قراءات

قراءة في كتاب: تِرياق نحو معالجةٍ تأصيليةٍ للشبهات الفكرية، د. مطلق الجاسر

بعد الميدان العسكري والسياسي لم يتوقف أعداء الإسلام عن بث الشبهات الفكرية حول الإسلام بأصوله وفروعه، وأجلبوا في ذلك بخيلهم ورَجِلهم، وما ذلك إلا لعلمهم بأن الإسلام هو مصدر عزة المسلمين ومنبع قوتهم، لكن العلماء كانوا وما زالوا سدًّا منيعًا أمام هذه الهجمات، ففنَّدوا الشبهات وحرَّروا الردود، ووضعوا القواعد التي يسير عليها من أراد مواجهة أهل الباطل، ومن هذه الجهود هذا الكتاب القيم

تعريف بالمؤلف:

الدكتور مطلق بن جاسر الجاسر من مواليد الكويت، وهو عضو هيئة التدريس في قسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية في كلية الشريعة برتبة أستاذ مشارك في جامعة الكويت، وإمام وخطيب في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة جمعية مرتقى العلمية، له عدة مؤلفات مطبوعة، وتحقيقات علمية على عدد من الكتب، وشارك بعدة مؤتمرات وندوات علمية[1].

التعريف بالكتاب:

يقع الكتاب في ٢٣٧ صفحة، من نشر مركز بينات، وقد صدرت الطبعة الثانية عام ١٤٤٢ه – ٢٠٢١م.

موضوع الكتاب:

يتناول المؤلف الشبهات وبواعثها وأقسامها، ويبين مصادر المعرفة، ثم يعرض المناهج المؤسّسة للشّبهات، ويوضح الأسس التي بنيت عليها الشّبهات، ثم يعرج على الخطوات العمليّة لنقض الشّبهات ضمن خريطة واضحة، وبأسلوب يَسهُل على الجميع فهمُه، ويذكر المؤلف نماذج تطبيقية مختارة من الشُّبهات وكيفية الردود عليها، فكان الكتاب متكاملاً معالجةً وتأصيلاً للشبهات الفكرية المعاصرة بعيدًا عن التعقيد.

لا بد من تصنيف أصحاب الشبهات والتعامل معهم بناء على مناهجهم، فمنهم من يرفض مرجعية الشريعة، وهؤلاء لا يصحُّ الدخول معهم في نقاش حول الفروع قبل تثبيت الأصول. ومنهم من يدَّعي قبول مرجعية الشريعة، وهؤلاء فريقان: مخادعون يكفرون بالشريعة باطنًا مع محافظتهم على رسومِ الإسلام الظاهرة، وصادقون يبحثون عن الحقيقة ويحتاجون إلى من يدلهم على الطريق

نظرة على محتويات الكتاب:

قسَّم المؤلّف كتابه إلى مقدّمة وتمهيد، وستَّة فصول رئيسة، تناول تحتها مسائل البحث، فكانت كالآتي:

  1. الفصل الأول: مقدّمات عن الشّبهات وتضمَّن: تعريف الشّبهات، وتعريف الوسواس، ثم الفرق بين الوساوس والشّبهات، وعلاج وسواس العقيدة، ثم أقسام أصحاب الشّبهات.
  2. أما الفصل الثاني: ذكر فيه تصحيح مصادر المعرفة وهي: الفطرة، والعقل، والحسّ، والتجربة، والخبر.
  3. ثم الفصل الثالث: بين فيه المناهج المؤسِّسة للشّبهات وهي: المنهج السفسطائيّ، ومنهج الغلوّ في العقل، والمنهج العلموي، ومنهج تقسيم المسلمين إلى إسلاميّين وغير إسلاميّين.
  4. وحوى الفصل الرابع على الأسس التي بنيت عليها الشّبهات وهي: الكذب، وخلل الاحتكام المرجعيّ، وفخّ الإجمال، والإسقاط التّاريخيّ، وعدم مراعاة التّطور الدّلاليّ.
  5. أما الفصل الخامس فقد خصَّصهُ للخطوات العمليّة لنقض الشّبهات.
  6. وأخيرًا الفصل السادس ذكر فيه شبهات وردودًا، واختار: مشكلة الشَّر، وتعدّد زوجات النبي ﷺ، وحدّ الرّدّة، وزواج النبي ﷺ من أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والحدود الشّرعيّة قسوة أم رحمة؟
  7. وأنهى المؤلف الكتاب بخاتمة فيها توصيات مفيدة.

وهذه رحلة علمية مع الكتاب.

