الافتتاحية

الغرب يأكل آلهته

تمتَّع الغرب ردحًا من الزمن بكونه مضربًا للمثل في الحرية والعدالة، وقِبلةً للمهاجرين الساعين إلى العيش الكريم بعيدًا عن الاستبداد والتسلّط الذي تعيشه العديد من دول العالم، وأصبح مهاجَرًا لكثيرٍ من العقول والطاقات، حتى قيل في مدحه: «رأينا إسلامًا ولم نرَ مسلمين»، وتوقّع آخرون: «شروقًا للإسلام من الغرب»[1].

ووصل الحال إلى التبشير بالنموذج الغربي في الفكر والحكم والسياسة على أنّه أفضل ما توصّلت إليه البشرية، وأنّه لا يسعُ أحدًا الخروج عنه أو تجاوزه، ووصل بالبعض إلى اعتبار الإنسان الغربيَّ «خاتم البشر»! وأنّ التاريخ إلى نهايته سيسعد بالنموذج الغربي للحياة كما زعم[2].

لكن فئةً من أصحاب الفكر والنظر -من المسلمين وغيرهم- لم ينخدعوا بهذه المظاهر، ونظروا إلى حقيقة هذا الفكر ومآلاته، فحذّروا منه وتنبّؤوا بسقوطه وعدم صلاحيته للاستمرار.

نظرة إنصاف:

لا بدَّ من الإشارة ابتداءً إلى أنّ نقدَ الغرب وبيانَ أخطائه لا يعني إنكارَ ما فيه من خير؛ فهذا من الظلم الذي لا يرضاه ديننا؛ قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: ٨] قال ابن كثير: «أي: لا يحملنَّكم بُغضُ قومٍ على ترك العدل فيهم، بل استعمِلوا العدل في كلِّ أحد، صديقًا كان أو عدوًّا»[3].

فمن الإيجابيات الموجودة فيه: التقدُّم العلمي والصناعي، والتطور في العلوم الإنسانية والإدارية.

كما أنَّ فيهم من الخصال ما يعين على بقاء ملكهم واستقرار حياتهم، قال الشَّافِعِيُّ: «وَلَمَّا أُتِيَ كِسْرَى بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَزَّقَهُ، فقال رَسُولُ اللهِ ﷺ: (يُمزَّق مُلْكُهُ)، وَحَفِظْنا أَنَّ قَيْصَرَ أَكْرَمَ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَوَضَعَهُ فِي مِسْكٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (ثَبَتَ مُلْكُهُ[4].

ومن الآثار الجديرة بالتأمُّل: حديثُ عمرو بن العاص رضي الله عنه المشهور وفيه: أنَّ المستورِد رضي الله عنه قال: إنه سمع النبي ﷺ يقول: (تَقُومُ السَّاعَةُ والرُّومُ أكْثَرُ النَّاسِ). فَقالَ له عَمْرٌو: أبْصِرْ ما تَقُولُ، قالَ: أقُولُ ما سَمِعْتُ مِن رَسولِ اللهِ ﷺ، قالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذلكَ، إنَّ فيهم لَخِصالاً أرْبَعًا: إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وخامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ»[5]. وقد قال ﷺ في النجاشي: (لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدهُ)[6].

للعالَم قوانين وسُنن كونية في إقامة الدول وازدهارها تجري على جميع البشر، مَن أَخَذَ بها حصل له نوعٌ من التمكين والاستقرار، كصلاح القيادة، وإقامة العدل، وحسن التخطيط، ورعاية الفقراء والضعفاء، والمنع من الظلم. فإن تقدَّمت بعض الأمم وسادت لأخذها بهذه السنن فلا يعني أنهم على حق

وبقاء الملك والاستقرار السياسي بسبب هذه الخصال هو من سُنن الله الكونية والقوانين الجارية على البشر في إقامة الدول وازدهارها؛ وبالتالي فإنَّ مَن أخذ بأسباب البقاء والقوة كُتب له ذلك ولو كان غير مُسلِم، أو اختلط بعمله باطلٌ كثير، قال ابن تيمية: «الجزاء في الدنيا مُتَّفِق عليه أهلُ الأرض، فإنَّ الناس لم يتنازعوا في أنّ عاقبةَ الظلم وخيمة، وعاقبةَ العدل كريمة، ولهذا يُروى: «الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة»[7].

