تزكية

هدايات من قصة آدم عليه السلام

 

من أعظم الهدايات التي قدمها القرآن الكريم للبشرية: الإجابة عن الأسئلة المصيرية التي حبرت البشرية ولا زالت، فمن أين جئنا؟ ولماذا وجدنا؟ وإلى أين المصير؟ وغيرها من الأسئلة، ولم يكتف القرآن بأسلوب واحد بل نوع الأساليب وعددها، ومنها ما جاء في قصة آدم من الإشارات والهدايات، وهذه جولة تدبرية معها.

 

للقصة عمومًا والقصة القرآنية خصوصًا -بأسلوبها الفريدِ، وعرضها الجذاب- دَوْرٌ عظيم في ترسيخ العقيدة الصحيحة، وتثبيت المبادئ، وزرع القِيَم، وطَبْع العقل والفِكر والنفس على صورة الفطرة السليمة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، وذلك بما ترسمه القصةُ مِن صورةٍ في النفس، وتتركُ مِن آثار يشعر بها أو لا يشعر بها مَن يعيشها ويتأثر بها، وبما ترسله القصة مِن رسائل ظاهرة وباطنة.

تكررت قصةُ آدم في كتاب الله تعالى مرات عدة؛ في سُوَر مكية كالإسراء والكهف وطه والأعراف، وفي سور مدنية كالبقرة، وذلك في مراحل ومشاهد مختلفة، ولكلِّ إيرادٍ وتَكرارٍ رسالتُه وهدفُه الذي يُعْلَم بتتبع سياقه ودلالاته، وهنا سنُجمل الحديثَ عن أهمِّ المشاهد التي جاء فيها ذِكْرُ آدم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بلا خوضٍ في كثير من التفاصيل التي وردت في كتب التفسير، بل سنقصر الحديثَ على إيراد بعض ما يظهر فيه منفعةٌ وثمرة علمية أو عملية، متلمسين من ذلك الهدايات الكلية والجزئية التفصيلية[1].

وسيكون الحديث حول مشاهد أربعة رئيسية:

  1. الاستخلاف وخلق آدم.
  2. تعليم آدم، والأمر بالسجود له، واستكبار إبليس.
  3. إسكان آدم وزوجه الجنة، وعصيانهم بالأكل من الشجرة.
  4. التوبة، والهبوط إلى الأرض.

للقصة القرآنية دَوْرٌ عظيم في ترسيخ العقيدة الصحيحة، وتثبيت المبادئ، وزرع القِيَم، وطَبْع العقل والفِكر والنفس على صورة الفطرة السليمة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، وذلك بما ترسمه القصةُ مِن صورةٍ في النفس، وتتركُ مِن آثار، وبما ترسله القصة مِن رسائل ظاهرة وباطنة

 

  1. الاستخلاف وخلق أدم:

