قراءات

قراءة في كتاب (الصهيونية والحضارة الغربية) للدكتور عبدالوهاب المسيري

رويةٌ جديدةٌ للحركة الصهيونية الاستيطانية تُخالف التصور السائد يقدِّمها الدكتور عبدالوهاب المسيري، حيث يرى أنَّ الحركة الصهيونية ذات جذورٍ غربيةٍ، أُلبست بتفسيرات وديباجات يهودية، حيث عرض المؤلِّف من خلال فصول كتابه نماذج فكرية صهيونية أخذت من النماذج الليبرالية والاشتراكية، لتفسير طرحها الاستيطاني؛ وليثبت أنّ فكرها يضرب بجذوره في الفكر الغربي الاستعماري، وقراءة هذ الكتاب تحاول عرض أبرز أفكار، وخلاصة نتائجه

  • وصف الكتاب:

تنتظم صفحات الكتاب في مئتين وواحد وستين صفحة، واعتمدنا في قراءته على الطبعة الأولى الصادرة عن دار دَوّن المصرية بتاريخ (1439ه-2018م).

  • لمحة عن الكاتب:

عبدالوهاب المسيري (1938-2008م): مفكر مصري، يعد –رحمه الله تعالى- من أهم نقاد الحضارة الغربية المادية، غير أن بروزه كان واضحًا في دراسته للصهيونية، التي أخذت جزءًا كبيرًا من انشغالاته الفكرية والسياسية، فكانت موسوعته “اليهود واليهودية والصهيونية” إضافة نوعية أغنت الساحة المعرفية العربية الإسلامية، فملازمته الفكرية العميقة لقراءة هذه الحركة مكنته من بلورة فكره الخاص عن نشأة الأيديولوجية الصهيونية، يقول في رحلته الفكرية: “عرفت الصهيونية، لا من منظور عربي، ولا من منظور توراتي يهودي، وإنما من منظور عالمي كجزء من التشكيل الحضاري الغربي وتاريخ الأفكار في الغرب، بل إنني أزعم أن الإشكالات الفلسفية التي أثارتها الصهيونية بالنسبة لي كانت مثارة في حياتي قبل الاشتباك مع موضوع اليهود واليهودية والصهيونية”[1].

ولعلّ كتابه “الصهيونية والحضارة الغربية” يحمل جماع رؤيته لهذه الحركة في صلتها بالحضارة والفكر الغربيين.

  • بين ثنايا الكتاب:

ينحو د. عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- في دراسته للحركة الصهيونية الاستيطانية منحًا يخالف السائد في التصور العربي لهذه الحركة، ويرى أن هناك خللاً في التصنيف والرؤية لها، مردّه إلى خطأ في الافتراضات، فهذه الحركة لا يمكن تفسيرها بـ “أثر رجعي” أي دراستها بالرجوع إلى الكتاب المقدّس كما سلك الكثير من الباحثين، لذلك كانت دراسته -رحمه الله- لها قائمة على التركيب لا الاختزال باعتبارها إفرازًا عضويًا للحضارة الغربية.

فالحركة الصهيونية في الرؤية المسيرية ذات جذور غربية ألبست بتفسيرات وديباجات يهودية، ففكرة العودة إلى فلسطين ليست فكرة يهودية كما يرى الكاتب، وإنّما فكرة نبتت في الأوساط البروتستانتية المتطرّفة ثم الأوساط الاستعمارية المعادية لليهود، والفكر الصهيوني قد تبلورت أطروحاته الأساسية في كتابات صهاينة غير يهود قبل أن يتبنّاه بعض الكتاب من أعضاء الجماعات اليهودية.

وليوضّح تصوّره التفسيري التحليلي للصهيونية باعتبارها ظاهرة استعمارية غربية عرض المؤلف من خلال فصول كتابه لنماذج فكرية صهيونية أخذت من النماذج الليبرالية والاشتراكية أصلاً لتفسير طرحهم الاستيطاني؛ ليثبت في نهاية المطاف أنّ فكرهم يضرب بجذوره في الفكر الغربي الاستعماري.