هذا في الجملة.. لكن متى شاعَ الظلمُ فيهم، أو انجرفوا وراء الفواحش والمنكرات؛ حلّ عليهم العقاب الذي هو مِن سنن الله في القرى الظالمة، وهذا يفسّر زوالَ العديد من ممالكهم ودولهم، وخرابَ العديد من مُدنهم على مرّ التاريخ.

كما أنّ بقاءَ الدول واستقرارَ الأحوال السياسية فيها عمومًا لا يعني أنّهم النموذج المحتذى لتحقيق السعادة والازدهار في سائر أمورهم وتفاصيل حياتهم؛ فالأخذُ بالربا متوعّد عليه بالمحق، والإغراقُ في الفواحش متوعّد عليه بالأمراض الجديدة العصيّة على العلاج، والبعدُ عن شرع الله متوعّد عليه بالعيشة الضنك، … وهكذا.

الأسس التي قامت عليها الحضارة الغربية:

الفكر الغربي يقوم على أسسٍ في غاية في الخطورة:

  • استبعادُ الإله من حياة البشر، وتأليهُ الإنسان بدلاً منه.
  • تأليهُ العلم التجريبي مع استبعاد أي مصدر آخر للعلم، كالوحي والخبر الصحيح.
  • تصورُ الحياة على أنها صراعٌ دائم بين الإنسان والإله، والحكومة والشعب، وفيما بين مكونات المجتمع، وبين الرجل والمرأة، … وهكذا.
  • اتخاذُ تحصيل المنفعة واللذة معيارًا أخلاقيًا، ومقياسًا لتقييم الأمور.
  • الفردانية: وهي فلسفةٌ أيديولوجية تعظِّم القيمة المعنوية للفرد، وتدعوه إلى ممارسة أهدافه ورغباته ووضعها فوق اعتبارات الدولة والجماعة، واعتبار ذلك معيارًا آخر لتقييم الأمور ووزنها.

و«القيم الإيجابية» والحرّيات التي يتغنّى بها الغرب وأنصارُهُ اليوم ليست راسخة الأركان قوية البنيان؛ وليس لها جذورٌ بعيدةٌ في التاريخ الأوروبي القديم أو حتى الحديث:

  • فالطبقية كانت سمةَ المجتمع الإغريقي، والطغيانُ والاستعبادُ في الدولة الرومانية والبيزنطية سمةٌ ظاهرةٌ، وفي ظلِّ الحكم الكَنَسي البابوي كان الاستبدادُ على أشُدّه، وفي جميع النواحي الدينية، والسياسية، بل حتى العلمية التجريبية، ومن خالف ذلك اتُّهم بالهرطقة، وقد يُعاقَب بأقسى العقوبات.
  • قيامُ الثورات الأوروبية -والفرنسية على وجه الخصوص- جاء ردَّ فعلٍ على انعدام هذه القيم وطلبًا لتحصيلها، لكنّها جاءت في صورة تحرُّر شامل من الدينِ الذي تمثّله الكنيسة والاستبدادِ الذي تمثّله الملكية، حتى اشتهر شعار «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسِّيس» بما يحملُه من إيحاءات دموية؛ مما يعطي صورة واضحة عن جوِّ التحرُّر الذي شكَّل العقل الأوروبي والغربي الحديث، وشعاراته التي جاءت ردود أفعال متطرّفة؛ مما جعلها قاصرةً ناقصةً غير أصيلة، وبالتالي غير متوازنة.
  • كثيرٌ من مواثيق الحضارة الغربية وتطبيقاتها المعاصرة إنما وُضعت في العصر الحديث، وبالتحديد: بعد الحربين العالميتين اللَّتين كادتا أن تُفنيا القارَّة الأوروبية بأكملها[8]، فتداعت الدُّول القوية حينها إلى تأسيس عُصبة الأمم ١٩١٩م بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ثم منظمة الأمم المتحدة ١٩٤٥م بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، واللتين نصّتا على كثيرٍ من الأسس التي ترفع راية تنظيم العلاقة بين الدول وتنادي بحقوق الإنسان؛ لكن من منطلق الدول العظمى التي لم ولن تتخلى عن مشروعاتها في السيطرة على العالم ومقدّراته ولو على حساب شعوب العالم الأخرى.
  • والجانب الأهم: أنَّ هذه القيم ليست صادرةً عن أصلٍ دينيٍّ ووحيٍ منزّل مِن لَدُن حكيم خبير، يعلم ما يصلُح للبشر جميعهم في كلِّ وقتٍ وحال ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: ١٤]؛ بل هي نتاج العقل البشري القاصر، وتجربته المحدودة، ومعاناته الملموسة، وتحيُّزاته الفكرية والنفسية، فهي لا تصلُحُ للاستمرار ولا لجميع الناس والمجتمعات؛ لأنَّها تفتقد للقواعد الضابطة والمرجعية الرقابية، وتطبّق وفق معايير ذاتية وبحسب المصلحة المترتبة عليها.