بدأت قصة آدم في سورة البقرة والأعراف بذكر خلق الأرض والسماوات السبع، والذي أُتبع بذكر الاستخلاف وخلقِ آدم، قال الله: ﴿‌هُوَ ‌الَّذِي ‌خَلَقَ ‌لَكُمْ ‌مَا ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌جَمِيعًا ‌ثُمَّ ‌اسْتَوَى ‌إِلَى ‌السَّمَاءِ ‌فَسَوَّاهُنَّ ‌سَبْعَ ‌سَمَاوَاتٍ ‌وَهُوَ ‌بِكُلِّ ‌شَيْءٍ ‌عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 29]، وقال: ﴿‌وَلَقَدْ ‌مَكَّنَّاكُمْ ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌وَجَعَلْنَا ‌لَكُمْ ‌فِيهَا ‌مَعَايِشَ ‌قَلِيلًا ‌مَا ‌تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: 10]، ثم جاء ذِكر النبأ العظيم الذي فيه اختصامُ الملأ الأعلى[2] في لحظة حاسمة من تاريخ الكون، قال تعالى: ﴿‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌رَبُّكَ ‌لِلْمَلَائِكَةِ ‌إِنِّي ‌جَاعِلٌ ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30] أي: بشرًا يخلف بعضُهم بعضًا للقيام بعمارة الأرض على طاعته، أو خَلِيفَة عَنِ الله تعالى في إقامَةِ شَرْعِهِ، ودَلائِلِ تَوْحِيدِهِ، والحُكْمِ في خَلْقِهِ، (قَولُ ابنِ مسعودٍ ومُجاهِدٍ)
أو أنَّهُ خَلَفُ مَن سَلَفَ في الأرضِ قَبْلَهُ، (قَولُ ابنِ عَباسٍ والحسنِ)، فقالت الملائكة: ﴿‌أَتَجْعَلُ ‌فِيهَا ‌مَنْ ‌يُفْسِدُ ‌فِيهَا ‌وَيَسْفِكُ ‌الدِّمَاءَ ‌وَنَحْنُ ‌نُسَبِّحُ ‌بِحَمْدِكَ ‌وَنُقَدِّسُ ‌لَكَ﴾ [البقرة: 30] وهو سؤال استرشاد واستفهام عن الحكمة، وليس على وجه الاعتراض أو الإنكار منهم، ولا على وَجهِ الحسدِ لِبَنِي آدمَ[3] وذلك بحسب ظنِّهم أن الخليفة المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك[4]، أو أنهم علموا بإعلام الله إياهم بذلك[5]، أو أن الجنَّ أَفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة ذلك، فَقاسُوا هؤلاء بأولئك[6].

ثم خلق الله جل جلاله آدمَ بيده ﴿‌بَشَرًا ‌مِنْ ‌طِينٍ﴾ [ص: 71] أي: مادَّته مِن طين، ثم خلق زوجَه، ومنهما يتناسلُ البشرُ إلى يوم الدين: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا ‌رِجَالًا ‌كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1].

  • في سبق ذكر خلق الأرض وإتباعها بذكر خلق آدم وذريته بيان لعظيم منزلة ومكانة آدم وذريته في الأرض والدور الخاص المنوط بهم فيها، فقد اقتضت حكمة الله أن يُسَلَّم لهذا الكائن الجديد في الوجود زمامُ هذه الأرض، وتُطلقَ فيها يدَه، ويُوكَل إليه كشفُ ما في هذه الأرض مِن قوى وطاقات، وكنوز وخامات، ليُسخَّر هذا كُلُّه -بإذن الله- في المهَمة الضخمة التي وكلها الله إليه.
  • خلق الله آدم وذريته للأرض فقال: ﴿‌إِنِّي ‌جَاعِلٌ ‌فِي ‌الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 30]، ومع ذلك أسكنهم الجنة، وابتلاهم بالشجرة، وأوقعهم فيها، ثم أخرجهم من الجنة: في ذلك -والله أعلم- تربية وإعداد لآدم وذريته لطبيعة الحياة في الأرض، وفيه إيقاظ للقوى المدخورة فيهم للتعرف على طبائعهم، كما أن فيه تدريبًا على كيفية تَلَقِّي الغواية، وتذوق العاقبة، وتجرع الندامة.
  • فيه بيان لأهمية معرفة قَدْر الأشياء ومنزلتها وتاريخ نشأتها ومراحل تطورها، فجهل الناس بقدرهم وتاريخ نشأتهم وتكريم الله لهم سبب في ضلالهم وانحرافهم، حتى إنهم سجدوا للأصنام!
  • فيه بيان لأهمية تقديم الغريب والجديد، وتعريف مَن حوله به وبوظيفته، وذلك أدعى لقبوله والاستئناس به، وعدم الاستغراب منه.
  • فيه جواز سؤال من أُمرَ بعمل عن الحكمة من أمره، كما سألت الملائكة ربها.
  • فيه تأكيد على قَبول مبدأ الحوار للتعليم والدعوة والإقناع، حتى مع تيقن المحاوَر بصواب ما عنده، ولو كان مع تباين المراتب والمنازل، اذ إن منفعة الحوار ليست في استبانة الحقيقة للطرفين عند اختلاط الأمر فحسب، بل هو أسلوب تعليم وتوجيه وتوثيق وتأكيد للعلم، كما تَبَيَّن للملائكة في هذه القصة.
  • في قياس الملائكة للخليفة على الجن وخوفهم من أن يكون مثلهم: إثباتٌ لمشروعية القياس في تقدير الأشياء واستشرافها والتنبؤ بها، مع عدم الأخذ به أحيانًا لمانع أو لظهور الفارق، كما أن فيه خطورة أن يكون الانطباع الأَوَّلي حُكمًا نهائيًّا يحول بين المرء والمعرفة الحقَّة والتحقيق.

