دعوة

دور المرأة المسلمة في تعزيز السلوك الإيجابي عند الرجل

للمرأة دورٌ كبيرٌ ومؤثِّرٌ في حياة الأمة، فهي شريكة الرجل ونصيرته في دروب الحياة، فكم مِن نساءٍ أخرجن للأمة على مرِّ العصور قادةً وأعلامًا كبارًا، أو كنَّ خلف ذلك، ومِن هنا كان لا بدَّ لنا أن نتعرَّف كيف ترتقي المرأة بمستوى علاقتها بالرجل لتكون له خير داعم وسند ومعين؛ زوجةً كانت أو أمًا أو أختًا

كثيرًا ما نسمع ونردِّد مقولة: «وراء كلّ رجل عظيم امرأة»، هذه المقولة التي تحمل في فحواها معنىً عظيمًا لحاجة الرجل العظيم إلى امرأة عظيمة تعينه على نوائب الدنيا، وتقوّي قلبه على الحقّ، ويكون لها أثرٌ إيجابيٌ في تحقيق نجاحاته.

ولقد كان للمرأة المسلمة حظٌ وافرٌ من التأثير الإيجابي الطيب في حياة أولئك العظماء، والمتصفّح لسيرة رسول الله ﷺ وهو عظيم الأمة، ولسيرة أعلامها، يجد نماذجَ رائعة للدور الإيجابي الذي قامت به المرأة المسلمة لتعزيز أنماط السلوك الإيجابي عند الرجل، بدءًا من أمهات المؤمنين زوجات رسول الله ﷺ، ومرورًا بنساء أصحابه رضي الله عنه والمسلمين عمومًا.

فالمرأة في نظر الإسلام هي مساعدة وشريكة ورفيقة الرجل في دروب الحياة، تساهم في تخفيف الضغط والتوتر عنه، وتهيئ البيئة اللازمة له كي يفكّر في مهمات الأمور تفكيرًا سليمًا، بل تكون شريكته وصاحبة مشورة معه في حلّ مشاكله، واتخاذ القرارات المهمة المتعلقة بعمله وأسرته، فوظيفتها لا تقتصر على إشباع حاجاته الجسدية، بل هي خير داعم له في تقديم المشورة والنصح، وبهذا تثبت المرأة دورها الفعال كزوجة ناصحة محبّة، تعيش هموم زوجها وتشاركه المشورة في حلها.

ولا أدلّ على ذلك من هذين الموقفين لأمهات المؤمنين في مؤازرتهنّ لرسول الله ﷺ، والوقوف بجانبه معزّزات محفزات له في معضلات تعرّضَ لها، فكنّ خير مرشد ومساند.

إنَّ المتصفّح لسيرة رسول الله ﷺ وهو عظيم الأمة، ولسيرة أعلامها، يجد نماذجَ رائعة للدور الإيجابي الذي قامت به المرأة المسلمة لتعزيز أنماط السلوك الإيجابي عند الرجل

الموقف الأول: موقف السيدة خديجة رضي الله عنها من بعثته ﷺ:

كان للسيدة خديجة ~ دورٌ بارزٌ في دعم رسول الله ﷺ في دعوته، وتأييده في أشد أوقات حياته، وتثبيت قلبه على الحق، وإعانته على أمور الدعوة وأعباء الرسالة التي كُلِّف بها، فكانت أول من آمن به وصدّقه، وجنّدت نفسها ومالها وحسبها في سبيل نصرته ودعمه، وذلك حين نزل الوحي عليه ﷺ في غار حراء لأول مرة، فرجع إلى خديجة رضي الله عنها فأخبرها الخبر، وقال: (لقد خشيت على نفسي)، فقالت له : «كلا والله.. ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصلُ الرحم، وتصدُقُ الحديث، وتحمِل الكلّ، وتُكسِب المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق»[1]. ولذلك استحقّت أن يَذكرها دائمًا بخير حتى بعد وفاتها، ويبيّن أثرها الإيجابي في نفسه وعلى دعوته، فيذكرها يومًا أمام عائشة رضي الله عنها، فتثور غيرة النساء في قلبها لكثرة ذكره لها، فتقول له: «هل كانت إلا عجوزًا قد أبدلك الله خيرًا منها؟»، فيغضب ويقول ذاكرًا فضلها فيما دعمته به: (ما أبدلني الله خيرًا منها، لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء)[2].