من أهم ما يؤخذ على القيم الغربية أنَّها ليست صادرةً عن أصلٍ دينيٍّ ووحيٍ منزّل، بل هي نتاج العقل البشري القاصر، وردَّة فعلٍ على ظروفٍ عاشتها؛ لذا فإنَّها لا تصلُحُ للاستمرار ولا لجميع الناس والمجتمعات؛ لأنَّها ليست أصيلة ابتداء، وتفتقد للقواعد الضابطة والمرجعية الرقابية، وتطبّق وفق معايير ذاتية وبحسب المصلحة المترتبة عليها

نظرة في خلفية المنجزات:

أثمرت موجة المطالبة بالحقوق والحرّية نتائج إيجابية في بعض الاتجاهات مثل: تحرير العبيد وتحريم الرقّ الذي كان تجارة مزدهرة في ظلّ الحملات الاستعمارية، وتصحيح النظرة للمرأة من مخلوقٍ دونيٍّ منزوع الحقوق إلى إنسانٍ له حقوق، وقد نتج عن ذلك كلّه صور متقدّمة من التجارب السياسية.

لكن هل كانت دعوات تحرير العبيد وتحرير المرأة ورعاية الحقوق -مثلاً- أخلاقيةً محضة؟ أم كان وراءها أسبابٌ ودوافعُ سياسيةٌ أو اقتصاديةٌ أو اجتماعية؟

لقد كان «إعلان تحرير العبيد ١٨٦٣م» الذي أصدره الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن ذا خلفية سياسية ضمن أجواء الحرب الأهلية الأمريكية، وكان موجهًا للولايات الجنوبية (الكونفدرالية) المتمرّدة فحسب، وكانت هذه الولايات حافلةً بالعبيد الذين يشكّلون اليد العاملة في الزراعة، بخلاف الشمال الذي كان اقتصاده يرتكزُ على الصناعة، فكان إعلانُ تحرير العبيد، وإتاحةُ انضمامهم للجيش الاتحادي والبحرية، من باب تحريضهم على دعم قضية الاتحاد، وعندما انتهت الحرب كان حوالي ٢٠٠ ألف من السود قد شاركوا في جيش الاتحاد! ثم تتابع الأمر بعدها ليشمل جميع الولايات الأمريكية، وهكذا حتى شمل بقية بلدان العالم، والملاحَظ هنا أنّ الدافع الأساسي كان سياسيًا مصلحيًا، ولم يكن ذا أرضيةٍ أخلاقيةٍ قيَمية، بدليل أنَّ التمييز والفصل العنصري بقي قائمًا في الولايات المتحدة حتى عام ١٩٤٨م؛ حيث كان الجيش يتكوَّن من وحداتٍ للبيض وأخرى مُدمجة، فأصدر الرئيس «ترومان» قرارًا يقضي بدمج القوات المسلحة، رغم وجود معارضةٍ شديدةٍ في الكونجرس لهذا القرار، وبقيت الممارسات العنصرية بدرجةٍ أو بأخرى حتى يومنا هذا.

كذلك فإنّ تحرير المرأة وإخراجَها من بيتها وإقناعها بالعمل كان له بُعدٌ اقتصادي، يتمثَّل في استغلالها في المصانع والمعامل بعد موت الكثير من الرجال في الحرب العالمية الثانية، ومن جانبٍ آخر للاستفادة من الضرائب المفروضة عليها، وهذا بالإضافة إلى استغلالها في الأغراض الشهوانية، واعتبارِها أداة جذبٍ تسويقية كما هو معروف.

والكثيرُ من القيم كالصدق، والأمانة، وحفظ العهد، واحترام المواعيد، وحقوق الإنسان، كحقّ المساواة، وحقّ التديُّن، وحقّ الاحترام، وحقّ التنقل، ونحو ذلك؛ كلُّها مرتبطةٌ بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية؛ التي لا تستقيم من دونها.