اقتضت حكمة الله أن يُسَلَّم لهذا الكائن الجديد في الوجود زمام هذه الأرض، وتطلق فيها يدُه، ويوكل إليه كشف ما في هذه الأرض مِن قوى وطاقات، وكنوز وخامات، ليُسخَّر هذا كُلُّه -بإذن الله- في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه

  1. تعليم آدم، والأمر بالسجود له، واستكبار إبليس:

في المشهد التالي يقص الحقُّ سبحانه أمرَ تعليم آدم وتكريمه: ﴿‌وَعَلَّمَ ‌آدَمَ ‌الْأَسْمَاءَ ‌كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31]، علمه سبحانَه الأسماء كلها التي يتعارف بها الناس ذواتها وأفعالها -كما قال ابن عباس-، وذلك لإقامة البيِّنة على عِلم الله الذي لا يعلمه الملائكة، حيث قال لهم: ﴿‌إِنِّي ‌أَعْلَمُ ‌مَا ‌لَا ‌تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30]، ﴿‌ثُمَّ ‌عَرَضَهُمْ ‌عَلَى ‌الْمَلَائِكَةِ﴾ [البقرة: 31] أي: عرض تلك المسميات أو الأسماء على الملائكة، ﴿‌فَقَالَ ‌أَنْبِئُونِي ‌بِأَسْمَاءِ ‌هَؤُلَاءِ ‌إِنْ ‌كُنْتُمْ ‌صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 31] أي: في أن بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء[7]، وهنا أقَرَّ الملائكة واعترفوا بعلم الله وحكمته، وتعليمه إياهم ما لا يعلمون ﴿‌قَالُوا ‌سُبْحَانَكَ ‌لَا ‌عِلْمَ ‌لَنَا ‌إِلَّا ‌مَا ‌عَلَّمْتَنَا ‌إِنَّكَ ‌أَنْتَ ‌الْعَلِيمُ ‌الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32]، فقال الله: ﴿‌يَاآدَمُ ‌أَنْبِئْهُمْ ‌بِأَسْمَائِهِمْ ‌فَلَمَّا ‌أَنْبَأَهُمْ ‌بِأَسْمَائِهِمْ﴾ [البقرة: 33] تبين للملائكة فضلُ آدم عليهم؛ وحكمةُ الباري وعلمُه في استخلاف هذا الخليفة[8].

فلمَّا تَمَّ خلقُ آدم أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، إكرامًا له وتعظيمًا؛ وعبودية لله تعالى، فقال: ﴿‌فَإِذَا ‌سَوَّيْتُهُ ‌وَنَفَخْتُ ‌فِيهِ ‌مِنْ ‌رُوحِي ‌فَقَعُوا ‌لَهُ ‌سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29]، فوطَّن الملائكةُ الكرامُ أنفسهم على ذلك، فامتثلوا أمر الله، وبادروا كلهم بالسجود، ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾ امتنع عن السجود؛ واستكبر عن أمر الله وعلى آدم، قال: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ مدعيًا أنه خير مِن آدم، حيث إنه خُلِق من تراب وخُلِق هو من نار.

