الافتتاحية

فعليكم النصر

الأحداث التي تعيشُها فلسطين ليست مفاجئة، ولم تبدأ في السابع من تشرين الأول- أكتوبر 2023م، بل هي حلقةٌ من سلسلةٍ طويلةٍ من الأحداث التي بدأت قبل أكثر من مائة عام،  والتي تُوِّجَت بمحاولة زعيم الصهيونية “تيودور هرتزل” الحصول على أراضٍ من فلسطين من السلطان العثماني “عبدالحميد الثاني” ليُسكِنَ فيها اليهود ضمن حكم الدولة العثمانية، وبذل في ذلك الكثير من الجهود والعروض السخية، فلما عجز عن الحصول على أي تنازلٍ منه، شارك في تأليب الرأي العام ضد السلطنة العثمانية الذي كانت تمارسه العديد من الجهات الدولية، واستغلَّ في ذلك كلَّ الأوراق التي يستطيع التأثير بها، بما في ذلك الصحافة الأوروبية والعلاقات الدولية والمال الذي تمتلكه الحركة الصهيونية[1].

وجاءت الفرصة مواتيةً للصهيونية بعد هزيمة ألمانيا وحُلفائها في الحرب العالمية الأولى، واقتسام المنتصرين أراضي الدولة العثمانية بما في ذلك بلاد الشام، حيث كانت فلسطين من نصيب بريطانيا، فقدَّم وزير خارجيتها (بلفور) وعده المشؤوم بإنشاء وطن قوميٍّ لليهود في فلسطين عام 1917م.

وبعد ذلك بدأت (4) سلاسل متوازية من الأحداث:

  • تسلُّل العصابات اليهودية المسلحة إلى فلسطين تحت حماية بريطانيا، وتمكينهم من تملُّك الأراضي بالشراء والغصب، والسياسة، والتخويف بالمجازر، انتهاءً بإعلان دولتهم عام 1948م.
  • دعم دولة الكيان ومؤازرته سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا من طرف الدول والقوى الاستعمارية الكبرى.
  • الخذلان والخزي من قادة الدول العربية والإسلامية، التي تدرَّجت من تدجين الشعوب وإلهائهم، إلى التطبيع مع المحتلِّ والتعاون معه، مع قمع كل صوت معارضٍ ومعترضٍ ومقاومٍ لهذا الاحتلال.
  • صفحات البطولة والفداء التي تمثَّلت في مُقاومة المحتل وجهاده.

وهكذا تدرَّجت القضية الواضحة العادلة من كونها قضيةً إسلامية تعني كلَّ المسلمين، إلى قضية عربية قومية تنادي بها تيارات عروبية قومية علمانية، إلى قضية فلسطينية موكلةٍ بالقيادات الفلسطينية المتصدِّرة في المؤتمرات والأروقة السياسية الدولية، وانتهى بها الحال إلى اعتبار غزة حالةً خاصةً مستعصيةً على المجتمع الدولي، تستحقُّ كلَّ أشكال الحصار والتضييق وقطع الإمدادات عنها، حتى تركعَ تحت ضغط التجويع والتدمير والقتل، وتفقدَ دفاعها عن القضية.

إنَّ تمكُّنَ المقاومة الفلسطينية من القيام ببعض العمليات ضد الكيان المحتل وإيلامِهِ بها، لا يجعلهم أبدًا في موقف الظالم المعتدي، بل هم مظلومون في أرضهم ودمائهم، والكيانُ الغاصبُ ظالمٌ بالاحتلال والجرائم طيلة السنوات المائة الماضية، وهو ظالم في مجازره الجديدة في الأحداث الجارية

إشكالية السردية:

اتَّضح للجميع خلال الأحداث الأخيرة أنَّ المجتمع الدولي بحكوماته ومنظماته الأممية يُحاكم الأحداثَ الأخيرةَ على أنَّ الكيان المحتل دولةٌ شرعيةٌ صاحبة حقٍّ وأرض! وأنَّ له الحق في العيش الآمن، وأنَّ أصحاب الأرض من الفلسطينيين عليهم أن يتعاملوا مع المحتل ضمن هذه النظرة بمنطق الأمر الواقع، وأنَّ أيَّ محاولةٍ منهم لمقاومته أو مضايقته سيتعبرُها المجتمع الدولي اعتداءً يعطي الحقَّ للكيان بالردِّ عليه بالطريقة التي يراها مناسبة.

