الافتتاحية

الظلم مؤذِنٌ بخراب العمران

مدخل:

تعيش البشرية في سنواتنا هذه حقبةً صعبة، تتتابَع فيها المنغِّصات والمزعجات، بل يملؤها الظلم بأنواعه، ويرافقها الخوف من التغيُّرات الكبرى على مستوى العالم كله، فالاحترار والجفاف والتصحّر من جهة، والحروب والنزاعات وتوابعها من جهة، ومن جهة أخرى: التضخّم الاقتصادي والغلاء الفاحش، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد ليطال تكوين الأسرة وإفساد الحياة الزوجية والأولاد، ليصل إلى أنواع غير مسبوقة من الفواحش والمحرمات والموبقات.

وهذه المظاهر التي تُنذر بمستقبل مظلم لا يُلحظ تراجُع حدّتها، ولا وقوفها عند مستوى معيَّن، بل تزداد يومًا بعد يوم، حتى صارت الزَّفَرات اليائسة والعبرات المحبَطة حديثًا معتادًا لدى الشباب، في الوقت الذي يُنتظر منهم أن يكونوا شُعَلاً من الطموح وجرعاتٍ من الأمل.

فما الذي أوصل البشرية لهذه الحافة؟ وهل من مَخرجٍ يُعيد للحياة توازنها وللمستقبل إشراقته؟

العدل أساس الحياة:

خلق الله الخلق وشرع لهم ما يُقيم حياتهم على أحسن حال، ومما وضعه أساسًا لا تنتظم الحياة إلا به ولا تصلح إلا معه: العدل، قال تعالى: ﴿‌لَقَدْ ‌أَرْسَلْنَا ‌رُسُلَنَا ‌بِالْبَيِّنَاتِ ‌وَأَنْزَلْنَا ‌مَعَهُمُ ‌الْكِتَابَ ‌وَالْمِيزَانَ ‌لِيَقُومَ ‌النَّاسُ ‌بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]، والقسط هو العدل الذي به يتحقّق التعادل أو التوازن بين الأشياء دون ميل أو جَور، أو طغيان من جانب على جانب، ولعلّ في ذكر الميزان هنا -وفي آيات أخرى- ما يشير إلى ضرورة التوازن في الحياة الإنسانية؛ ولهذا عظّم الله الميزان فقَرَنه بالكتاب في آيتين، وقَرَنه برفع السماء في سورة الرحمن، حين قال: ﴿‌وَالسَّمَاءَ ‌رَفَعَهَا ‌وَوَضَعَ ‌الْمِيزَانَ ٧ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ٨ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: 7-9].

فإذا غاب العدل عن الحياة توحّشت، وأصبحت غابة يأكل فيها القوي الضعيف، وفُقد الأمن، وانقطعت أواصر العلاقات، وحلّت مكانها المشاحنات والعداوات، وهذا مُؤذن بفساد الحال وخراب البلاد.

قال الماورديّ: “‌وأما ‌القاعدة ‌الثالثة: ‌فهي ‌عدل ‌شامل ‌يدعو ‌إلى ‌الألفة، ويبعث على الطاعة، وتتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكثر معه النسل، ويأمن به السلطان. فقد قال المَرْزُبان لعمر حين رآه وقد نام متبذِّلاً: عدلت فأمنت فنمت. وليس شيء أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجَور؛ لأنه ليس يقف على حد ولا ينتهي إلى غاية، ولكل جزء منه قسط من الفساد حتى يستكمل”[1].

إذا غاب العدل عن الحياة توحّشت، وأصبحت غابة يأكل فيها القوي الضعيف، وفُقد الأمن، وانقطعت أواصر العلاقات، وحلّت مكانها المشاحنات والعداوات، وهذا مُؤذن بفساد الحال وخراب البلاد.

العدل شريعة وحضارة وعمران:

العدل أصل عظيم كتبه الله على نفسه، وتسمّى به، فهو العدل والعادل سبحانه وتعالى، وقد حرّم جلّ شأنه على نفسه نقيضه وهو الظلمَ، (يا عبادي.. إني حَرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُهُ بينكم مُحَرَّمًا فلا تظالموا)[2]، ونفى وقوعه منه، فقال: ﴿‌وَلَا ‌يَظْلِمُ ‌رَبُّكَ ‌أَحَدًا﴾ [الكهف: 49]، وقال: ﴿‌وَمَا ‌رَبُّكَ ‌بِظَلَّامٍ ‌لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46].