 

  • في تعليم الله آدم الأسماء، ثم طلبه من الملائكة أن يخبروا بها واعترافهم بالجهل بها ليتبين لهم فضل آدم عليهم: نموذجٌ لأهمية ضرب المثل الحي والدليل الحسي والعملي لإقامة الدليل على صِحَّة الدعوى، وأن ذلك أبلغ في الحجة وأصدق في البيان، وأعظم في التأثير.
  • فيه بيان لمنة الله العظيمة على الإنسان بتعليمه الأسماء والمسميات، ومنحه القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها رموزًا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة، وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض، ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات، والمشقة في التفاهم والتعامل، حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه.
  • تثبت هذه الرواية القرآنية المحكمة لخلق آدم من تراب، ثم خلق زوجته، وتكاثر الخلق منهما: أصل النشأة الأولى التي خلق اللهُ البشر عليها، وتدحض كل نظرية تدعي غير ذلك الأصل والتكريم مِن خرافات الجاهلية المعاصرة الداروينية وغيرها.
  • في أمر الله الملائكةَ بالسجود لآدم واستجابتهم: بيانُ أن لُبَّ العبودية وجوهرها في الاستجابة المطلقة لأمر الله بلا سؤالٍ ولا طلب تعليل، وهو مما يراد تعليمه لآدم وذريته، كما أن فيه تعريضًا بذمِّ بني إسرائيل في عدم التسليم والانقياد لأمر الله، حيث انتقلت النبوة منهم الى أمة الإسلام المستجيبة المطيعة المستسلمة.
  • فيه أن العبد إذا خَفِيَت عليه حكمةُ الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالواجب عليه التسليم واتهام عقله، والإقرار لله بالحكمة، كما أن فيه بيانًا لخطورة معارضة النص الصريح بالرأي كما رد إبليس أمر اللّه الصريح له بالسجود، وجادل في تنفيذ أمره، وهو أمرٌ قطعي الثبوت قطعي الدلالة، فاستحق اللعنة والكفر والطرد من رحمة الله، وكذلك سيكون حال مَن شابهه!
  • فيه دلالة على أن الله فضَّل آدم بالعلم، وأسجد له ملائكته، تكريمًا له وللعلم الذي حمله، فالله عرّف الملائكة فضل آدم بالعلم؛ وهو أفضل صفة تكون في العبد.
  • فيه إثبات لفضل العالم على العابد: فآدم إنما ظهر في صورة العالم ﴿‌وَعَلَّمَ ‌آدَمَ ‌الْأَسْمَاءَ ‌كُلَّهَا﴾، والملائكة إنما ظَنُّوا أنهم أفضل بعبادتهم وتسبيحهم ﴿‌وَنَحْنُ ‌نُسَبِّحُ ‌بِحَمْدِكَ ‌وَنُقَدِّسُ ‌لَكَ﴾، فأمر الله أهل العبادة أن يسجدوا سجودَ تعظيمٍ لا عبادة لِمَن فُضِّل عليهم بالعلم.
  • في تفضيل إبليس نفسَه على آدم قياسًا على تفضيله النارَ على الطين دليلٌ على جهله وخبثه ومخادعته لنفسه، كما أن قياسه يعارض أمر اللّه له بالسجود، والقياس إذا عارض النص فإنه قياس باطل[9].
  • في استكبار إبليس عن السجود لآدم وقوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾: دلالة على خطر الكبر والعجب والغرور، فهو سبب طرده وحلول اللعنة عليه، كما أن فيه بيانًا لخطورة الحسد والعداوة بالباطل، وأنه ربما كان سببًا للإصرار على الباطل والتمادي فيه، حتى ينتقم الحاسد من محسوده، ولو على حساب نفسه وخسارة دينه.
  • في مفاضلة إبليس بينه وبين آدم بالنظر إلى مادة خلقه: بيان لخطورة الطبقية والعنصرية، وأنها سبب للعَمَى عن الحق.
  • فيه بيان لأهمية إصلاح البواطن والقلوب، وخطر خبيئة السوء وفساد القلب، وألّا يغتر المرء بنفسه حتى لو كان بين الصالحين والعابدين كما كان إبليس مع الملائكة، فإن تلك الخبيئة ستظهر يومًا على اللسان والجوارح!.
  • في إخراج إبليس من الجنة لاستكباره عن السجود لآدم ومعصيته لأمر ربه: «أصلٌ في ثبوت الحق لأهل المحلّة أن يُخرِجوا من محلتهم مَن يُخشى مِن سيرته فشو الفساد بينهم»[10].
  • فيه إثبات لعداوة الشيطان الأزلية لبني آدم، وأن العاقل مَن اتخذه عدوًّا، وأدام استشعار تلك العداوة، واستزاد في المعرفة بخطواته ووسائله وجنوده وطرقه في الإغواء واستعان بالله عليه، وهو مع ذلك يُوقِن أن كيده يزول ويضمحل أمام إيمان العبد بربه: ﴿‌إِنَّهُ ‌لَيْسَ ‌لَهُ ‌سُلْطَانٌ ‌عَلَى ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌وَعَلَى ‌رَبِّهِمْ ‌يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: 99].

