةً مفادُها أن الله تعالى قد اشترط العدل بين الزوجات، وأن العدل غيرُ مقدور عليه بدليل قوله تعالى: ﴿‌وَلَنْ ‌تَسْتَطِيعُوا ‌أَنْ ‌تَعْدِلُوا ‌بَيْنَ ‌النِّسَاءِ ‌وَلَوْ ‌حَرَصْتُمْ﴾ [النساء: 129]، وللردِّ على هذه الشبهة نفرق بين نوعين من العدل: عدل ممكن ومقدور عليه، وعدل غير ممكن وغير مقدور عليه.

والتعدد مطلوب فيه النوع الأول (العدل الممكن والمقدور عليه) وهذا لا يأتي إلا في الأمور المادية من (مأكل وملبس ومشرب ومبيت وغير ذلك من المطالب الحياتية المعروفة)، أما العدل الذى أشارت إليه الآية الكريمة فهو العدل غير الممكن وهو ما لم نطالَب به، وإلا كان الخطاب في أمر التعدُّد لغوًا لا فائدة فيه، أو مصادرةً على المطلوب، وهو ما يُنزَّه عنه كلام رب العالمين، لأن العدل غير المقدور عليه هو الميل القلبي والمحبة العاطفية والنفسية، والقلوب بيد مقلبها سبحانه؛ لهذا كان ﷺ يقول: (اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)[10].

والمعنى كما قال ابن عباس ومجاهد والحسن البصري: «أي: لن تستطيعوا أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه فإنه إن حصل القَسم الصوري ليلة وليلة فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، بدليل أن النبي ﷺ كان يحب عائشة رضي الله عنها أكثر من غيرها»[11].

وهنا لفتة لطيفة ساقها صاحب فتح البيان يقول: «يظن بعض الناس أن هذه الآية تمنع تعدد الزوجات، وفاتَه أن آخرها صريح في الإباحة حيث تقول (فلا تميلوا كل الميل) فهذا لا يقال لصاحب الزوجة الواحدة»[12].

والتوفيق بين آيتي سورة النساء -الآية التي في صدر السورة، والآية التي نحن بصددها الآن- أن كلاً من الآيتين لها مضمون وسياق مختلف، وكما قال الشيخ أبو زهرة: «هذه الآية موضوعها نفسي، والآية التي في صدر السورة موضوعها العدالة الظاهرة، وقد وضَّح هذا المعنى النبي ﷺ في الحديث الذي رويناه، وهو عجزه عليه الصلاة والسلام عن العدالة النفسية، وعلى فرض أن التوفيق غير ممكن إن سايرنا تلك المدارك المحدودة، فإن المتأخر ينسخ المتقدم، والمتأخر هو هذه الآية التي نتكلم في معناها»[13].

الشبهة الثانية: (شبهة حدوث النزاع بين الضرائر وتشريد الأطفال):

قد يعترض البعض بأن التعدُّد يُحدث الشقاق والنزاع بين الضرائر مما يفوِّت الغاية التي شرع لأجلها، وهنا نقول: إن النزاع والشقاق ربما لا يكفُّ ولا ينتهي حتى في حالة الزوجة الواحدة، اختلافًا مع الزوج، أو عراكًا مع الأم، أو مع الأخت، فهل سيؤدي بنا ذلك إلى إلغاء الحياة الزوجية بسبب هذه المشاكل والنزاعات؟! وهذا الضرر المتوقع هو كما يقال: (ضرر مغمور في خير كثير).

ثم إن فقه الموازنات في الشريعة يؤصل لقبول ضررٍ محتملٍ في درجة أقلَّ للزوجة الأولى، في مقابل فوائد تشريعية ومجتمعية تفوق المصالح الشخصية الضيقة والنزوات الفردية لدى بعض الزوجات. يقول الشيخ أبو زهرة رحمه الله: «إنه إذا كان (التعدُّدُ) ضارًّا بالتي يتزوج عليها فإن منفعته مؤكَّدةٌ للزوجة الجديدة؛ لأنه لا يقبل الزواج من متزوِّجٍ إلا امرأةٌ مضطرة للقبول، والضرر الذي يلحق بالترك أكثر من الضرر الذي يلحق الزوجة الأولى بإدخال أخرى عليها، والضرر الكثير يُدفع بالضرر القليل»[14].

