تزكية

القصص القرآني: منهج تربوي فريد

القرآن الكريم كتاب نور وهداية، والأخذ به سبيل للسعادة في الدارين، هداياته متعددة الأساليب والأدوات؛ ومن أكثرها حضورًا وتأثيرًا: قصص الأمم السابقة، وهي تكاد تجمع فوائد الأساليب الأخرى، وتأثيرها ملموس مشهود لدى الكبار والصغار والعلماء والعوام، وهذه المقالة تضيء لنا جانبًا من حِكم القصص القرآني وأهدافه، مع أمثلة تطبيقية وتوجيهات تربوية.

مدخل:

لا يخفى ما للقصص في الموروث الإنساني من دور كبير في نقل الخبرة والعبرة في التوجيه والتربية، ذلك لما للقصة من أثر عميق في نفس المتلقي وتكوينه وتشكيل وعيه، ومن المشاهد أن العبرة والموعظة المجردة لا تؤثر في الفرد وتحمله على الانصياع والاستجابة ما لم تقترن بقصة واقعية.

لذلك نجد القرآن الكريم اعتنى بالقصة عناية كبيرة، ونوَّع في سردها وعرضها، وأبدع في أسلوبها، واعتمـد علـى إيـراد الموعظـة والعبرة في صورة قصة لتكون أبلغ في التأثير وأعظم في التعليم والتذكرة، قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ [يوسف: 3]. فقصص القرآن مجال خصب للدعوة والتربية، وفيها العِبَر والعِظات والحِكَم، يستفيد منها المربون، وينتفع منها المعلمون، ويتزود مِن معينها الصالحون[1].

اعتنى القرآن الكريم بالقصة عنايةً كبيرة، ونوَّع في سردها وعرضها، وأبدع في أسلوبها، واعتمـد علـى إيـراد الموعظـة والعبرة في صورة قصَّة لتكون أبلغ في التأثير وأعظم في التعليم والتذكرة

أهداف القصص القرآني:

يمكن إجمال أهداف القصص القرآني في عملية التربية والإعداد في هدفين رئيسين:

الأول: التغيير الاجتماعي، وإحداث النقلة الكبيرة في المفاهيم والقيم والأخلاق والموازين والمنهج، لتقوم الجماعة المؤمنة بالوظيفة الكبيرة التي سينيطها الله بها: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]. وهذا التغيير الجذري العميق يتطلب جهدًا عظيمًا وصبرًا دؤوبًا، ليصل البناء تمامه، ويستحق وعد الله بالتمكين والاستخلاف: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55].

الثاني: بيان تفاصيل المنهج؛ كيف تعيش الجماعة المؤمنة بهذا الدين، وكيف تطبق المنهج الإلهي في الحياة وكيف تدعو إليه، قال سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111].

لقد كان للقصص القرآني دور بارز في تنشئة الجماعة المؤمنة وتربيتها وصياغتها فكريًّا وشعوريًّا، وهي أهم عوامل التوجيه والإرشاد في بيان الحق وثباته في القلوب وترسيخ الإيمان وتجذيره في النفوس.

وجدير بالذكر أن معظم هذا القصص ورد في القرآن المكي، ما يوضِّح أثر القصة في المنهج الإلهي في تلك المرحلة التي تتضمن عملية البناء الأولى للجماعة المؤمنة في تلك الفترة من عمر الدعوة، وما لابسها من ظروف وملابسات، وهذا ما ينبغي أن يكون حاضرًا في أذهان الدعاة وأهل العلم، وهم يواجهون مثل تلك الظروف، ومقتضيات النشأة المشابهة في بعض الأزمنة والمجتمعات[2].

ينبغي ألا يغيب عن الدعاة والمربين أن معظم قصص القرآن وردت في القرآن المكي، وكان لها دور بارز في تنشئة الجماعة المؤمنة وتربيتها وصياغتها فكريًّا وشعوريًّا في تلك الفترة من عمر الدعوة، وما لابسها من ظروف وملابسات

التوجيهات التربوية من القصص القرآنية:

لعلنا نستذكر -على عجالة- بعض تلك القصص وأبرز التوجيهات التربوية المستفادة منها، ثم نفرد بعض القصص بوقفة خاصة بمشيئة الله.