ويجمع تلك الحقوق والمبادئ كلَّها أنَّها لم تنشأ ابتداءً عن اقتناعٍ ورغبة، بل جاءت بعد نضالٍ طويل ومطالباتٍ كثيرة، وصراعاتٍ عبر عقودٍ من الزمن، فكان في الاعتراف بها نوعٌ من الانصياع لقوة تلك المطالبات أو انتصارها.

الكثيرُ من القيم الإيجابية السائدة في الغرب كالصدق، واحترام المواعيد، وحقوق الإنسان، وغيرها؛ مرتبطة بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية التي لا تستقيم من دونها. فهي لم تنشأ ابتداءً عن اقتناعٍ ورغبة، بل كان خلفها مصالح عديدة، وجاءت بعد نضالٍ طويل وصراعاتٍ مريرة، وكان في الاعتراف بها نوعٌ من الانصياع لقوة تلك المطالبات أو انتصارها

عوامل السقوط من الداخل[9]:

الحضارةُ الغربية المعاصرة ترتكزُ على مزيجٍ مكوَّنٍ من الفلسفاتِ اليونانية القديمة، والتطلُّعاتِ الرومانية الاستعمارية، وروحِ التحرُّر من أيِّ موروثٍ ديني، وهي إلى جانب هذا المزيج امتلكت قدراتٍ عاليةً بفضل الموارد الهائلة التي أتت بها حركة الاستعمار الحديث، فزادت من غلوائها وتمرُّدها، وفي نفس الوقت زرعت بذور فنائها في أعماقها، ولعل من ذلك:

  • الخواء الروحي والأخلاقي: وبعبارة أخرى: الانفصام بين الواقع والضمير، فالقيم الروحية التي تحملها الديانة النصرانية على الرغم من تحريفها لا يكاد يوجد لها مكان في الحراك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولا يعرفها الإنسان الغربي إلا في أحوال قليلة إذا أراد أن يقيم شعائر احتفالية في مواسم الأعياد، أو لدى عقد الزواج، أو طقوسًا جنائزية يقوم بها رجال الدين، وأفضل تعبير عن هذا الخواء ما قاله محمد أسد: «الحضارة الغربية لا تجحد الله في شدَّةٍ وصراحة، ولكن ليس في نظامها الفكري موضع لله، ولا تَعرف له فائدة، ولا تَشعر بحاجةٍ إليه»[10]. وأمة لا رابط بين ثقافتها وحضارتها ليست جديرة برعاية قيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان.
  • العدمية والتفكيك: وهي من نتائج الانفصام بين الحضارة والأخلاق، وتعني فصل العناصر الأساسية في التكوين والبناء عن بعضها البعض، فبعد فَقد الإيمان بالخالق يَفقدُ الإنسان مركزيته في الكون، ويكون مادة من جملة المواد التي لا يفضل بينها أي شيء، وتُصبح الأمور كلُّها نسبية؛ فلا اعتراف بأي مُطلق، وهو ما يقود إلى العدمية، بل تصل بالإنسان إلى اللاعقلانية المادية. وتحوله إلى مادة محضة، والنتيجة: نزع القداسة عن العالم والإنسان والكون، وتحرير العالم من سرّه وسحره وجماله، وتجريد الإنسان من خصائصه، وإنكار الكليات، واستخدام العنف للتغيير، والإيمان المُطلق بالقوة، والبراغماتية المفرطة، والقدرة الهائلة على التحرك بلا قواعد أو مُطلقات.
  • امتهان الإنسان واحتقاره: فبالرغم من الشعارات البراقة لحقوق الإنسان وحمايته إلا أنّ الإنسان اعتُبر في هذه الحضارة مجرّد تطور تلقائي لكائنات سابقة، تطوّرت هي الأخرى من كائنات قبلها، حتى يصل بنا التتبُّع إلى جزيئاتٍ كيميائيةٍ تصادمت واجتمعت بالمصادفة أو الانتخاب العشوائي، وبالتالي: فالإنسان هو نتيجة متقدمة لجملة من التفاعلات الكيميائية والتغيرات الفيزيائية والتطورات الحيوية، وليس صاحب رسالةٍ سامية، ولا موكلاً بالاستخلاف في الأرض، بل هو كائن من جملة كائنات الأرض، لا يهمه إلا إشباع غرائزه وامتلاك المزيد من القوة في سبيل السيطرة والغلبة.

