قضايا معاصرة

اذبحوا بقرتكم

 

أكثر القرآن الكريم من ذكر قصص بني إسرائيل وأحوالهم للتنبيه على الدروس المستفادة منها، والتربية بالإشارة لوقائعها والنتائج المترتبة عليها، ومن أشهر ما يتعلق بهم: قصصهم المتعددة مع البقر، فما أثرها في حياتهم وتاريخهم؟ وعلاقة المسلمين بهذه القصص؟ وكيف يستفيدون منها؟ وما أثر ذلك على مشروعهم في النهضة والتمكين؟ هذا ما ستعرضه هذه المقالة

قصص بني إسرائيل:

قصَّ الله تعالى في القرآن الكريم قصص الأمم السابقة في مواضع كثيرة وبصور مختلفة، ونظرًا لتفاوُت الغايات من إيراد القصص في المواضع المختلفة، فقد اختلفت في أسلوب ورودها، ومقدار شمولها، ودرجة تفصيلها، ومرات تكرارها.

ومن بين قصص القرآن تميَّزت قصة بني إسرائيل بالتكرار، والتفصيل، وتنوع زوايا التناول، وتعدُّد الفصول، والتوزيع على سورٍ متعدِّدة، في سلسلةٍ طويلة تبدأ بقصة يعقوب عليه السلام مع أبنائه، حتى ذكر اليهود المعاصرين لنزول القرآن الكريم.

وهذا التكرار ملفتٌ للنظر، ويفهم منه المتدبِّر وجودَ حكمةٍ وراءَه، ويمكن تلمُّس هذه الحكمة بالنظر إلى وجوه شبه بينهم وبين المسلمين، في كونهم أصحاب رسالاتٍ سماوية، مع تقاطعٍ كبير مع المناطق الجغرافية التي كانت مسرحًا لتاريخ بني إسرائيل، والتي ستكون لاحقًا ضمن سلطان المسلمين، وقل مثل ذلك عن وجوهٍ أخرى من التشابه أخبر النبي ﷺ بوقوعها في أمة الإسلام كما وقعت في أمتي اليهود والنصارى، مثل الافتراق إلى فِرَقٍ كثيرة[1]، وحصول التقليد من المسلمين لأمتي اليهود والنصارى[2].

علمَ اللهُ أنَّ الصراع الذي ستخوضه أمة الإسلام مع أمتي اليهود والنصارى سيكون هو الأصعب والأعقد والأكثر بأسًا، فسرد في القرآن الكريم قصصًا وأعطانا فيها مفاتيح وإشارات لفهم طبائعهم وكيفية التعامل معهم

وهذا بلا شك يتضمَّن الدعوة إلى أخذ العبرة مما جرى لهم، والحذر مما وقعوا فيه من الأخطاء، والسير وفق السنن التي جرت على أتباع أقرب الرسالات للأمة المحمدية زمانًا ومكانًا.

يقول الشيخ محمد الغزالي: “هل قصَّ الله علينا قصة بني إسرائيل تسليةً للمسلمين؟ لا، بل توعيةً للمسلمين؛ كأنه سبحانه وتعالى يقول للمسلمين: هذا تاريخ مَن سبَق، يُقرأ عليكم وحيًا مَعصومًا، وتَتْلونه في الصَّلوات وفي مجالِس الرحمة قُرآنًا يُذكِّر الناسين، ويوقظ الغافِلين؛ لكي يتعلموا، فهل تعلَّمتِ الأمة الإسلامية مِن تاريخ بني إسرائيل أن تَستبقي أسباب المدح، وأن تَستبعِد وسائل القدْح؟”[3].

ويقول سيد قطب: “وقصة بني إسرائيل هي أكثر القصص ورودًا في القرآن الكريم، والعناية بعرض مواقفها وعبرتها عنايةٌ ظاهرةٌ توحي بحكمة الله في علاج أمر هذه الأمة الإسلامية وتربيتها وإعدادها للخلافة الكبرى” ثم يردف: “وقد وردت القصة في السور المكية بغرض تثبيت القلة المؤمنة في مكة بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليقة، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها في مكة، وأما ذكرها في القرآن المدني بغرض كشف حقيقة نوايا اليهود ووسائلهم وتحذير الجماعة المسلمة منها، وتحذيرهم كذلك من الوقوع في مثل ما وقعت فيه قبلها يهود”[4].