كما تحوَّلت اعتداءات الغاصبين على مقدسات المسلمين خصوصًا أولى القبلتين، وعملهم على هدمه من أجل إقامة “الهيكل” المزعوم، إلى استعادة مشروعةٍ لمعبدهم لإقامة طقوسهم الدينية!

واتَّضح أيضًا للجميع ضرورة إحكام الرواية الحقيقية للأحداث، ونشرها في مختلف الأوساط ووسائل الإعلام، بدءًا من وعد بلفور مرورًا بمرحلة الميليشيات والعصابات الصهيونية ومجازرها حتى عام 1948م، وإعلان قيام الكيان والاعتراف الدولي به، وتتابع الأحدث حتى يومنا هذا، بما في ذلك من تهجير تشهد به المخيمات الفلسطينية داخل فلسطين وفي دول الجوار، والقرارات الأممية التي أدانت الجرائم التي ارتكبها الكيان في داخل فلسطين وخارجها، في سرديةٍ مُدوَّنة محفوظة، يعرفها المطلعون، ويتغافل عنها شركاء الاحتلال بل يحاولون مَحوَها من الذاكرة والتاريخ.

تبعات السردية الباطلة:

السردية الباطلة التي يروِّجها الكيان وأنصاره المتحكِّمون بالسياسة والإعلام العالمي نجحت إلى حدٍ كبير في العقود الأخيرة، خصوصًا بعد الاتفاقيات بين الكيان الغاصب والمنظمات الفلسطينية أو مع الدول العربية، وحققت مرادها من عزل الشعوب عن القضية والمطالبة بالحق فيها، إلى درجة خلقِ تفاوُتٍ بين الناس في تصور القضية، وصار هناك بالفعل من يكتفي بالمطالبة بحدود ما قبل نكسة 1967م المتضمِّن إعطاءَ الحقِّ للكيان في أراضي 1948م، وهناك من يرى العملَ على التعايُش وإحلالِ السلام ضمن الوضع الحالي، ومنعَ أيِّ اشتباكٍ أو قتالٍ مهما كان، ناسيًا أو متناسيًا أنَّ مثل هذه المطالبة تعني إقرار الغاصب على ما استولى، ومنع المظلوم من استرداد حقه.

كما ظهر من يَحرِفُ القضية عن أساسها وأصلها وسببها المباشر؛ وهو الاعتداء على المسجد الأقصى ومحاولة تهويد المقدسات الإسلامية، إلى حصرها بالصراع على الأرض وتقسيمات الحدود!

ومع الغفلة وطول العهد واعتياد الدّعَة وانتشار الخيالات الحالمة بالعيش الرغيد، خرجت أصواتٌ تلوم المقاوِم وتُحمِّلُه مسؤولية جرائم المحتل في تدمير المنشآت المدنية وقتل المدنيين، وكأنَّ له الحقَّ في فعل ما يشاء، في عقلية لا تنم إلا عن انهزام عميق وتخاذلٍ مُخزٍ، أو تبعيةٍ لهذا النظام الاستعماري، لا يرى إلا ما يراه، ولا ينظر إلا من خلال منظومته الفكرية والاجتماعية والسياسية، ويربط وجوده بنجاح هذا المشروع.

مِن أهم مسؤولياتنا: حمايةُ القيم لدى الأجيال الحالية والقادمة، وهذا لا يتحقَّقُ بالسكوت والدعة وتجاهل الأحداث، ولا بالتفاعل البارد الذي نحتال به على أنفسنا، فكيف سنعلِّم أبناءَنا نُصرة المظلوم إذا قعدنا عنها، وكيف سنُعلِّمهم مبدأ الجسد الواحد إذا لم نبال بما يحدُثُ ولم نتأثَّر به؟!