للشيطان عداوةٌ أزليةٌ لبني آدم، والعاقل مَن اتخذه عدوًّا، وأدام استشعار تلك العداوة، واستزاد في المعرفة بخطواته ووسائله وجنوده وطرقه في الإغواء واستعان بالله عليه، وهو مع ذلك يُوقِن أن كيده يزول ويضمحل أمام إيمان العبد بربه

  1. إسكان آدم وزوجه الجنة، وعصيانهما بالأكل من الشجرة:

لما خلق الله آدم وفضّله أتم نعمته عليه بأن خلق منه زوجة ليسكن إليها، ويستأنس بها، وأمره بسكنى الجنة، وقال له: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾ [طه: 118-119]، وأباح له الأكل منها ﴿رَغَدًا﴾ أي: واسعًا هنيئًا، ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ أي: من أصناف الثمار والفواكه، واستثنى من ذلك شجرةً، فقال لهما: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ وهو نوع من أنواع شجر الجنة؛ الله أعلم بها، وإنما نهاهما عنها امتحانًا وابتلاءً أو لحكمة غير معلومة لنا[11]. لكن عدوهما ما زال يوسوس لهما، ويزين لهما تناول ما نهيا عنه، ﴿وَقَاسَمَهُمَا﴾ أي: أقسم لهما بالله ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ حتى أزلهما، أي: حملهما على الزَّلل بتزيينه، فاغَتَرَّا به وأطاعاه، ﴿‌فَأَكَلَا ‌مِنْهَا ‌فَبَدَتْ ‌لَهُمَا ‌سَوْآتُهُمَا﴾ [طه: 121] أي: عوراتهما بعد أن كانت مستورة[12]، وحينما بدت سوآتهما ﴿طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ [طه: 121] أي: شرعا ينزعان من ورق الجنة يجعلانه على سوآتهما، مع خلو الجنة من غيرهما.