وتبعًا لهذا التصوّر: فإنَّ الشعارات تختلف كثيرًا عن التطبيق، فعلى الرغم من الشعارات البرّاقة الداعية لحفظ كرامة الإنسان وحقوقه، نجد أن من يرفع هذه الشعارات يساهم في إبادة شعوبٍ بأكملها أو التسبُّب في بؤسها وشقائها لمصالحَ معينة، وعلى الرغم من شعارات الحرّية والديمقراطية نجد أنَّ من يرفع هذه الشعارات ويُطبِّقها يساهم في بقاء شعوبٍ بأكملها تحت حكم الدكتاتوريات الدموية، بل ويقوّض حركات التحرُّر التي تروم الحرية والكرامة! كما يحصل في سوريا الآن، وحصل قبلها في العديد من الدول العربية والأفريقية واللاتينية، ولعلّ من أسباب هذه الازدواجية: الإيمان بفكرة العرق الذهبي، أو نظريات تفوق الإنسان الأبيض على بقية شعوب العالم؛ والتي لا يُمانع أصحابها أن يفنى نصف البشر ليصفوَ للنصف الآخر العيشُ الهنيء، وهي الذهنية التي انبثق عنها الاستعمار وويلاته التي امتصَّت خيرات الشعوب وسخّرتها لصالحها[11].

كما أنّ من تطبيقاتها كذلك: أنّ قيمة الإنسان بحسب ما يملك أو بحسب عَمله، ولذا فإنَّ مَن فقد عملَه أو مالَه يصبح عديم القيمة مشرّدًا لا حقوق له، بل لربما كانت لبعض الحيوانات حقوقٌ أكثر منه!

الإنسان في الحضارة الغربية المعاصرة مجرّد تطوُّرٍ جيني لكائنات سابقة، وبالتالي: فلا يُنظر إليه على أنه صاحب رسالةٍ سامية، ولا موكَّلاً بالاستخلاف في الأرض، بل كائنٌ من جملة كائنات الأرض، لا يُهمُّه إلا إشباع غرائزه وامتلاكُ المزيد من القوة في سبيل السيطرة والغلبة

صنم الحرية الغربية:

وجد الغربيون عند تحررهم من قيود الاستبداد الملكي الكنسي أنّهم على أعتاب حقبةٍ جديدةٍ مِن عمر البشرية ليس فيها مكانٌ للقيود والمحرّمات؛ فأطلقوا العِنان لأفكارهم ورغباتهم دون حدٍّ أو قيد، وأباحوا لأنفسهم كلّ ما يحقّق النفعَ المادي، وتخلّصوا من الإيمان بالإله ومن جميع تبعاتِ هذا الإيمان؛ لأنّه يقيّد حرّيتهم المنفلتة.

لكنّهم سرعان ما وجدوا أنفسهم مضطرّين لتثبيت هذا التغيُّر الذي أحدثوه، ليرجعوا إليه في كلّ حين، صانعين لأنفسهم نقطةً مرجعيةً يُحاكمون إليها أيّ محاولة لإعادة الاعتبار للدين ومرجعيته الأخلاقية؛ فظهرت النظريات والأطروحات الفلسفية بأنواعها الاجتماعية والسياسة والاقتصادية ونحوها لضبط هذا الحراك، والتي اتَّفقت في مجملها على تمجيد الإنسان –لا الإله- وجعله مركز الكون، وظهرت القوانين التي تبالغ في نزع القيود، ووُضعت المواثيق التي تحمي الحريّات التي تسير في هذا الاتجاه.

ولإكمال الصورة: أنشئت ساحات وميادين الحرّية، وأقيمت النصب التذكارية وشيّدت التماثيل، وشيئًا فشيئًا صارت الحريةُ نفسُها (ضمن مفاهيمها الغربية الجديدة) دينًا يُتبع وصنمًا يُعبد.

انقلاب الغرب على «مبادئه»:

ظهر التناقض في تصرفات الدول الغربية منذ البداية، لعل أشهرها استمرارُ حركة الاستعمار[12]، وما رافقها من محاولات فرض هويته على الشعوب المحتلة رغمًا عن إرادتهم، ثم الكيل بمكيالين في العديد من القضايا كالمسألة الفلسطينية، والنازية ونحوها، وكان هذا التناقض أكثر ما يظهر في الجوانب السياسية والدولية.