ولعل من أهم الحكم أمران مهمان، وهما:

  1. التمهيد لأمة الإسلام للتمكين الحضاري في الأرض، بذكر تجربة أُمَّتَي اليهود والنصارى قبلهم، وكيف حصل لهم التمكين، ثم كيف تعرَّضوا للانحراف أو الأفول، فتعمل أمة الإسلام على الاستنارة بأسباب التمكين، وتلافي الأخطاء والانحرافات.
  2. عِلمُ الله السابق بأنَّ الصراع الذي ستخوضه أمة الإسلام مع أمتي اليهود والنصارى سيكون هو الأصعب والأعقد والأكثر بأسًا، فيكون ما في القرآن من قصص وعبر مفاتيح لفهم طبائعهم وكيفية التعامل معهم.

تفرُّد قصة موسى عليه السلام:

ومن بين قصص بني إسرائيل نجد قصة موسى عليه السلام أكثر القصص تفصيلاً وحضورًا وسردًا، فمن ظروف ولادته ونجاته، وتنشئته في البيت الفرعوني، وعودته لأمِّه، ثم بلوغِه أشدَّه وقتله للقبطي وهروبِه من مصر، ثم زواجِه في مدين، وتلقِّيه للوحي في طريق عودته، ثم حواراتِه مع فرعون وملئه وسحرته، وظهورِ المعجزات على يديه، وتتابع العقوبات على فرعون وقومه، ويلي ذلك الخروجُ من مصر، ثم انشقاقُ البحر وعبورُه، وقصةُ تلقِّي الوحي، وتيهُ بني إسرائيل بما فيه من أحداثٍ ووقائع، عدا عن بعض القصص التي بدت مستقلَّةً عن السرد التاريخي المتتابع، مثل قصة موسى مع الخضر ومع قارون وغيرهما.

وفي تلمُّس الحكمة من كثرة ذكر موسى عليه السلام في سور القرآن، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “وثنّى قصة موسى عليه السلام مع فرعون لأنهما في طرفي نقيض في الحق والباطل، فإن فرعون في غاية الكفر والباطل حيث كفر بالربوبية وبالرسالة، وموسى عليه السلام في غاية الحق والإيمان من جهة أنَّ الله كلَّمه تكليمًا لم يجعل الله بينه وبينه واسطةً من خلقه، فهو مثبت لكمال الرسالة وكمال التكلم، ومثبت لرب العالمين بما استحقه من النعوت”[5].

وعندما أوذي النبي ﷺ في قسمة غنائم حنين قال: (يرحم الله موسى، لقد أوذي بأكثرَ من هذا فصبر)[6] ، فكانت قصته عليه السلام نبراسًا يستضيء به نبينا ﷺ في طريق دعوته، وبلسمًا يخفِّف عنه آلام الطريق.

سورة البقرة فيها الكثير من القصص والقضايا والأحكام والأحداث، فلماذا اختيرت البقرة من بين غيرها من موضوعات سورة البقرة لتُسمى بها؟ وحتى أحداثُ بني إسرائيل في السورة متعدِّدة، وهذا مما يدعونا إلى تأمُّل سبب اختيار هذا الاسم (البقرة) من بين عشرات الموضوعات في السورة

قصة البقرة:

