قراءات

قراءة في كتاب: العَلمانيون والنبوة، لماجد بن محمد الأسمري

قراءة في كتاب: العَلمانيون والنبوة، لماجد بن محمد الأسمري

في ظلّ سطوة الثقافة الغربية العَلمانية، والدفع باتجاه عولمتها بكافّة مناهجها: الفكرية والسياسية والاجتماعية؛ اجتهد رموز العَلمانية العرب في تنزيل مبادئ العَلمانية الغربية على العالم العربي والإسلامي، لكنّهم اصطدموا بالمنظومة الثقافية الإسلامية الصلبة، والتي تأبى أن تذوب في قالب ثقافة أجنبية عنها مصادمة لها؛ فعمدوا إلى محاولة صياغة الثقافة الإسلامية بما يتناسب مع مبادئ العَلمانية، وتجلت أبرز محاولاتهم في العبث بالتراث النبوي وتحريف مضامينه.

تعريف بالمؤلف:

مؤلف كتاب (العلمانيون والنبوة .. أبعاد التحريف العلماني لمقامات النبوة) الأستاذ ماجد بن محمد الأسمري أكاديمي وباحث ‏مهتم بالقضايا الفكرية والعقدية، وله كتاب آخر عنوانه (الاسترقاق القيمي وجذور الممانعة).

محتوى الكتاب:

يدرس الكتاب محاولات العبث العَلماني بمقامات النبوّة من خلال ثلاثة محاور:

  • جدلية الديني والسياسي.
  • جدلية علاقة النبي ﷺ بالآخر.
  • جدلية بشرية النبي ﷺ ونبوته.

حيث حاول الخطاب العَلماني في كلّ منها إبعاد المرجعية الدينية عنها وتأويلها لتوافق المبادئ العَلمانية.

جدلية الديني والسياسي: هل الإسلام دينٌ ودولةٌ؟

معنى كون الإسلام «دين ودولة» حسب الرؤية الشرعية: أنّ الدولة -والتي يقف على رأس هرمها (إمام المسلمين) أو (رئيس الدولة) بالمسمّى المعاصر، ومَنْ دونه من أجهزة تنفيذية وتشريعية وقضائية- يجب أن تجعل للأحكام الشرعية المرجعية الثابتة والسيادة العليا، وألّا تتعارض قوانين الدولة مع أحكام الشرع الحنيف، وأن تعمل على تنفيذه في الواقع الملموس على كافّة المستويات.

وهذا السؤال غريبٌ شكلاً ومضمونًا على الثقافة الإسلامية التي لم تعرف الفصل بين الديني والسياسي منذ عهد النبي ﷺ، ومرورًا بالتجربة التاريخية بالدول الإسلامية، فالخليفة مهما كان عاصيًا إلّا أنّه لا يزال يخضع لمرجعية الشريعة.

يذكر بعض المفكّرين أنّ طرح العَلمانيين لهذا السؤال يرجع لأسبابٍ، منها: استلهام التجربة الأوروبية، وحلّ مشكلة الطائفية، وربط النهضة بالفصل بين الدين والدولة.

الثقافة الإسلامية لم تعرف الفصل بين الديني والسياسي منذ عهد النبي ﷺ، ومرورًا بالتجربة التاريخية بالدول الإسلامية، فالخليفة مهما كان عاصيًا إلّا أنّه لا يزال يخضع لمرجعية الشريعة

ومفهوم الفصل بين الدين والدولة في التصوّر العَلماني ليس على نسق واحد:

  1. فمنهم مَن يرى أنّ المقصد هو إبعاد العلماء والمتدينين عن السلطة السياسية.
  2. ومنهم مَن يرى أنّ المراد هو إبعاد المرجعية الدينية ذاتها عن السيادة والتحكّم في المجال العام.
  3. ومنهم مَن لا يرى مانعًا في قيام سلطة خاصّة في الدولة تُدير شؤون الدين، دون التدخّل في صلب الدولة.