وبقيت السمة العامة للمجتمعات الغربية التمسُّك بتلك القيم داخل مجتمعاتهم، وحافظت عليها الدول عمومًا بقوة القانون وتأثير الثقافة والإعلام ما لم تمسَّ أمنها أو مصالحها، خاصةً خارج حدودها؛ فلم يأبه الإنسان الغربي حاكمًا أو محكومًا بدعم الديكتاتوريات والحكومات المستبدة، ومصادرة حقوق الشعوب الأخرى في حقوقها إلا بقدر حصولهم على خيرات وامتيازات هذه البلاد؛ فقد بقيت تسيطر عليه «أخلاقيات» الاستعمار مع العالم الخارجي، مما جعله طيلة تاريخه مزدوج المعايير، ولا جديد في ذلك.

أما على المستوى الداخلي: ففي الوقت الذي كانت الحرية فيه تضمن حقوقَ فئات مهضومة ومظلومة من المجتمع، كانت الحرية نفسُها تُفرز أصنافًا من الانحرافات الكفيلة بتدمير البنية الاجتماعية لدول الغرب من داخلها.

وبدأت المنظمات الدولية التي تتحرَّك في فلك تلك الدول بمحاولة فرض ثقافتها الاجتماعية والسلوكية والأسرية على سائر دول العالم من خلال الاتفاقيات الدولية المتعددة، التي تهدف إلى تغيير البنية الثقافية والأخلاقية، منطلقةً من العقلية الغربية وأهدافها متدثِّرةً تحت شعار حماية حقوق الإنسان.

ومع الحراك المستمر في الدول الغربية في هذا الاتجاه تغيَّرت الكثير من الأفكار والمعتقدات، وبدأت ملامح الانهيار الأخلاقي والسلوكي تزداد بقوة وتسارع، وازداد البعد عن الفطرة، وبسبب عدم وجود أرضية قيميةٍ للحريات أصبح ما كان منكرًا بالأمس مستساغًا اليوم، وشمل ذلك الأفكار والمعتقدات، والعلاقات بين الجنسين، وملابس النساء، حتى أصبح العري مُعبِّرًا عن أرقى صور الحرية، ولم يزل الحدُّ الأدنى للعمر الذي يُسمح فيه بممارسة الرذيلة ينزل حتى وصل إلى أعمار «الطفولة» حسب ذات القوانين «الضامنة للحرية»، وشاع التبشير بالشذوذ والدعوة إليه.

فكان ذلك إعلانًا لانقلابه على الأسس التي قام عليها حتى على المستوى النظري، وحتى في مجتمعاته.

يلحظ الراصد للتغيرات الاجتماعية في الغرب أنَّها انتقلت من الشعور بغرابة الأفكار المنحرفة التي يراد تطبيعها بدعوى الحرية، ثم إلى الدعوة إليها والتبشير بها وعدم الاكتفاء باعتناقها، ثم تحوّل الأمر إلى محاربة مَن يُعارضها تحت شعار محاربة التمييز والكراهية، ثم منع ومعاقبة كل من يعارضها!

توحُّش «المبادئ الغربية»:

تطوّر الأمر تحت وطأة الشعور بغرابة هذه الأفكار والرغبة في «تطبيع» الناس عليها، مع الإلحاح الحداثي ومنتجاته الفكرية إلى عدم الاكتفاء باعتناق هذه الأفكار، بل والدعوة إليها والتبشير بها، ومحاولة نشرها في المجتمعات، ثم تحوّل الأمر إلى محاربة كلّ مَن يُعارضها تحت شعار محاربة التمييز والكراهية، ثم منع ومعاقبة كل من يعارضها!

بذلك تحولت هذه «الحرية» إلى استبداد أصحاب القرار تجاه كل مَن يخالفهم ويعترض عليهم، وشمل ذلك مناهجَ التعليم، ووسائلَ الإعلام، والقوانين، وسائرَ شؤون الدولة، وأصبحت هذه الدعوات مستبدَّةً متسلّطةً على رقاب الناس وتتدخَّل في أخصِّ خُصوصياتهم وحياتهم الشخصية والأسرية، وغابت تحت وطأتها شعارات الحرية والديمقراطية والرأي الآخر وتقرير المصير، ولم يعد هناك إلا طرفٌ واحدٌ مُستبِدٌّ يَفرضُ رأيه ويُصادر حرّية الآخرين، وهذه المرة لم يكن الاستبداد ومُصادرة الحريات موجّهًا نحو الخارج ودول العالم فحسب، بل بدأت الهجمة بمجتمعاتهم من الداخل، حتى صارت الأصوات تعلو بالشكوى من ذلك، في انتهاكٍ صارخ لكلِّ ما قامت عليه أُسُس الحضارة الغربية وما ترفعُه من شعارات، وما تنتهجه من مبادئ، حتى إنّ معايير ثقافية وأخلاقية وسلوكية جديدة توضع وتقرُّ اليوم.