من الفصول الملفِتة في قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل: قصةُ البقرة، وملخَّصُها كما جاء في التفاسير: أنَّ رجلاً غنيًا من بني إسرائيل لم يكن له وارث، فطمع ابن أخيه في ماله، وقتله في سبطٍ من أسباط بني إسرائيل ليلاً حتى لا يُعرف[7]، ولما وجدوا القتيل في ذلك السِّبط جعل ابنُ أخيه يطالبهم بدمه وديته، محاولاً إلصاق التهمة بهم كذبًا وافتراءً، فاختلفوا فيما بينهم اختلافًا عظيمًا، حتى لجؤوا إلى نبيِّ الله موسى عليه السلام، فأخبرهم أن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرةً، ومن سوء تعاملهم مع نبي الله عليه السلام لم يمتثلوا لأمره، بل اعترضوا ونسبوه إلى الهُزو واللهو، ثم أخذوا في الجدال والتردُّد في تنفيذ الأمر فسألوا عن عُمْر البقرة ولونها وصفتها، والله يشدِّد عليهم ويزيدهم في الشروط حتى إنَّهم لم يجدوا ما تتحقَّق فيه الشروط إلا بقرةً عند عجوز قَيِّمةٍ على يتامى، فلمَّا علمت أنه لا يصلُحُ لهم غيرُ هذ البقرة ضاعَفَت الثمن، حتى قيل إنَّها طلبت وزنها ذهبًا، فذبحوها وأمرهم موسى عليه السلام أن يضربوا الميت ببعض أجزاء هذه البقرة، فأعاده الله للحياة فسألوه عمَّن قتله فأشار إلى ابن أخيه.

لماذا سُميت السورة بالبقرة؟[8]

إذا جئنا إلى سورة البقرة فسنجد أنها ليست كغيرها، فهي أطول سُوَر القرآن الكريم، وفضائلُها كثيرةٌ وعظيمة؛ فسورة البقرة مع آل عمران (تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طيرٍ صوافٍّ تُحاجَّان عن أصحابهما)، وسورة البقرة: (أخذُها بركة، وتركُها حسرة، ولا تستطيعُها البَطَلة)[9] ، (وسنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته ليلاً لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليالٍ)[10] ، وفيها آية الكرسي أعظم آية في القرآن الكريم، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ: (يا أبا المنذر أتدري أيُّ آيةٍ من كتاب الله أعظم؟) قال: قلت: ﴿‌اللَّهُ ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا ‌هُوَ ‌الْحَيُّ ‌الْقَيُّومُ﴾، قال: فضرب في صدري، وقال: (والله ليهنِك العلم أبا المنذر)[11].

والسورة فيها الكثير من القصص والقضايا والأحكام والأنبياء والأحداث، فلماذا اختيرت البقرة من بين غيرها من موضوعات سورة البقرة؟ وحتى أحداثُ بني إسرائيل في السورة متعدِّدة، وهذا مما يدعونا إلى تأمُّل سبب اختيار هذا الاسم (البقرة) من بين عشرات الموضوعات في السورة.

يقول الشيخ عبد الخالق الشريف: “سورة البقرة من العجيب أنَّ بها أفضل آية في القرآن على الإطلاق وهي آية الكرسي، وبها آيتان أُنزلتا من كنزٍ من تحت عرش الرحمن، وهما أواخر سورة البقرة، وبها أطول آية في القرآن وهي آية الدَّين، وبها حديثٌ طويلٌ عن الحج والربا والبيوع والرهن والطلاق.. ومع ذلك فلم تسمّ السورة بشيء من هذا كله، وسُمِّيت بسورة البقرة”.

ثم حاول الإجابة عن ذلك فقال: “وكأني أشعر أنَّ هذه السورة الكريمة سميت بهذا الاسم تحذيرًا لنا من منهج اليهود في المجادلة، وتنبيهًا لنا على خطأ أسلوبهم الذي استخدموه مع الله ومع أنبياء الله؛ أليسوا هم الذين قالوا: ﴿‌سَمِعْنَا ‌وَعَصَيْنَا﴾؛ ولذلك كان في ختام هذه السورة أن الله علمنا أن نقول: ﴿‌سَمِعْنَا ‌وَأَطَعْنَا﴾”[12]، وهو بهذا أجاب عن الهدف من إيراد قصة البقرة، ومكانة ذلك في السورة، وانعكاس القصة على اسم السورة، لكن يبقى هنا سؤالٌ آخر لا يقل أهميةً وهو: لماذا اختار الله البقرة بالذَّات لبني إسرائيل ليذبحوها في هذه القصة، ثم صارت البقرة اسمًا لسورةٍ بهذه المكانة؟

حُقَّ لنا أن نتعجَّب كيف لقومٍ أنقذهم الله من الذلِّ والهوان على يد نبيٍّ مؤيَّدٍ بالوحي والمعجزات التي آخرها انفلاق البحر أن يظنُّوا أنَّ ربَّهم عجلٌ صُنع أمامهم؟!