ولبيان هذه الرؤية وجلاء تصوره نَسَجَ خيوط الكتاب في عشرة فصول:

  • الفصل الأول: الأصول الغربية للرؤية الصهيونية:

انبرى قلم المسيري في هذا الفصل إلى بيان الجذور الغربية للاستيطان الصهيوني، حيث يرى أنّ الصهيونية إفراز غربي، بل هو أداة للإمبريالية الغربية التي تودّ تفكيك المنطقة، وليس كـ (إسرائيل) أداة لتحقيق المخطط الاستعماري الغربي، لذلك يذهب إلى أنّ الخطوة الأولى لاستيعاب وتحليل الظاهرة الصهيونية هي في وضعها في سياقها التاريخي السليم، باعتبارها ظاهرة استعمارية غربية لا يمكن فهمها إلّا في سياق الاستعمار الاستيطاني منذ نهاية القرن 19م وخلال القرن 20م، وليس بالعودة إلى النصوص التوراتية والتلمود.

وفي هذا الفصل يسرد الحياة اليهودية بين الإقطاعية في الغرب وصعود النظام الرأسمالي الذي شكّل تحدّيًا لليهود، فبعد سقوط النظام الإقطاعي لم يعد اليهود بتلك القوّة التجارية التي كانوا عليها من قبل، وبهذا أصبح من الضروري إيجاد موطن يعيش فيه الفائض من اليهود، “الذين يعيشون الآن كطبقة بروليتارية، عالةً على المواطنين الأصليين”، فالنظام الرأسمالي الجديد واجه مشكلة تحديث اليهود أو بالأحرى تكييف اليهود مع المجتمع الجديد.

ولعل أهم طرح في هذا الفصل يدور حول “الاستعمار الاستيطاني الإحلالي” و”الدولة الراعية للغرب”، فالمسيري يصنف الاستعمار عمومًا إلى أربعة أصناف صوّرها في هرم، قاعدتُه الاستعمار الجديد وهو تحكّم القوى العظمى في الشعوب وثرواتها بوضع حكومات عميلة تخدمها، ثم يأتي بعد هذه القاعدة الاستعمار التقليدي بإرسال الجيوش إلى البلاد المستعمَرة، ثم الاستعمار الاستيطاني من خلال وضع جماعات استيطانية داخل الدولة المستَعْمَرة وتسخير السكّان الأصليين للخدمة، ويأتي في رأس الهرم الاستعمار الاستيطاني الإحلالي ومثّله عبدالوهاب المسيري بالنموذج الصهيوني، إذ يرى أنّه أشرس استعمار، وهو يعمل على إحلال اليهود مكان الفلسطينيين عن طريق الإبادة والتهجير.


لذلك عدّ المسيري أنّ من أهمّ سمات الاستيطان الصهيوني: الحلولية والعمالة، فلِكَي يحلّ العنصر العضوي اليهودي محلّ الفلسطينيين لابدّ من أن يكون عميلاً لأحد القوى العظمى التي تقوم بحمايته، فهو ليس له دينامية مستقلّة عن الدولة العظمى التي تتبنّاه، واعتبر المؤلف أنّ هذا هو النمط الأساسي الذي يتواتر في الكتابات الصهيونية، وبالتالي فهي إفراز للتشكيل الاستعماري الغربي.

الخطوة الأولى لاستيعاب وتحليل الظاهرة الصهيونية هي في وضعها في سياقها التاريخي السليم، باعتبارها ظاهرة استعمارية غربية لا يمكن فهمها إلّا في سياق الاستعمار الاستيطاني منذ نهاية القرن 19م وخلال القرن 20م، وليس بالعودة إلى النصوص التوراتية والتلمود

وهكذا خلص في نهاية الفصل إلى اعتبار الصهيونية مشروعًا استيطانيًا إحلاليًا عنصريًا لا يختلف عن المشاريع الاستعمارية الغربية، غير أنّها تبقى ظاهرة فريدة لها خصوصياتها برغم انتمائها إلى نمط التاريخ الغربي، ليضيف إلى تفسيراته فكرة “الدولة الراعية”، حيث ارتأى أنّ الصهيونية لن يتأتّى لها تحقيق مشروعها القومي إلا داخل مشروع استعماري غربي يكون راعيًا لها.