الشبهة الثالثة: (شبهة حبس المرأة على عيوب الرجل):

قد تتساءل بعض النساء بقولها: إنكم تبيحون للرجل أن يعدد على زوجته بثانية وثالثة ورابعة إذا كانت عقيمًا لا تلد أو مريضةً مرضًا يفوِّتُ عليه مقصود النكاح، فماذا عليها لو تزوَّجته فوجدته (عِنِّيْنًا وعاجزًا) عن القيام بالوطء أليس في ذلك تفويت لمقصود النكاح أيضًا؟

فنقول لها: حَفظ الإسلام حق المرأة في هذه الحال؛ فأباح للمرأة أن تطلب الفراق للضرر إن شاءت، وفق تشريع دقيقٍ بعدَ ثُبوت هذه العلة وإعطاء فرصةٍ لعلاجها، ذكر ذلك ابن عبدالبر بقوله: «ولا أعلم بين الصحابة خلافًا في أن العِنِّيْنَ يؤجَّل سنةً من يوم يُرفع إلى السلطان»[15]. بل ذكر البعض أن القاضي إذا ثبت لديه عجزه المؤكد فسخ العقد ولا ينتظر مدة العام، والأمر أيسر في وقتنا الحاضر؛ حيث التقدُّم في العلوم والمختبرات الطبية بما يتبين معه الأمر في وقت قصير دونما حاجة لانتظار المدة التي قررها الفقهاء في السابق، وأجمع الفقهاء الأربعة على صحة التفريق بين الزوجين للعيوب، على اختلاف بينهم في الشروط الموجبة لذلك.

مع أن حاجة المرأة إلى العاطفة والإيناس أشدُّ من حاجتها للدافع الجنسي؛ فالمرأة تحتاج للكلمة اللطيفة واللمسة الحانية والنظرة الشفيقة والعبارة اللطيفة واللمسة الودودة والثناء المتجدد، فتشعر هي بالحماية والأمان وهذا كله يستطيع الرجل السوي أن يقدمه لزوجاته بدلاً من آلام الوحدة ونظرات المجتمع القاتلة.

التعدُّد بحدِّ ذاته ليس فيه ظلم للمرأة. والظلم قد يحصل من صاحب الزوجة الواحدة، ويمكن أن نقول: إنَّ التعدد لصالح المرأة؛ فهي التي تختار: أن تتزوج متزوجًا أو عازبًا أو لا تتزوج، بينما الرجل ليس له إلا أن يتزوج من امرأة غير متزوجة

الشبهة الرابعة: (شبهة وجود خلاف فقهي):

يتبع بعض الناس في معارضة التعدد أقوالاً لبعض المنتسبين للعلم، تذمُّه وتزري به، ويتذرَّعون بأن هذه الأقوال تعني وجودَ خلافٍ بين أهل العلم في أمر التعدُّد، مستندين في ذلك إلى قوله تعالى: ﴿‌وَلَنْ ‌تَسْتَطِيعُوا ‌أَنْ ‌تَعْدِلُوا ‌بَيْنَ ‌النِّسَاءِ ‌وَلَوْ ‌حَرَصْتُمْ﴾ [النساء: 129]، قال الزمخشري: «قيل: إنَّ العدل بينهنَّ أمرٌ صعبٌ بالغ من الصعوبة حدًا يوهم أنه غير مستطاع؛ لأنه يجب أن يسوى بينهن في القسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه، فهو كالخارج من حد الاستطاعة»[16]. فكأن هذا القول اعتبر العدل المطلوب في أمر التعدد هو العدل في الأمور الظاهرية والباطنية على السواء.

