الورقة الأخيرة

خذ العفو

خُذِ العَفْو

حضر مع قريب له مجلس عمر ، فقال: يا ابْنَ الخَطّابِ، واللهِ ما تُعْطِينا الجَزْلَ[1]، وما تَحْكُمُ بيْنَنا بالعَدلِ، فغضب عمر، فقال قريبه: يا أميرَ المُؤمِنِينَ، إنَّ اللهَ تعالى قال لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿‌خُذِ ‌الْعَفْوَ ‌وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، وإنَّ هذا مِنَ الجاهِلِينَ، فَوَاللهِ ما جاوَزَها عُمَرُ حِينَ تَلاها عليه، وكانَ وقَّافًا عِنْدَ كِتابِ اللهِ.[2]

الصفح والعفو عن المخطئ خلق معروف تسهل به الحياة، وتجمل به العلاقات، وتختصر به الجهود، ويتعلم به المخطئ. وهو صورة من صور (أخذ العفو) الذي هو مفهوم واسع واقعي عميق، ينسجم مع تفاوت الطباع واختلاف القدرات وتنوع الظروف وتباين الأمزجة، ويحث على قبول المبذول من الآخرين بسهولة، دون كلفة ولا مشقة، مما تطيب به نفوسهم وتسمح به أوضاعهم، وهو يدعو ضمنًا إلى الاستمتاع بالموجود والاكتفاء بالمتاح، والشكر على القليل الذي يأتي بالكثير.

﴿‌خُذِ ‌الْعَفْوَ﴾ آية “جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم”[3].

يستوعب أخذُ العفو أسباب تمتين العلاقات ونقاوتها، وراحة المشاعر واستقرارها، وقد ورد الأمر بالنهي عن التكلف ﴿‌وَمَا ‌أَنَا ‌مِنَ ‌الْمُتَكَلِّفِينَ﴾، وجاء الأمر النبوي للجارة المسلمة: (لا تَحْقِرَنَّ جارَةٌ لِجارَتِها، ولو فِرْسِنَ شاةٍ)[4] وهو ظِلْفُ الشَّاةِ كالحافرِ مِن الفرَسِ، وقيل: هو عَظْمٌ قَليلُ اللَّحْمِ كنايةً عن المبالغة في تواضُع الهَديَّة. وكانت التربية النبوية ترغب في ترك سؤال الناس، فضلاً عن الإلحاح عليهم، وخاصة سؤال أموالهم إلا فيما وجب، فإن السؤال فيه ذلة للسائل وإحراج للمسؤول قد يدفعه إلى البخل والمنع.

يعين على أخذ العفو: خفض التوقعات من الناس، فإن من لم يتوقع شيئًا سعد منهم بالقليل، ومن توقع منهم الكثير خَفَت في نفسه ما كان أقل مما توقعه، وإن كان كثيرًا. ويعين عليه أيضًا: تعويد النفس على الشكر على كل شيء مما لا يأبه الناس بالشكر عليه، وكذلك امتداح أي خطوة إيجابية أو فعل طيب مهما كان ضئيلاً، ومهما كان صاحبه مقصرًا، فإن امتداح القليل يزيده، وإن الشكر على الخطوة الصغيرة يحفز صاحبها على الاستمرار والتحسين والزيادة.

هكذا الإحسان إلى الخلق يفتح قلوبهم لقبول الحق، وهو إحسان يجب لا يهدر حقًا ولا يضيع واجبًا، لذا جاء بعد الأمر بأخذ العفو الأمر بالعرف، وهو المعروف الذي من قام به ربما تعرض للجهالة، فجاء الأمر بالإعراض عن الجاهلين. وبذا تنتظم علاقات المسلم بثبات مبادئه وقيمه، وحفظ قلبه وعلاقاته. يقول ابن مسعود : “خالط الناس وزايلهم، وعاملهم بما يشتهون، ودينك لا تثلمنه”[5].

وصفةٌ ربانيةٌ للقائمين على أَسَرهم وأعمالهم أن يأخذوا العفوَ ليغنَموا من بعده ببركاتِ القناعةِ والرضا وسلامة الصدر وحسن الظن وراحة البال ودوام التفاؤل وسرعة التفاعل. أما المربون والدعاة فأحوجُ إلى ذلك، ذلك أنَّ سياق الآيات كان في مُحاجَّة المشركين ودعوتهم، فجاء أخذ العفو ليفتح قلوبهم للدعوة، فإنَّ النفوسَ تَهوى السماحة والراحة والبساطة، وتنفِرُ من المشاحّة والتعب والتعقيد.


 

د. خير الله طالب



[1]
العطاء الكثير الواسع.

[2] القصة في البخاري (7286).

[3] تفسير السعدي، ص (313).

[4] أخرجه البخاري (2566).

[5] الزهد لأبي داود (163)، ونحوه في البخاري، باب: الانبساط إلى الناس.

X