بنو إسرائيل والبقر .. قصة لا تنتهي:

قصة ذبح البقرة ليست أول شأن بني إسرائيل مع البقر، فقد سبق ذلك فعلٌ شنيعٌ منهم، وذلك أنَّ موسى عليه السلام ذهب لميعاد ربِّه لتلقِّي التوراة، فجمع بنو إسرائيل الذهب والحُليَّ الذي كانوا أخذوه من قوم فرعون، وكان بينهم رجلٌ يقال له: السامري، فصاغ من هذا الذهب والحُلي عِجلاً، وألقى عليه قبضة أخذها من أثر فرس جبريل عليه السلام وقت عبور البحر، فصار عجلاً له خوار، فعظَّموه ورقصوا حوله فرحين، وقالوا: ﴿‌هَذَا ‌إِلَهُكُمْ ‌وَإِلَهُ ‌مُوسَى ‌فَنَسِيَ﴾ أي: فنسي موسى ربَّه عندنا، وذهب يتطلَّبه، وهو هاهنا. تعالى الله عما يقولون علوَّا كبيرًا.

فرجع موسى إليهم غضبان مما فعلوا، أسِفًا على الحال الذي صاروا إليه، ومع أنَّه عَلِم بما وقع منهم قبل أن يصل إليهم، إلا أنَّه لما رآهم هالَهُ ذلك، ولم يملك نفسه من الغضب فألقى الألواح المتضمِّنة للتوراة، ثم أقبل عليهم فعنَّفهم ووبَّخهم، فاعتذروا إليه بأعذارٍ واهية، ولما سقط في أيديهم ندموا على ما صنعوا، وقالوا: ﴿‌لَئِنْ ‌لَمْ ‌يَرْحَمْنَا ‌رَبُّنَا ‌وَيَغْفِرْ ‌لَنَا ‌لَنَكُونَنَّ ‌مِنَ ‌الْخَاسِرِينَ﴾، فأمر موسى عليه السلام بحرق تمثال العجل ونسفه في اليم، وبقية القصة في الحوار بين موسى وهارون والسامري، وكيفية توبة من عبدوا العجل معروفة مسرودةٌ في كتب التفسير.

المهم من القصة هو أنهم عبدوا العجل معتقدين أنَّه الله، تعالى الله وتقدَّس عن ذلك، وأُغلقت عقولهم عن إدراك بطلان ذلك، قال تعالى: ﴿‌أَفَلَا ‌يَرَوْنَ ‌أَلَّا ‌يَرْجِعُ ‌إِلَيْهِمْ ‌قَوْلًا ‌وَلَا ‌يَمْلِكُ ‌لَهُمْ ‌ضَرًّا ‌وَلَا ‌نَفْعًا﴾ [طه: 89]، مع أنَّ نبي الله هارون عليه السلام كان بينهم، وقال لهم: ﴿‌يَاقَوْمِ ‌إِنَّمَا ‌فُتِنْتُمْ ‌بِهِ ‌وَإِنَّ ‌رَبَّكُمُ ‌الرَّحْمَنُ ‌فَاتَّبِعُونِي ‌وَأَطِيعُوا ‌أَمْرِي﴾ [طه: 90]، فقالوا له: ﴿لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ [طه: 91].