وللشيخ محمد رشيد رضا رأي قريب من هذا؛ إذ يقول: «إن البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال، ولا يقوم فيه نظام، بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت، كأن كلَّ واحدٍ منهم عدوٌّ للآخر، ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو؛ فمفسدة تعدُّد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت ومن البيوت إلى الأمة»[17].

بل يذهب محمد عبده لأبعد من هذا فيقول: «إن في تعدد الزوجات احتقارًا شديدًا للمرأة؛ لأنك لا تجد امرأةً ترضى أن تُشاركها في زوجها امرأةٌ أخرى، كما أنك لا تجد رجلاً يقبل أن يشاركه غيرُهُ في محبَّة امرأته»[18].

وهذه الآراء غير معتبرة بل لا ينظر إليها؛ لأنها مُخالفة لنص القرآن الكريم، ولسنة النبي r في فعله وفي إقراره لأصحابه الكرام y، ومخالفة لإجماع المسلمين المنعقد على جواز الزواج من اثنتين وثلاث وأربع نساء للرجل الواحد.

لو استقرأنا تاريخ البشرية فسنجد أن الرؤساء والعظماء من الرجال كانوا دومًا معددين، بينما لن نجد في النساء اللاتي تعدَّد الرجال في حياتهن في ذات الوقت إلا الساقطات وفاقدات الشرف، فهل يقبل عاقلٌ مثل هذه المكانة؟!

الشبهة الخامسة: (شبهة ظلم المرأة):

فيزعمون أن التعدد فيه ظلمٌ للمرأة في جَعلِ غيرها يُشاركها زوجَها، وأن فيه إهدارًا لكرامتها بالزواج عليها، وجرحًا لأحاسيسها ومشاعرها.

وهذا كلام عارٍ عن الصحة؛ فالتعدُّد من تشريع الله تعالى لعباده، وليس من تشريع الرجال ولا اختيارهم، والله تعالى منزَّهٌ عن الظلم! ثم إنه حينما شرع التعدد لم يجعله وفق هوى الرجل أو رغباته؛ بل جعل له شروطًا وضوابط ألزم الرجل بها مما يحفظ مكانة الزوجة الأولى.

أما زعم أنه إهدار كرامة المرأة فهذا منطق معكوس؛ فالزوجة الثانية امرأة كذلك، فكيف يكون فيه إهدار للكرامة؟

بل إن التعدد يجعل المرأة الثانية ربة بيت، وصاحبة زوج وولد، مصونةً مكرمةً، بدلاً من أن تكون عانسًا أو أيِّمًا لا زوج لها ولا بيت ولا ولد، فأيهما يحقق العدل أكثر؟

ثم إن أي امرأة يمكن أن تكون هي الزوجة الثانية، أو الثالثة، فهي قد تكون الأسبق أو الألحق، فلا ميزة لإحداهن على الأخرى، والزوجة الثانية هي التي تختار: أن تتزوج متزوجًا أو عازبًا أو لا تتزوج، فالتعدُّد خيارٌ لها إن أرادت الدخول فيه، فأيُّ ظلمٍ لها في ذلك أو إهانة؟

 

الشبهة السادسة: (شبهة مساواة المرأة بالرجال في التعدد):

يتساءل بعضهم: لماذا لا تقبلون التعدد للمرأة؟ أوَ ليست كالرجال تحبُّ ما يُحبُّون؟

بدايةً: المرأة بطبيعتها النفسية والعاطفية ليست كالرجل، فلا تستطيع ولا تصلح حياتها بهكذا تعدد.

ثم إن مشاركة عدة رجال بها يضيع الأنساب؛ فلما كانت المرأة مستودعًا ومستقرًّا لتكوين النسل الإنساني؛ فلا يصح شرعًا ولا عقلاً ولا طبعًا ولا عرفًا أن تنتقل المرأة من بيت إلى بيت ومن عاطفة إلى عاطفة أخرى لتقضي شهوتها حيث لن ندري لمن ننسب الولد، فتقع الجاهلية الأولى التي ذمها القرآن الكريم فتضيع المسؤولية وتتفرق الجهود وتتعطل الحياة.

