الورقة الأخيرة

اذهَبوا فتحَسَّسُوا

فَقَد يعقوب عليه السلام أعزَّ أبنائه حتى فقد بصرَه أو كاد يفقِده حُزنًا عليه، ولما عظم المصاب بفقد ابنه الثاني، وغياب الثالث.. تجدَّد لديه الأمل بلمّ الشمل فقال: ﴿‌عَسَى ‌اللهُ ‌أَنْ ‌يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾، ثم فاضت مشاعره الجياشة: ﴿يَٰٓأَسَفَىٰ عَلىَٰ يُوسُفَ﴾ رافعًا شكواه إلى كاشف البلوى عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.

هذا التماسُكُ الداخليُّ بالأمل، والاستقرارُ النفسيُّ بالاعتدال في إبداء مشاعر الألم، وانضباط البوصلة بترك الشكوى إلا إلى الله تعالى وحده.. أمور منحت يعقوب عليه الصلاة والسلام طاقةً عمليةً نحو الحلّ، فتوجَّه إلى أولاده بقوله: ﴿يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ مجدِّدًا أَمَلهُ محذِّرًا لهم من اليأس: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا ‌مِنْ ‌رَوْحِ ‌اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ ‌مِنْ ‌رَوْحِ ‌اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

ما أحوج العاملين في مصالح الناس اليوم، والساعين في الشأن العام، والباذلين أوقاتهم في الإصلاح، والثائرين على الظلم والطغيان، أن يمتلئوا بالأمل، وأن يُجمِلوا بأقل الكلمات في تعبيرهم عن الألم، دون التمادي في النياحة والتباكي والتشاكي والتذمُّر والولولة، وأن يُفيضوا في شكواهم إلى خالقهم وحده صابرين محتسبين.. لكي تتجدَّد طاقة العمل والحركة عندهم في مواجهة نوازل الكفر والطغيان العاصفة بالدين والفطرة، والكاسحة للأبدان والأوطان.

آنذاك سيقفون على الأبواب المفتوحة التي تعمى عنها العيون الباكية على الأبواب المغلقة.

ومن تلك الأبواب التي يُتحسَّس بها الفرج، ويُتلمَّس بها النصر، ويرجى بها الثبات:

الباب الأول:

تحسُّس مفهوم النصر، الذي يبدأ بالثبات على المبادئ الحقّة، وينتهي بانتصار حمَلة الثوابت الموقنين بوعد الله، المصدّقين بأن الله يختبر تصديقهم بوعده ووعيده، ويمتحن صبرهم على مرارة القدر وصعوبة الطاعة؛ لأجل تهيئتهم ورفع درجتهم، فيثابرون على العمل خطوة خطوة في طريق رحلة شاقَّة تتطلَّب استعدادًا ثقيلاً.

ليست الهزيمة خسارة المعركة، إنما الهزيمة العودة عن الطريق، والندم على الصواب، والتحسُّر على بذل المعروف، والتألُّم من فوات الحظِّ الدُّنيوي، وكأنه لا جنةَ ولا فِردوس ولا آخرة.

الباب الثاني:

تحسُّس المنجَزات وآثارها الخارجية التي يبصرها العدو الذي يتألم كما نتألم، على الرغم من رائحة مواجعها المزعجة.

ومن تلك المكتسبات التي تحققت للشعوب الناهضة والمهجَّرة اليوم: نيل حرية القلب والعقل والنفس، واتساع مساحة العمل الحر، والتقاء الناس بلا مخاوف، وانفتاح شهية الشباب للتأثير العام، وانطلاق التفكير في المستقبل وتحصيل مقومات القوة فيه، واستلهام دروس الفشل وعبر التجارب، ومعرفة الصديق من العدو، واكتشاف الطرق المسدودة، والتأكد من ضرورة الاستقلالية..، فضلاً عما أصاب العدوَّ من انهيارات لا نُدرك آثارها … ومن لم يشعر بتلك المكتَسَبات فلا حظَّ له في صناعة النهضة؛ لأنه يائس، واليائس لا يصنع شيئًا.

الباب الثالث:

تحسس آفاق العمل ومجالات التحرُّك الضخمة التي أتاحها الفراغ الناشئ عن تحجيم نُظُم الاستبداد، وخروج ملايين الناس عن سلطتها وتأثيرها.

هذه الفرص اليوم يستثمرها الأعداء، لكن أصحاب القضية أقدر على استثمارها، فهم وإن كانوا أقل في الخبرات والإمكانات، إلا أنهم: أهل الدار الأصدق في الذود عنها، والأدرى بحاجاتها، والأخبر بمداخلها ومخارجها وأسرارها، والأسرع حركة في دروبها، والأكثر مناورة في ثناياها.

تُرى ما الذي يعيق عن تحسس الأبواب واستثمار الفرص؟ ما هو إلا الجهل بحقائق الأمور والسنن الربانية، والغفلة عن القوة الذاتية، وغلبة هموم المستقبل المكفول، والخوف من الأوهام، والتعلق بالغالب، وفقر النفس، والتعالم بدل التعلم، والكسل عن التقويم والتصحيح، والاشتغال بواجبات الآخرين عن واجبات النفس، وانتظار المخلص انتظار العاجز، وانخفاض الهمة، ومحدودية التطلعات.. وكلها قضايا نفسية ثقافية، ولا خلاص منها إلا بقوة الأمل وانطلاقة خطوة العمل.

ما أحوج الثائرين الناهضين والدعاة والمعلمين والمجددين أن يقال لهم: اذهبوا إلى أنفسكم، فتحسسوا قواكم، وجددوا أملكم بالكريم اللطيف العليم القدير، واعلموا أن قعود الجسد لا يكون إلا من خواء الروح والعقل.


د.خير الله طالب


 

X