  • الفصل الثاني: الصهيونية والرومانسية والنيتشوية:

في هذا الفصل يرى المسيري أنّ هناك أنساقًا فكرية أخرى دخلت في تشكيل التصوّر الصهيوني، ومن أهمّ هذه الأنساق المعرفية كلّ من: الرومانسية[2] والنيتشوية[3]، فذهب في البداية إلى مقارنة الصهيونية بالرومانسية، ورأى أنّ الداروينية من أهم تبدّيات الفكر الرومانسي، وذهب في تصوّره إلى أنّ “فكرة العودة إلى الطبيعة” تعدّ من أهمّ الأفكار الرومانسية التي أثّرت في الفكر الصهيوني، ويتفرّع عن هذا المبدأ قاعدة “البقاء للأقوى مادّيًا” وليس للأصلح أخلاقيًا، فهذه القاعدة هي المعيار الذي يقاس به الإنسان أخلاقيًا ومعرفيًا، والفكر الصهيوني كما أكّد عبدالوهاب المسيري جاء محمّلاً بهذا التصوّر المادي، فالصهاينة جاؤوا من الغرب مسلّحين بمدفعية أيديولوجية وعسكرية داروينية[4] علمانية، وقاموا بتسوية الأمور برؤية داروينية تعدّ ذبح الفلسطينيين وهدم دورهم والاستيلاء على أراضيهم أمرًا ضروريًا وحتميًّا تحت ذريعة البقاء للأقوى، ثم تأتي “الوحدة العضوية” والتي تعني أنّ الإنسان لا وجود له ولا هوية له خارج تراثه، وبحسب هذه الرؤية يصبح مواطنو أيّ دولة مجرّد تعبير عن روح القومية التي ينتمون إليها، والفكر الصهيوني في التحليل المسيري تفكير عضوي متطرّف، ويتبدّى أثر الرومانسية عندما يؤكد المؤلف أنّ علاقة اليهودي بأرضه تصوّر عضوي، لأنّ اليهودي الذي لا يعيش في أرض الميعاد يعدّ منفيًا، و”العودة” كما صوّرها المسيري هي التي توصل اليهودي إلى درجة الكمال والتكامل العضوي.

ثم ينتقل بعد ذلك لبيان أثر النيتشوية في الفكر الصهيوني حيث يمكن تلخيص هذه الرؤية في النقاط التالية:

  1. ففكرة “السوبرمان” تعادل في التصوّر الصهيوني “الشعب اليهودي” (شعب الله المختار)، فهم أسياد العالم وهدف الوجود الإنساني ولم يخلق بقية البشر إلا ليكونوا سلّمًا لهم للصعود، وهذا الأمر هو الذي يعطي لليهودي حقّ العودة إلى “الأرض المقدسة” متى شاء، ويعمرها أو يخرّبها حسبما تملي عليه مشيئته ومشيئة السوبر أمة.
  2. إذا كانت إرادة القوة تتبدى في السوبرمان النيتشوي فإنّ إرادة القوة تتبدّى في السوبر أمّة وذلك ببقاء الشعب اليهودي وعودته إلى الأرض المقدّسة بقاعدة البقاء للأقوى.

فهذه هي أهم النقاط التي يتلاقى فيها الفكر الصهيوني بالفكر الرومانسي وتبدّياته في كلّ من النيتشوية والداروينية، ليزيد تأكيده على تجذّر الفكر الصهيوني في الفكر الغربي واستمداد مقولاته منه.