قال ابن القيم: «فذلك من كمال حكمة الرب تعالى وإحسانه ورحمته بخلقه ورعاية مصالحهم، ويتعالى سبحانه عن خلاف ذلك، وينزَّه شرعُه أن يأتي بغير هذا، ولو أُبيح للمرأة أن تكون عند زوجين فأكثر لفسد العالم وضاعت الأنساب وقَتَل الأزواج بعضهم بعضًا، وعظمت البلية واشتدت الفتنة، وقامت سوق الحرب على ساق، وكيف يستقيم حال امرأة فيها شركاء متشاكسون؟ وكيف يستقيم حال الشركاء فيها؟»[19].

ولو استقرأنا تاريخ البشرية فلن نجد في النساء اللاتي تعدَّد الرجال في حياتهن في ذات الوقت إلا الساقطات وفاقدات الشرف، فهل يقبل عاقلٌ مثل هذه المكانة؟!

الأمم تقوى بوفرة أفرادها وزيادة الأيدي العاملة والمنتجة فيها، فيحدث فيها وفرة ونمو في اقتصادها، فضلاً عن القوة العسكرية التي تملكها -ومن أهم أسسها وفرة أعداد المقاتلين- والزواج هو ما يعين على تحقيق هذا الهدف

المبررات المشروعة للتعدد:

  1. أولاً: في تعدد الزوجات سبب لتكثير سواد الأمة:

الأمم تقوى بوفرة أفرادها وزيادة الأيدي العاملة والمنتجة فيها، فيحدث فيها وفرة ونمو في اقتصادها، فضلاً عن القوة العسكرية التي تملكها والتي من أسسها وفرة أعداد المقاتلين.

ومن الجدير بالذكر أن الصين عمدت إلى سياسة تحديد النسل الإجبارية التي تكتفي فيها الأسرة الواحدة بطفل واحد عام 1979م، لكنها أدركت خطأ هذه السياسة بعد أن أخذت تتحوَّل على نحوٍ متسارعٍ إلى مجتمع مسنّ، فعادت الحكومة عام 2015م لإنهاء سياسة الطفل الواحد، وحث الشعب على الإنجاب لعلاج شيخوخة الدولة وتناقص السكان[20].

ومن جهة أخرى تعمد الدول الغربية إلى استقبال ملايين المهاجرين سنويًا لتعويض النقص الحاصل لديهم الناتج عن قلة الإنجاب لديهم لأسباب كثيرة، كتحديد النسل، والعزوف عن الزواج، والوقوع في الفواحش وأنواع الرذائل.

والزواج هو ما يعين على تحقيق هذا الهدف، وهذه المكاثرة التي حث عليها النبي ﷺ بدت واضحة الفائدة على مستوى الأمم اليوم والتنافس الحضاري بينها.

  1. ثانيًا: حماية المجتمع من الرذيلة:

أعداد النساء في الأصل مقاربة لأعداد الرجال، لكن يحدث في الحروب أن يفنى عددٌ كبير من الرجال، فتطغى كفة النساء على الرجال، كما حصل في ألمانيا على أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث كانت نسبة النساء تبلغ 53% من إجمالي السكان، بزيادة على الرجال تقترب من 3 ملايين نسمة[21].