  • في تكريم الله لآدم المطيع وزوجه ورفعهم وإسكانهم الجنة على مرأى ومسمع من إبليس: مزيد إذلال لإبليس، كما أن في طرد إبليس الذي استكبر عن أمر الله بالسجود لآدم وإخراجه من الجنة وإنزاله إلى الأرض على مرأى ومسمع من آدم وزوجه: مزيد إكرام لهما، وتوضيح لهما ولذريتهما لمعيار الرفع والخفض، والقرب والبُعد في ميزان الحق سبحانه.
  • في ذكر أن زلل آدم وزوجه إنما كان بوسوسة الشيطان ﴿‌فَوَسْوَسَ ‌لَهُمَا ‌الشَّيْطَانُ﴾ [الأعراف: 20]: بيان للطريقة التي يملك بها الشيطانُ ابنَ آدم، وهي طريقة أهل الإفساد: تلميحٌ وتزيينٌ وإغراء للبشر من خلال محبوباتهم وشهواتهم، حتى يوقعوهم في شراكهم، والموفق مَن يستبين تلك الوساوس فيحذرها ولا ينقاد لها.
  • فيه التحذير من مكر الشيطان، وعدم الاغترار به، فهذا آدم يشهد أحداث إباء الشيطان واستكباره عن أمر ربه له بالسجود، وتعاليه على آدم، وإشهار العداوة له، ويشهد طرده من رحمة الله، ومع ذلك وقع في شراكه، وأكل من الشجرة بوسوسته! لذا فإن معرفتنا بعداوة الشيطان شيء، واتخاذه عدوًّا والحذر من وساوسه والنجاة منها أمر آخر مختلف.
  • في نهي آدم عن الشجرة وغرس حبها في نفسه ليمتحن فيها: دليل على أن الامتحان أعظم ما يكون عند وجود رغبة فيه، وبغير محظور مرغوب فيه لا تنبت الإرادة، ولا يتميز الإنسان المريد من الحيوان المسوق، ولا يمتحن صبر الإنسان على الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط، فالإرادة هي مفرق الطريق، والذين يستمتعون بلا إرادة هم من عالم البهيمة، ولو بَدَوا في شكل الآدميين.
  • فيه أن حب الاستطلاع فطرةٌ في بني آدم، وأن كل ممنوع مرغوب! ومع ذلك فالمؤمن مأمور بتهذيب نفسه وضبطها وعدم التماهي معها، وتحكيم الشرع والعقل، لا الهوى والرغبة.
  • قوله: ﴿‌وَلَا ‌تَقْرَبَا ‌هَذِهِ ‌الشَّجَرَةَ﴾ [البقرة: 35] أي لا تَأكُلا مِنها، وإنما عَلَّقَ النهيَ بالقُربانِ منها مُبالَغَةً في تَحرِيمِ الأكلِ، ووُجُوبِ الاجتِنابِ عنهُ، لأن القُربَ مِن الشيءِ مُقْتَضى الأُلفةِ، والأُلفةُ داعيةٌ للمحبةِ، ومحبةُ الشيءِ تُعمِي وتُصِمُّ، فلا يرى قَبِيحًا، ولا يَسمعُ نَهْيًا فَيَقَعُ، والسببُ الداعي إلى الشرِّ مَنهِيٌّ عنهُ، كما أن السببَ المُوَصِّلَ إلى الخيرِ مَأمورٌ بِهِ[13]، ففيه تأكيد على قاعدة سد الذرائع، وهي قاعدة عظيمة، مَن أخذ بها سلم ونجا، ومن اقترب من المحرم يوشك أن يقع فيه.
  • في أكل آدم من الشجرة المحرمة المستثناة وعدم اكتفائه بالمباح: أن المباح الرغد الواسع يغيب عن عين المنقاد لوسوسة الشيطان، فلا يبصره مع كثرته، ليقترف من المحرم النادر المستثنى، لذا لا يزال الشيطان بابن آدم ‏يصرفه عن كثير من المباح الواسع الوفير ﴿‌رَغَدًا ‌حَيْثُ ‌شِئْتُمَا﴾، ويُوقعه فيما استثنى الله له من الحرام ﴿هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ .. حتى يُهلكه!
  • في كشف الذنب لسوءة آدم وزوجه ﴿‌فَبَدَتْ ‌لَهُمَا ‌سَوْآتُهُمَا﴾: إشارة الى أن الذنب يُعَرِّي الروح والنفس، ويكشف السوءة، كما أن التقوى ستر للروح وزينة ﴿‌وَلِبَاسُ ‌التَّقْوَى ‌ذَلِكَ ‌خَيْرٌ﴾ [الأعراف: 26]، وما أحوجَنا لأن نستشعر دائمًا أن الوقوع في الذنب تعرٍّ وكشفٌ للسوءة، وأن التقوى ستر وزينة.
  • في قوله: ﴿‌لِيُبْدِيَ ‌لَهُمَا ‌مَا ‌وُورِيَ ‌عَنْهُمَا﴾ [الأعراف: 20]: أن من أعظم طرق الشيطان في إفساد بني آدم وفطرتهم هو سعيه في نشر التعري ونزع اللباس عنهم كما هو الحال اليوم!
  • في مسارعة آدم وزوجه إلى التستر وعدم بقائهما بلا لباس أو مشيهما في الجنة عراة مع خلو الجنة من غيرهما كما هو ظاهر الآية والله أعلم ﴿‌وَطَفِقَا ‌يَخْصِفَانِ ‌عَلَيْهِمَا ‌مِنْ ‌وَرَقِ ‌الْجَنَّةِ﴾ [طه: 121]: إشارة الى أن الفطرة في بني آدم هي الستر لا التعري، وأن كل تطلع للتعري وكشف للسوءة ففيه مخالفة للفطرة البشرية!
  • في عتاب الله لآدم وزوجه في قوله: ﴿‌أَلَمْ ‌أَنْهَكُمَا ‌عَنْ ‌تِلْكُمَا ‌الشَّجَرَةِ ‌وَأَقُلْ ‌لَكُمَا﴾ [الأعراف: 22]: دليلٌ على مشروعية العتاب بعد الإنذار والبيان والإعذار، كما أن فيه مضاعفة العتاب للعاصي إن اتبع قول عدوه، فيعتب عليه معصيته لربه واتباع عدوه.
  • وفيه أن الخطأ والنسيان هي جِبِلّةٌ في آدم وذريته، إنما العبرة بحال العبد بعد تقصيره وسرعة فيئته من عدمها.