  • الفصل الثالث: الفكر الاسترجاعي:

يذهب  المسيري في هذا الفصل إلى أنّ الأيديولوجية الصهيونية نبتت في تربة غير يهودية، ثم تحدّدت معالمها الأساسية في منتصف القرن 19م لتتبناها قيادات يهودية في أواخر هذا القرن، والفكر الاسترجاعي فكر ترعرع في الأوساط البروتستانتية وهو عقيدة ترى أنّ الخلاص أو عودة المسيح المخلّص لا تكتمل أركانه إلا بعودة اليهود إلى فلسطين، وبظهور الإمبريالية بدأت تزداد دعاوى الاسترجاع خصوصًا في إنجلترا، ليصبح الخلاص موصولاً بتوطين اليهود في فلسطين، غير أنّ هذه الدعوة ظلّت في حالة سبات ولم تلق استجابة يهودية لافتة إلّا في منتصف القرن 19م، بعد تفاقم المسألة اليهودية في أوروبا الشرقية.

فهو يرى أنّ قضية استرجاع إسرائيل أضحت مطروحة بجدّية في الساحة السياسية بعد صعود الإمبريالية، حيث لم تعد معها الصهيونية فكرة هامشية أو مجرّد أشواق يهودية رومانسية، ليؤكّد في نهاية الفصل أنّ وعد بلفور يصدر عن الرؤية الاسترجاعية التي ترى اليهود وسيلة للتعجيل بالخلاص، وهي رؤية تعبّر عن رغبة في التخلّص من اليهود بحوسلتهم، أي تحويلهم إلى وسيلة لخدمة الحضارة الغربية، واعتبارهم مادة استيطانية نافعة بيضاء توطّن خارج أوروبا.

إنّ قضية استرجاع إسرائيل أضحت مطروحة بجدّية في الساحة السياسية بعد صعود الإمبريالية، حيث لم تعد معها الصهيونية فكرة هامشية أو مجرّد أشواق يهودية، فوعد بلفور صدر عن الرؤية الاسترجاعية التي ترى اليهود وسيلة للتعجيل بالخلاص، وهي رؤية تعبّر عن رغبة في التخلّص من اليهود بتحويلهم إلى وسيلة لخدمة الحضارة الغربية، واعتبارهم مادة استيطانية نافعة بيضاء توطّن خارج أوروبا

  • الفصل الرابع: الإدراك الغربي لأعضاء الجماعات اليهودية:

يتناول  المسيري في هذا الفصل الإدراك الغربي لنفعية اليهود منذ العصور القديمة إلى العصر الحديث، حيث وصف اليهود بمصطلح “الجماعات الوظيفية” ويقصد بها تلك الجماعات البشرية التي يستجلبها المجتمع لتقوم بوظائف يأنف أعضاء المجتمع القيام بها، وليبرز مدى وظيفية اليهود في المجتمعات الغربية يسرد تاريخية وظيفيتهم عبر ثلاث حقب، حيث كان اليهود في الحقبة القديمة جماعات قتالية وأمنية استيطانية، ثم في العصور الوسطى الإقطاعية كانت جماعات وظيفية تجارية، وفي العصر الحديث وظيفية اليهود ستكون موصولة بمفهوم العودة إلى الأرض المقدسة وما ستجلبه هذه العودة من نفع مادي للإنجليز.

وهكذا اعتبر “نفع اليهود” مفهومًا مركزيًّا ومحوريًّا في الحضارة الغربية، لذلك وفي عصر الاستنارة سيدرك الغرب نفعية اليهود وحلّ مسألتهم يكمن في توظيفهم كمادة بشرية نافعة، يتم نقلها إلى الشرق لتصبح عنصرًا استيطانيًا، وبهذا يشكّل الغرب -حسب رؤية المسيري- “دولة وظيفية”، أي دولة يتم توظيفها لصالح الدولة الراعية الإمبريالية.