الموقف الثاني: موقف السيدة أم سلمة رضي الله عنها في صلح الحديبية:

تقف السيدة أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها خلف عظيم الأمة ﷺ، داعمة له، ومشيرة عليه في حلّ معضلة ألَـمّت به، فتعزز موقفه، وتخرجه من ضائقته، وذلك يوم الحديبية حيث دخل خيمتها حزينًا بعد أن عقد صلحًا مع مشركي قريش، يُلزم المسلمين الذين أتوا معتمرين لبيت الله الحرام بالعودة دون أداء المناسك على أن يعودوا العام المقبل، فتسأله عن سبب حزنه فيخبرها أنّه أمر أصحابه بالتحلل من الإحرام وفقًا للشرط، لكنّ أحدًا من الصحابة لم يلتزم أمره، حيث منعهم الذهول والحزن من الاستجابة، وهنا ما كان من هذه المرأة العظيمة إلا أن تنقذ الموقف بمشورة قدّمتها للنبي ﷺ، إذ قالت له: «يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بُدنَك، ‌وتدعو ‌حالقك ‌فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا»[3].

عززت السيدة أم سلمة رضي الله عنها هنا مبدءًا مهمًّا من مبادئ الأسرة والدولة وهو مبدأ الشورى، وحسمت مشورتُها أمرًا جللاً على مستوى الدولة، ومسحت بهذه المشورة ألـمًا أحاط بقلب زوجها، فأسكنت غضبه وأزالت ألمه.

الدور المطلوب:

في هذين الموقفين درس عظيم لكل امرأة أن ترتقي بمستوى علاقتها بالرجل زوجة كانت أو أمًا أو أختًا إلى مستوى المحاكاة الفكرية والعقلية له، وما أحوج الرجل في ظل ظروف الحياة الصعبة التي يعيشها العالم هذه الأيام إلى المرأة التي تشاركه هموم الحياة، وتكون له نعم السند في الشدائد والملمّات، فهو محتاج إلى المرأة الذكية القادرة على القيام بأدوار متعدّدة في حياته، فتكون تارة صديقة تشاركه مشاكله وطموحاته، وتكون تارة أخرى القلب الحنون الذي يأوي إليه ليبثّ همومه وأحزانه، وتكون في أخرى الفكر الحازم الذي يسانده بمشوراته وأفكاره.

وليس في هذا إخراج للمرأة عن أنوثتها، أو تحميل لها بما هو فوق طاقتها، بل إفهامها بدورها الأساسي في بناء الأسرة ومساندة الزوج، لتكون امرأة ذات قيمة وهدف. كما أنّه لا يعني أبدًا أن تمارس دور زوجها؛ فتصبح امرأة متمرّدة على أوامر وحقوق زوجها بدعوى تحملها للمسؤوليات، فهذا تسلّط مقيت يتنافى مع صلاحيات المرأة، ومع دعم مشورتها، بل الإنصاف يعني تحمّل كل من الطرفين لمسؤولياته مع مساندة ومؤازرة الطرف الآخر له.

والمطلوب هنا ليس أن تتحوَّل الزوجة إلى عالمةٍ أو خبيرةٍ بعمل زوجها، فقد لا يتأتّى ذلك إلا للنادر من النساء، لكن المؤمَّل منها أن تعطي جزءًا من اهتمامها لزوجها، وأن تُشعره بملاحظتها لتعكُّر مزاجه وقلقه عندما تغلق السبل في وجهه، فتفتح له قلبها وتصغي له بأذنها وعقلها، وهي الخبيرة به وشريكته في حياته بحلوها ومرها، وستجد بلا ريب شيئًا تقترحه عليه كما فعلت أم سلمة رضي الله عنها، أو يخطر ببالها خبيرٌ من قومها تستشيره كما فعلت خديجة رضي الله عنها، وإذا تركته يسترسل في وصف ما يواجهه من هموم ومصاعب مصغيةً مهتمةً فهذا وحده معينٌ له على تقليب أفكاره وعودته لرشده، فكيف إذا جمعت إلى ذلك عبارات تهدئ من روعه وتسلِّيه، وتعيد له ثقته بنفسه، وعزمه على إعادة التجربة والمحاولة.