لكن من كتابات أغلب العَلمانيين تجدهم يميلون مع الرأي الثاني القائلِ باستبعادِ المرجعية الإسلامية نهائيًا، وجعْلِ الدين مسألةً شخصية، والعَلمانيون يبالغون كثيرًا في الترويج لنتائج وخيمة لو تم اتصال الدين بالدولة؛ لترويع الناس من التمسك بالفكرة، وأنّ التجارب في بعض الدول كانت مأساوية.

والأدلة على نقض فكرة الفصل بين الدين والدولة ووجوب تطبيق الشريعة كثيرة، منها:

  • الأدلة النظرية (الشرعية): التي تأمر بالحكم بما أنزل الله، وهذا الحكم لا يتمّ إلا من خلال تنصيب إمام للمسلمين يحكّم الشريعة.
  • الأدلة العملية: من فعله ﷺ وتصرفاته كزعيمٍ للدولة الإسلامية مِنْ إرسال الأمراء وعمّال الصدقات والسعاة، وبعث القضاة، وفرض التكاليف والجزية، وإقامة العقوبات والحدود الشرعية.
  • الأدلة العقلية: فلا يُتصوّر أنّ يأتي الإسلام بالأحكام التفصيلية ويطلب من نظامٍ غير إسلامي تطبيقها والحرص على تنفيذها!

الخلاف العَلماني حول دولة الرسول ﷺ ونظامها السياسي:

تختلف مواقف العَلمانيين من دولة الرسول ﷺ، فهي ليست على نسق واحد، وهذا يدلّنا على عدم صلابة البنية التي تنطلق منها تلك المواقف.

وقد ذهبت خلافاتهم في عدة اتجاهات:

الاتجاه الأول: أنّ النبي ﷺ أسس دولة في المدينة، لكنهم اختلفوا في وصف تلك الدولة على ثلاثة آراء:

  • أنّها دولة دينية، لكن لا يجوز أن تستمر بعد وفاته لأنّها دولة دينية تاريخية، أو لا يصحّ أن تستمر لعدم قدرتها على التكيّف مع متغيرات العصر.
  • أنّها دولة ديمقراطية أرست معالم الديمقراطية في ذلك العهد، ولم تكن تعرف الدولة الدينية.
  • أنّها دولة قبلية تحكم من منطق القبيلة والدين، ومنطق العادات والأعراف.

الاتجاه الثاني: من يرى أن النبي ﷺ لم يكوِّن دولة، وإنما هي دعوة روحية، وأنّه لا يوجد نظام سياسي في الإسلام!

وبين هذين الاتجاهين هنالك آراء فيها قدر كبير من الاضطراب والتذبذب، وعدم الوضوح.

يدعي العلمانيون عدم وجود نظرية متكاملة للنظام السياسي الإسلامي وهذه الدعوى تتغافل ما جاء به الإسلام من أسس قام عليها النظام السياسي المتكامل للدولة، من: تفعيل للشورى والقضاء والرقابة والوزراء والأمراء والسفراء والاقتصاد والجيش!

ضجيج الشبهات:

حين نستعرض الاتجاهات السابقة للبحث عن الشبهات التي دفعت العَلماني لرفض وجود دولة النبي ﷺ، نجدها تدور حول:

  1. دعوى عدم وجود نظرية متكاملة للنظام السياسي الإسلامي:

ولا شكّ أنّ هذه الدعوى تتغافل عمّا جاء به الإسلام –سواء من خلال الوحي أو من خلال اجتهادات النبي ﷺ العملية- من أسس قام عليها النظام السياسي المتكامل للدولة، من: تفعيل للشورى والقضاء والرقابة والوزراء والأمراء والسفراء والاقتصاد والجيش!

2. الاستشهاد بآيات الدعوة والتبليغ على نفي ضرورة وجود وإنشاء دولة:

لكنّ الفقه العَلماني خانه التمييز بين نوعين من الآيات، فآيات «الدعوة والتبليغ» في التعامل مع غير المسلمين دون إجبارهم على الدخول في الإسلام، وآيات «تطبيق الشريعة» موجّهة للنبي ﷺ ومن معه من المسلمين وتخصّ دولتهم وأسس قيامها.