بالعدل قامت السماوات والأرض، وبه بعث الله الرسل وأنزل الشرائع، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ ‌يَأْمُرُ ‌بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]. قال ابن القيم رحمه الله: “فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات”[3].

وبالعدل تُنال محبةُ الله ورضوانه، قال تعالى: ﴿‌وَأَقْسِطُوا ‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌يُحِبُّ ‌الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]، وكما ورد في الحديث: (إنَّ المقسطين عند الله على منابِرَ من نور، عن يمين الرحمن عز وجل)[4].

فالعدل في الحياة ليس مجرّد أمر واجب الاتباع، بل هو من أهداف الإسلام العظمى، وقِيَمِهِ الحضارية الكبرى، بل لا يتحقق أي مشروع حضاري لأي أمة إلا به، قال ابن تيمية: “العدل نظام كلِّ شيء، فإذا أُقيم أمر الدنيا بعدلٍ قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خَلاق، ومتى لم تقُم بعدلٍ لم تقُم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة”، وقال أيضًا: “وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إنّ الله يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يُقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويُقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام”[5].

فالعدالة في الإسلام هي مشروع حضاري بأبعادٍ أخلاقية وإنسانية، وهو واجب حتى مع الأعداء ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ‌اعْدِلُوا ‌هُوَ ‌أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8].

فإذا ساد العدل في المجتمع انسابت الطمأنينة في النفوس، وشعر الناس بالاستقرار والألفة، واستتبَّ الأمن، وشاعت بين الناس روح التعاون والتماسك والمحبة والوئام، وقضي على كثير من المشكلات الاجتماعية، واستقامت علاقة الحاكم بالمحكوم، فانقطع الطمع في منازعة السلطان، وتفرغ الناس لأعمالهم وأشغالهم، وقامت الدولة، واستقر حكمها وسلطانها؛ مما يؤدي لازدهارها..

قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: “لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل”[6].

إذا انتشر الظلم في مجتمع وشاع؛ ولم يقف في وجهه أحد، حقّ عليهم غضب الله تعالى ونقمته، ونزل بهم أنواع العقاب من محق البركة والضيق في الرزق، بل يسلِّط الله عليهم الكوارث والأمراض والأوجاع، وطغيان الأمم الأخرى، فيحيلونهم أذلاء بعد السيادة، ويذيقونهم مرارة العبودية والاستضعاف.

الظلم من أشنع الخطايا:

ضدُّ العدل هو الظلم، وهو من أعظم الذنوب التي يُعصى اللهُ بها على اختلاف صوره ودرجاته، والظلم من أعجل الذنوب عقوبةً في الدنيا والآخرة؛ وقد جاء في الوعيد عليه نصوص كثيرة منها:

  • نفي الفلاح عن الظالمين، قال تعالى: ﴿‌إِنَّهُ ‌لَا ‌يُفْلِحُ ‌الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: 21].
  • توعّد الظالمين بإضلالهم وعدم هدايتهم للحق، قال تعالى: ﴿‌وَيُضِلُّ ‌اللَّهُ ‌الظَّالِمِينَ﴾ [إبراهيم: 27]، وقال: ﴿وَاللَّهُ ‌لَا ‌يَهْدِي ‌الْقَوْمَ ‌الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258].
  • الطرد من رحمة الله في الآخرة، قال سبحانه: ﴿‌أَلَا ‌لَعْنَةُ ‌اللَّهِ ‌عَلَى ‌الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18]، وقال: ﴿‌يَوْمَ ‌لَا ‌يَنْفَعُ ‌الظَّالِمِينَ ‌مَعْذِرَتُهُمْ ‌وَلَهُمُ ‌اللَّعْنَةُ ‌وَلَهُمْ ‌سُوءُ ‌الدَّارِ﴾ [غافر: 52].
  • تعجيل العقوبة في الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم)[7]. وقال: (‌إن ‌الله ‌ليملي ‌للظالم، ‌حتى ‌إذا ‌أخذه ‌لم ‌يفلته) قال: (ثم قرأ: ﴿‌وَكَذَلِكَ ‌أَخْذُ ‌رَبِّكَ ‌إِذَا ‌أَخَذَ ‌الْقُرَى ‌وَهِيَ ‌ظَالِمَةٌ ‌إِنَّ ‌أَخْذَهُ ‌أَلِيمٌ ‌شَدِيدٌ﴾ [هود: 102])[8].
  • العذاب الشديد في الآخرة، قال تعالى: ﴿‌وَلَا ‌تَحْسَبَنَّ ‌اللَّهَ ‌غَافِلاً ‌عَمَّا ‌يَعْمَلُ ‌الظَّالِمُونَ ‌إِنَّمَا ‌يُؤَخِّرُهُمْ ‌لِيَوْمٍ ‌تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ 42 مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ [إبراهيم: 42-43]، وقال: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21]، وقال: ﴿‌أَلَا ‌إِنَّ ‌الظَّالِمِينَ ‌فِي ‌عَذَابٍ ‌مُقِيمٍ﴾ [الشورى: 45].