الامتحان أعظم ما يكون عند وجود الرغبة، وبغير محظور مرغوب فيه لا تنبت الإرادة، ولا يُمتحن صبر الإنسان على الوفاء بالعهد والتقيُّد بالشرط، فالإرادة هي مفرق الطريق، والذين يستمتعون بلا إرادة هم من عالم البهيمة، ولو بَدَوا في شكل الآدميين

  1. التوبة والهبوط إلى الأرض:

 بعد أن أعلم الله آدم وزوجه بذنبهما، منّ الله عليهما بأن هداهما إلى التوبة ﴿‌فَتَلَقَّى ‌آدَمُ ‌مِنْ ‌رَبِّهِ ‌كَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: 37] أي: تلقف وتلقن، وألهمه الله[14]، فما كان منهما الا أن اعترفا بالذنب فقالا: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، فغفر اللّه لهما ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾، هذا وإبليس مستمر على طغيانه، غير مقلع عن عصيانه، وهنا قال الله لآدم وحواء وإبليس: ﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ ‌لِبَعْضٍ ‌عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [الأعراف: 24] أي: اهبطوا مِن الجنة إلى الأرض، وسيكون بعضُكم عدوًّا لبعض، ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ أي: مسكن وقرار، ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ انقضاء آجالكم، ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها، وخلقت لكم.

  • في هبوط آدم وزوجه مِن الجنة بسبب ذنبهم: دليلٌ على أن المعصية سببٌ للهوان والهبوط، وأنه ما نزلت عقوبة إلا بذنب يقترفه ابن ادم، ولا ترفع إلا بتوبة.
  • في قوله ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ أن «مَن أشبهَ آدمَ بالاعتراف وسؤال المغفرة والندم والإقلاع -إذا صدرت منه الذنوب- اجتباه ربه وهداه، ومن أشبه إبليس -إذا صدر منه الذنب، لا يزال يزداد من المعاصي- فإنه لا يزداد من الله إلا بعدًا»[15].
  • في قوله: ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ وهو انقضاء الآجال: «أن مدة هذه الحياة مؤقتة عارضة، ليست مسكنًا حقيقيًّا، وإنما هي معبر يُتَزَوَّد منها لتلك الدار، ولا تعمر للاستقرار»[16].
  • في قولهم: ﴿‌رَبَّنَا ‌ظَلَمْنَا ‌أَنْفُسَنَا ‌وَإِنْ ‌لَمْ ‌تَغْفِرْ ‌لَنَا ‌وَتَرْحَمْنَا ‌لَنَكُونَنَّ ‌مِنَ ‌الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23]: فيه دليل على اشتراك آدم وحواء في المسؤولية والذنب، ومشروعية توبة الرجل مع أهله إذا وقعا في الذنب.
  • في القصة مقابلة بين حال المستكبر المتمادي الذي انتهى به الإصرار على المعصية إلى اللعن والطرد والخلود في النار، وبين حال الذي أدرك ذنبَه واستفاق وأناب؛ ففاز بقبول التوبة والرضوان.
  • في قوله: ﴿‌بَعْضُكُمْ ‌لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [البقرة: 36] بيان لأزلية معركة المراغمة والمدافعة بين بني البشر والشياطين، وأنها بدأت منذ أُهبط آدم وحواء إلى الأرض، وستستمر في كل لحظة وإلى قيام الساعة، فقد انكشف ميدان المعركة الخالدة بين إبليس وخليفة الخير في الأرض، التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان بإرادته وعهده مع ربه، وينتصر فيها الشر بمقدار ما يستسلم الإنسان لشهوتهويبعد عن ربه.