فقصة بداية الخلق وقصة آدم وإبليس في الجنة ونزولهما للأرض تُذكّر الناس جميعًا بأصل الصراع وغاية الوجود الإنساني، وأثر المعصية، وطبيعة الوجود على هذه الأرض، ثم العودة إلى الله والحساب بعد انتهاء مدة الاختبار، نلحظ هذا التوجيه بتكرار القرآن للقصة في مواضع من القرآن وبسياقات مختلفة لأهمية التذكير المستمر بهذه الحقائق الأساسية للبشر.

كما أن قصة موسى عليه السلام -وهي أكثر القصص ذكرًا وإعادة في القرآن- فيها من المعاني الإيمانية والتربوية والدعوية ما يفوق الوصف، فهي تهم كل داعية، وهي نذير لكل طاغية، وفيها تربية لكل أمة مستضعفة، وبيان لسبيل التمكين، وغيرها من الدروس والعبر والتوجيهات التربوية في كل هذه المجالات.

وقصة طالوت وجالوت، نتعلم منها معنى القيادة ومواصفات القائد، وأهمية السمع والطاعة، والتنظيم للعسكر والجيش الفاتح الذي يحمل العقيدة الربانية.

وفي قصة أصحاب السبت عبرة عظيمة للجماعة المؤمنة، وأهمية القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتربية القلوب على الخوف والخشية ودوام المراقبة لله، وخطورة الاحتيال على الشريعة، وأن العلم وحده لا يُغني شيئًا إذا كانت القلوب خربة والنفوس مريضة!

كما نتعلم من قصة أصحاب الأخدود التضحية في سبيل الله والعقيدة، والثبات العظيم على الحق والمبدأ، مهما كان الخطر والتهديد، وإن كان هو الموت المحتّم، فلا مساومة في العقيدة، ولا خضوع لجبار!

أما قصة الفتية أصحاب الكهف ففيها من المعاني التربوية أن الدين والإيمان أغلى ما يملك المرء في هذه الحياة، وأهم ما ينبغي أن يحافظ عليه، لأجله يهجُرُ العشيرة والوطن والأصحاب والقرابة، ويبذل في سبيله الغالي والنفيس، يحتملُ ألم الفراق والغربة، ولا يتراجع ولا يضعف.

من قصة نوح عليه السلام نتعلم صبر الداعية العظيم وعدم استسلامه وإن طال الزمن، كما نتعلم أهمية التنويع في أساليب الدعوة، ومع ذلك فإن أمر القلوب بيد الله سبحانه، والاستجابة والإيمان ليست لأحد إنما لله، فلا يأس ولا قنوط.

من كنوز قصة الفتية أصحاب الكهف: أن الدين والإيمان أغلى ما يملك المرء في هذه الحياة، وأهم ما ينبغي أن يحافظ عليه، لأجله يهجُرُ العشيرة والوطن والأصحاب والقرابة، ويبذل في سبيله الغالي والنفيس، يحتملُ ألم الفراق والغربة، ولا يتراجع ولا يضعف

وقفات تربوية مع قصص قرآنية:

والآن نقف مع بعض القصص القرآني نركّز فيها على بعض المواقف التربوية المختارة بشي من التفصيل. 

قصة النبيّ المَلِك سليمان عليه السلام

ذُكر نبي الله سليمان عليه السلام في القرآن سبع عشرة مرة[3]. وجمع الله له بين النبوة والمُلك. وأثنى عليه بالعلم والفهم والحكمة؛ وهذه بعض الوقفات التربوية المستفادة من خلال قصته[4]:

  • اللفتة الأولى: من أعظم مهمات القائد: حسن تدبير شؤون الدولة:

وفي قصة سليمان يظهر حُسن القيام بهذه الأمانة في أمور أبرزها: التنظيم والضبط وتوزيع المهام، كما في قوله تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ [النمل: 17]، ففيه دليل على أن سليمان عليه السلام قد قسَّم المهام والوظائف على جنوده، فكلٌّ له غايته، وكل له وظيفته الموكل بها، هو دليل اهتمام كبير وتحمل للأمانة عظيم للمحافظة على الملك واستمرار قوته وهيبته.

كما يظهر حُسن القيام بهذه الأمانة من خلال المتابعة الدقيقة والمحاسبة والمساءلة، مع العدل والحزم، كما في قوله تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ [النمل: 20]، فلابد للقائد وولي الأمر حتى يستقر ملكه ويستقيم أمره من متابعة الانضباط والطاعة، والتفقد للجنود والرعية، والحزم عند وجود أي خلل، وإلا صار الأمر فوضى. ومع هذا فسليمان لم يكن ليُعاقب ظلمًا، دون أن يسمع حجة الهدهد الغائب، ومن ثم تبرز سمة النبي والملك العادل: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: 21]، أي حجة قوية توضح عذره، وتنفي المؤاخذة عنه.