وبناء على نفعية اليهود قسّمت النازية -كما بين المسيري- اليهودَ إلى قسم قابل للترحيل وهم العنصر اليهودي غير المنتج، لذلك يجب ترحيله ليصبح عنصرًا نافعا للحضارة الغربية، وعنصر غير قابل للترحيل وهم أكثر اليهود نفعًا، وبناء على هذا المبدأ النازي تم اعتبار اليهود عنصرًا غريبًا طفيليًا يجب استئصاله من النسيج الأوروبي إما بالقتل أو النقل خارج أوروبا.


وهكذا يخلص المسيري إلى اعتبار الصهيونية قد استمدت رؤيتها العنصرية العرقية من الأيديولوجية النازية، لينتهي في تحليله إلى أنّ قانون العودة لا يمنح امتيازاته إلّا لمن كان يهوديًا أبًا عن جدّ، وبهذا استخدم الصهاينة نفس الأطروحات البيولوجية العنصرية التي روجت لها النازية في تعريف اليهودي داخل (دولة إسرائيل).

  • الفصل الخامس: الصهيونية بين الجذور الغربية والديباجات اليهودية:

يذهب المسيري من خلال هذا الفصل إلى اعتبار الصهيونية جماعة لا دينية، وحتى تقبل داخل الأوساط اليهودية سيتم أدلجتها وتغليفها بمقولات دينية سيتمّ علمنتها إلى درجة جعلت الجماعات الأرثوذوكسية التي تحارب الصهيونية تنتهي إلى قبولها مرجعًا نهائيًا.

وهنا يطرح مصطلح “الحلولية” كأساس متجذّر في اليهودية، والذي أدّى إلى نجاح الصهيونية، فارتأى أنّ الحلولية اليهودية تدور حول ثلاثية: (الله، الإنسان، الطبيعة)، ففي هذه الثلاثية موقع الحلول والكمون، حيث يحلّ الإله في الإنسان والطبيعة، ويحلّ الإنسان في الشعب اليهودي (الشعب المقدس)، وتحلّ الطبيعة في أرض الميعاد (الأرض المقدسة)، ويمكن ترجمة هذا المبدأ الحلولي وفق ما يمكن تسميته بثالوث “الوحدة العضوية”.

وهكذا يتم علمنة المصطلحات الدينية لتتلاءم مع طروحات الصهيونية اللادينية، فالتوراة التي تعتدّ كتابًا مقدّسًا مرسلاً من الإله ستصبح في الصهيونية الملحدة كتاب فلكلور يعبّر عن روح الشعب العضوي، وهذه العلمنة الحلولية حسب تعبير  المسيري ليست أمرًا فريدًا وإنّما تتسق تمام الاتساق مع واحد من أهم إنجازات الغرب الفلسفية في العصر الحديث حيث أصبح من الممكن الحديث عن المادّي باسم الروحي والروحي باسم المادّي، فالأرض التي تعني عند اليهودي صهيون الروحية (إسرائيل) التي ترتسم مجازًا في المخيال الروحي لكل يهودي، ستمسي عند الصهيوني الأرض التي يمكنهم متى شاؤوا العودة إليها والاستيلاء عليها بقوة السلاح، والشعب الذي يعني عند اليهودي “الجماعة الدينية” سيضحي عند الصهيوني مجموعة بشرية لها حقوق مطلقة منفصلة عن المنظومات القيمية الأخلاقية.

وليتضح الإطار العام للصهيونية صكّ المسيري مصطلح “الصهيونية الأساسية الشاملة” و”الصهيونية الأساسية الشاملة المهوّدة”، فالأولى تقوم على صيغة لا دينية ترى في اليهود مادة نافعة لا قداسة لها، فتُعلْمنهم وتحوّلهم إلى مادة نافعة تنقل إلى فلسطين، وهكذا تعمل على علمنة المكان الذي سينقلون إليه ليكون مجرّد حيز لا تاريخ له، وتُعلْمنُ السكّان الأصليين ليكون مصيرهم الإبادة أو النقل، أمّا الصيغة الثانية المهوّدة فيتم ترشيدها بديباجات ومسوّغات يهودية تجعل هذا التصوّر الصهيوني مقبولاً إلى حدّ كبير في الأوساط اليهودية، وهكذا سيفهم أنّ نقل اليهود ليس للتخلّص منهم أو تأسيس دولة وظيفية تخدم الغرب فحسب، وإنّما هو تأسيس للدولة المقدّسة التي تستجيب للحلم الأزلي في العودة إلى أرض الميعاد وتحقيق رسالة اليهود في تأسيس دولة تستند على الشريعة اليهودية.