الظلم مُؤذِن بالخَراب:

شؤم الظلم وآثاره لا تقف عند الظالم فحسب، بل هي مؤذنةٌ بخراب عامٍ، فالظلم أول ما يَبدأ بصاحبه، يُفسد دينه وأخلاقه، ويشوِّه إنسانيته ونفسيته، مما ينعكس على تعاملاته مع سائر الناس والمجتمع.

فإذا انتشر الظلم في مجتمع وشاع؛ ولم يقف في وجهه أحد، حقّ عليهم غضب الله تعالى ونقمته، ونزل بهم أنواع العقاب من محق البركة والضيق في الرزق، بل يسلط الله عليهم الكوارث والأمراض والأوجاع، وطغيان الأمم الأخرى، فيحيلونهم أذلاء بعد السيادة، ويذيقونهم مرارة العبودية والاستضعاف.

فالحَيف وسلب الحقوق وإهدار الكرامات مبعث الشقاء ومثار الفتن، قال شمس الدين الغرناطي: “نِيَّةُ ‌الظلم ‌كافية ‌في ‌نقص ‌بركاتِ ‌العمارة؛ فعن وَهْب بن منبه: إذا هم الولي بالعدل أدخل الله البركاتِ في أهل مملكته حتى في الأسواق والأرزاق، وإذا هم بالجَور أدخل الله النقص في مملكته حتى في الأسواق والأرزاق”[9].

وإن أدنى ما يستجلبه الظلم: دعوة المظلوم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن، فقال: (اتَّقِ دعوةَ المظلوم؛ فإنَّها ليس بينها وبين الله حجاب)[10].

بل إن الله تعالى كتب على نفسه أن ينصر المظلوم وينتقم من الظالم، ففي حديث خُزَيمة بن ثابتٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتَّقوا دعوة المظلوم؛ فإنها تُحْمَل على الغمام، يقول الله: وعِزَّتِي وجلالي لأنصُرَنَّك ولو بعد حين)[11].

وكتبَ بعض وُلاة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز رحمه الله إليه كتابًا جاء فيه: “أما بعد، فإن مدينتنا قد خربت، فإنْ رأى أميرُ المؤمنين أن يقطع لها مالاً يَرمُّها به فعل”، فكتب إليه عمر: “أما بعد: فقد فهمتُ كتابك، وما ذكرت أن مدينتكم قد خربت، فإذا قرأتَ كتابي هذا فحَصِّنْها بالعدل، ونَقِّ طرُقَها من الظلم؛ فإنه مَرمَّتُها، والسلام”[12].