وأصبحت قيم الحداثة والليبرالية والديمقراطية وحقُّ هؤلاء في اعتناق ما يشاؤون من أفكارٍ ما هي إلا أدواتٌ بأيديهم لوأد هذه القيم ومصادرتها في غيرهم والتسلُّط عليها.

فأصبحت السلوكيات والقوانين المصاحبة لهذه الموجة تنسف «الحرية» التي يتغنى بها الغرب حتى في داخله. فلم يعد المرء حرًا في التعبير عن رفضه للشذوذ والنسوية، وليس له الخيار في أن يجنِّب أبناءَه ما لا يرتضيه من التربية عليها في المدارس ومناهج التعليم، ولم يعُد من حقِّه أن يمنع ابنَه القاصر من قرارات يراها ضارّةً به كالتحوُّل من جنسٍ إلى آخر، بل إنه بذلك يعرِّض نفسه للعقوبة القانونية والسجن ورفع ولايته عن أبنائه. فماذا بقي من «الحرية»!

نادت الحضارة الغربية بتحرير العقل من الطغيان والاستبداد، وعظَّمت العلم، ورفعت من مكانة العقل، لكن قيمها ومبادئها انطلقت دون ضوابطَ معرفيةٍ أو عقلية، خاليةً من المعايير الأخلاقية والقيمية، فباتت بلا قائدٍ ولا موجِّه، ومثل هذه الشهوات والرغبات ستعبث بهذه الحضارة، ثم تكون سببًا في فنائها وزوالها

المستقبل:

التناقضات بين الشعارات التي نادى بها الغرب وواقعه باتت كثيرةً جدًا، في جميع مجالات الحياة الفكرية، والعلمية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وبالمحصلة: فما يعيشه الغربُ اليوم من الانهيار في القيم والانقلاب على المبادئ التي عاش مناديًا بها؛ هو النتيجةُ الحتمية والمحطة المتوقعة للفكر الذي سار عليه ونادى به؛ فما الواقع إلا حصاد ذاك الغراس، والسيف الذي استلوه على الحكم الكنسي البابوي هو ذات السيف المسلَّط على رقابهم الآن.

ومع أنّ هذه الحضارة نادت ابتداءً بتحرير العقل من الطغيان والاستبداد، وعظَّمت العلم، ورفعت من مكانة العقل، لكن هذه المبادئ انطلقت دون وجود ضوابطَ معرفيةٍ ولا عقلية، ولا معاييرَ أخلاقيٍة أو قيمية، فباتت بلا قائدٍ ولا موجِّه، والمتوقَّع أنَّ المصالح الضيقة والرغبات والشهوات المحضة ستعبثُ به ابتداءً بانحراف العلم عن مساره الصحيح غايةً وأهدافًا ووسائل، ثم الإيغال في الشهوات والملذات بعيدًا عن أي ضابط أو رادع[13].

ومع أنَّ الغرب تغنى ردحًا من الزمن بأنَّه لا يقبل أمرًا إلا من خلال البحث العلمي والتجربة، وظنَّ كثير من الناس أنَّ الغرب يُقدِّس هذا المبدأ فعلاً، فإذا هو الآن يقدِّم نظرياتٍ متهافتةً في الجندر والمساواة المطلقة بين الذكر والأنثى لا تستند إلى أيِّ أساسٍ علمي، بل تُصادم بحوثَه الرصينة في هذا المجال، فيحاربُها ويصادرُها عن النشر والتسويق، ويشنُّ الحملات على العلماء الذين قاموا بها لتشويههم وإسقاطهم.

لقد سقطت أوراق التوت عن عورات «الحضارة الغربية» بصورة مريعة وفجة، ما ظن الناس أن تنكشف بهذه الفجاجة والوقاحة، «وإنَّ حقًا على الله ما رفع شيئًا إلا وضعه».

ومما يتعجَّب منه أصحاب الفِطَر السليمة والأذواق الصحيحة: أن تتقبَّل عقول الغربيين حرياتٍ تقود إلى الهبوط والتدنّي في الملذَّات والشهوات، إلى درجةٍ بهيميةٍ صِرفة، بل إلى ما هو أسوأ من ذلك مما يعفُّ القلم عن كتابته!