الفصل الأول: مقدّمات عن الشّبهات

تعريفات مهمة:

  • الشبهة: تلبيس وتحريف للحقائق؛ بأن يؤتى بالباطل فيُلبس لباس الحق لينخدع به الناس.
  • الوسواس: حديث النفس والأفكار، إما من نفسه أو الشيطان، والمسلم لا يؤاخَذ على وساوس النفس والشيطان، ما لم يتكلم بها أو يعمل بها، ولكنَّه مأمورٌ بدفعها.
الفرق بين الوساوس والشّبهات:
  1. الموسوس غير راغب فيما يأتيه من أفكار، وهو يعلم أن الله موجود وأن الدين صحيح، وهذا لا حساب عليه، أما الشاك المتأثر بالشبهات فهو يسمع الشبهة، ويقلّب فِكره فيها بإرادته، فيميل إليها ويحكم عليها بإرادته أنها شبهات منطقية.
  2. الموسوس قد يكون جاهلاً بجواب الشبهة التي أدخلها عليه الوسواس، فيقتنع عقله أول الأمر، ولكن رغم محاولاته طردها، تظل تأتيه بصيغ جديدة، أما الشاك فبمجرد معرفته لجواب الشبهة واقتناعه بها يزول تردده.
علاج وسواس العقيدة:

علاج وسواس العقيدة يتركَّز في التاءات الأربعة، وهي كما يأتي:

  1. تأكيد الإيمان وترسيخه في النفس، والنطق به باللسان.
  2. التطمين: بأن يعتقد الموسوس بأنَّ الوسواس لا يدلُّ على ضعف الإيمان.
  3. التحصين بالتعوُّذ والأذكار.
  4. التشاغُل بممارسة أنشطة وأعمال فيها طاعة لله جل وعلا.
من بواعث الشّبهات:
  • أولاً: عمى الانبهار بالتقدم الغربي.
  • ثانيًا: نزعة التمرد حتى تصل للتمرد على الإله نفسه.
  • ثالثًا: البواعث النفسية تنعكس على المعتقدات والتصورات.
  • رابعًا: الشهوات، وهي بوابة للشبهات، وذلك لأمرين:
  1. أنَّ الإيمان ينقُصُ بالمعصية؛ فيُظلم القلب ويُصبح عرضةً للشبهات..
  2. أن بعض الناس إذا خاضوا لُجّة المعاصي يبقى في قلبهم بصيصٌ من تأنيب الضمير، فيدفعهم إبليس إلى الكفر والعياذ بالله؛ ليتخلصوا من هذا التأنيب بزعمهم!
أقسام أصحاب الشّبهات:

أصحاب الشبهات مختلفون في المناهج والمنطلقات، وهم ينقسمون بشكل مجمل إلى:

  • المنهج الأول: منهج رفض مرجعية الشريعة الإسلامية:

وهم غير المسلمين عمومًا، وتأثيرهم ضعيف على المسلمين لأنّهم كفار. ومن الخطأ الشائع الدخول مع أصحاب هذا المنهج في نقاش حول فروع الشريعة الإسلامية قبل تثبيت أصولها معهم، وهذا خلل واضح لسببين:

  1. أن من هدي النبي ﷺ في الدعوة أولوية العقيدة، وتثبيتها قبل بيان فروعها، كما في حديث معاذ.
  2. مناقشة غير المعترف بمرجعية الشريعة في فرع من فروعها هو نقاش ضائع؛ لأنه غير قائم على مرجعية واحدة.
  • المنهج الثاني: منهج ادعاء قبول مرجعية الشريعة الإسلامية:

وهو الأخطر، وأصحاب هذا المنهج على قسمين:

  1. القسم الأول: المخادعون الذين يكفرون بها باطنًا، ويتنصلُون منها ومن أحكامها، فيبدأ أصحاب هذا المنهج بعملية التفريغ الثقافي، حيث يحافظون على رسومِ الإسلام الظاهرة، ثم يفرّغونه من الداخل، بإثارة الشكوك في أصوله وفروعه.
  2. القسم الثاني: الصادقون في البحث عن الحقيقة، فهؤلاء هم الذين يجب علينا الأخذ بأيديهم.