وحُقَّ لنا أن نتعجَّب كيف لقومٍ أنقذهم الله من الذلِّ والهوان على يد نبيٍّ مؤيَّدٍ بالوحي والمعجزات التي آخرها انفلاق البحر أن يظنوا أنَّ ربَّهم عجلٌ صُنع أمامهم؟! لا شكَّ أنَّ الهوى أعمى بصائرهم! ولا يُستبعد أن يكون لهذا جذورٌ في نفوسهم، فقد قال تعالى على لسان قوم فرعون وهم يحرضونه على موسى عليه السلام: ﴿‌أَتَذَرُ ‌مُوسَى ‌وَقَوْمَهُ ‌لِيُفْسِدُوا ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌وَيَذَرَكَ ‌وَآلِهَتَكَ﴾ [الأعراف: 127]، قال الطبري في تفسير قوله ﴿‌وَيَذَرَكَ ‌وَآلِهَتَكَ﴾: “وقد ترك موسى عبادتك وعبادة آلهتك التي تعبُدُها. وقد ذُكر عن ابن عباس أنَّه قال: كان له بقرةٌ يعبُدُها”[13]، وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله ﴿‌وَيَذَرَكَ ‌وَآلِهَتَكَ﴾: “كانت البقر، كانوا إذا رأوا بقرةً حسناء أمرهم فرعون أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم عجلاً جسدًا”[14]. وهذا إن صحَّ فهو يُبطل العَجَب في عبادتهم للعجل؛ لأنهم اعتادوا رؤيته يُعبَد، وقد يكون بعضهم أطاع فرعون في عبادته[15].

رمزية ذبح البقرة:

مما يلفت النظر أنَّ الله تعالى بعد أن قصَّ قصة قتيل بني إسرائيل وذكر ما كان من جدالهم لموسى عليه السلام أنهى القصة بقوله: ﴿‌فَقُلْنَا ‌اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 73]، ثم بعد عشرين آية، في سياق عتابه لهم على عصيانهم وتمرُّدهم، واتخاذهم العجل بعد رؤيتهم للآيات البينات، وأخذ الميثاق عليهم، ورفع الطور فوقهم، وقولهم: سمعنا وعصينا، قال تعالى: ﴿‌وَأُشْرِبُوا ‌فِي ‌قُلُوبِهِمُ ‌الْعِجْلَ ‌بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: 93].

قال الطبري في تفسيره: “وأولى التأويلين اللذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه: ﴿‌وَأُشْرِبُوا ‌فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ تأويلُ من قال: وأُشرِبوا في قلوبهم حُبَّ العجل… ولكنه ترك ذكر “الحُب” اكتفاءً بفهم السامع لمعنى الكلام. إذ كان معلومًا أنَّ العجل لا يُشرَب القلب، وأن الذي يشرب القلب منه حبه”[16]. فالعجل لم يكن حدثًا عابرًا صنعه لهم السامري، بل كان له جذورٌ في نفوسهم، وحبٌّ في قلوبهم حتى تشرَّبته.

ولعلَّ اختيار الله للبقرة لذبحها في سياق إحياء الميت، كان لغرضِ قطع جذور حُب العجل الذي تشرَّبته قلوبهم حتى عبدوه، ولكي يروا أنَّه مخلوقٌ لا حول له ولا قوة، يُذبحُ بأمر الله ويبقى الله الحي الذي لا يموت، وجعل إحياء الميت بضربِهِ ببعض البقرة المذبوحة حتى لا يبقى لتعظيم العجل بقيةٌ في قلوبهم.

ولعلَّ شيئًا من تردُّدهم في ذبح البقرة كان لمكانها في قلوبهم، حتى إنَّهم أساؤوا الأدب مع نبيِّهم، فشدَّدوا في السؤال فيها تملُّصًا من ذبحها، فشدَّد الله عليهم، فصعُب عليهم ذبحها؛ حيث اضطروا لدفع الأثمان الباهظة لشرائها من أصحابها، قال تعالى: ﴿‌فَذَبَحُوهَا ‌وَمَا ‌كَادُوا ‌يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: 71].