أن ترتقي المرأة بمستوى علاقتها بالرجل ليس إخراجًا لها عن أنوثتها، أو تحميلاً لها بما هو فوق طاقتها، بل هو من صلب دورها الأساسي في بناء الأسرة ومساندة الزوج، لتكون امرأةً ذات رسالةٍ وهدف

ليست الزوجة فقط:

دور المرأة في تعزيز سلوك الرجل لا يقتصر على الزوجة، بل هو دور ينبغي أن تمارسه الأم أيضًا مع أولادها، فتربّيهم التربية الصالحة، وتوجّههم التوجيه السليم، وتعلمهم كيف يتخذون قراراتهم، ويواجهون مصاعب الحياة، لتعزّز فيهم أنماط السلوك الإيجابية، والتي تمارس دورًا كبيرًا في بنائهم ليكونوا عظماء في المستقبل.

وتاريخنا الإسلامي مليء بنماذج مشرّفة لأمهات صنعن من أبنائهن عظماء رغم يتمهم وضيق الحال الذي عاشوه، لكن استطاعت تلك العظيمات تعزيز جوانب الخير والتألّق في أولادهن، فأخرجنَ لنا عظماء حملوا همّ أمة بدل حمل همّ لقمة العيش.

لقد كان لأمّ الإمام الشافعي أكبر الأثر في تعزيز وتوجيه أنماط السلوك عنده، حتى نشأ نشأة صلاح وعلم، رغم يتمه وفقره، حيث انتقلت به بعد وفاة أبيه من غزّة إلى مكة حفاظًا على نسبه الشريف، وليتربّى بين أهل العلم والسلف الصالح، فصنعت منه إمامًا من أئمة المسلمين، يتبع آراءَه الفقهية اليوم الملايين في العالم.

 وكذلك فعلت أمُّ الإمام أحمد بن حنبل، فقد قال: «لم أرَ جدي ولا أبي»، والمعروف أن أباه مات بعد ولادته، ولا بد أنَّ ذلك كان وهو صغير لا يعي ولا يدرك شيئًا، ولقد قامت أمه بتربيته، فأحسنت في ذلك أيما إحسان، حتى قال بعض الآباء: «أنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدَّبوا فما أراهم يُفلحون، وهذا أحمد بن حنبل ‌غلامٌ ‌يتيم، ‌انظر ‌كيف ‌يخرج! ‌وجعل ‌يعجب»[4].

المرأة العالمة:

وإدراك المرأة لدورها كزوجة ناصحة وأمّ مربّية، لا ينبغي أبدًا أن يثنيها عن دورها كمثقّفة وداعية وعالمة في مجال اهتمامها، فتمارس دورًا رائدًا جنبًا إلى جنب مع الرجل في وضع بصمتها العلمية في خدمة الأمة رجالاً ونساءً معزّزة أنماطًا من السلوك القويم في نشر العلم والخير والفضيلة، والمتصفّح لدور المرأة المسلمة في نشر العلم عبر تاريخنا الإسلامي يَجدُ العجب العجاب، في الدور البارز للمرأة في نشر العلم والتمكّن منه، لدرجة أن يتلقّى عنها كبار رجالات الأمة فيأخذون عنها العلم، وتكون خير معزّز لهم في حمل العلم ونشره.

تروي لنا كتب الأعلام عن المحدّثة أُنس بنت عبد الكريم اللخمية (المولودة سنة 780 للهجرة) وزوجة الإمام ابن حجر العسقلاني أنّها أخذت العلم برعاية زوجها عن مشايخ من مصر والشام ومكة واليمن، وقرأ عليها الإمام السخاوي أربعين حديثًا نبويًا عن أربعين شيخًا بحضور زوجها، وهل يكون الدعم بأكثر من هذا؟!

ولابن حجر أختٌ أكبر منه بثلاث سنوات اسمها «ست الرَّكب» كانت قارئة وكاتبة قال عنها ابن حجر: «فلقد انتفعت بها وبآدابها مع صغر سنها»[5].

والفقيهة الحنفية فاطمة بنت علاء الدين السمرقندي زوجة الإمام الكاساني صاحب كتاب بدائع الصنائع في الفقه الحنفي، كانت -ولشدّة إتقانها للمذهب- قد حازت ثقة والدها الفقيه الحنفي، وأهل بلدها، حتى تصدّرت معه للإفتاء، فكان لا يُخرج صكَّ فتوى من بيته إلا مذيَّلاً بتوقيعها مع توقيعه. وكان زوجها الكاساني يستشيرها في الفتوى ويعمل بقولها، بل وربما يهمُّ في الفتوى فتردّه إلى الصواب، وتعرّفه وجه الخطأ فيرجع إلى قولها[6]، وكان صلاح الدين الأيوبي يستشيرها في بعض أمور الدولة، ويسألها في بعض المسائل الفقهية.