من المهم عند مقارعة الشبهات وضوح مصادر المعرفة الأربعة، وهي: الفطرة التي تقتضي معرفة الله والإيمان به، والعقل الذي يشمل العلوم الضرورية والبدهيات العقلية المتَّفق عليها بين العقلاء، والحسُّ والتجربة، والخبر الذي يفيد العلم بما هو غائبٌ عن الحواس، وما لا يمكن إدراكه بالعقول

الفصل الثاني: تصحيح مصادر المعرفة

مصادر المعرفة الأساسية أربعة، وهي: الفطرة والعقل والحس والخبر، كما يأتي:

الفطرة:

وهي قوة مودَعة في النفس تُولَد مع الإنسان، وتقتضي معرفة الله وتوحيدَه، وإدراكَ المبادئ العقلية الضرورية، فلو سَلِمَ الطفل من المؤثرات الخارجية التي تحرفه عن فطرته سينشأُ موحدًا مؤمنًا بالله تعالى، كما ثبت في الحديث، وقد أثبت العلم التجريبي صحة الحديث، ففي بحث تحت إشراف أساتذة في جامعة أكسفورد عمل فيه ٥٧ باحثًا، في ٢٠ دولة، على مدار ٣ سنوات، ونُشرت نتائجه سنة ٢٠١١م ثبت فيه أن الأطفال يولدون ولديهم فطرة الإيمان بالله، وبالحياة بعد الموت.

العقل:

كلمة العقل تستعمل للمعاني الآتية:

  • الأول: الغريزة المُدْرِكة في الإنسان، ولا يمكن اعتباره مصدرًا للمعرفة بالمعنى الدقيق، لأنه مجرَّد غريزة وآلة ومن خلالها يمكننا الوصول إلى المعلومات حقًا كانت أم باطلاً.
  • الثاني: العلوم النظرية المكتسبة، وهي من نتائج استعمال آلة العقل، وهذه ليست كلها قطعية، بل أكثرها ظني، قد تكون مخالفة للصواب.
  • الثالث: العمل بمقتضى العلم، فلا يدخل في مصادر المعرفة أصلاً كما هو ظاهر.
  • الرابع: العلوم الضرورية أو البدهيات العقلية المتَّفق عليها بين العقلاء، فالعقل بهذا المعنى مصدرٌ أصيلٌ من مصادر المعرفة في الإسلام. ويدخل في هذا المعنى المبادئ العقلية الأربعة وهي:
  1. مبدأ الهوية؛ يعني أن الشيء يبقى هو هو لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، مثل القلم.
  2. مبدأ عدم التناقض، وهو امتناعُ الجمع بين النقيضين في نفس الوقت.
  3. مبدأ الثالث المرفوع يتلخص في أن القضيتين المتناقضتين إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى، ولا ثالث بينهما.
  4. مبدأ العِلِّية الذي يعني أنَّ كلَّ حادثٍ لا بدَّ له من عِلّة وسببٍ ومُحدِث.

الحسّ والتجربة:

وهو من المصادر المعتبرة للمعرفة، ولكن الإسلام اعتبره دون إفراط ولا تفريط، مع التنبيه على أن الحس محدود لا يُدرك كلَّ شيء.

وهذا يعني خطأ من يَردُّ آيةً من كتاب الله تعالى أو حديثًا من أحاديث النبي ﷺ لمجرّد أنه لم يدرك مدلولها بحواسه! لأنَّ عدم العلم ليس علمًا بالعدم، وهنا يزول الإشكال حول حديث سجود الشمس، وغيره من الأحاديث التي لا يُستدلُّ على مضامينها بالحسِّ البشري المحدود، ويرشد المؤلف إلى الخريطة الجدلية الآتية:

اسأله: هل إدراكك محدود؟ فإن قال: غير محدود، فاترك النقاش معه؛ لأنه لا يقول ذلك عاقل! وإن قال: محدود، قل له: أحسنت وأصبت، ثم قل له: هذا يعني أن الموجودات على نوعين: موجودات ندركها بالحواس، وموجودات لا ندركها بالحواس، فهذا النص الشرعي الذي استنكرته من هذا القسم.

الخبر:

يفيدنا علمًا بما هو غائبٌ عن حواسنا، وبما لا يمكن إدراكه بعقولنا، والمعتبر في الإسلام هو الخبر الصحيح، ويندرج تحت ذلك الوحي الإلهي، وعند أهل الإيمان هو أعلى مصادر المعرفة.

هناك مناهج تؤسِّس للشُّبهات وتُمهِّد لها، يعمِد أصحابها إلى نشرها تلبيسًا على المسلمين، فمنها ما يدَّعي استحالة الوصول إلى الحقيقة واليقين، ومنها ما يعظِّم من شأن الاكتشافات العلمية ويظن أنها تعارض الإيمان، ومنها ما يعمد إلى تقسيم المسلمين وتصنيفهم لتفريق الصف وزرع الفتنة

الفصل الثالث: المناهج المؤسِّسة للشّبهات

تنقسم المناهج المؤسسة للشبهات إلى أربعة مناهج، كما يأتي:

المنهج السفسطائيّ:

يرون أنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة واليقين وأنهما غيرُ موجودَين، وينقسمون إلى ثلاثة أقسام: اللاأدرية، والعنادية، والعندية (نسبة إلى عند)، والجدلية الآتية توضح رد الإمام ابن حزم عليهم: يُقال لهم: قولكم لا حقيقة للأشياء حق أم باطل؟ فإن قالوا: حق، فقد أثبتوا حقيقة ما وناقضوا أنفسهم، وإن قالوا: باطل، فقد أقروا ببطلان قولهم وكفونا المؤنة.