لعلَّ اختيار الله للبقرة لذبحها في سياق إحياء الميت، كان لغرضِ قطع جذور حُب العجل الذي تشرَّبته قلوبهم حتى عبدوه، ولكي يروا أنَّه مخلوقٌ لا حول له ولا قوة، وجعل إحياء الميت بضربِهِ ببعض البقرة المذبوحة حتى لا يبقى لتعظيم العجل بقيةٌ في قلوبهم

العبرة والدرس المستفاد:

كان موسى عليه السلام قد عبر ببني إسرائيل البحر، وعمل على تهيئتهم لدخول الأرض المقدسة (فلسطين) وتمكينهم فيها، وبَذَلَ في ذلك جهدًا، وأخذ عليهم الميثاق، فلما اقتربوا من الأرض المقدَّسة وأمرهم بدخولها، أبَوا واعتذروا بوجود الجبَّارين فيها، ولم يزدهم حثُّ نبيِّ الله لهم وتأكيده أنَّ النصرَ سيكون حليفَهم إذا دخلوا الأرض المقدسة إلا نكوصًا وجُبنًا، حتى قالوا مقالةً سيئة: ﴿قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا ‌مَا ‌دَامُوا ‌فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24]، فأيِس منهم موسى عليه السلام، ودعا اللهَ بأن يَفرُق بينه وبين القوم الفاسقين، فجاء الجواب الإلهي: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة: 26].

قال صاحب الظلال: “وهكذا أسلمهم الله -وهم على أبواب الأرض المقدسة- للتيه؛ وحرَّم عليهم الأرض التي كتبها لهم.. والأرجح أنه حرَّمها على هذا الجيل منهم حتى تنبت نابتة جديدة؛ وحتى ينشأ جيلٌ غير هذا الجيل، جيلٌ يعتبر بالدرس، وينشأ في خشونة الصحراء وحرِّيَّتها صلب العود.. جيلٌ غير هذا الجيل الذي أفسده الذلُّ والاستعباد والطغيان في مصر، فلم يعُد يصلُح لهذا الأمر الجليل! والذلُّ والاستعباد والطغيان يُفسد فطرة الأفراد كما يفسد فطرة الشعوب”[17].

وجاءت حادثة ذبح البقرة لتقضي على ما بقي من تقديسٍ للعجل في نفوسهم، تحت عنوان: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ ‌تَذْبَحُوا ‌بَقَرَةً﴾، واستحقَّ هذا الأمر العظيم أن تسمَّى أطولُ سورِ القرآنِ وسنامُهُ بسورة البقرة، بما تحمله من آيات عظيمة، وفضائل سابقة.

من العقائد التي يؤمن بها اليهود اليوم: إعادة بناء الهيكل المزعوم، والذي يتوقَّف عليه القيام بالكثير من شرائعهم وإعادة مَلِكهم المنتظر، ومما يتعلق بتفاصيل هذه النبوءات ولادة بقرة حمراء خالية من العيوب، وكونها دلالة على بداية تحقق نبوآتهم وقيام هيكلهم ودولتهم

هل انتهى تقديس اليهود للبقر:

عند دراسة تاريخ بني إسرائيل نكتشف أن تقديس البقر لم يختفِ تمامًا من حياتهم، بل بقيت له ذيول وامتدادات، فحسب الرواية التوراتية[18]: انقسمت دولتهم بعد وفاة نبي الله سليمان عليه السلام إلى مملكة شمالية اسمها “إسرائيل” وعاصمتها نابلس (شكيم)، وأخرى جنوبية اسمها “يهوذا” وعاصمتها القدس (أورشليم)، والدولة الشمالية قامت على 10 أسباط من بني إسرائيل، ينما اقتصرت الجنوبية على سبطين فقط.

وحتى لا يذهب اليهود من رعايا الدولة الشمالية إلى القدس (عاصمة الدولة الأخرى) في الأعياد والمناسبات الدينية، نصب لهم الملك “يَرُبعام” عجلين من ذهب في أطراف مملكته ونادى بوجوب عبادتهما، وبقوا على ذلك حتى دمِّرت هذه الدولة تمامًا، فوا عجبًا!! ولا زالت توجد طوائف من اليهود يعلِّق أتباعها قلائد للعجل على صدورهم حتى اليوم.

بقرة المملكة والهيكل المزعوم!

من العقائد التي يؤمن بها اليهود اليوم إعادة بناء الهيكل المزعوم، والذي يتوقَّف عليه القيام بالكثير من شرائعهم وإعادة مَلِكهم المنتظر، ومما يتعلق بتفاصيل هذه النبوءات ولادة بقرة حمراء خالية من العيوب، وكونها دلالة على بداية تحقق نبوآتهم وقيام هيكلهم ودولتهم.