كما أن عدد الرجال يمكن أن ينقص لأسباب أخرى؛ فهم الذين يخوضون غمار الحياة في معاركها المتجدِّدة والمتنوعة، ومع الكوارث وحوادث السير والأعمال الصناعية وغيرها؛ تكون احتمالية الوفاة والفقد بينهم أكثر منها في النساء بسبب تصدِّيهم للمسؤوليات التي تتطلب المخاطرة بالقوة البدنية؛ فيختلُّ بذلك التوازن العددي بين الرجال والنساء، وهذا الاختلال تشهد به إحصاءات كثير من دول العالم، ويؤدِّي إلى خللٍ مجتمعيٍّ وأخلاقيٍّ إذا ما اقتصر الأمر على الزواج بواحدة، حيث يبقى كثير من النساء بلا أزواج، وهذا يعني أن النساء غير المتزوجات لن يجدن سبيلاً شرعيًا لتلبية غريزتهن، وسيبقين عرضةً لوساوس الشيطان واستغلال ضعاف النفوس وقليلي الإيمان، وإذا امتنع جميع المجتمع عن التعدُّد فإن المحذور الذي لا يرضاه الشرع ولا العقل سيقع لا محالة.

بالإضافة لحاجة بعض الرجال إلى التعدُّد لظروفه أو ظروف زوجته، فإن لم يلبِّ غريزته داخل مؤسسة الزواج فسيبحث عنها خارجها، وفي ذلك باب فتنةٍ عظيم.

إن نظرةً متأنيةً للعالم اليوم وما اجتاحه من أنواع الرذائل والفواحش، مما لم تكن تعرفه البشرية في وقت مضى، كفيلةٌ بالدعوة للعودة إلى الفطرة وداعي العقل والشرع، والتوقف عن الانجراف خلف قوم حرّفوا دينهم، ثم رموه خلف ظهورهم، واقتحموا كل ممنوعٍ ومرذول

  1. ثالثًا: جوانب إنسانية عميقة:

الإسلام دين متوازن، يراعي تلبية الاحتياجات المتفاوتة للبشر بصورة آمنة، ولا يضع الآصار والقيود التي تؤدي بالناس إلى الحرج، ويعطي للضرورات أحكامًا خاصة، وإباحة التعدد في الإسلام لا تخرج عن هذا النسق المتوازن المعتدل.

– فمن الرجال من يكون صاحبَ منصبٍ ومالٍ وجاه، فترغب النساء في الاقتران به ولو كان متزوجًا، وبما لا يضر بالزوجة الأولى.

– وقد تكون المرأة عقيمًا فيقتضي حفظ العشرة وحسن التبعل معها أن تبقى على ذمته محفوطة مكرمة مع الزواج بغيرها، بل قد تجد في أطفال ضرتها ما يؤانس وحشتها في غياب زوجها ويشبع غريزة الأمومة والحنان لديها.

– والحياة كثيرة العوارض والحوادث، وقد يعرض للزوجة من العوارض الصحية والنفسية والجسدية ما يُعيق قيامها بدور الزوجية على الوجه الكافي، فيحتاج الرجل لإعفاف نفسه بأخرى، من غير إزراء أو إجحاف بحق الأولى.

– ومن الذي حكم أن الزواج بالثانية ضرر محض على الأولى؟! فقد يكون فسحة دورية لها لتتفرغ لنفسها في تحصيل علم أو منفعة، فإذا حضر زوجها قامت وأدت دور الزوجية الدافئ، وإذا غاب عادت لنفع نفسها وأولادها بما لا تستطيع فعله في حضور الزوج ومسؤوليات وجوده. بل يرسم الابتعاد المؤقت مساحة للشوق والحنين، بما لا يمكن إيجاده في ظل الحضور اليومي والدائم، فهو بهذه الصورة يجدد المشاعر والعواطف.

– ثم إن في الزواج من الأرملة التي مات زوجها عنها، مواساة وكفالة لها، ونشرًا للإيجابية والتضامن في المجتمع من غير استشراف ولا منة، وقل مثل ذلك عن المطلقة، ولنا في مجتمع الصحابة أسوة حسنة، فهذه أسماء بنت عميس رضي الله عنها، كانت زوجة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما استشهد تزوجها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولما مات تزوجها علي رضي الله عنه، ولم ينقص من قدرها ذلك بل زادها شرفًا إلى شرف، بصحبة أكارم الرجال، ولم يضر ذلك زوجاتهم الأخريات.