منهج الغلوّ في العقل:

قبل أن نناقش أحدًا من أصحاب هذا المنهج إذا أبدى معارضة العقل للشرع يجب أن نسأله سؤالاً: ما مقصودك بالعقل هنا؟ فإن كنت تقصد بالعقل البدهيات العقلية، فهذا لا يتعارض مع الشرع، أما إن كان المقصود الغريزة المُدركة، فإنه لا تتصور معارضتها للنصوص الشرعية أصلاً، أما إن كان المقصود به العلوم المكتسبة، كالظنون ونحوها، وهذا مقصودهم غالبًا فهذه ليست قطعية، وإنما هي ظنية، فنتائجها ليست حقًا بالضرورة، وبناء على ذلك فلا يمكن معارضتها بنصوص القرآن والسنة لأسباب:

  1. أن هذه العلوم المكتسبة هي نتيجة العقل بمعنى الغريزة المدركة، فالعقل لا يمكنه إدراك كل شيء.
  2. أن العلوم المكتسبة الناتجة عن آلة العقل من المحتمل جدًا أن تكون مغلوطةً مُضلَّلة؛ لأنَّ آلة العقل قابلةٌ للخداع.
  3. هناك قاعدة عقلية مهمة تنصُّ على أنَّ عدم العلم ليس علمًا بالعدم، أي أنَّ عدمَ علمِنا بالحقائق لا ينفي ثُبوتها في نفسها.

المنهج العِلمويّ:

يرى أصحاب هذا المنهج أنَّ العلم التجريبي يمكنه أن يُحقِّق كلَّ ما يحتاجه الإنسان، وبأنَّه لا طريق للمعرفة إلا بالعلم التجريبي فقط، فهذا المنهج يُلغي الخبر من مصادر المعرفة، كما أنه يُلغي الفطرة، ويُلغي العقل كذلك من مصادر المعرفة، ولا يؤمن إلا بما يُرى ويُحَسُّ ويُشاهَد.

  • أسباب ظهور النزعة العلموية:
  1. الاكتشافات العلمية المبهرة.
  2. المضايقة التاريخية للكنيسة للعلماء والمكتشفين والمخترعين.
  3. التحالف بين ملوك أوروبا مع الكنيسة، فأصبحت الكنيسة تبرر لهؤلاء الملوك أفعالهم.
  • الإشكالات الفكرية في المنهج العلموي:
    • أولاً: توهم البشر أنهم أصبحوا في غنًى عن الله جلَّ وعلا.
    • ثانيًا: اعتقاد أنَّ الناس قديمًا آمنوا بالإله لأنهم لم يعرفوا تفسير حركة الكون.
    • ثالثًا: اعتبار العلم أمرًا مغايرًا للدين لا يمكن أن يلتقي معه، ولكن الإسلام كما هو معلوم لا يتعارض مع العلوم التجريبية، والإسلام يحثُّ على العلم والتقدّم، والمسلمون هم مَن صدّروا العلوم التجريبية إلى الغرب الأوروبي.
      • الأدلة على بطلان المنهج العلموي:
      • صحة المنهج العلموي مجرَّد ادِّعاء، والادِّعاء لا يثبُت إلا ببرهان.
      • المنهج العلموي عاجزٌ عن إثبات المستحيلات، لأنه يقوم على إثبات الوجود لا إثبات العدم، وذلك مرجعه إلى العقل.
      • يحصر مصادر المعرفة في مصدر واحد، وهذا فيه تضييق وحرمان من آفاق واسعة من المعرفة، التي يمكننا الحصول عليها من العقل أو الخبر.
      • لا يمكن أن يقوم المنهج العلموي التجريبي إلا على القواعد العقلية.
      • المنهج العلموي عاجز عن توحيد معيار الأخلاق.

وبالتالي ظهر بذلك بطلان هذا المنهج.