نصرة المظلوم موقفٌ أخلاقي:

إلى جانب جدل السردية وحيثياتها؛ هناك موقفٌ أخلاقيٌّ ينبغي أن يقفه كلُّ عاقلٍ مع نفسه، وهو الوقوف مع الحقِّ ونبذُ الظلم، فالظالم بادٍ بوضوح، ويداه ملطَّختان بالدماء قتلاً وتشريدًا للأبرياء طيلة السنوات الماضية وما زال يفعل ذلك حتى اليوم، وله في كلِّ عامٍ اعتداءاتٌ لا تقف عند حدٍّ على المسجد الأقصى الشريف الذي لم تهدأ الأحداث حوله يومًا.

هذا الموقف من الظلم اتَّضح لمشركي قريش قبل بعثة النبي ﷺ ، حيث تداعى عددٌ من قبائل قريش، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُردَّ إليه حقه، ثم مشوا إلى الظالم، فانتزعوا منه متاع المظلوم، فدفعوه إليه، وعُرِفَ هذا الحلف بحلف الفضول، وقال ﷺ عن هذا الحلف: (شهدت ‌حلف ‌المُطَيَّبين مع عُمومتي وأنا غلام، فما أُحبُّ أن لي حُمْرَ النَّعَم وأني أنكُثُه)[2].

العجيب أنَّ هذا الموقف الذي عرفه أهل الجاهلية بفطرتهم ومروءتهم لم يتمكَّن بعض المنتسبين للإسلام من الوصول إليه، مع أنهم يقرؤون النصوصَ الكثيرة التي يزخر بها كتاب الله وسنة نبيه ﷺ في نبذ الظلم والتحذير منه، وبالرغم من أنهم يعرفون عواقب الظلم وخذلانِ المسلمِ في الدنيا والآخرة، وعلى رأس هؤلاء أناسٌ ينتسبون إلى القومية العربية أو طلب العلم وتعليمه، فلا تكاد تسمع لهم صوتًا أو كلمةً في هذه القضية، ولا نخوةً كنخوة الجاهليين!

إنَّ مِن أهم الأمور التي ينبغي التنبُّه لها: حمايةُ القيم لدى الأجيال الحالية والقادمة، وهذا لا يتحقَّقُ بالسكوت والدعة وتجاهل الأحداث، ولا بالتفاعل البارد الذي نحتال به على أنفسنا، فكيف سنعلِّم أبناءَنا نُصرة المظلوم إذا قعدنا عنها؟ وكيف سنُعلِّمهم مبدأ الجسد الواحد إذا لم نبال بما يحدُثُ ولم نتأثَّر به؟! بل يتطلَّب الأمر النظرَ والبحثَ جِدِّيًا فيما يمكن عمله لتحقيق أثرٍ ملموسٍ على المستوى الفردي أو الجماعي.

وكم يجلس فتيان اليوم ليستعرضوا نكسات الأمس حين تفرَّق الشملُ وسُلبت الأرض وعاث الأعداء في بلادنا استعمارًا ونهبًا، مستغربين من جيل الأجداد: كيف رضي بما حصل؟ وكيف تركوا الأمور تصل إلى ما وصلت إليه من الذل والهوان؟! فها نحن نواجه بعض ما واجهوا، فماذا نحن فاعلون؟!