وتقوم هذه العقيدة على حرق البقرة الحمراء بعد بلوغها 3 أعوام، وتطهير اليهود بها عبر طقوس معينة حتى يستطيعوا دخول “الهيكل”، وإلى ذلك الحين فإنه لا يجوز لهم دخول الهيكل لنجاستهم![19].

وتشير هذه النبوءات إلى أنه منذ أكثر من ألفي سنة لم تولد بقرة حمراء بهذه المواصفات مطلقًا، وعلى الرغم من الإعلان عن ظهور البقرة عدة مرات خلال العقود السابقة إلا أن الحاخامات رفضوها لوجود بضعة شعرات سود فيها مما يجعلها غير صالحة، ومازالوا في انتظار البقرة الحمراء الخالصة، ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾!

كما كان على بني إسرائيل أن يذبحوا بقرتهم ليَخرُجَ تقديسُها من قلوبهم، فكذلك لكلِّ مجتمعٍ بقرَتُهُ التي تُفسِد أهليَّتَه عن النهوض والتمكين، وعلى رأس ذلك حبُّ الدنيا وتقديمه على ما أُعدَّ من الجزاء في الآخرة، فليبحث كل مجتمعٍ عن بقرته ويتخلَّص منها، وبدون ذلك لا نهضةَ لنا ولا نصرَ ولا تمكين

لكلٍّ بقرته:

من المعلوم أنَّ قصص القرآن لم تُسَق للتسلية، وهي دروسٌ وعِبَرٌ لأمة محمد ﷺ، وعلى رأسها قصص بني إسرائيل وقصة موسى خصوصًا، بما تتضمَّنه من إشاراتٍ وإضاءاتٍ على طريق تمكين أمتنا ونهضتها.

وكما كان على بني إسرائيل أن يذبحوا بقرتهم ليَخرُجَ تقديسُها من قلوبهم، فكذلك لكلِّ مجتمعٍ بقرَتُهُ التي تُفسِد أهليَّتَه عن النهوض والتمكين، فقد تكون هذه البقرة تقديسًا لحاكم وطاغية، وقد تكون جُبنًا وخوفًا من مخاطر المواجهة، وقد تكون أنانيةً وفُرقةً وشقاقًا، وقد تكون غير ذلك من الأدواء والأمراض المجتمعية، وعلى رأس ذلك حب الدنيا وتقديمه على ما أُعِدَّ من الجزاء في الآخرة.

وهذا من مراعاة السنن الإلهية في حياة البشر وفي أمة الإسلام خاصة، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكَلة إلى قصعتها)، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غُثاء كغثاء السيل، وليَنزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليَقذفن الله في قلوبكم الوَهْن)، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)[20] ، قال الشيخ عبد المحسن العباد: “وهذا الحديث منطبق تمامًا على هذا الزمان، والمسلمون اليوم عددهم كثير جدًا، ولكنهم مشتغلون بالدنيا، وحريصون على الدنيا، وخائفون من الموت، فصاروا يخافون من أعدائهم، وأعداؤهم لا يخافون منهم”[21].

فليبحث كل مجتمعٍ عن بقرته ويتخلَّص منها، وبدون ذلك لا نهضةَ لنا ولا نصرَ ولا تمكين، قال رسول الله ﷺ: (‌إذا ‌تبايعتم ‌بالعِينة، ‌وأخذتم ‌أذناب ‌البقر، ‌ورضيتم ‌بالزرع، ‌وتركتم ‌الجهاد ‌سلط ‌الله ‌عليكم ‌ذُلاً ‌لا ‌ينزعه ‌حتى ‌ترجعوا ‌إلى ‌دينكم)[22].


أ. محمود درمش
كاتب في قضايا التربية والفكر.



[1]
أخرج أبو داود (4596) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة).

