تزكية

دروس تربوية من آيات آل عمران في غزوة أحد

دروس تربوية من آيات آل عمران في غزوة أحد

السيرة النبوية كلها دروس، والقرآن الكريم كله حكم، فكيف إذا استفاض القرآن الكريم في تناول محطة بالغة الأهمية من السيرة النبوية؟ لا شك أنَّ هذه الآيات ستكون واحة تربوية وارفة، يستظلُّ بها المسلم عندما تحيط به مصاعب الابتلاءات وآلام المسير، فيجد فيها ما يضمِّد جراحاته، ويواسي أحزانه، وينبِّهه على ما أوصله إلى حاله، ويُهديه من العبر والدروس ما يضيء له طريقه ومستقبله.

غزوة أحد غزوة فريدةٌ في السيرة النبوية بل وفي التاريخ الإسلامي كله، وليست كباقي الغزوات؛ انكسر فيها خير جيل، وقُتل منهم ما لم يقتل في أيِّ معركةٍ أخرى، وأُصيب رسول الله ﷺ ولم يصب في معركة غيرها، فكانت بحق «مصيبةً» على الصحابة، هزَّتهم من أعماقهم، وصدمتهم في بداية زمن الصعود والتمكين، وقد استفاض القرآن في الحديث عن غزوة أحد استفاضة كبيرة.

لقد كان في أحد دروس عظيمة، للصحابة ابتداء، وللأمة من بعدهم إلى يوم الدين، وقد اعتنت مؤلفات ومقالات كثيرة بإبراز هذه الدروس استقاء من القرآن وأحداث السيرة، أشارت إلى شؤم المعصية، وسنن الله في النصر والتمكين، وحكمة الله في البلاء والتمحيص، وغيرها من الدروس الكبار، ما يغني عن كتابة مقال جديد فيه.
إلا أن في الآيات التي نزلت في أُحُد لفتات منهجية، ولطائف تربوية قد لا تكون بشهرة تلك الدروس التي تبدو للعيان، وهي مادة هذا المقال.

الدرس الأول: تنويع الخطاب التربوي عقب المصائب والابتلاءات:

ينصرف جلُّ كلام الدعاة والمربين عقب المصائب والابتلاءات إلى أخذ الدرس والعبرة، والتذكير بسنن الله وقوانينه، ولا شك أن هذا مطلب عظيم، وكذلك كان الخطاب القرآني عقب غزوة أحد، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٧]، فهل كان الأمر بالسير والنظر إلا لأخذ العبرة ومعرفة العاقبة؟

ثم أكَّد جل جلاله بأوصافٍ عدّة على هذه الغاية فقال: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٨]، وأعاد ربُّنا تعالى التذكير بهذا المطلب العظيم في خضمِّ الآيات مراتٍ عدّة ليُبقي البوصلة ثابتة ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١٤٠]، ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤١]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ [آل عمران: ١٥٥].. إلى غير ذلك من المواضع.

المصائب الشديدة المزلزلة قد تهزُّ قناعات المرء، وقد تُدخل عليه الشُّبَه، فيحتاج إلى ترسيخ القناعات ولو بدت بدهية مسلّمة في حال الرخاء والسعة

لكن الإنسان الخارج من المصيبة بحاجة إلى أمرين آخرين:

  1. المواساة وتخفيف الآلام والجراح: -ولو كان هو من جنى على نفسه- فإنَّه يكون كسيرًا حزينًا. ومما ورد من الشواهد على ذلك في سورة آل عمران قوله تعالى:

﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ [١٣٩].

﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [١٤٠].

﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ [١٥٣].

﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ [١٥٤].

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ [١٥٥].

وقد اهتمَّ القرآن بتفاصيل ما حدث والتعليق عليه، فشمل ذلك ما كان من كلامهم وما اقترفت جوارحهم وما دار في نفوسهم وخواطرهم، كي تُستخلص كامل العبر.

2. التثبيت: فالمصائب الشديدة المزلزلة، قد تهزُّ قناعات المرء، أو يُخشى عليه من ذلك، وأن تدخل عليه الشُّبَه، فيحتاج إلى ترسيخ القناعات ولو بدت بدهية مسلّمة في حال الرخاء والسعة، ومن ذلك:

﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [١٤٤].

﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [١٤٥].

﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ [١٥٢].

﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ [١٥٤].

﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ [١٥٨].

﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [١٦٠].

﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [١٦٢].

﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [١٦٦].