3. دعوى أنّه ليس من شؤون الدين تكوين دولة:

والزعم بأنّ النبوّة أعلى مرتبة من مرتبة قيادة الدولة، والنبي ﷺ أشرف من أن يصيبه دنس السياسة وأرفع من الدخول في دهاليزها!

وهذه الشبهة ترسّخت لدى الذهن العَلماني بناءً على نظرتهم للدين النصراني، والذي يخلو (بعد تحريفه) من الأسس التي تقوم عليها الدولة وتكفل استمرارها.

4. دعوى عدم وجود نص إلهي للرسول ﷺ بتكوين دولة:

وهذا الاستنتاج والمغالطة من أفقر المغالطات وأكثرها بلادَةً، فإنّ الأدلّة على وجوب تطبيق حكم الشريعة كثيرة جدًا، ثمّ إنّ العقل العَلماني ليس من نهجه النظر في الأدلّة الشرعية والانطلاق منها في بناء المنهج! لكنّه يمارس خداعًا ينكشف سريعًا أمام الطرح الشرعي الجاد.

5. دعوى أنّ الدولة تكونت في عهد الرسول ﷺ لكنها كانت مدنية:

وهذه الشبهة قامت وارتكزت على دعوى أنّ (صحيفة المدينة) كانت مَدَنية الطابع لا دينية! فعقد التحالف مع غير المسلمين يقضي برفع صفة الدينية عنه بزعمهم.

وهذا جهل عَلماني بمضمون الوثيقة التي ورد فيها أنّ المرجعية والسيادة للإسلام، وأنّ الحكم للرسول ﷺ، وأنّ اليهود لا يحقّ لهم الخروج من المدينة إلا بإذن منه ﷺ!

من أبرز مصادر الإشكال عند العلمانيين تجاه الإسلام: أنهم يقيسون الإسلام على النصرانية، ومنبع ذلك أن العلمانية في مهدها كانت خروجًا عن الفكر النصراني الكنسي

6. دعوى أنّ الرسول ﷺ لم ينصّ على حاكم بعده، مما يعني أنّ الدولة غير دينية!

والذي دعا العَلمانيين لذلك هو تصوّرهم أنّ الدولة الدينية يجب أن يُنصّ فيها على الحكّام بالتتابع بأمر إلهي كما هو الحال في الدولة الدينية التابعة للكنيسة النصرانية، فالحاكم في الفكر «الكَنَسي» مفوّض من الله، وينفّذ القرارات باسم الله.

لكنّ عدم التنصيص على الخليفة بعد رسول الله ﷺ فيه إتاحة لتطبيق مبدأ الشورى، كما أنّه لا يستلزم عدم إسلامية الدولة؛ فالعبرة بوجود المرجعية الإسلامية كسيادة عليا ومهيمنة على الدستور، ثم هنالك مساحة لممارسة العديد من القرارات السلطانية في نطاق المباح والمسكوت عنه.

7. دعوى أنّ الدولة في الإسلام غير دينية والدليل حادثة تأبير النخل!

والصحيح أنّ النبي ﷺ لم يأمر ولم ينهَ كتشريع، وإنّما بنى على مجرّد الظن. وقضية «تأبير النخل» ليست من أمور الدين حتى تُجعل أصلاً يُستدل به على ضرورة فصل الديني عن السياسي، فالسياسي من أمور الدين كما عُلم من أدلة سابقة.

8. دعوى أنّه لو كان الرسول ﷺ يدير الدولة بناء على الوحي فلماذا كان يستشير أصحابه في بعض الظروف؟

  • والصحيح أنّ حالات النبي ﷺ مع الشورى ليست على نسق واحد:
  • فما كان فيه وحي وأمر من الله فلا شورى حينها، كما حصل في صلح الحديبية.
  • وما لم يكن فيه وحي وهو من أمور التشريع، فقد يشاور النبي ﷺ بعض أصحابه، فيأتي الوحي مصوبًا أو مقومًا للخطأ، كما في حادثة (أسرى بدر).
  • أمّا ما كان من أمور الدنيا والحرب، فكثيرًا ما كان ﷺ يشاور أصحابه ويستفيد من رأيهم.