  • منهج تقسيم المسلمين إلى إسلاميّين وغير إسلاميّين:

لم يعرف المسلمون مصطلح الإسلاميين بالمعنى المعاصر منذ عهد النبي ﷺ إلى منتصف القرن الماضي تقريبًا حيث كتب الباحثون الغربيون فيه عدة مقالات تُرسِّخ هذا التفريق، ولهذا التقسيم سلبيات، منها:

  1. أنه أمر مُحدَث مُبتدَع.
  2. يفتح الباب لأعداء الإسلام في محاربة الدين تحت ستار محاربة الإسلاميين الراديكاليين.
  3. توهُّم أن الإسلامي هو الوحيد المسؤول عن تحكيم شرع الله في أرض الله، وأن المسلم لا يهمُّه ذلك.
  4. جعلوا لكل فئة دينًا خاصًّا بها.

من الانحرافات المنهجية في المسائل العلمية والفكرية: الخلل المرجعي من خلال الاحتكام إلى رأي أغلبية الناس، بدلاً من الاحتكام إلى العقل أو إلى سلطةٍ ما، سواء كانت عِلميةً أو غيرَها، ومن أشهر الأخطاء التي تقع في هذا الباب الاحتكام إلى الثقافة العالمية السائدة، فأصبحت هي المرجع الأول على الفكر والأشخاص، فالمسلم الجيد هو المقلِّد للغرب، وأما السيِّء فهو من يُناهض التغريب والعولمة المعاصرة!

الفصل الرابع: الأسس التي بنيت عليها الشّبهات

في هذا الفصل يوضح المؤلف الأسس التي تدور حولها الشّبهات، وهي كالآتي:

الكذب:

يقوم على مغالطة منطقية شهيرة، تسمى مغالطة رجل القش، وهي: أن يقوم طرفٌ ما بإعادة عرض حُجَّة الطرف الآخر، ولكن بعد استبدالها أو تحريفها أو تشويهها إلى صورةٍ أخرى أضعف من صورتها الأصلية التي قالها صاحبها، وذلك حتى يتمكن من مهاجمتها بسهولة بدلاً من مهاجمة الحُجة الأصلية!

وهذه المغالطة تعتمد على البهتان، وهذه هي الصفة السائدة في الإعلام الذي يُثير الشُّبُهات حول الإسلام، ولم تقتصر حملات الكذب على الغوامض والمسائل الدقيقة، بل تعدّت إلى الأمور الواضحة الجلية المشاهَدة، وهذا الأمر ليس جديدًا؛ بل هو قديم يعود إلى عهد النبي ﷺ؛ فقد اتُّهم بأبشع الاتهامات، ومن أشهر الأكاذيب التي أُلصقت بالإسلام والمسلمين في هذا العصر: كذبة الإرهاب، وهو ما أنشأ صورًا مختلطة بعيدةً كلَّ البعد عن الواقع الحقيقي نجدُها في المجتمعات الغربية.

خلل الاحتكام المرجعيّ:

ويعني الاحتكام في تحسين شيء أو تقبيحه، إلى مرجعية خاطئة، والإلزام بما لا يلزم!

ومن ذلك أن بعض المشككين يحتكمون إلى أغلبية الناس، بدلاً من الاحتكام إلى العقل أو إلى سلطةٍ ما، سواء كانت عِلميةً أو غيرَها، ومن أشهر الأخطاء التي تقع في هذا الباب احتكام الناس إلى الثقافة العالمية السائدة، فأصبحت هي المرجع الأول للحكم على الفكر والأشخاص، وأصبح المسلم الجيد هو المقلِّد للغرب، الذي يدعم السياسات الغربية ولا يقف في وجهها، وأما السيِّء فهو من يُناهض التغريب والعولمة المعاصرة، ويُهدد المصالح الغربية!

فخّ الإجمال:

ويعني استعمال ألفاظ تحتوي على معانٍ صحيحة ومعانٍ باطلة، واعتبار هذه الألفاظ كأنّها حقيقةٌ مطلقة، ومن أمثلة ذلك رفع شعار المساواة، والاعتراض على قول الله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: ١١] بأنَّها خطأ؛ لأنَّها مُخالِفة للمساواة، وهنا المغالطة، فإنَّ المساواةَ لفظٌ مُجمل، فيه حقٌّ وفيه باطل، بل المساواة تكون في بعض الأحيان ظلمًا، ومن أشهر الكلمات المجملة، والتي مُررت من خلالها العديد من الشبهات، كلمة الحرية، وهذه الكلمة تحتوي على حقٍّ وباطل.

الإسقاط التّاريخيّ:

ويعني إسقاط الواقع المعاصر المعيش على الوقائع التاريخية، فيفسرونها في ضوء خبراتهم وما يعرفونه من واقع حياتهم ومجتمعاتهم، والشبهات المبنية على هذا الأساس اعتمدت على مغالطة منطقية، وهي مغالطة: عدم الاكتراث بالسياق، وأغلب الشبهات المبنية على هذا الأساس هي الشبهات المتعلقة بالسيرة النبوية.