الرافضة والاستثمار في القضية:

دأبت إيران وأذيالها على استغلال القضية الفلسطينية للترويج لأنفسهم ومشروعهم، وقد خطَوا في ذلك خطواتٍ متقدِّمة في إيجاد قنوات متعدِّدة لدعم الفصائل السنية في فلسطين تحت سمع ونظر العالم “المعادي”، في الوقت الذي تُمنع الأنظمة “السنية” في المنطقة من تقديم أيِّ معونةٍ لهم! واستفادت إيران مما يتبع ذلك من الحصول على مواقف ثناءٍ وشكرٍ من هذه الفصائل لقاء هذا الدعم، وفي الوقت نفسه لم يرقُب هؤلاء الرافضة في أهل السنة إلاً ولا ذمّةً في العراق وسوريا واليمن، ودماءُ أهل السنة ما زالت تقطر من جرائمهم في تلك البلدان، وحال السنة في لبنان ليس عن ذلك ببعيد، فكيف نتعامل مع هذا الدعم، وفي ظل هذه الظروف؟

في الواقع يقع اللوم الأكبر على من ألجأ أهل السنة في فلسطين إلى العون الإيراني، ولو قامت الدول العربية المحيطة بفلسطين ببعض ما يُنتظر أو يُطلب منهم لما تمكّن المحتلُّ من البقاء في فلسطين يومًا واحدًا. فالحصار والخذلان حصل من جيران فلسطين أكثر من المحتلِّ نفسه، أما إيران فلها مصالح في التوسع ومدِّ النفوذ، وإيجادِ موطئ قدمٍ حيث تجدُ فرصةً، فهي تحقِّق مصالحها، وبهذا نستطيع فهم موقف الفصائل السنية المقاومة التي باتت في موقف المضطر.

ومن المتفق عليه أنَّ بعض الخطوات التي قامت بها بعض القيادات منتقدَةٌ مرفوضة؛ كإعادة العلاقات مع النظام السوري المجرم، إلا أنَّ هذا ينبغي ألا يُلغي أصلَ الأُخوَّة، وأصلَ الموقف الذي هم فيه من جهاد المحتل ومقاومته وصدِّ بغيه، خصوصًا أنَّ علاقتهم بإيران وأذنابِها لم تتجاوز جزئية القضية الفلسطينية، ومواقفُهم من بقية القضايا السنية معروفة.

الموقف هو المناصرة:

الموقف اليوم هو المناصرة، والمناصرة فقط، والوقوفُ مع صاحبِ الحقِّ في وجه الظالم الغاصِب، والجهرُ بذلك في كل محفلٍ ومناسبة، وبذلُ كلِّ ما يمكن في نُصرة القضية حتى نُعذِر أنفسنا أمام الله، وحتى لا تتكرَّر المخازي في تمكُّن المحتلِّين وأذنابهم، وإكمال مخططات الأعداء؛ فهذا أدنى مراتب الولاء للمؤمنين والدفاع عن مقدسات المسلمين وحرماتهم.

وفي مثل هذه الظروف يجبُ التغاضي عن كلِّ ما يمكن أن يُعيق هذا الموقف من المشوِّشات والمخذِّلات والعلوُّ فوقها. أما وجودُ الرافضة في المشهد[3] فينبغي ألا يقف حائلاً أمام نصرتنا لإخواننا بالغالي والنفيس، مع استمرار الحذر والتحذير من مخططاتهم وسوء منهجهم، ونثق بالله العليم القدير أنَّه سيفضح الرافضة واستغلالَهم للقضية عاجلاً أم آجلاً، فمن عاث في دين الله بالتحريف والضلال، وخاضَ في أعراض خير البشر بعد الأنبياء عليهم السلام، وولغت يده في دماء أهل السنة عبر العصور، وكان في صفِّ الأعداء على مرِّ الزمان، لا يمكن أن ينال شرفَ تحريرِ المقدسات، ومجدَ نُصرةِ المظلومين.

ما الذي يوقف هذه الحملة الشعواء إذا بقينا متفرِّقين متفرِّجين؟ فالمسلمُ أخو المسلم، ينصُرُه في الوقت الذي يحتاج فيه إلى نُصرته، قال ﷺ: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)، فقال رجلٌ: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: (تحجزه أو تمنعه من الظلم فإنَّ ذلك نصرُهُ)[4]. وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنَّه قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلمٍ كُربةً فرَّج الله عنه كُربةً من كُرُبات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)[5].