9. دعوى أنّ النبي ﷺ عندما تولى الدولة كان ذلك بمقتضى عقد اجتماعي مع الأوس والخزرج وليس بمقتضى النبوة:

فلو رفضوا سلطته السياسية لما كان ملكًا عليهم، وهذا دليل أنّها كانت دولة مدنية وليست دينية. والجواب أنّ رياسة النبي ﷺ ليست خارجة عن دائرة نبوته، فلا يُشترط فيها شروطٌ زائدة عن الإقرار بالنبوة، ولا يُتصوّر الانفكاك بين الرئاسة والرسالة.

جدلية النبي والآخر:

فشل العَلمانيون في قراءة الموقف النبوي من المخالف قراءة صحيحة، والسبب في ذلك اعتمادهم على عدد من الركائز والمبادئ: كحرّية الاعتقاد والفكر والرأي، والمبالغة في مفهوم التسامح بالمعنى الليبرالي، وإلغاء البعد الديني في قرارات الرسول ﷺ نحو مخالفيه، والاعتقاد بنسبية الحقيقة بزعم أنّ الإسلام -وحتى المسيحية واليهودية- تمتلك الحقيقة، والنظر إلى مركزية الإنسان بغضّ النظر عن عقيدته، مع العمل على إزالة القدسية عن مكانة الرسول ﷺ، وإلغاء الصفة الدينية عن الحروب وإدانتها بشكل قطعي، وتغليب مفهوم حقوق الإنسان بالمفهوم الحديث، والقفز على البعد الديني في العلاقات وتقديم: (المساواة والكرامة والرحمة والتعارف والعدالة والخير العام) عليها.

من بين هذه الركائز والمبادئ: تعدّ «المواطنة» و«الحرّية» من أهمّ المفاهيم المحورية في الخطاب العلماني والتي من خلالها حاولوا قراءة علاقة النبي ﷺ باليهود والمنافقين وكفّار قريش؛ فأخرجوها بصورة محرَّفة في مضامينها لتوافق مبادئهم.

فشل العَلمانيون في قراءة الموقف النبوي من المخالف، ويرجع ذلك في الأساس إلى اعتمادهم على الركائز والمبادئ التي تنادي بها الليبرالية المعاصرة، واعتقادهم بنسبية الحقيقة وسحب ذلك على الإسلام

١. العلاقة مع اليهود تحت مظلّة المواطنة:

تناول العَلمانيون علاقة النبي ﷺ باليهود في المدينة بقدر من العناية والاهتمام، فهم يؤكّدون على أنّ النبي ﷺ عاملهم كمواطنين في الدولة، ويستدلّون على ذلك بما جاء في «وثيقة المدينة» من عبارات دالّة -في نظرهم- على ذلك مثل: (أنّ يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين؛ لليهود دينهم وللمسلمين دينهم). وقد استثمر العَلمانيون هذه الوثيقة للدلالة على معنى (المواطنة) بالمفهوم المعاصر والذي يعني: المساواة التامة بين المواطنين المنتمين إلى دولة واحدة في الحقوق والواجبات بغضّ النظر عن الدين والعرف واللون، ليصل بهم الأمر إلى اعتبار هذه الوثيقة أول وثيقة مَدَنية عَلمانية حقوقية على أساس لا ديني!

على أنّ الاعتقاد بأنّ الوثيقة ساوت بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتب مساواةً مطلقة من كل الوجوه لا يستندُ إلى برهان، بل إنّ الدليل الواقعي والعملي لا يثبت ذلك، فالرسول ﷺ لم يتّخذ من اليهود وزراء أو مستشارين أو رسل، ولم يرسلهم في مهمات لها علاقة أساسية بالنظام السياسي في المدينة، «فالوثيقة أشبه ما تكون بالنسبة لليهود بعقد الذمّة التي تجعلهم يأمنون على أنفسهم في إقامتهم بين المسلمين، ولكنّ السيادة والشريعة والتحاكم إلى الله ورسوله». وقد ورد فيها شرطٌ مهمّ يدل على وجوب خضوع اليهود لسلطة الرسول ﷺ وهو أنّه: «لا يخرج من يهودٍ أحدٌ إلا بإذن محمد ﷺ».