الدرس الثاني: إعطاء المتربي ما يحتاج إليه لا ما يطلبه فحسب:

يشير قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [١٤٤] إلى ما حدث في أرض المعركة من انتشار الشائعة أنَّ رسول الله ﷺ قد قتل، ورغم أن هذه الحادثة من آخر أحداث الغزوة إلا أن الآيات اعتنت بتقديمها في الذكر، وذلك لأهميتها وعظم التبعات المترتبة عليها، فمن الصحابة من ألقى سلاحه وخارت عزيمته، ومنهم من ترك أرض المعركة، حتى عمت الفوضى والاضطراب في صفوف المسلمين. فجاءت الآية لتذكر أن محمدًا رسول كغيره من الرسل يجري عليه الموت والقتل، فلا ينبغي أن يكون قتله سببًا للتولي.

وقد تكررت الإشارة إلى مثل هذا المعنى في وقت مبكر من الدعوة، وذلك في قوله تعالى في سورة الزمر المكية ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠]، وفي الآية لفتة جديرة بالتأمل، ذلك أنها لم تقتصر على ذكر «القتل» وإنما ذكرت معه -بل وقبله- الموت، مع أنه لا مناسبة له وفق أحداث المعركة، وقد كان لذكر الموت شأن لاحقًا.

فإنه لما مات النبي ﷺ حقًا، كان وقعه على الصحابة شديدًا، حتى إن عمر رضي الله عنه قال يومها -فيما ترويه عائشة عنه-: «واللَّهِ ما مَاتَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ»، قَالَتْ: وقَالَ عُمَرُ: «واللَّهِ ما كانَ يَقَعُ في نَفْسِي إلَّا ذَاكَ، ولَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أيْدِيَ رِجَالٍ وأَرْجُلَهُمْ»[1]، فكانت هذه الآية -بذكر الموت- سببًا لتثبيت الصحابة رضوان الله عليهم، يقول ابن عباس: «والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية، حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها»[2]. وبهذا تظهر الحكمة البالغة في إدراج لفظ الموت مع القتل في الآية.

يحسن بالدعاة والمربِّين ألا يكون تعليقهم على الحدث أو الخطأ مقتصرًا عليه، وإنما يتَّسع بقدر ما يقدّر حاجة المتربي أو المدعو حالاً أو آجلاً

ويمكن أن يأخذ الدعاة والمربون من هذا درسًا عظيمًا: ألا يكون تعليقهم على الحدث أو الخطأ مقتصرًا عليه، وإنما يتسع بقدر ما يقدّر حاجة المتربي أو المدعو حالاً أو آجلاً. ونجد شواهد لذلك من سيرة الرسول ﷺ، ففي حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: «كنْتُ غُلَامًا في حَجْرِ رَسولِ اللَّهِ ﷺ، وكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فَقالَ لي رَسولُ اللَّهِ ﷺ: (يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ)، فَما زَالَتْ تِلكَ طِعْمَتي بَعْدُ»[3]. إنما كان سبب التوجيه أن يده كانت تطيش في الصحفة، فنبهه النبي وعلمه الأدب في ذلك وأضاف إليه -بل وقبله- آدابًا أخرى لم يأت في الحديث أن الغلام خالف فيها، لكن ما حدث منه كان مناسبة حسنة لتنبيهه على غيره من الآداب مما يحتاج إليه.

ونجد هذا أيضًا عندما سألَ رجلٌ رسولَ اللهِ ﷺ فقال: يا رسولَ اللهِ إنَّا نركَبُ البحرَ ونحملُ معنا القليلَ من الماءِ فإن تَوضَّأنا به عَطِشْنا، أفنتوضَّأُ من ماءِ البحرِ؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: (هو الطَّهورُ ماؤهُ، الحلُّ ميتتُه)[4].

فالرجل إنما سأل عن الماء، لكن لما رأى النبي ﷺ أنه ممن يتكرَّر منه ركوب البحر علَّمه أمرًا آخر قد يحتاج إليه وإن لم يسأل عنه.