وكما كانت شعارات العدالة وتوزيع الثروة وبالاً على الشيوعية وسببًا في تدميرها بعد عقود من استعلائها وعتوِّها، ستكون شعارات الدول الغربية كذلك، وهكذا كان حالُ الأمم الغابرة، يجمعُها الانحراف عن شرع الله، واتخاذُ مرجعياتٍ بشريةٍ غيرِ إلهية؛ فالجاهلية هي الجاهلية، كان الرجل في الجاهلية يصنع صنمًا من تمر، فإذا جاع أكله، أضحت الحضارات الغربية تأكل نفسها بنفسها بما تحمله من أفكار هدامة.

لقد آن الأوانُ لطائفةٍ من أبناء جلدتنا ممن يَزهَد بما بين يديه من علمٍ وفكر، ويولِّي وجهَهُ تلقاء الشرق أو الغرب كلما لاحت بوارق منجزاتٍ دنيوية ينبهر بها، لا يُدرك كُنهَها وحقيقتها؛ آن لهم أن يكُفُّوا عن محاولة إلباس هذه الفلسفات لَبوس الإسلام، وأن يُدركوا عظمة دينهم وتراثهم، ويفقهوا حقيقته.


 

[1] أمثال هذه العبارات ليست قواعدَ لازمة لا تتغيّر ولا تتبدّل، بل هي وجهات نظر لمن أطلقها، وقد يكون لها وجهٌ في وقت من الأوقات أو ظرف من الظروف.

[2] من أشهرهم: فرانسيس فوكوياما في كتابه: (نهاية التاريخ وخاتم البشر).

[3] تفسير ابن كثير (٣/٦٢).

[4] الأم للشافعي (٤/١٨٠).

[5] أخرجه مسلم (٢٨٩٨).

[6] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (١٧٧٣٤). والأحباش كانوا نصارى في ذلك الزمان، وبينهم وبين الإمبراطورية البيزنظية تواصل.

[7] مجموع الفتاوى (٢٨/٦٢-٦٣).

[8] هذه الحروب -بما رافقهما من ويلات- لم تكن إلا تطبيقًا عمليًّا للأفكار السائدة في الفكر الأوربي كالتفوُّق العرقي، والأحقِّية في السيطرة والاستعمار، والرغبة في إخضاع العالم لشعبٍ، ونحوها.

[9] تنظر مقالة: نقد الحضارة الغربية بين مالك والمسيري، مصطفى عاشور، إسلام أون لاين.

[10] نقله أبو الحسن الندوي في كتابه: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ ص (١٦٢).

[11] «الرأسمالية –كما يقول الفيلسوف جارودي- عاشت على خيرات ثلاث قارّات احتلتها واستغلّتها فنهبت ثرواتها لقاء ثمن بخس –إن كان هناك ثمن- ولا زالت تستغلُّ هذه الثروات لصالحها». المدخل إلى الاقتصاد الإسلامي، للدكتور علي القره داغي، (١/ ٧٣).

[12] لم يتوقَّف استعمار الدول والشعوب ونهبُ خيراتها قبل الثورة الفرنسية وبعدَها، وحتى بعدَ تأسيس منظمة الأمم المتحدة، اللهم إلا في مسائل يسيرة مثل تجارة الرق، وما عدا ذلك فالاستعمار قائمٌ حتى اليوم بصيغٍ وأشكالٍ أكثر تطورًا.

[13] ولعل مِن أكثر مَن خبر حقيقة الفكر الغربي ومآلاته وتنبأ بكثير مما هو واقع اليوم د. عبد الوهاب المسيري في دراساته التحليلية، ولعل أشهر تنبؤاته في انتشار الشذوذ الجنسي وازدياده، معللاً ذلك بأنّه إذا كان التوجّه في الحضارة الغربية نحو اللذة، فإن الجنس مع الأنثى خطر، لأن ذلك سيؤدي لعلاقة مع الآخر والتي تفرض نمطًا من الأخذ والعطاء ووجود أطفال أحيانًا بما يمثله من بُعد اجتماعي، كذلك تعني نوعًا من الثبات في العلاقات بخلاف العلاقات العابرة. فإذا كان الأمر هو التوجه نحو اللذة؛ ستكون النتيجة الحتمية هي الشذوذ الجنسي؛ فالشذوذ الجنسي نتيجة حتمية للمادية الإيديولوجية!

 

X