إضافة إلى ذلك: أنّ قريشًا ذُكرت في الوثيقة مع أنّها تمثّل جهة معادية للرسول ﷺ، ومع ذلك جعل لها بندًا قال فيه: «لقريش وحلفائها حقّ الصلح إذا طلبوه، إلّا من حارب منهم الإسلام»، فهل يقال هنا أنّه ﷺ أعطى قريشًا حق المواطنة؟!

ويستمر العَلمانيون في المغالطات ليصفوا ما قام به النبي ﷺ من إجلاء اليهود وقتل بعضهم لمّا نقضوا العهد بأنّه كان مجزرة مخالفة للحقّ الإنساني، وتصفية شاملة، وأنّ الرسول ﷺ هو من اعتدى عليهم! في حين أنّ الصحيح أنّه ﷺ لم ينقض العهد الذي كتبه مع اليهود، وتجاوز عن كثير من أخطائهم؛ فقد عفا عن بني قينقاع بعد قَتْلهم مسلمًا بعدما شفع فيهم عبد الله بن أُبي ّابن سلول، وأَذِنَ لبني النضير بالجلاء إلى خيبر رغم أنّهم حاولوا الغدر به، لكن لـمّا ارتكب يهود بني قريظة الخيانة العظمى ونقضوا العهد في غزوة الأحزاب: عاقبهم بحكم سعد بن معاذ t، الذي وافق حكم الله.

وهناك استثمار ثالث لوثيقة المدينة من قبل بعض العَلمانيين بل وبعض الإسلاميين، بادّعاء أنّها دالّة على جواز قيام أحزاب عَلمانية معارضة ضمن النظام الإسلامي! وهذه دعوى متهافتة، فالوثيقة من أولها لآخرها تنصّ على أنّ الحكم في المدينة لله وللرسول ﷺ، فضلاً عن أنّ اليهود لم يكونوا يظهرون المعارضة ويدعون إلى جعل مرجعيتهم هي المرجعية العامة!

٢. التعامل مع المنافقين تحت مظلّة حرية النقد:

عارض العَلمانيون موقف النبي ﷺ من المنافقين، وتمثّل ذلك في رفضهم لمصطلح النفاق والمنافقين؛ فهم يعتبرونه من النعوت السلبية التي لا تصف الحقيقة، واستبدلوا به مصطلحات أخرى تحمل معانٍ غير سلبية ولا عقائدية، كمصطلح (المترددين)، أو (المعارضة) مع أنّ النفاق في حقيقته أمر باطني لا تظهر معه معارضة ظاهرة، أو (الحياد) مع أنّ مفهوم الحياد يقتضي الوقوف بين رؤيتين متضادّتين والمنافقون كانوا دائمًا ضد المسلمين!

كما ادّعى العَلمانيون أنّ ما كان يقوم به المنافقون في زمن الرسول ﷺ من لمزٍ، وإيذاءٍ، وتآمرٍ، وصدٍّ عن الإسلام، وخذلٍ للمجتمع المسلم، وقذفِ المؤمنين بألسنة حداد، ودعمٍ للكفار؛ هو نوع من أنواع النقد! بدليل أنّ النبي ﷺ قد أعطاهم هامش الحرية هذا ولم يعاقبهم على شيءٍ مما فعلوه! والصحيح أنّ الموقف الشرعي من المنافقين مرّ بمراحل، ففي البداية كان الأمر بالصبر على أذاهم، لينتهي بالإغلاظ عليهم حتى لم يعد يتمكّن كافر ولا منافق من إيذائهم في مجلس خاص ولا عام أبدًا.

وقد برّر العَلمانيون للمنافقين مواقفهم هذه، فزعموا أنّ النفاق كان نتيجة طبيعية للتشدّد الديني، وأنّ الصرامة في تطبيق الإسلام تحول دون تحقيق إيمان داخلي؛ فيؤدي ذلك إلى النفاق!

ويضع العَلمانيون حلاً لمشكلة النفاق تتمثّل في طريقين:

  1. تجريد الشريعة من صفة الإلزام، وعدم جعل الدين قانونًا عامًا يتدخل في التحكّم في المجال العام في حياة الناس، والدعوة إلى تدشين مرحلةٍ من (تديّن الضمير).
  2. محاولة إيجاد صيغة تأويلية للنصوص الشرعية تكون مناسبة لأولئك الناس الذين يعيشون تمزقًا بين الواقع والمنشود.