  • اللفتة الثانية: في أهم أخلاقيات القيادة:

كالتواضع، ودوام التوبة والاستغفار، والاعتراف بالفضل لله وشكره، يظهر في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: 15]، وكذلك في قوله لما رأى عرش بلقيس مستقرًا أمامه: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40]، فالقائد والزعيم والمسؤول ينبغي أن يتحلَّى بخُلُق التواضع ولا يغره المنصب، فيتذكر فضل الله عليه، ليشكره ويرد الفضل لصاحب الفضل والتوفيق.

ويظهر دوام الرجوع لله مع كثرة الاستغفار في قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 30]، فالسلطة مظنة الانشغال بالملك وسياسة الرعية، فلا بد لصاحب السلطة والمسؤولية من دوام ذكر الله ليبقي الصلة بربه قائمة، فلا يغفل عنه ولا يدع أعباء السلطة تشغله عن ربه، فهو إنما يقوم بالملك ويُعان عليه بمعية الله وتوفيقه له.

قصة لقمان الحكيم

لقد سميت سورة لقمان في القرآن الكريم إعلاءً لشأنه، وتنويهًا بوصيته لابنه، وما فيها من حديث مؤثر بليغ في التربية والتوجيه والنصح والتحذير، وذلك في بضع آيات، من قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان: 12-19].

فقد احتوت هذه الآيات على خلاصة ما ينبغي أن يقوم عليه كل من يبغي السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، والوقوف مع هذه الوصايا واللفتات يحتمل مجلدًا، ولكننا نشير لثلاثةِ توجيهات تربوية منها:

  • اللفتة الأولى: عِظَم حق الوالدين وبرهما:

لا حقَّ أوجب تأديةً بعد حقِّ الله وشكره من حق الوالدين اللذين كانا سببًا في وجود الولد في هذه الحياة؛ ولهذا يقرن الله تعالى بين حقِّه وحقهما في آيات من القرآن الكريم كهذه الآية.

  • اللفتة الثانية: مراقبة الله على الدوام:

وهي الأصل في تزكية النفس وعمارة القلب، فمن راقب الله في كل أحواله استقام أمره وصلحت علانيته وسريرته، فلا يقترب من ذنب، ولا يقارف خطيئة، فإذا غفل قليلاً سارع إلى التوبة والأوبة فصقل قلبه وأعاد صلته بربه.

  • اللفتة الثالثة: التواضع لله:

فالمتواضع محبوبٌ من الله والناس، خلاف المتكبر فهو ممقوتٌ في الأرض والسماء، والتواضع خُلقٌ كريم، يؤدي إلى لين الجانب، ولُطف الخطاب، وحُسن المعاملة.

أما المتكبِّر فإنه يَستصغر الخلق، ويردُّ الحق، وما أخوف ما جاء في أهل الكبر من الوعيد، قال عليه الصلاة والسلام: (تحاجَّت النار والجنة، فقالت النار: أُوثرتُ بالمتكبِّرين والمتجبِّرين..) الحديث[5].

من توجيهات لقمان: أنَّ المتواضعَ محبوبٌ من الله والناس، بخلاف المتكبِّر فهو ممقوتٌ في الأرض والسماء، والتواضع خُلقٌ كريم، يؤدي إلى لين الجانب، ولُطف الخطاب، وحُسن المعاملة، أما المتكبِّر فإنه يَستصغر الخلق، ويردُّ الحق

قصة ابنَي آدم

قال الله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ .. إلى قوله: ﴿قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ [المائدة: 27-31].

لم يثبت في اسمي ابني آدم شيء، والحديث الصحيح الوارد فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُقتل نفسٌ ظُلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفلٌ من دمها، لأنه كان أول من سَنَّ القتل)[6].

اللفتات التربوية والعبر المستفادة من القصة[7]:

اللفتة الأولى: تحريم الظلم، وصيانة النفس البشرية:

لقد كرَّم الله النفس الإنسانية وحذرنا من المساس بهذه النفس فقال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: 151]. «فأين البشرية الآن من هذه التعاليم الربانية؟! بل أين المسلمون الآن منها؟! إن العالم الآن يضج بالفتن والحروب واستخدام الأسلحة الفتاكة، والتفاخر بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، فما أحوج أمتنا للرجوع إلى تعاليم الرسالات! فالكون اليوم كله يهفو إلى تعاليم السماء ويشتاق إلى تعاليم الإسلام»[8].