وعن جابر بن عبد الله وأبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه أنَّهما قالا: قال رسول الله ﷺ: (ما من امرئٍ يخذل امرءًا مسلمًا في موضع تُنتهك فيه حُرمته ويُنتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطنٍ يُحبُّ فيه نُصرتَه، وما من امرئٍ ينصر مسلمًا في موضعٍ يُنتقص فيه من عِرضه ويُنتهك من حُرمته إلا نصره الله في موطنٍ يحبُّ نُصرته)[6].

قال صاحب عون المعبود: “والمعنى: ليس أحد يترك نصرة مسلم مع وجود القدرة عليه بالقول أو الفعل عند حضور غيبته أو إهانته أو ضربه أو قتله إلا خذله الله”[7].

الموقف اليوم هو المناصرة، والمناصرة فقط، والوقوفُ مع صاحبِ الحقِّ في وجه الظالم الغاصِب، والجهرُ بذلك في كل محفلٍ ومناسبة، وبذلُ كلِّ ما يمكن في نُصرة القضية حتى نُعذِر أنفسنا أمام الله، وحتى لا تتكرَّر المخازي في تمكُّنِ المحتلِّين وأذنابهم، وإكمالِ مخططاتِ الأعداء

بلاد الشام والتمحيص الكبير:

الظلم الذي شهدته بلاد الشام في القرن المنصرم ظلمٌ لا مثيل له في تاريخ البشر، فالنصيرية الباطنية في سوريا، واليهود الصهاينة في فلسطين تفنَّنوا في إذاقة أهل الشام ويلاتٍ وويلاتٍ في الإذلال والتنكيل والقتل والتشريد والاعتداء على المقدسات والمحرَّمات، وكما كان الرافضة ودول الشرق داعمين للنصيرية في سوريا، لم تتخلَّف دول الغرب عن دعم الكيان المحتل في فلسطين.

والله تعالى يبتلي عبادَه المؤمنين ويمتحنُهم بالبأساء والضراء لحكمٍ كثيرة، فالابتلاءات تكفِّر الخطايا وتمحوها، قال ﷺ: (ما ‌يصيب ‌المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همٍّ ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكةَ يُشاكُها إلا كفَّر الله بها من خطاياه)[8]. كما ترفع الدرجات وتضاعف الحسنات؛ سئل رسول الله ﷺ: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل… فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)[9].

وتارةً يقع البلاء لتمحيص المؤمنين، وتمييزهم عن المنافقين، قال تعالى: ﴿‌أَحَسِبَ ‌النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ٢ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2-3]. فيبتلي الله عباده ليتميَّز المؤمنون الصادقون عن غيرهم، وليُعرف الصابرون على البلاء من غير الصابرين.

وهذا التمحيصُ تعرَّض له المسلمون الأوَّلون في بطحاء مكة وحرِّها فصبروا، حتى مكَّنهم الله من حكم ما بين الخافقين، وتعرَّض له قبلَهم أتباع الأنبياء فصبروا حتى نالوا ما نالوا من الأجر والشرف العظيم.

وبلاد الشام خيرُ مدنها وحواضرها بيت المقدس وأكنافُها، فهي مسرى النبي ﷺ، وفيها من الفضائل أحاديث كثيرة، منها قوله ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك) قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: (ببيت المقدس، ‌وأكناف ‌بيت ‌المقدس)[10] ، وتليها دمشق التي ستكون فسطاط المسلمين في الملاحم: (إنَّ ‌فُسطاطَ ‌المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينةٍ يقال لها: دمشق، من خير مدائن الشام)[11] ، وعليها سينزل نبيُّ الله عيسى ابن مريم عليه السلام كما في حديث: (لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا مُقسطًا)[12] ، وحديث: (فينزل عند المنارة البيضاء ‌شرقي ‌دمشق، بين مهرودتين، واضعًا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسه إلا مات، ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طرفه)، فينطلق من دمشق لقتل الدجال في فلسطين: (فيطلبه حتى يدركه بباب لُدٍّ فيقتله)[13].