بل يتعدَّى شؤم الظلم العبادَ والبلادَ إلى فساد البيئة وفقدانها صلاحيةَ العيشِ الهني، قال تعالى: ﴿‌ظَهَرَ ‌الْفَسَادُ ‌فِي ‌الْبَرِّ ‌وَالْبَحْرِ ‌بِمَا ‌كَسَبَتْ ‌أَيْدِي ‌النَّاسِ ‌لِيُذِيقَهُمْ ‌بَعْضَ ‌الَّذِي ‌عَمِلُوا ‌لَعَلَّهُمْ ‌يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41]، قال الطبري رحمه الله: “‌ظهرت ‌معاصي ‌الله ‌في ‌كل ‌مكان ‌من ‌بر ‌وبحر (‌بِمَا ‌كَسَبَتْ ‌أَيْدِي ‌النَّاسِ) : أي بذنوب الناس، وانتشر الظلم فيهما. وقوله: (‌لِيُذِيقَهُمْ ‌بَعْضَ ‌الَّذِي ‌عَمِلُوا) يقول جل ثناؤه: ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوا، ومعصيتهم التي عصوا (‌لَعَلَّهُمْ ‌يَرْجِعُونَ) يقول: كي ينيبوا إلى الحق، ويرجعوا إلى التوبة، ويتركوا معاصي الله”[13].

من صور الظلم المعاصرة: التحكم في حق الناس في البحث عن معيشة أفضل، وفرض أنظمة جائرة للتأشيرات والإقامة والمواطنة، فصار كثير من الناس يقتحمون المهالك في سبيل الوصول إلى وجهتهم، ويتعرّضون في طريقهم للأهوال، ولو نجوا ووصلوا فهم عرضة للترحيل التعسفي، فضلاً عن الفتن والمشكلات الاجتماعية الكثيرة.

من صور الظلم الكبرى المعاصرة:

في زماننا هذا عمّ الظلم حتى تضافر الأقوياء على حمايته وتكريسه، مما أدّى إلى سحق الضعفاء وهضم حقوقهم، ونشر اليأس وقتل الأمل في نفوسهم، ومن أهم صوره المعاصرة:

  • حركة الاستعمار التي اعتدت على الشعوب والدول، وسامتها سوء العذاب، فأسقطت حكوماتها، واحتلت أرضها، وصادرت قرارها، وسامتها سوء العذاب قتلاً وتهجيرًا وإحلالاً للأغراب في ديارهم وممتلكاتهم، وتركت أهالي البلاد المستعمرة فقراء متخلّفين، مع تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ للدول القوية، حتى صار العالم ألعوبةً في يد دول قوية معدودة لا يهمّها إلا استمرار النفوذ والمصالح ولو على حساب المبادئ والقيم.
  • ثم صارت الدول القوية تتدخل لمنع أي حركة تحرّر من الهيمنة السياسية للقوى الكبرى، ولو استدعى ذلك تدبير الانقلابات، واستخدام أفتك الأسلحة وأشنعها ولو أدّى إلى إبادة شاملة، وفي الوقت نفسه: تقوم بإضعاف جميع مقومات الحياة الكريمة في الدول الضعيفة؛ لضمان تبعيتها واستمرار تحكُّمهم فيها.
  • وحتى يكتمل مشهد الهيمنة: عمدت إلى فرض وتشجيع أسلوب ونمط حياةٍ قائم على اللهو والاستهلاك، وفرض الأنظمة الاقتصادية القائمة على الربا؛ مما يكرّس غنى الغني وفقر الفقير، إضافة إلى منع أي محاولة لإنشاء نظام مستقلّ أو بديل.
  • وفي الجانب الاجتماعي: تفكيك بنية الأسرة من خلال تغذية صراعٍ مفتعلٍ بين الرجل والمرأة، وتشجيع جميع أشكال التحرّر الجنسي والفوضى الأخلاقية المصاحبة لها، ومحاربة الفضيلة والحشمة وتجريمها إن لزم الأمر.
  • ومن أكثر الصور بؤسًا: التحكم في مسارات الهجرة وبحث الناس عن فرص معيشية أفضل، وفرض أنظمة جائرة للتأشيرات والإقامة والمواطنة، الأمر الذي يجعل كثيرًا من الناس يغامرون ويقتحمون المهالك في سبيل الوصول إلى وجهتهم، ويتعرّضون في طريقهم للقتل أو الاعتقال والتعذيب، ولو نجوا ووصلوا فهم عرضة للترحيل التعسفي، فضلاً عن الفتن والمشكلات الاجتماعية الكثيرة.