على الدعاة والمربين ألا يحقّروا من أثر الإرجاف والشبهات على المؤمنين، بل على الدعاة والمربين أنفسهم، وأنهم عرضة لأن يتأثروا بها، مما يوجب الرعاية بالتعليم والمتابعة والعلاج، وعدم المسارعة إلى اتهام كل متردد أو متراجع

الدرس الثالث: خطورة الإرجاف على تماسك المجتمع:

قال تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ [آل عمران: ١٢٢]، وهاتان الطائفتان من المؤمنين لا المنافقين، إحداهما من الخزرج من بني سلمة وأخرى من الأوس من بني حارثة، وكانتا جناحا العسكر، ومع ذلك فقد همُّوا بما فعله المنافقون من الفشل والانسحاب لولا أن ثبتهم الله، وما كان هذا إلا تأثرًا بإرجاف المنافقين وشبهاتهم ومواقفهم. وهذا درس للدعاة والمربين ألا يحقّروا من أثر الإرجاف والشبهات على المؤمنين، بل على الدعاة والمربين أنفسهم، وأنهم عرضة لأن يتأثروا بها، فيجب أن يحوطوهم بالتعليم والرعاية والمتابعة، وإذا ظهر منهم علامات التأثر أن يبادروا إلى اجتثاثها برحمة وحزم. وفي الوقت نفسه يجب أن يقدروا أن مثل هذا الأمر وارد مع الإيمان، فلا يتهمون كل متردد أو متراجع في دينه أو يبالغوا في تخوينه فيزيدونه بعدًا ونفورًا.

الدرس الرابع: من شؤم المعصية:

من أظهر دروس الغزوة شؤم المعصية، وأن ما أصاب الصحابة في أحد هو من عند أنفسهم، وبما كسبت أيديهم، جزاء فشل طائفة منهم وتنازعهم في الأمر ومعصيتهم، وأن لمعاصي العباد أثرًا في تسليط عدوهم عليهم، ونيلهم منهم. إلا أن البعض يذهب لأبعد من ذلك ليقرر أن المؤمنين إذا عصوا الله صاروا هم وأعداءهم الكفار سواء. وأصبحت معركتهم صراع بشر لبشر، وربما استدلوا لذلك بالأثر المروي عن عمر: «وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأنَّ عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدّتهم، فإذا استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة» وهذا أثر ضعيف عن عمر[5]، ثم حاشا لله أن يساوى المسلم لمعصيته بالكافر، بل بينهما من التفاوت ما ذكره الله في كتابه، وإن عصى المؤمن ربه ما عصى. وليس المقصود من هذا التوضيح الاستهانة بالمعصية وآثارها، فشؤم المعصية أمر معلوم في ديننا، لكن ما يصيب المسلمين بسبب ذنوبهم هو سنة من سنن الله، وليس تخليًا من الله عن المؤمنين وتسوية لهم بالكافرين. بل إن هذا التصور لا يستقيم مع عدل الله سبحانه وتعالى. وقد أثبت سبحانه لهذه الطائفة ولايته لها ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾ [١٢٢] وإيمانها ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ [١٥٥] ثم عفوه عنها ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ [١٥٥].

الدرس الخامس: التأني في إطلاق الوعود والتعهدات:

عاتب الله الصحابة على عدم صبرهم على أمر كانوا يتمنونه ويودون حصوله بقوله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [١٤٣].

وذلك أنَّ عددًا ممن فاتتهم غزوة بدر تمنوا أن يحضروا مشهدًا يظهرون فيه جهادهم، ويقولون: لو حضرنا لنفعلنَّ ولنفعلنَّ، فلما حصل لهم ذلك في غزوة أُحُد لم يثبتوا، فعاتبهم الله تعالى على ذلك.

على أن هذا منهم ليس كذبًا ولا نفاقًا وادعاءً، ولكنها طبيعة النفس البشرية في أنه «ليس الخبر كالمعاينة»، فالكلام يسير ولكن الفعل عسير. ونأخذ من هذا درسين، واحد لأنفسنا والآخر في الحكم على الآخرين:

– أما الذي لأنفسنا فعلى الإنسان أن يفكر فيما يقول وتبعاته، ولا ينطلق من مجرد حماس لحظة عابرة أو رغبة جامحة. – والثاني أننا حين نرى من يخالف فعلُه قولَه فليس هذا بالضرورة علامة على الكذب والنفاق بل قد لا يتعدى الأمر عجلةً وحماسًا، أو عدم تقديرٍ للعواقب.

العظماء كلهم سيذهبون، وفقد القيادة لا يوقف المركب ولا يعني التراجع والانكسار، والثبات على الطريق غير متعلق بشخص ولو كان عظيمًا كالنبي ﷺ

الدرس السادس: استمرار الدعوة لا ينبغي أن يتوقف على وجود القائد:

العظماء كلهم سيذهبون، النبي ﷺ ومن دونه من العلماء والدعاة والمجاهدين والمربين، وسيبقى هذا الدين.