بنزول آدم وحواء إلى الأرض انكشف ميدان المعركة الخالدة بين إبليس وخليفة الخير في الأرض، التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان بإرادته وعهده مع ربه، وينتصر فيها الشر بمقدار ما يستسلم الإنسان لشهوته ويبعد عن ربه

الهدايات الكلية من القصة:

كانت تلك بعض الهدايات الجزئية التي أفادتها قصة آدم نتبعها ببعض الهدايات الكلية إتمامًا للفائدة؛ ففي القصة إثبات وجود الباري سبحانه، وسبقه لكل شيء، وسعة علمه بما كان وما سيكون، وكمال قدرته وحكمته، وتمام ملكه لعباده وقهره لهم، وفيها إثبات الوحي، وتقرير نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وأن القرآن كلام الله، وذلك أن في القصة أحداثًا وقعت في الجنة وقبل أن تبدأ الحياة على الأرض، فإخبار النبي بها دليل على أنها وحي من الله: ﴿‌قُلْ ‌هُوَ ‌نَبَأٌ عَظِيمٌ ٦٧ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ٦٨ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ٦٩ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [ص: 67-70][17].

“استقرَّت حكمته سبحانه أنَّ السعادة والنعيم والراحة لا يُوصَل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يُدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمُّل المشاقّ، ولذلك حفَّ الجنة بالمكاره والنار بالشهوات”
ابن القيم

كما كان فيها تعريف بالملائكة والجن والإنسان وطبيعة العلاقة بينهم في ثلاثة نماذج من خلق الله: نموذج الطاعة المطلقة والتسليم العميق المتمثل في الملائكة، ونموذج العصيان المطلق والاستكبار المقيت المتمثل في إبليس، ونموذج الطبيعة البشرية المزدوجة في خصائصها وصفاتها المشتملة على الخير والشر.

وفيها بيان الحكمة من خلق الكون وتسخيره للإنسان، وتكريم الله للإنسان بالعلم، واختصاصه بالاختيار، وابتلائه على ذلك وأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان وأنها لا تخلو من شرور ومنغصات، قال ابن القيم: «اعلم أنه قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يُوصَل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق، ولذلك حفَّ الجنة بالمكاره والنار بالشهوات، ولذلك أخرج صفيه آدم من الجنة وقد خلقها له، واقتضت حكمته أن لا يدخلها دخول استقرار إلا بعد التعب والنصب، فما أخرجه منها إلا ليدخله إليها أتم دخول … وقد سبقت الحكمة الإلهية أن المكاره أسباب اللذات والخيرات»[18].

والحمد لله رب العالمين


د. عمر النشيواتي
طبيب وكاتب مهتم بالقرآن وعلومه


[1] ينظر: مقال (الهدايات القرآنية للمتدبِّرين) في العدد العشرين من المجلة لمزيد بيان وتفصيل لهذه المصطلحات.

[2] تفسير ابن كثير (7/80) وما بعدها.

[3] تفسير ابن كثير (1/216).

[4] تفسير السعدي، ص (48).

[5] التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (1/79).

[6] ابن جرير عن ابن عباس.

[7] ابن عباس وغيره.

[8] تفسير السعدي، ص (48) بتصرف.

[9] تفسير السعدي الأعراف، ص (284).

[10] التحرير والتنوير، لابن عاشور (8-ب/44).

[11] تفسير السعدي، ص (49).

[12] المرجع السابق، ص (285).

[13] محاسن التأويل، للقاسمي (1/292).

[14] تفسير السعدي، ص (50).

[15] المرجع السابق، ص (285).

[16] المرجع السابق، ص (49).

[17] القصص القرآني، لصلاح الخالدي، ص (86).

[18] شفاء العليل (2/225).

X