لكل دولة نصيبها من الظلم:

لا يقتصر الظلم على ما تفرضه الدول الكبرى على الدول الضعيفة والنامية، ففي كل دولة من الدول الصغيرة قامت أسواق للظلم لم يعرف لها العالم الإسلامي سابقة في الظلم والحيف وأكل الحقوق واستعباد الشعوب، والذي تتشارك فيه مع الدول القوية، ومن ذلك:

  • مصادرة رأي الناس عامتهم وخاصتهم فيمن يتولى شؤون الحكم في بلادهم، وفرض أشخاص وأنظمة عليهم دون إرادتهم، والاستئثار بالمناصب والامتيازات للأقارب والمعارف في حلقة ضيقة من المنتفعين.
  • محاربة العلماء والدعاة والمصلحين، قتلاً وسجنًا وطردًا وتقييدًا للحركة ومنعًا من أداء رسالة الأنبياء في توعية المجتمعات وتعليمهم أمور دينهم، ودفع الشبهات عنهم، مع تمكين المفسدين من مراكز التأثير السياسية والإعلامية والتعليمية، وتسليطهم على الناس، وحمل المجتمعات على فسادهم وانحرافهم حملاً.
  • الاستجابة المطلقة لإملاءات الدول القوية من قوانين ظالمة؛ بهدف المحافظة على مكاسب سياسية وضمان البقاء على الكرسي.
  • إذكاء نار العنصرية في المجتمعات فكرًا وممارسة، وصب ألوان العذاب والممارسات الظالمة على “غير المواطنين” بحجة الحفاظ على توازن المجتمع، أو الصمت عن هذه الدعوات والممارسات على أقل تقدير؛ رضًى بها واستثمارًا لها.

وهكذا نرى أن هذه الممارسات تندرج تحت عنوان ظلم القوي للضعيف، واستغلاله والتحكم فيه، وهضمه واحتقاره والتكبر والتعالي عليه، وتقييد حريته وسجنه، أو إزهاق روحه، وعندها يحقّ للعاقل أن يسأل: كيف يقدس الله أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير مُتَعْتَعٍ؟[14].

ولابن خلدون رحمه الله كلامٌ في ذلك أصبح منارةً لكل مَن يتحدث عن أثر الظلم على العمران، ومما قاله: “الظلم مؤذنٌ بخراب العمران.. اعلم أنّ العدوان على الناس في أموالهم ذاهبٌ بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذٍ من أنَّ غايتَها ومصيرها انتهابُها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك”[15].

وقال: “ومن أشدِّ الظلامات وأعظمِها في فساد العمران تكليفُ الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق.. فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخريًا في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو مُتَموَّلهم، فدخل عليهم الضرر وذهب لهم حظ كبير من معاشهم، بل هو معاشهم بالجملة، وإن تكرّر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة، وقعدوا عن السعي فيها جملة؛ فأدّى ذلك إلى انتقاض العمران وتخريبه”[16].

لا يقتصر الظلم على ما تفرضه الدول الكبرى على الدول الضعيفة والنامية، ففي كل دولةٍ من الدول الصغيرة قامت أسواقٌ للظلم لم يعرف لها العالم الإسلامي سابقةً في الظلم والحيف وأكل الحقوق واستعباد الشعوب، والذي تتشارك فيه مع الدول القوية.

ظلم الناس بعضهم بعضًا:

في حمأة الحديث عن الظلم الأكبر المتسلِّط على رقاب الناس ممن بيده السُّلطة والقوة، لا ينبغي أن ننسى الظلم الواقع من أفراد الناس تجاه بعضهم البعض؛ من ظلم الرجل صاحبَه أو قريبَه، وظلمِ الشريك شريكَه، وظلمِ الزوجِ زوجتَه أو الزوجةِ زوجَها، وظلم الأبِ أبناءَه، وظلم الأبناء آباءَهم، وظلم الجار جارَه، وظلم المعلم طلابَه، وظلم المدير وصاحب العمل للموظفين والعمال، … ونحو ذلك.

وهذا كلُّه من الظلم الذي يطال شؤمُه المجتمع، وداخلٌ فيما توعَّد الله صاحبه بأشد العذاب.