ولعلَّ من المناسبِ هنا ذكرُ أنَّ الصحابةَ فتحوا مُدُنَ فلسطين لكنهم أخَّروا فتح بيت المقدس حتى انتهوا من فتح دمشق، وكذلك فعل نور الدين وصلاح الدين مِن بعده، فهاتان المدينتان بينهما رابط وثيق وصلة عميقة في الماضي والمستقبل.

بيت المقدس ودمشق هما خير مدائن بلاد الشام وبينهما رابط وثيق زمن الفتوحات، وفي المستقبل وقت الملاحم، والتمحيصُ الذي تتعرَّضان له من أعداء الإسلام تمهيدٌ لأدوارٍ عُظمى في قابل الأيام

نظرة تفاؤل:

نثق بوعد الله بأنه سينصر دينه ويعلي كلمته، وقد يبتلي الله عباده قبل النصر ليُمحِّصَهم وينقِّي صفَّهم من المنافقين والمتسلِّقين، وبعضُ النصر حاصلٌ اليوم بظهورِ حجَّة أصحاب الحق، وبيانِ عوار أهل الظلم والباطل، ووعيِ الأجيالِ الناشئةِ بحقيقةِ الأمر بالرغم من سيول الملهيات وطوفان الفتن التي تواجههم وتكاد تُغرقهم في التفاهة والرذيلة، لكن الله يقدر من الأحداث ما يفشل جهود أهل الباطل ويبدد ظلامهم، ويجمع القلوب على الحق.

 


 

[1] يخلط البعض بين الحركة الصهيونية وبين اليهودية؛ فالحركة الصهيونية هي حركة سياسيةٌ عنصرية تقوم على فكرة توطين اليهود في فلسطين، وتضم في صفوفها كثيرًا من اليهود الذين يدعمون هذه الفكرة، وعددًا من النصارى الذين يؤمنون بضرورة قيام دولة لليهود وبناء الهيكل حتى يأتي المسيح.. بينما يمتنع جزء من اليهود عن دعم هذه الفكرة، وكذلك كثير من النصارى.. كما أن قيام دولة إسرائيل في أراضي فلسطين حصل بتوجيه ودعم الدول الغربية، ولولاها لما قام ولا استمر، فهو جزء من المشروع الاستعماري أكثر من كونه مشروعًا يهوديًا بالأساس. وهو يحقِّق لهم التخلص من اليهود في بلدانهم.

[2] أخرجه أحمد (1655)، وفي رواية الطحاوي (5971): (شهدت حلفًا في دار ابن جدعان: بني هاشم، وزهرة، وتيم، وأنا فيهم، ‌ولو ‌دعيت ‌به ‌في ‌الإسلام ‌لأجبت، وما أحب أن أخيس به وإن لي حمر النعم).

[3] العلاقة بين الرافضة ودولة الكيان الغاصب ومن ورائها العالم الغربي، وحقيقة “العداء” بينهما أصبحت مفضوحة معروفة الطبيعة، بما يغني عن إعادتها هنا، وعلى الأخص موقفهم الحقيقي من دولة الكيان الغاصب، وما موقفهم المتخاذل من أحداث غزة الأخيرة إلا خير شاهد على هذا “العداء” الزائف، ولنا في تعاون أسلافهم الصفويين مع المستعمر البرتغالي ضد الدولة العثمانية عبرة وعظة.

[4] أخرجه البخاري (6952).

[5] أخرجه البخاري (2442).

[6] أخرجه أبو داود (4884).

[7] ينظر: عون المعبود (13/156).

[8] أخرجه البخاري (5641) ومسلم (2573).

[9] أخرجه الترمذي (2398) وابن ماجه (4023) وأحمد (1607).

[10] أخرجه أحمد (22320).

[11] أخرجه أبو داود (4298).

[12] أخرجه البخاري (2476).

[13] أخرجه مسلم (2937).

X