يمكن اعتبار الصهيونية بأنها جماعة لا دينية، وحتى تُقبل داخل الأوساط اليهودية سيتم أدلجتها وتغليفها بمقولات دينية، وسيتمّ علمنة المصطلحات الدينية لتتلاءم مع طروحات الصهيونية اللادينية وهكذا أصبحت الصهيونية مقبولة مرجعًا نهائيًا للجميع

  • الفصل السادس: الجذور الغربية للاعتذاريات الصهيونية ونظرية الحقوق:

ينطلق المسيري كعادته في هذا الكتاب من صياغة مصطلحات خاصة برؤيته للصهيونية وعلاقتها بالفكر الغربي، ويرى أنّ الاعتذاريات هي الحجج التي يسوقها الصهاينة لتبرير أفعالهم العدوانية تجاه الفلسطينيين، وهي اعتذاريات تحاكي مبررات الإمبريالية الغربية في غزوها للشرق واستيطانها للأمريكيتين، فإذا كانت حجج الرجل الغربي الاستعمارية تدور حول مركزيته في الكون، فإن الاحتلال الصهيوني ينطلق في حججه من مقولة “شعب الله المختار” أو ما اصطلح عليه عبدالوهاب المسيريّ “السوبر أمة” التي لها حق الاستيطان، ليصبح الفلسطيني في هذا التصور أمرًا عرضيًّا هامشيًّا.

وهكذا طرحت إسرائيل نفسها باعتبارها دولة وظيفية غربية (بيضاء) نظيفة متقدمة وقاعدة للديمقراطية الغربية التي تحمي المصالح الاستراتيجية الغربية وتقف بحزم صارم ضد القومية العربية قديمًا وضدّ الحركات الإسلامية حديثًا[5]، وفي ظلّ هذه الاعتذارية كما يرى الكاتب لا يمكن للفلسطينيين أن يكون لهم حقوق أقوى أو حتى مساوية لحقوق اليهود.

ينطلق الاحتلال الصهيوني في حججه من مقولة “شعب الله المختار” الذي له حق الاستيطان، ليصبح الفلسطيني في هذا التصور أمرًا عرضيًّا هامشيًّا

  • الفصل السابع: تيودور هرتزل، الفكر الاستعماري والعباءة الليبيرالية:

يذهب المسيري من خلال هذا الفصل إلى تحليل ونقد مقولة ليبيرالية الصهيونية أو ليبيرالية طرح هرتزل، ويرى أنّ تأثير هذه الأيديولوجية كان سطحيًّا؛ لأنّ الجوهر هو الإيمان الصهيوني بأنّ فلسطين أرض بلا شعب، والعنف هو الآلية لتحقيق الرؤية الصهيونية. لذلك عدت بعض الجماعات اليهودية هرتزل مسيحها المخلص أو (ماشيح الصهيونية السياسية) الذي عمل على إخراج الحلم اليهودي بالعودة إلى حيز الواقع والوجود، ودعوى الفكر الليبرالي لم تكن سوى أفكار مجردة بينما الواقع العملي أثبت أن هرتزل كان يتحرّك وفق رؤية ترى العالم يهودًا وأغيارًا، وهي رؤية تتأسس على خارطة إدراك صهيونية، وهذا ما جعل عبدالوهاب المسيري يصف هرتزل بالمخلص الليبيرالي، ويتمظهر الخلاص الليبرالي في إبدال فكرة العودة الشخصية للمسيح وهي فكرة دينية بفكرة الدولة اليهودية التي تحلّ محل المسيح (بالنسبة للصهيونية اللادينية) والتي تمهّد الطريق لعودته بالنسبة (للصهيونية الدينية).