كلكم مسؤول:

القيام بالعدل، ومجابهة الظلم، والانتصار للمظلوم لا يختص بالحاكم أو القاضي، أو فريق من الناس، بل هو واجب على الجميع، كلّ بما يخصّه وما يستطيعه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده…)[17].

فالوالدان مأموران بالعدل بين أولادهما، والزوج مأمور بالعدل في بيته، والتاجر مأمور بالعدل في متجره وشركته، والحاكم مأمور بالعدل بين رعيته، وكلّ من حكم بين الناس فهو مأمور بالعدل بين الخصوم، قال تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابِرَ من نور، عن يمين الرحمن عز وجل -وكِلْتا يديه يَمين- الذين يعدلون في حُكمهم وأهليهم، وما ولوا)[18].

وما من أحدٍ إلا وهو مطالبٌ بالعدل مأمورٌ به، محاسبٌ عليه، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: (‌تحجُزُه ‌أو ‌تمنعه ‌من ‌الظلم ‌فإن ‌ذلك ‌نصره)[19].

يجهل كثير من الناس أن من الواجبِ عليهم منعَ الظلم وكفَّ يد الظالم، وأنهم بصمتهم وسُكوتهم مشاركون في الظلم حقيقةً، فهم مشمولون بشؤم الظلم وعقوبته، ويخطئ من يظن أن الظلم الذي لا يصيبه أو لا يشارك فيه لن يصل إليه، فالظلم إن شاع وانتشر لا بدَّ أن يطال من رضي عنه أو سكت.

 الساكتون عن الظلم:

قد يتخذ فريق من الناس موقف السكوت أو الصمت عن الظلم ظنًا منهم أن عدم مشاركتهم بالظلم كافٍ في رفع الملامة عنهم، وأنهم قاموا بما عليهم من عدم الظلم، لكنهم يجهلون أن من الواجبِ عليهم منعَ الظلم وكفَّ يد الظالم، وأنهم بصمتهم وسُكوتهم مشاركون في الظلم حقيقة، فهم مشمولون بشؤم الظلم وعقوبته، ويخطئ من يظن أن الظلم الذي لا يصيبه أو لا يشارك فيه لن يصل إليه، فالظلم إن شاع وانتشر لا بدَّ أن يطال من رضي عنه أو سكت، سنة الله تعالى في أنَّ “من أعان ظالمًا سلطه الله عليه”.

فالخراب والعقوبة تعمُّ الجميع، كما قال تعالى: ﴿‌وَتِلْكَ ‌الْقُرَى ‌أَهْلَكْنَاهُمْ ‌لَمَّا ‌ظَلَمُوا ‌وَجَعَلْنَا ‌لِمَهْلِكِهِمْ ‌مَوْعِدًا﴾ [الكهف: 59].

وقال صلى الله عليه وسلم مبينًا أثر الظلم في هلاك سائر الأمة: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا ‌سرق ‌فيهم ‌الشريف ‌تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)[20].

وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيلَه وشَريبَه وقعيدَه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض) ثم قال: ﴿‌لُعِنَ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا ‌مِنْ ‌بَنِي ‌إِسْرَائِيلَ ‌عَلَى ‌لِسَانِ ‌دَاوُودَ ‌وَعِيسَى ‌ابْنِ ‌مَرْيَمَ ‌ذَلِكَ ‌بِمَا ‌عَصَوْا ‌وَكَانُوا ‌يَعْتَدُونَ﴾ إلى قوله: ﴿فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 78- 81] ثم قال: (كلا والله، لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخُذُنَّ على يدي الظالم، ولتأطُرُنَّهُ على الحق أطرًا، ولتَقْصُرُنَّهُ على الحق قَصرًا، أو ليضرِبَنَّ الله بقلوب بعضكم على بعض، وليلعَنَنَّكُم كما لعنهم)[21].

بل إن الله قد توعَّد الساكتين عن الظلم المتَّخذين موقف المشاهِدِ المتفرِّج عليه بأشدِّ العقاب والخذلان، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ يخذل امرأ مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن ‌يحب ‌فيه ‌نصرته، وما من امرئ ينصر مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب نصرته)[22].