إنَّ الدعاة والمربين بدعوتهم وجهادهم يؤسسون الجيل القادم الذي سيحمل الأمانة، ويواصل في أداء الرسالة، وهكذا تنتقل الأمانة من جيل إلى آخر. ولذلك فإنَّ مما يبعث على النشاط والهمة في الدعوة والعلم أن يستحضر العالم أو الداعية أنه ليس فقط يهدي الناس من ضلالة، ويعلمهم من جهل، بل يساهم في بناء الجيل القادم الذي سيحمل الأمانة ويكمل المسيرة.

ففقد القيادة لا يوقف المركب ولا يعني التراجع والانكسار، والثبات على الطريق غير متعلق بشخص ولو كان عظيما كالنبي ﷺ، فلم تكن عبادة الله عز وجل إرضاءً وتعلقًا بوجود النبي ﷺ، إنما لاستحقاق الله للعبادة، ولأن الغاية من إيجاد الخلق كلهم عبادته وحده، وأنَّ الرسل هم الدليل إلى تحقيق هذه الغاية، والحق ينصر لذاته، ولا تتعلق نصرته بالأشخاص: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ [١٤٤] ﴿وكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [١٤٦].

الدرس السابع: الهزيمة تبدأ من القلب!

قال تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ [١٤٦]، فالوَهَنُ شعور سلبي في القلب، كما مثَّل له الرسول ﷺ في حديثه (حب الدنيا وكراهية الموت)[6]، والضعف ما يعتري البدن، والاستكانة هو الخضوع والاستسلام للعدو. وهذا هو الترتيب التسلسلي للهزيمة، تبدأ من وهن القلب، فيؤثر ذلك على قوة البدن ومقاومة العدو، فيؤول الأمر إلى الخضوع والاستكانة له. ولذلك فإن سبيل الخروج من حال الاستكانة والذل يبدأ من تقوية القلب، والشد من عزيمته، بتصحيح العقائد، وترسيخ الثوابت، والبعد عن المعاصي، وهذا جلُّ ما تدور حوله آيات آل عمران.

الدرس الثامن: الصراحة والوضوح في العلاج أثناء التربية:

سبق بيان أن التربية بالأحداث الأليمة تجمع إلى أخذ العبرة والتثبيت: المواساة، ولكن المواساة لا تلغي الوضوح والصراحة أحيانًا ولو كانت العبارة قاسية على من تقال له.

قسا ليزدجروا ومن يكُ راحمًا *** فليقسُ أحيانًا على من يرحم

ومن ذلك هذه العبارة ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾، فإن وقعها على الصحابة الكرام شديد، لكن الخطاب بعمومه عتاب الرحيم الودود، إذ قال عقبها مباشرة ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ بل قرنها بالثناء على فريق منهم ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [١٥٢].

وحبٌّ الدنيا قد يتسلَّل إلى قلوب أهل الإيمان والصلاح، وربما خفي عليهم ذلك فآثروها على ما عند الله، مما يوجب على المرء أن يتفقَّد نفسه وأن يفتِّش في خباياها وأن يزيل كل ما من شأنه أن يحول بينها وبين الاستجابة لأوامر الله ونواهيه، يقول سيد قطب: «العقيدة تعلم أصحابها أن ليس لهم في أنفسهم شيء، فهم كلهم للّه وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له، ويتحركون له، ويقاتلون له، بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد، وأنهم يسلمون أنفسهم لقدره، فيتلقون ما يأتيهم به هذا القدر في رضى وفي تسليم، كائنًا هذا القدر ما يكون»[7].

قد يتسلَّل حبٌّ الدنيا إلى قلوب أهل الإيمان والصلاح، وربما خفي عليهم ذلك، مما يوجب على المرء أن يتفقَّد نفسه وأن يفتِّش في خباياها وأن يزيل كل ما من شأنه أن يحول بينها وبين الاستجابة لأوامر الله ونواهيه

الدرس التاسع: ترداد الرأي في ابتداء المشورة، لا عند استقرار العمل:

قال تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ [١٥٤]، عن الزبير بن العوام أنه قال: لقد رأيتني مع رسول الله ﷺ حين اشتد الخوف علينا، أرسل الله علينا النوم، فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فوالله إني لأسمع قولَ مُعَتِّبِ بنِ قُشَيْرٍ، ما أسمعه إلا كالحلم، يقول: «لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا» فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا[8].