٣. التعامل مع الكفّار من خلال بيان البُعد الحقيقي للجهاد:

نال «جهاد الرسول ﷺ» من العَلمانيين مساحة وافرة من التشويه، ولائحة طويلة من الإدانة والتجنّي، وسيلاً من الشتائم؛ ذلك لأنّ الجهاد بمعناه السامي يعاكس قِيَم «الحرية» و«الفردية» لديهم؛ فأثاروا حوله الشُبَه التي تدلّ على فقرٍ معرفي لديهم بأحكام الجهاد وأنواعه وضوابطه.

ومن تلك الشبه التي نالت حقيقة الجهاد ضد كفار قريش:

  • دعوى أنّها كانت حروبًا من أجل الغنائم والصراع على السلطة: وأنّ الواجهة الدينية لم تكن سوى واجهة لإخفاء الدافع الحقيقي!

وهذه شبهة ساقطة من الأساس، ففضلاً عن النصوص الكثيرة التي تدلّ على أنّ الدافع الحقيقي للجهاد هو إعلاء كلمة الله عن طريق إخضاع النظام العام في الأرض لحكم الإسلام وإزالة ما يفتن الناس عن الحق ويمنع دخولهم فيه اختيارًا، وتربية النبي ﷺ لأصحابه على هذا الهدف السامي؛ فإنّ واقع النبي ﷺ وأصحابه y يدلّ على أنّهم لم يكونوا طلّاب دنيا، وأنّهم كانوا في شظف من العيش، وقد خُيّر ﷺ بين أن يكون مَلِكًا رسولاً أو عبدًا رسولاً، فاختار أن يكون عبدًا رسولاً.

  • دعوى أنّ الجهاد كان جهاد دفع فقط: فهو للدفاع عن النفس لا غير، والسبب في هذا الادّعاء هو فهم العَلمانيين الخاطئ لجهاد الطلب، وأنّه ينطوي على إجبار الناس على الدخول في الإسلام.

وهذه شبهة ساقطة أيضًا: بما ذكرناه من بيان الدافع الحقيقي للجهاد، وبأنّ الرسول ﷺ لم يُكْرِه المجاورين له من اليهود على الدخول في الإسلام فكيف يتحرك إلى أولئك البعيدين عنه لإكراههم على اعتناق الدين؟ وبأنّه ﷺ لو اكتفى بجهاد الدفع لما انتشر الإسلام في أصقاع الدنيا، ولما وَعَدَ في زمنه بفتح بلاد قيصر وكسرى قبل ذلك، ولما أرسل الوفود بشعار (إمّا الإسلام أو الجزية).

ترى العلمانية أنّ النبوّة مسألة دنيوية أرضية لا صلة للسماء بها، وأنّ الأنبياء شخصيات تاريخية عظيمة، وما جاؤوا به هو أفكار إصلاحية ساهم في تكوينها: مخيلتهم القوية، وتراكم الرغبات والتجارب والموروثات الشعبية لديهم

جدلية البشري والنبوي:

تتصادم العَلمانية مع عقيدة الإيمان بالأنبياء والرسل، فهي ترى أنّ النبوّة مسألة دنيوية أرضية لا صلة للسماء بها، وأنّ الأنبياء شخصيات عظيمة بعيدًا عن الجانب النبوي، وتاريخية أكثر منها مبجّلة ومعظّمة، وأقوالهم ملزمة لكنها ليست بتشريع؛ فما جاؤوا به من أفكار وإصلاحات ساهم فيه بشكل كبير: مخيلتهم القوية، ولاشعورهم الناتج عن تراكمات الرغبات والتجارب، والموروثات الشعبية المحيطة بهم والتي تتمثّل في الذاكرة الجماعية والثقافية المحيطة والمستوى المعرفي، وتدخل فيها الأساطير والهلوسات حسب زعمهم.