عدم مراعاة التّطور الدّلاليّ:

قد تكون الكلمة في زمن من الأزمان دالةً على معنًى ما، فلا تزال دلالتُها تتغيَّر حتى يأتي عليها زمنٌ تكون فيه دالةً على معنى مُغاير تمامًا، مثل لفظة (الجُرثومة)، ومعناها الأصلي: أصلُ الشيء، وهي الآن اصطلاحٌ طبي يدل على الكائنات الميكروبية الدقيقة بعد تطورها الدلالي.

من أراد أن ينقض شبهةً فعليه أن يُفكّكها أولاً إلى أجزاء، بحيث يتميَّز الباطل عن غيره، ثم يفنّد ما فيها من باطل دون ما فيها من حقّ، وينظر: هل فيها كلمةٌ مجملةٌ تحتمل أكثرَ من معنى تحتاج إلى بيان فيبيّنه، وهل فيها سياق تاريخي معين يؤثر في النظر فيراعيه، وهل فيها كلمة حصل لها تطور دلالي فيقفَ عليه

الفصل الخامس: الخطوات العمليّة لنقض الشّبهات

لا بدَّ من التنبيه على أمرٍ منهجيٍّ وهو ضرورةُ الإعراض عن الشبهات، فالسلامة لا يَعدِلها شيء، أما الخطوات العملية فهي كالآتي:

  • الخطوة الأولى: تفكيك الشبهة وتحليل أجزائها: فمن يريد أن ينقض شبهةً فعليه أن يُفكّكها أولاً إلى أجزاء، بحيث يتميَّز الباطل عن غيره، ثم يفنّدها، ثم ينظر: هل فيها كلمة مجملة تحتاج بيانًا فيبينه، وهل فيها سياق تاريخي معين يؤثر في النظر إليها فيراعيه، وهل فيها كلمة حصل لها تطور دلالي فيقف عليه.
  • الخطوة الثانية: التثبت من صحة النقل.
  • الخطوة الثالثة: طلب الدليل الصحيح.

الفصل السادس: شبهات وردود

ختم المؤلف هذا الكتاب بفصلٍ تناول فيه عددًا من الشبهات الفكرية المنتشرة والردَّ عليها، وبين ذلك لهدفين:

  • الأول: توضيح مضامين الكتاب، من خلال التطبيق العملي، فبالمثال يتضح المقال.
  • الثاني: الإسهام في كشف ونقض هذه الشبهات.

 

  • الشبهة الأولى: مشكلة الشّرّ:

وهو موضوع وجود الشرِّ في هذا الكون، وحتى تُنقض هذه الشبهة لا بدَّ أن نسير على الخطوات السابقة.

  1. تفكيك الشبهة:
    • المقدمة الصغرى: يوجد شر في الكون.
    • المقدمة الكبرى: لا يستقيم وجود إله كامل القدرة مع وجود الشر.
    • النتيجة: اختلفت من ملة إلى ملة.

اختلف الناس في نتيجة هاتين المقدّمتين اختلافًا كبيرًا؛ فمنهم من نفى وجود الإله، ومنهم من اعتقد وجود إلهٍ للخير وإلهٍ للشر، ومنهم من نفى خلقَ الإله لأفعال العباد.

  1. التثبت من صحة النقل: إذا نظرنا هنا إلى المقدمة الصغرى نجدها ليست دقيقة، فإنه لا يوجد في الكون شرٌّ محضٌ من كلِّ الوجوه.
  2. طلب الدليل الصحيح: فنقول: لا دليل على المقدّمة الكبرى التي ذكرتموها. إذن: لماذا وجد الشر في هذا الكون؟

وللجواب يجب استيعاب الأصول الآتية:

الأول: أنَّ الله عدلٌ حكيمٌ لا يظلم أحدًا، والثاني: سَعَةُ عِلم الله ومحدوديةُ عِلم البشر، والثالث: أننا مملوكون لله جل وعلا فهو خالقنا، والرابع: أن نعلم أنَّ الدنيا ممرٌّ لا مقرّ، والخامس: أنَّ الحياة ومحاسنَها لا يمكن أن تظهر بدون شرّ، والسادس: لا وجود لحرية اختيار الإنسان بدون شرّ، والسابع: وجودُنا في هذه الحياة للابتلاء والاختبار.

 

  • الشبهة الثانية: تعدّد زوجات النبي ﷺ:

أصلُ هذا الاستشكال مأخوذٌ من المستشرقين الطاعنين في النبي ﷺ.