فكانت مهمة هرتزل وغيره من الصهاينة إخراج هذا الحلم الديني إلى حيّز الوجود كفكرة واضحة، إمّا بالعنف أو المناورات السياسية، بجعل الدولة اليهودية قاعدة لقوة إمبريالية كبرى.

يذهب المسيري إلى أن جوهر الصهيونية هو الإيمان بأنّ فلسطين أرض بلا شعب، والعنف هو الآلية لتحقيق هذه الرؤية، وأن دعوى الفكر الليبرالي لم تكن سوى أفكار مجردة بينما الواقع العملي أثبت أن هرتزل كان يتحرّك وفق رؤية ترى العالم يهودًا وأغيارًا، وهي رؤية تتأسس على خارطة إدراك صهيونية

  • الفصل الثامن: الصهيونية الاشتراكية:

يرى المؤلف أنّ دعاة الصهيونية الاشتراكية يدَّعون أنّ الفكر الاشتراكي من المصادر الأساسية لرؤيتهم للواقع، غير أنّ هذه الاشتراكية مفرغة من المضمون الإنساني، وبسوقه لنماذج صهيونية اشتراكية خلصَ إلى أنّ منطقهم منطق استعماري غربي يختبئ وراء الديباجات الاشتراكية، فهم ينتمون إلى الإمبريالية الاشتراكية التي تؤيّد المشروع الإمبريالي الغربي بدعوى غزو الشرق المتخلّف الذي سيتقدّم بفعل الغزو الغربي، ومن ثمّ الدخول تحت عباءة الاشتراكية.

فالليبرالية والاشتراكية الصهيونية ما هي إلا ديباجات ظاهرية أمام المجتمع الدولي، والتصور الصهيوني في حقيقته جاء خادمًا للإمبريالية الغربية.

  • الفصل التاسع: ديفيد بن جوريون، الزعيم والرؤى:

ذهب المؤلف من خلال هذا الفصل إلى أنّ الرؤية الصهيونية قد تجسّدت في فكر ديفيد بن جوريون (1886-1972م)، فهو الذي أسهم في تحويل الرؤية إلى حقيقة واقعية بكلّ وحشيتها ودمويتها، فهو من أشرف على تكوين رئاسة الحكومة المؤقّتة قبل إعلان الانتداب عام (1948م)، فقام بنفسه بإعلان بيان قيام (إسرائيل)، مشيرًا إلى عدم وضع حدود للدولة لأنّها مهمّة الجيش (الإسرائيلي).

فكانت القومية من أهم الأفكار الاشتراكية التي ميّزت كتابات بن جوريون وهي كما ذكر تعبّر عن روح الرؤية الغربية للشعب العضوي المنبوذ الذي عليه أن يخرج من أرض المنفى أوروبا ليعود إلى وطنه القومي فلسطين، فكان الاستيطان عنده موصولاً بالسلاح، ليصبح العنف غاية في حدّ ذاته، بل وسيلة لبعث حضاري كما وصفه عبدالوهاب المسيري، ورغم ادّعاء علمانيته إلا أنّه كان مغرقًا في الدين ورؤى تستند إلى مجموعة من الأساطير التي تمت علمنتها، كأسطورة العودة وشعب الله المختار وغيرها، ورغم تنبّئه بأن الدولة الصهيونية ستكون يهودية خالصة تعتمد على قوتها الذاتية، غير أنّ الحقيقة كما يرى عبدالوهاب المسيري غير ذلك؛ إذ أصبحت دويلة عميلة لا يمكن أن يكتب لها البقاء إلا من خلال الدعم السياسي والاقتصادي العسكري الغربي، والأمريكي بالدرجة الأولى[6].