لذا يركّز العَلمانيون على تقديم النبي ﷺ باعتباره شخصيّة سياسية أو مدنية أو عسكرية، وليس بصفته نبيًّا، وبالتالي فإنّ اجتهاداته ﷺ غير ملزمة، بل وقابلة للنقد.

وقد تطوّر موقفهم من النبوة تطورًا كبيرًا، ليصل إلى حدّ عرض بعض الدراسات الإلحادية حول إنكار النبوة، ولجؤوا في سبيل ذلك إلى السخرية والتندّر للاستخفاف والتشكيك بمقام النبوة وبخاصة نبينا ﷺ؛ تقليدًا للتنويريين الأوربيين في نقدهم للكنيسة، ولأنّ السخرية أداة فعّالة للتشكيك في المسلّمات.

وهم مع كلّ هذا يحاولون نفي تهمة الكفر عنهم وعن كلّ من ينتقد أو يسخر من الأنبياء! بل ويجعلون العَلمانية هي التأويل الحقيقي للدين!

وتسعى العَلمانية -وفي ضوء تعاملها مع النبي ﷺ كبشر لا نبي- إلى:

  • اعتباره مجرّد منتحلٍ لثقافات وأديان قبله، كالمسيحية واليهودية.
  • المطالبة بإعادة قراءة سيرته ﷺ ودوافعه على ضوء التيارات المعاصرة كالماركسية والليبرالية وإزاحة البعد الإيماني منها.
  • جعل اجتهاداته غير ملزمة؛ فهي مجرّد فهم خاص به مرتبط بالمستوى المعرفي للجزيرة العربية.
  • «أَنْسَنَةِ» سنّته باعتبار مصدرها وألفاظها منه ﷺ.
  • وصولاً إلى تشويه سيرته والقدح في حياته الأسرية.

ومن أبرز المباحث التي نالها التحريف العَلماني في جدلية البشري والنبوي: المعجزة، والعصمة، والاجتهاد، ودعوى تأثره بأهل الكتاب.

المعجزة:

ينكر العَلمانيون المعجزة باعتبارها حدثًا خارقًا للعادة، وبالتالي فهي تتعارض مع السنن الكونية ولا تخضع لمألوف العقل البشري بزعمهم.

وبالتالي فإنّ موقفهم منها كان على مستويين:

  1. فهناك مَن ردّها ولم يقبل منها سوى القرآن؛ لأنّها بزعمهم تخالف مبادئ العقل، فكيف تكون دليلاً على وحي يستند على العقل؟
  2. وهناك مَن حاول تأويلها، وأنّها ليست خرقًا لقوانين الطبيعة بل يمكن تفسيرها علميًا، كتفسير انشقاق القمر بأنّه خسوف! وتفسير حادثة الإسراء والمعراج بأنّها رحلة منامية، أو أنّ الله جمع مراحل هذه الرحلة في روحه!

العصمة:

العصمة هي «لطفٌ من الله تعالى يَحمل النبيَّ على فعل الخير، ويزْجره عن الشَّرِّ، مع بقاء الاختِيار تحقيقًا للابتِلاء»، والأنبياء معصومون في تبليغ الوحي من أن يتطرّق إليه تحريف أو زيادة أو نقصان، ومعصومون من الكفر، ومعصومون -عند جمهور العلماء- من الكبائر ومن تعمّد الصغائر المنفّرة كالذنوب الدالّة على الخسّة.

والعصمة من المسائل التي طالها التحريف العَلماني؛ لأنّها تعني:

  • قدسية القرآن، وهم يريدون نقده.
  • وحجّية السنّة المطهّرة، وهم لا يؤمنون بحجّيتها.
  • وأنّ النبيّ ﷺ قد بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، وهم لا يرون حرجًا من اتّهامه ﷺ بالتقصير في ذلك.
  • وأنّ العصمة تعني إضفاء القدسية على تصرّفات النبي ﷺ، والمقدّس يعني امتلاك الحقيقة وهذا يؤدّي بزعمهم إلى التعصب وإراقة الدماء!