إن المشرع الحكيم لا يشرع لحالات فردية خاصة، بل يتسع ليشمل الزمان والمكان والأشخاص في كل العصور ولجميع الأجيال، ومحال أن يجوز النقص في تشريعه ﴿‌وَمَا ‌كَانَ ‌رَبُّكَ ‌نَسِيًّا﴾ [مريم: 64]، ﴿‌أَلَا ‌يَعْلَمُ ‌مَنْ ‌خَلَقَ ‌وَهُوَ ‌اللَّطِيفُ ‌الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].

في التعدد مصالح للمرأة ومراعاة لبعض أحوالها مثل كونها عقيمًا أو أرملة أو غير ذات زوج، -مع زوج تتشارك معه الحياة العائلية وما فيها من مودةٍ ورحمةٍ وعاطفة- خيرٌ لها من الطلاق والبقاء بلا زوج فتكون عُرضةً للإهمال أو الشفقة والمواساة من الغير!

الإسلام دين متوازن، يراعي تلبية الاحتياجات المتفاوتة للبشر بصورة آمنة، ولا يضع الآصار والقيود التي تؤدي بالناس إلى الحرج، ويعطي للضرورات أحكامًا خاصة، وإباحة التعدد في الإسلام لا تخرج عن هذا النسق المتوازن المعتدل

التعدد الناجح:


إن نظرةً متأنيةً للعالم اليوم وما اجتاحه من أنواع الرذائل والفواحش مما لم تكن تعرفه البشرية في وقت مضى، كفيلةٌ بالدعوة للعودة إلى الفطرة وداعي العقل والشرع، والتوقف عن الانجراف خلف قوم حرّفوا دينهم، ثم رموه خلف ظهورهم، واقتحموا كل ممنوعٍ ومرذول.

وبدلاً من المرابطة حول التعدِّيات والممارسات الخاطئة التي حصلت لدى المعدِّدين، وتضخيمها والنفخ فيها، ينبغي تصحيح هذه الممارسات، والعزم على تحقيق العدل الذي فرضه الله على عباده، والتعامل بالإحسان الذي يحبه الله، ومن ذلك في سياق التعدد:

  • الاختيار الجيد القائم على الدين والخلق كي يتعايش الأزواج والزوجات في منظومة أسرية متجانسة، تعلي من قيمة المبادئ الشرعية والمصالح المشتركة.
  • الاتعاظ من النماذج السلبية والتجارب الظالمة للتعدد، وتلافي أخطائها قدر الاستطاعة.
  • الاستقلالية في المسكن والمعيشة الخاصة استقلالاً تامًّا لمن قدر على ذلك، وهذا أفضل لجميع الأطراف.
  • امتصاص ردَّات الفعل الناتجة عن الغيرة الطبيعية وتقبلها برحابة صدر اقتداء بالنبي ﷺ عندما كسرت عائشة القصعة التي كان يحملها الخادم من بيت حفصة، فاعتذر النبي ﷺ عن صنيعها، فقال: (غارت أمكم)[22] ، وذلك حتى لا يُحمل صنيعُها على ما يُذم وإنما يقع ذلك كثيرًا بين الضرائر بسبب الغيرة.
  • تنظيم أساليب المعيشة، والتفاهم وتحري العدل في كل الأمور ما أمكن، في المبيت والنفقة والإجازات والسفر والترفيه، والتفاهم حول ضوابط العلاقات الاجتماعية بوضوحٍ تام، ومناقشة المصاريف والموازنة العامة للأسرة بشكل دوري، والحرص على ضمان الكفالة الكريمة التي تؤدِّي إلى الرضا والاستقرار وحسن العشرة لجميع الأطراف.
  • في بعض الحالات قد يمكن مناقشة الزوجة الأولى وأولاده منها ومفاتحتهم في موضوع الرغبة في تأسيس بيت آخر لزوجة أخرى مع طمأنتهم بالضمانات القانونية والاجتماعية والأدبية وخاصة فيما يخص مسائل الإرث والوصية.
  • دراسة جدوى التعدد ومدى الحاجة إليه، أو القدرة عليه سواء للرجل أو المرأة التي يريد الزواج بها، حتى لا يقع الطلاق أو الفشل بعد الإقدام عليه.