يقوم الجيبان الاستيطانيان -الغربي في جنوب أفريقيا والآخر في فلسطين- على مبدأ تدبير الفائض البشري الغربي ورعاية المصالح الغربية؛ لذلك عدّت الإمبريالية هذين الجيبين امتدادًا للحضارة الغربية وسط أفريقيا وآسيا، وجزءًا من تاريخها

  • الفصل العاشر: الجيبان الاستيطانيان في إسرائيل وجنوب أفريقيا:

يذيّل المسيري رؤيته التحليلية للظاهرة الصهيونية بعقد مقارنة بين الجيب الاستيطاني الغربي في جنوب أفريقيا والآخر في فلسطين، وذلك لفهم عمق الصلة بين الفكر الغربي والفكر الصهيوني، فهذان الجيبان الاستيطانيان يقومان على مبدأ تدبير الفائض البشري الغربي ورعاية المصالح الغربية، لذلك عدّت الإمبريالية هذين الجيبين امتدادًا للحضارة الغربية وسط أفريقيا وآسيا، وجزءًا من تاريخها، وإذا كان التقسيم في جنوب أفريقيا يفصل بين البيض والسود فإنّ هذا التقسيم الصهيوني يفصل بين العرب واليهود. وأكّد الكاتب أنّ الرؤية الاستيطانية في كلا الجيبين يتفرّع عنها خطاب عنصري يؤكّد التفاوت بين الوافدين أصحاب الحضارة أو شعب الله المختار والسكان الأصليين المتخلفين في هذا التصوّر.

وهكذا ينتهي إلى تأكيد تجذّر الفكر الصهيوني في الحضارة الغربية فهي منبته ومنشؤه، بل إنّ الفكر الصهيوني قد ترعرع في أوساط معادية لليهود عملت على توظيفهم لخدمة الحضارة الغربية، فكان مفهوم العودة ليس دينيًا خالصًا مأخوذًا من التوراة أو التلمود، بل هي مقولة غربية مادية تم صياغتها بديباجات دينية تستجيب لأشواق اليهودي في بناء دولة دينية تحكمها شريعة التوراة.



د.كريمة دوز
دكتوراه في العقيدة والفكر الإسلامي ومقارنة الأديان، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس- المغرب.



[1]
رحلتي الفكرية، لعبد الوهاب المسيري، ص (371).

[2] الرومانسية: وهو مذهب فلسفي ظهر في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ومن خصائص هذا المذهب تعظيمهم للحدس والحرية والتلقائية، يرى عبد الوهاب المسيري أن الفلسفة الداروينية من تبديات الفلسفة الرومانسية باعتبارها تتقاطع مع هذه الأخيرة في نظرتها للعالم؛ فهي فلسفة تطلب العودة للطبيعة باعتبارها معيارًا وحيدًا يقاس به الإنسان ونظمه الأخلاقية والمعرفية، وهذا لب التصور الدارويني للحياة.

[3] النيتشوية: نسبة إلى نيتشه وهي الفلسفة التي تأخذ من أفكار نيشته أرضية لها وقد اعتبرها المسيري في هذا الكتاب الصورة الانتقائية لأفكاره وهي فلسفة عدمية فردية تعبر عن الحضارة الغربية في أوج الثورة الإمبريالية.

[4] الداروينية: هي فلسفة اجتماعية قائمة على الأسس العلمية للنظرية التطورية التي جاء بها داروين في القرن التاسع عشر ميلادي والتي أثرت في جوانب عديدة من علم الاجتماع وعلم النفس ولقيت البيئة الحاضنة لها في النازية (للتوسع ينظر: المادية وتفكيك الإنسان، عبد الوهاب المسيري، دار الفكر، دمشق-سوريا، الطبعة السادسة، (1437هـ-2016م).

[5] حركة حماس مثلاً كنموذج للمشروع الإسلامي في المنطقة.

[6] من يتابع الأحداث الحالية والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يلحظ الدعم الغربي عمومًا والأمريكي المعلن خصوصًا لهذا العدوان.

X