ويدّعي الخطاب العَلماني أنّ القول بالعصمة قولٌ مبتدَع نشأ بعد وفاة النبي ﷺ، ولهم في ذلك أقوال لا تعدو كونها شبهات متهافتة؛ يناقضها ما جاء في القرآن الكريم من أنّه ﷺ لا ينطق عن الهوى، وغير ذلك من الأدلّة القاطعة.

يحرص العَلمانيون على هدر قدسية السيرة النبوية وجعلها عُرضة للشكّ والنقد، فيزعمون تأثّر الرسول r باليهود والنصارى، وأنّه التقى بجماعات الموحّدين في شمال الجزيرة العربية وقام بتجديد ما لديهم!

الاجتهاد:

تعامُل الخطاب العَلماني مع اجتهادات النبي ﷺ على مراتب:

  • فمنهم من رفض اجتهاده ﷺ مطلقًا.
  • ومنهم من رفضه في باب المعاملات فقط لأنّها من المتغير بزعمهم.
  • ومنهم من رفضه في الجوانب السياسية بدعوى أنّ السياسة ليست من الدين.

وسبب هذا الرفض هو الخلل في تصوّر العَلمانيين للشريعة في ثلاثة جوانب، والتي هي ركائز المعارضة العَلمانية للشريعة:

  1. فالعَلمانيون لا يؤمنون بربّانية الشريعة؛ لأنّه يستلزم اعتقاد كمالها وعصمتها وقدسية أحكامها.
  2. ولا يرحّبون بفكرة شمول الشريعة وثباتها وكمالها وصلاحيتها لكل زمان ومكان؛ لأنّهم يرون أنّ الشريعة جاءت لزمن تاريخي مضى، وكانت ملائمةً لمستوى معرفي معيّن، والحياة في حالة من التجدّد والتغير لا يستقيم معها الثبات على قواعد كلّية معينة.
  3. ويتطاولون على الفقهاء القائمين على رعاية الشريعة وحفظها وتدريسها ويقدحون فيهم وفي أفهامهم ومناهجهم، ويتّهمونهم بأنهم يشرّعون أحكامًا لم يأت بها النبي ﷺ أصلاً، ويشبّهونهم برجال الدين النصراني؛ لأجل صرف الناس عن الفقه وأحكامه.

زعم تأثره ﷺ بأهل الكتاب:

يحرص العَلمانيون على التعامل مع السيرة النبوية بطريقة تُهدر قدسيتها وتجعلها عُرضة للشكّ والنقد، ومن مراحل السيرة التي يحرصون على نقدها: مرحلة ما قبل البعثة، فبدؤوا بالبحث عن مصدر يمكن أن يكون النبي ﷺ قد استقى منه الدين الجديد؛ فزعموا أنّه تأثّر باليهود والنصارى الذين وصلت أصداء دعوتهم التبشيرية إلى مكّة والتقى بهم في رحلاته التجارية، كما أنّ شغفه قاده للتواصل مع جماعات الموحّدين الموجودين في شمال الجزيرة العربية وقام بتجديد ما لديهم!

وكلّ هذه ادّعاءات لا أساس لها، ومبالغات لا يؤيدها التاريخ، فضلاً عن اضطراب العَلمانيين في الربط بين هذه الادعاءات وبين علاقة النبي ﷺ بالوحي.

وختامًا:

فإنّ المحاولات العَلمانية للتسلّل إلى حقل السيرة النبويّة والعبث في مضامينها لن تتوقّف، فالفضاء العالمي بعَلمانيته المتطرّفة يدفع في هذا الاتجاه، وغاية التيار العَلماني من كلّ هذا الاندفاع هو نفي المقدّس الديني ومنه مقام النبي ﷺ؛ وذلك كردّة فعل خاسرة على اليقظة الدينية في الأمّة الإسلامية.

وأمام هذا الاندفاع العَلماني لا بدّ أن تُبذل الجهود مجتمعةً للذود والدفاع عن جناب النبي ﷺ وإبراز سيرته الشريفة بصورتها المشرقة.


م. عبد القادر معن

ماجستير في الإدارة الهندسية، خرّيج برنامج صناعة المُحاور. مهتم بالمجال الفكري

ماجستير في الإدارة الهندسية، خرّيج برنامج صناعة المُحاور. مهتم بالمجال الفكري.
X