  1. تفكيك الشبهة:
    • المقدمة الصغرى: النبي ﷺ تزوج عددًا كبيرًا من النساء، وهذا صحيح.
    • المقدمة الكبرى: الذي يتزوج عددًا كبيرًا من النساء رجل سيء، وهذا يحتاج دليلاً.
    • النتيجة: النبي ﷺ رجل سيء وحاشاه، وهذا باطل.
  2. التثبُّت من صحة النقل: النقل ثابتٌ في الشرع.
  3. طلب الدليل: نقول لصاحب الشبهة إنه لا يُسلّم أنَّ الذي يتزوَّجُ عددًا كبيرًا من النساء يعدُّ سيئًا، والنبي لم يتزوَّج هذا العدد لمجرَّد التكثّر من النساء، ويدلُّ على ذلك عدَّة أمور:
    • أولاً: أنَّ النبي ﷺ عاش خمسًا وعشرين سنة في أول حياته في غاية العِفَّة.
    • ثانيًا: استمرَّ مع خديجة رضي الله عنها ولم يتزوج عليها مع قُدرته حتى ماتت.
    • ثالثًا: أول من تزوج بعد خديجة هي سودة بنت زمعة، وكانت امرأةً كبيرة.
    • رابعًا: لم يتزوَّج بكرًا قط إلا عائشة رغم أن قريشًا قد عَرَضت عليه أجمل الفتيات.

إذا تقرر ما سبق تبين بطلان هذه الشبهة، وقد تزوج النبي ﷺ لحكم كثيرة يضيق المقام عن ذكرها.

 

  • الشبهة الثالثة: حدّ الرّدّة:
  1. تفكيك الشبهة:
    • المقدمة الصغرى: يوجد حدُّ ردَّةٍ في الإسلام، وهذا صحيح.
    • المقدمة الكبرى: وجود عقوبة إعدام لترك معتقدٍ ما أمر خاطئ، هذا يحتاج دليلاً.
    • النتيجة: الإسلام فيه خطأ! وهذا باطل.
  2. التثبت من صحة النقل: النقل ثابتٌ في الشرع.
  3. طلب الدليل: الدليل هو المعايير الغربية.

الجواب: لا إلزامية لهذه المعايير الوضعية علينا، وخاصة أنه قد فرضت عقوبات الإعدام في الدول الغربية على الخيانة العظمى.

 

  • الشبهة الرابعة: زواج النبي ﷺ من أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
  1. تفكيك الشبهة:
    1. المقدمة الصغرى: النبي ﷺ تزوَّج عائشة وهي صغيرة، وهذا صحيح.
    2. المقدمة الكبرى: زواج الرجل من بنتٍ صغيرةٍ خطأ، وهذا يحتاج دليلاً.
    3. النتيجة: النبي ﷺ مخطئ! وحاشاه، وهذا باطل.
  2. التثبت من صحة النقل: النقل صحيح.
  3. طلب الدليل: ولا دليل على مخالفة هذا الفعل للشرع أو العرف أو العقل أو الناحية الصحية؛ فلا مخالفة شرعية في الأمر لأنَّ النبي ﷺ هو مبلّغ الشريعة، ولا مخالفة عقلية لأنَّه لم يخالف شيئًا من البدهيات، ولا مخالفة عرفية لأنَّ العُرف كان يجيز هذا الزواج، ولا صحية لأن البنت إذا بلغت وصارت مستعدة للزواج فلا إشكال في زواجها.

 

  • الشبهة الخامسة: الحدود الشّرعيّة قسوة أم رحمة؟
    1. تفكيك الشبهة:
      • المقدمة الصغرى: يوجد حدود وعقوبات شديدة في الإسلام، هذا يحتاج إثباتًا!
      • المقدمة الكبرى: العقوبات الشديدة خطأ، وهذا يحتاج دليلاً!
      • النتيجة: الإسلام فيه خطأ! وهذا باطل.
    2. التثبت من صحة النقل: نعم هناك حدود في الإسلام، لكن الحكم عليها بالشدة هو حكم سطحي، لأننا إذا نظرنا نظرة شمولية في مصلحة المجتمع والفرد فلن يُحكم عليها بالشدة، ولعلمنا أنها جاءت للمحافظة على الضروريات الخمس، فلحفظ الدين شُرع حدُّ الردة، ولحفظ النفس شُرع القصاص، ولحفظ العقل شُرع حدُّ شُرب الخمر، ولحفظ العرض والنسل شُرع حدُّ الزنى وحدُّ القذف، ولحفظ المال شُرع حدُّ السرقة.