[2] أخرج البخاري (3456) عن أبي سعيد رضي الله عنه أنَّ النبي ﷺ قال: (‌لتتبعنَّ ‌سَنن ‌من ‌قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جُحر ضب لسلكتموه) قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟).

[3] خطب الشيخ محمد الغزالي، خطبة: اليهود في ميزان القرآن، ص (249).

[4] ينظر: في ظلال القرآن، لسيد قطب (1/66).

[5] مجموع الفتاوى، لابن تيمية (12/9).

[6] أخرجه البخاري (3150) ومسلم (1062).

[7] السبط في بني إسرائيل يقابل القبيلة عند العرب.

[8] تسميات سور القرآن الكريم مما يدعو للتدبُّر والبحث عن الحكمة والمغزى، ولا شكَّ أن لها حِكَمًا عميقة قد يُدركها الباحث وقد لا يصل إلى إدراكها، خصوصًا عندما نعلم أنها تسمياتٌ توقيفية عن النبي ﷺ، على أظهر الأقوال، ينظر: جامع البيان، لابن جرير الطبري (1/100)، والبرهان في علوم القرآن، للزركشي (1/270)، والإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (1/148)، وإلى ذلك ذهب كثير من المعاصرين، مثل سليمان البجيرمي والطاهر بن عاشور وغيرهما.

[9] حديث واحد، أخرجه مسلم (804)، والبطلة: السَّحَرة.

[10] أخرجه ابن حبان (419).

[11] أخرجه مسلم (810).

[12] مقالة: هل أسماء سور القرآن توقيفية؟ موقع إسلام أونلاين.

[13] تفسير الطبري (13/38).

[14] تفسير ابن كثير (3/460).

[15] كان للمصريين القدماء إله على هيئة ثور يسمى (آبيس)، وكان أي ثور يحمل صفات معينة يعتبر تشخیصًا لأبيس. وعندما حكم اليونانيون البطالمة مصرَ نقلوا تقديسه إلى اليونان، ومنهم أخذه الرومان، كما كان عند قدماء المصريين الإلهة “حتحور” التي كان يرمز لها بالبقرة. ونظرة على العقائد والأديان الوثنية القديمة تكشف لنا أن الثور أو العجل كان معبودًا ومقدسًا لدى الكثير من الديانات، مثل ديانات السومريين والآشوريين والأكديين والكنعانيين والحثيين وغيرهم في بلاد الرافدين والشام والأناضول. ينظر: تقديس الحيوان وعبادته عند العرب قبْل الإسلام، أ.د.سعد عبود سمار، مجلة كلية التربية – جامعة واسط، العدد السادس والثلاثون، الجزء الأول، آب 2019م. ومن أشهر الديانات التي تقدس البقر: الهندوسية، ويقال إنهم يقدِّسونه لأنه يرمز إلى النفع، وقيل إنَّ تقديسه انتقل إليهم من عقائد الفراعنة التي أخذها عنهم اليهود، ثم انتقلت من اليهود إلى العراق وفارس عندما أسرهم بختنصر، فمر بهم الآريون في هجرتهم، فأخذوا منهم هذه العقيدة وذهبوا بها إلى الهند. والله أعلم.

[16] تفسير الطبري (2/159).

[17] في ظلال القرآن (2/871).

[18] سفر الملوك الأول، الإصحاح (12)، وسفر أخبار الأيام الثاني، الإصحاح (10).

[19] سفر العدد، الإصحاح (19).

[20] أخرجه أبو داود (4297).

[21] شرح سنن أبي داود ـ شريط 304.

[22] أخرجه أبو داود (3462). ومعنى (وأخَذتم أذنابَ البَقَرِ) أي: للحرث عليها، لأن من يحرث الأرض يكون خلف البقرة ليسوقها، وقوله: (ورَضِيتُم بالزرعِ) ليس المراد بهذه الجملة والتي قبلها ذم من اشتغل بالحرث واهتم بالزرع، وإنما المراد ذم من اشتغل بالحرث ورضي بالزرع حتى صار ذلك أكبر همه، وقدم هذا الانشغال بالدنيا على الآخرة، وعلى مرضاة الله تعالى، لا سيما الجهاد في سبيل الله.

X