هذه هي النفوس المرجفة في الجماعة. لقد شاور الرسول أصحابه في الخروج فأشار بعضهم بالبقاء ورغب بعضهم في الخروج، ثم استقرَّ الأمر على الخروج، فأصبح هذا هو قرار الجماعة. وهنا لا يصحُّ لمن كان على الرأي الآخر أن يلمز أو يشمت أو يظهر صواب موقفه، فهذا السلوك يصادم أبجديات العمل الجماعي فضلاً عما فيه من قلة المروءة. وقارن موقف هؤلاء المنافقين بموقف عمر رضي الله عنه بعد أن نزل القرآن يعاتب النبي في أخذ الأسرى في بدر، موافقًا في ذلك رأي عمر، فما ظهر منه شيء من الانتصار لرأيه، بل جلس يبكي مع صاحبيه[9].

الدرس العاشر: وجوب مراقبة نتائج الاختيارات وتوقعها:

قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [١٦٥]، القول المشهور أن هذا الجزء من الآية يشير إلى مخالفة الرماة، والدرس على هذا القول ظاهر، بل هو أظهر دروس أُحُد.

لكن ثمة قول آخر ذكره عددٌ من المفسرين كالقرطبي والطبري في هذه الآية، وهو أنَّ فيه إشارةً إلى أخذهم الفداءَ يوم بدر بدلاً من الإثخان في القتل. وكأن الرابط هنا –والله أعلم– أنَّهم بأخذهم الفداء بقي في القوم شدة وبأس، ذاقها المسلمون في أحد، ولو أثخنوا فيهم في بدر لما قويَ الكفار على قتل هذا العدد من المسلمين. فعلى هذا القول نستنتج فائدةً مهمة. مع أنَّ الله غفر للمؤمنين قرارهم بأخذ الفداء، وأباحه لهم ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الأنفال: ٦٩] إلا أن هذا لا يرفع عنهم تبعاته. فلله سنن جارية، ورفع الإثم بالتوبة أو الاستغفار لا يلغي قوانين السنن التي لا تحابي أحدًا.

وبقاء أثر المعصية حتى بعد التوبة أمرٌ مستقرٌّ ومعلوم، فالشخص الذي يتوب إلى الله من دوام النظر المحرم أو اعتياد التدخين مثلاً، إذا صدق التوبة غفر الله له ما كان، لكنه قد يجدُ أثر مُداومته على المعصية زمنًا حتى يصلُح قلبه أو ينقى جسده من خُبث المعصية التي كان عليها.

من شؤم المعاصي أن يبقى أثرها في حياة المرء حتى بعد التوبة وصلاح الحال

وفي الختام:

هذه باقة من الدروس واللطائف التي تيسر جمعها من هذه الآيات، فيها عبرة للمعتبر وفائدة للمستفيد، تعظم ثمراتها التربوية عند تدبُّرها وفهمها والعيش معها وربطها بأحداث السيرة النبوية التي رافقتها، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.


[1] أخرجه البخاري (٣٦٦٧).

[2] أخرجه البخاري (٤٤٥٤).

[3] أخرجه البخاري (٥٣٧٦).

[4] أخرجه أبو داود (٨٣) والترمذي (٦٩) والنسائي (٥٩) وابن ماجه (٣٨٨).

[5] ذكره في كتاب (العقد الفريد) بلا إسناد (١/١١٧)، وهذا كتاب أدبي وليس كتاب رواية.

[6] أخرجه أبو داود (٤٢٩٧).

[7] في ظلال القرآن (١/٤٩٥-٤٩٦).

[8] أخرجه إسحاق بن راهويه، ينظر: المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر (٤٢٦٠)، وسيرة ابن هشام (٢/١١٥).

[9] روى مسلم في صحيحه (١٧٦٣) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله ﷺ لأبي بكر وعمر: (ما ترون في هؤلاء الأسارى؟) فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله: (ما ترى يا ابن الخطاب؟) قلت: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنَّا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنِّي من فلان (نسيبًا لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله ﷺ: (أبكي للذي عَرَضَ عليّ أصحابُك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة)، شجرة قريبة من نبي الله ﷺ.


م. حسام سعيّد

بكالوريوس هندسة كهربائية، مهتم بالتربية والتطوير المؤسسي.

X