فلن تكون المجتمعات صالحة ما لم تحافظ على هذه الضروريات الخمس، فهناك مسافة كبيرة بين فعل المعصية وإيقاع العقوبة، وهناك واد كبير قبل أن يُقام الحد على الإنسان، وبيان ذلك على النحو الآتي:

  • قبل المعصية: يسبق فعل المعصية تدابير تحول دون فعلها، مثل:
  1. سد الذرائع.
  2. تيسير الحلال المغني عن الحرام.
  • بعد فعل المعصية: إذا كان العاصي مضطرًا فلا حد عليه، والجاهل لا يقام عليه الحد، وإذا فعل المعصية سرًّا فإنه يؤمر بالتوبة ما لم تصل للحاكم، وإثبات المعصية ليس أمرًا سهلاً، بل دونه شروط وضوابط، ولو تراجع المقِرُّ بعد إقراره لا يُقام عليه الحد، وإذا لم يكن مضطرًا ولا جاهلاً ووصل الأمر إلى الحاكم وأثبتت المعصية بالإقرار أو بالشهود والأدلة ولم يتراجع أقيم عليه الحد.
  • بعد إقامة الحد: يُغفر ذنبه ولا يجوز سبّه ولا تعييره.

بعد بيان هذه الخطوات تبين بطلان المقدمة الصغرى، وهي أن الحدود الشرعية شديدة، بل تبين أن الرحمة تسبقها وتلحقها.

من صور الاعتزاز بالإسلام ألا يكون المسلم دائمًا في حالة دفاع، متلقٍ للضربات، رادٍ عن الشبهات فقط، بل عليه أن يكون مهاجمًا للباطل منقضًّا عليه

الخاتمة

وفي ختام الكتاب يوصي المؤلف ببعض الوصايا من أجل الفاعلية في نصرة الدين والذبِّ عن شريعة ربِّ العالمين كما يأتي:

  • أولاً: كن واعيًا:

فالوعي هو السلاح الماضي في الحاضر والماضي، ونستعمل هنا مصطلح الوعي عوضًا عن: المعرفة أو العلم؛ لأنَّ الوعي أوسع دلالة وأرحب معنى، فالوعي ليس أن تعرف الحق فحسب، بل الوعي أن تعرف الباطل كذلك، وأن تعرف كيف تواجهُه، وأن تعرف التاريخ، وتعرف كيف تستفيد منه، وأن تعرف الحياة وتعرف كيف تعيشها، فالوعيُ أكبر من مجرَّد معلوماتٍ مُكدَّسة، ومن الوعي أن تملك العقل الناقد الفاحص الذي لا يمكن استغفاله، ولا الاستخفاف به.

  • ثانيًا: كن معتزًا بدينك:

مفتخرًا بأنَّك عبدٌ لله تعالى تابعٌ ومصدِّقٌ برسوله ﷺ، ولا تخجل من كونك مسلمًا، ولا تخجل من إيمانك بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًا ورسولاً، ومن صور هذا الاعتزاز: ألا يكونَ المسلم دائمًا في حالة دفاعٍ عن نفسه، متلقيًا للضربات، يكتفي بردِّ الشبهات فقط، بل عليه أن يكون مُهاجمًا للباطل منقضًّا عليه، ومهما كان الإنسان قويًا، فإنه إذا ارتضى لنفسه أن يكون في قفص الاتهام، وفي حالة دفاعٍ مستمّر، فإنه يُرى ضعيفًا لا محالة، ويتجرَّأ عليه المتجرِّئون.

ويجدر بالتنبيه أن الدفاع عن الدين ليس خطأ أبدًا، لكن الاكتفاء بموقف الدفاع هو الخطأ.

  • ثالثًا: إذا كنت ذا همّة في السؤال فكن ذا همّة في التعلم:

إذا كنت دائمًا سؤولاً، وكنت عن طلب العلم كسولاً فإنَّ سؤالاتك ستكون وبالاً عليك، وستفتح أبوب الشُّبُهات لتنهال بين يديك.

  • رابعًا: قوة المنطق خير من منطق القوة:

عليك بأدب الحوار وحسن المحاججة والنقاش، ودعْ عنك التشغيبَ ورفعَ الصوت، فإنَّ صاحبَ الحُجَّة الدامغة لا يحتاج إلى أكثر من إبدائها بوضوحٍ، والتزامٍ بآداب الحوار.


أ. عبد الرزاق ميزة نازي

ماجستير في الفقه وأصوله، مدير مركز تاج لتعليم القرآن الكريم في الريحانية.


[1] ينظر موقع الكاتب الرسمي على الشبكة العنكبوتية.

ماجستير في الفقه وأصوله، مدير مركز تاج لتعليم القرآن الكريم في الريحانية.
X