منهج الإسلام في محاربة الظلم ومنعه:

الإسلام دين كامل، لم يترك شيئًا يصلح أمر الناس إلا بيَّنه ووضَّحه، وإقامةُ العدل ونبذُ الظلم أخذ حيزًا كبيرًا من الأحكام والنصوص الشرعية، ومن أبرز معالم المنهج الإسلامي في ذلك:

  • تعظيم العدل في النفوس، وتقبيح الظلم.
  • ترتيب الجزاء الكبير على العدل، والعقوبة الشديدة على الظلم.
  • جعل إقامة العدل ومحاربة الظلم واجب كل فرد من الأفراد.
  • إقامة سائر التشريعات الإسلامية على العدل بين جميع فئات المجتمع وطبقاته.
  • تنمية الإحساس الفردي بالمسؤولية عن إقامة العدل، والخشية من الله تعالى ومراقبته.
  • تنمية الوعي الاجتماعي العام بالمسؤولية الأخلاقية في نشر الفضائل ورفض الرذائل ومحاربتها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحفاظ على أمن المجتمع ومصلحته، وصيانته والقيام بحقوق أفراده.
  • تقديم القدوة والأسوة الحسنة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، فقد كان يعمل مع الناس، ويجوع معهم، ويعايشهم ويقضي بينهم بالعدل، ولم يميز بين أشراف الناس وعامتهم في الحكم، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (وايمُ الله: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)[23].
  • التربية على العدل وتحبيبه للنفوس، وفي ذلك يأتي ما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا”، وغيرها من مآثر المسلمين في تحقيق العدالة ورفع الظلم.

فبالتربية تهذَّب النفوس، وتُصقل الطبائع، وتُحمى المجتمعات من تغوُّل القوي، ويُجبر كسر الضعيف.

قال أحمد شوقي:

رَبُّـوا عَـلَـى الْإِنْـصَـافِ فِـتْـيَانَ الْحِمَى ** تَــجِــدُوهُــمُ كَـهْـفَ الْـحُـقُـوقِ كُـهُـولَا

فَــهُـوَ الَّـذِي يَـبْـنِـي الـطِّـبَـاعَ قَـوِيـمَـةً ** وَهُــوَ الَّــذِي يَـبْـنِـي الـنُّـفُـوسَ عُـدُولَا

وَيُــقِـيـمُ مَـنْـطِـقَ كُـلِّ أَعْـوَجِ مَـنْـطِـقٍ ** وَيُـــرِيــهِ رَأْيًــا فِــي الْأُمُــورِ أَصِــيــلَا

 


 

[1] أدب الدين والدنيا، ص (139).

[2] حديث قدسي أخرجه مسلم (2577).

[3] الطرق الحكمية، ص (13).

[4] أخرجه مسلم (1827).

[5] مجموع الفتاوى (28/146).

[6] مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، لسبط ابن الجوزي (7/36).

[7] أخرجه أبو داوود (4902)، والترمذي (2511) وصحّحه، وابن ماجه (4211).

[8] متفق عليه: البخاري (4686) ومسلم (2583).

[9] بدائع السلك في طبائع الملك (1/227).

[10] متفق عليه: أخرجه البخاري (2448)، ومسلم (19).

[11] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3718).

[12] حلية الأولياء (5/305)، مَرَمَّتُها: أي إصلاحها.

[13] تفسير الطبري (20/109).

[14] جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قُدِّست أمَّةٌ لا يأخذُ الضَّعيفُ فيها حقَّهُ غيرَ متَعتَعٍ) أخرجه ابن ماجه (2426)، أي: لا زُكِّيَت ولا طُهِّرَت أمّة لا يأخذ الضعيف فيها حقّه بلا إكراهٍ، ودونَ أن يُصيبَه أذًى يُقلِقُه ويُزعجُه، ودونَ مُمطالة.

[15] مقدمة ابن خلدون (353-354).

[16] المرجع السابق (357).

[17] أخرجه مسلم (49).

[18] أخرجه مسلم (1827).

[19] أخرجه البخاري (6952).

[20] متفق عليه: أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688).

[21] أخرجه أبو داود (4337).

[22] أخرجه أبو داود (4884)، وأحمد (16368).

[23] متفق عليه: أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688).

X