والأمثلة في هذا الموضوع كثيرة، سُقت بعضها لأدلّل على دور المرأة المسلمة في تعزيز الموقف الإيجابي عند الرجل، بل صناعة العظماء والنبلاء، فالمسلمون بعضهم أولياء بعض، يؤيّد بعضهم بعضًا، ويدعم بعضهم بعضًا، رجالاً ونساءً.

دور المرأة في تعزيز سلوك الرجل لا يقتصر على الزوجة، بل هو دور ينبغي أن تمارسه الأم أيضًا مع أولادها، وتاريخنا الإسلامي مليء بنماذج مشرّفة لأمهات صنعن من أبنائهن عظماء رغم يتمهم وضيق الحال الذي عاشوه

كيف تقترب نساؤنا من هذه الأدوار السامقة:

وهذه الأدوار بحاجة لإيمان عميق من النساء بالأجور العظيمة المترتبة عليها، فالتي لا ترى فائدة في تنشئة أولادها على العلم والأدب ستفضل النوم على مشقة إيقاظها وتهيئتها لهم لحضور صفوف العلم والدرس، وكذلك التي ترى في زوجها منغصًا لسعادتها وتسليتها أو عائقًا أمام عملها خارج البيت لن تبذل له من وقتها لتستمع لما يواجهه من صعوبات أو هموم فضلاً عن أن تسهم في حلها أو مواساته فيها.

وفوق ذلك لا بد أن تعي النساء أهمية دورهن المؤثر والكبير في حياة الأمة، وأن نساء وجد فيهن هذا الوعي خرجن للأمة أعلامًا كبارًا في كل العصور، فهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، وبالرغم من وجود أبيه، ولحُسن عناية أمه به ذكر لها أنه يريد أن يذهب فيكتب العلم، فألبسته أحسن الثياب وعمَّمته، ثم قالت: «اذهب فاكتب الآن»، وكانت تقول: «اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه»[7]، فماذا كانت النتيجة؟ لا شك أن لها نصيبًا من الأجر في كل علم استفيد من مالك إلى يوم الدين، وهل هناك تحقيق للذات أشرف وأعظم من هذا؟!

الرجل خلق ليعمل ويكسب وينفق على أسرته ويرعاهم من المخاطر، والمرأة خُلقت من ضلع الرجل لتكمله وتحنو عليه وترعاه وترعى أولادها حتى تقر عينها بصلاحهم واستقامتهم، ولا يعكر على هذا تمكن بعض النساء من العمل والحضور خارج البيت، لكننا نتحدث عن الأغلب الأعم.

لا بد أن تعي النساء أهمية دورهن المؤثر والكبير في حياة الأمة، وأن نساء وجد فيهن هذا الوعي خرجن للأمة أعلامًا كبارًا في كل العصور

فإذا توفر الإيمان وإدراك شرف دور المرأة مع زوجها وأولادها والوعي بطبيعة الأدوار وأهمية كل منها، استقامت الحياة وأدى كل منهما أفضل ما عنده راضيًا قانعًا متلذذًا محتسبًا يقدم ما يستطيعه، وعينه على ما سيلقاه من الأجر والثواب يوم الجزاء والحساب.

وختامًا:

في كلّ ما سبق بيانٌ لأهمية الدور الذي يجب أن تمارسه المرأة المسلمة زوجة وأمًّا وأختًا وعالمة وفقيهة وأديبة، ولا ترضى أن تحجّم نفسها بحدود ما يريدها له مَن ينظر إليها كجسد للمتعة، وآلة للغواية، ومحرك للفتنة، فدورها في الوجود أعظم من هذا، فهي صانعة الرجال، وبانية الأسرة، وداعمة الفكر والحق.



د. حنان فتال يبرودي
أستاذ في الفقه الإسلامي وأصوله

 


[1] متفق عليه: أخرجه البخاري (3) ومسلم (160).

[2] أخرجه أحمد (24864) والطبراني (23/13) برقم (21).

[3] أخرجه البخاري (2731).

[4] مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، ص (23).

[5] المجمع المؤسس للمعجم المفهرس، لابن حجر (3/122).

[6] ينظر: أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام، لعمر رضا كحالة (4/94).

[7] ترتيب المدارك، للقاضي عياض (1/130).

X