بدلاً من المرابطة حول التعدِّيات والممارسات الخاطئة التي حصلت لدى المعدِّدين، وتضخيمها والنفخ فيها، ينبغي تصحيح هذه الممارسات، والعزم على تحقيق العدل الذي فرضه الله على عباده، والتعامل بالإحسان الذي يحبُّه الله

وختامًا:

فإن الله تعالى الخبير بخلقه وما يصلح لهم قد شرع التعدد لصلاح حالهم وحياتهم، ورضي ذلك لأكرم خلقه الأنبياء وجعلهم قدوات للناس، وشرع لهم ما يضمن القيام به على الوجه الأصح بالعدل والمودة والرحمة، وهذا الأمر يحتاج من الرجل إلى خلق رفيع وخوف من الله حتى يتحرى العدل ولا يقع في ظلم نسائه ويعاملهن بالحسنى، ويحتاج من المرأة إلى إيمان عميق وتسليم لله حتى لا تعترض على ما أباحه الله لزوجها في كتابه الكريم، ويحتاج منهما إلى الحكمة وحسن التصرف حتى تقوم البيوت على التقوى وتعمر بالإيمان.

وبمثل هذا التشريع كفل الله للبشرية استقرار النفوس واطمئنان البيوت، والمحافظة على الفطر السليمة والبعد عن العلل والأمراض، وحفظ النسل البشري وتحقيق الاستخلاف وعمارة الأرض.

 



د. علي مدني رضوان
دكتوراه في الشريعة الإسلامية، جامعة طنطا.

 


[1] تفسير ابن كثير (2/209).

[2] أخرجه الترمذي (1128)، وابن ماجه (1953)، وأحمد (5027).

[3] أخرجه أبو داود (2241)، وابن ماجه (1952).

[4] نقل الإجماع على ذلك الماوردي، وابن حزم، وابن عبد البر، والبغوي، وابن العربي، وابن هبيرة، وابنُ رشد الحفيد، وابنُ قدامة المقدسي، والقرطبي، وابن حجر، والعيني رحمهم الله جميعًا، ينظر بحث: تعدد الزوجات، للدكتور خالد بن محمود الجهني، على موقع الألوكة.

[5] أخرجه أبو داود (2133) والترمذي (1141) واللفظ له.

[6] أخرجه أبو داود (2134) والترمذي (1140) وابن ماجه (1971).

[7] فتح الباري (9/391).

[8] أخرجه البخاري (5065) ومسلم (1400).

[9] شرح النووي على مسلم ببعض التصرف (9/173).

[10] سبق تخريجه، وقال ابن حجر في بلوغ المرام: قواه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم، ولكن رجح الترمذي إرساله.

[11] ينظر: تفسير ابن كثير (2/430).

[12] فتح البيان، لصديق حسن خان (3/257).

[13] زهرة التفاسير، لأبي زهرة، ص (1885) (بتصرف يسير).

[14] تنظيم الإسلام للمجتمع، لأبي زهرة، ص (76).

[15] الاستذكار، لابن عبدالبر (6/193).

[16] تفسير الكشاف، للزمخشري (1/572).

[17] تفسير المنار، للشيخ محمد رشيد رضا (4/286).

[18] الأعمال الكاملة، لمحمد عبده (2/83).

[19] إعلام الموقعين، لابن القيم (3/325).

[20] مقالة (لماذا باتت الصين تشجع على إنجاب المزيد من الأطفال؟) موقع BBC.

[21] مادة بعنوان (جمهورية ألمانيا الاتحادية على مدار سبعين عامًا في أرقام) المركز الألماني للإعلام التابع لوزارة الخارجية الألمانية.

[22] أخرجه البخاري (5225).

X