اللفتة الثانية: الصراع بين الحق والباطل باقٍ إلى قيام الساعة:

تظهر قصة ابني آدم نموذجين للبشر، نموذج النفس الشريرة التي تعتدي بلا مبرِّر، ونموذج النفس الطيبة الخيرة التي لا تعرف الشر ولا تُضمر السوء، يتصرف كل نموذج وفق طبيعته، وما دام أن النفوس الشريرة موجودة، فلا بد من قانون رادع وشريعة عادلة ترد البغي وتقف في وجه الظالم وتمنعه من ظلمه، قال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45].

قصة نبي الله صالح عليه السلام

وهي قصة كغيرها من القصص التي ساقها القرآن الكريم بين الأنبياء والمرسلين وأقوامهم وما كان بينهم وكيف انتهى أمر المكذبين المعاندين، وكيف أنجى الله المؤمنين المصدقين، قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ … إلى قوله: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: 73-79][9].

وهذه القصة، وفيها من العبر والدروس الكثير، وهذه بعض الوقفات التربوية مع القصة:

اللفتة الأولى: التنكُّر للحق وواجب الدعاة:

في قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ [هود: 62]، لقد كان صالح عليه السلام ذا مكانة في قومه واحترام، قبل أن يدعوهم إلى عبادة الله وحده والإيمان به، فلما دعاهم إلى عبادة الله الواحد وترك ما يعبدون من دونه، سقط من أعينهم واحتقروه!

وفي هذا درسٌ بليغٌ لكل داعيةٍ للحق يُخالفُ ما عليه قومُه من اعتقادٍ وعاداتٍ وأخلاق، فلربما كان فيهم ذو وجاهةٍ ومكانةٍ يثقون برأيه ويُعجبون بعقله، ما دام أنه لا ينهاهم ولا ينصحهم فيما هم واقعون فيه، فإذا واجههم وأمرهم ونهاهم فالغالب أنهم سينقلبون عليه وسيتنكَّرون لكل ما كان، فلا ينبغي أن يصده ذلك عن المضي في طريقه، وله أسوة حسنة بالأنبياء والمرسلين، وهذا نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم كانوا يدعونه في مكة: الصادق الأمين، فلما قام يدعو إلى الله تعالى قالوا: ساحر كذاب؛ فقص الله عليه ما جرى لمن كان قبله من الأنبياء ليثبت فؤاده؛ قال تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ 33 وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام: 33، 34].

اللفتة الثانية: العبرة بموافقة الحق لا بالكثرة:

فقد حكى الله قول الملأ من ثمود: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ 23 فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: 23، 24].

وفي قولهم: ﴿أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ﴾ استنكارٌ منهم كيف يكون الحق مع شخص واحد، والجميع يُخالفه فيه! فهذا لا يعقل في نظرهم، وهذا أحد أسباب ترك الحق واتباع الباطل؛ لأن الحق أصحابه قليل ولكثرة أهل الباطل، وهو داء في الناس من قديم، والعبرة التربوية أن الحق يُعرف بنفسه وبرهانه ودليله، وليس مقياسه الكثرة والقلة فهذا ميزان لا يستقيم، وقال صلى الله عليه وسلم: (بَدَأَ الإسلامُ غريبًا، وسيعودُ كما بدأ غريبًا، فَطُوبى لِلغُرباءِ)[10]، قالوا: ومَنِ الغرباءُ يا رسول الله؟ قال: (أُناسٌ صالِحونَ في أُناسِ سُوءٍ كثيرٍ، مَن يَعصيهِم أكثرُ ممن يُطيعُهم)[11].

استنكرت ثمود أن يكون الحق مع شخصٍ واحد، والجميع يُخالفه فيه! فهذا لا يُعقل في نظرهم، وهذا أحد أسباب ترك الحق واتباع الباطل، وهو داءٌ في الناس من قديم، والعبرة التربوية: أن الحق يُعرف بنفسه وبرهانه ودليله، وليس مقياسه الكثرة والقلة

اللفتة الثالثة: الراضي بالفعل كالفاعل في أحكام الآخرة:

ذكر سبحانه أن الذي عقر الناقة شخص واحد، فقال تعالى: ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ﴾ [القمر: 29]، وقال في موضع آخر: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ [الأعراف: 77]، وقال: ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ [هود: 65] هكذا بصيغة الجمع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انْبَعَثَ لها رجلٌ عزيزٌ عارِمٌ، منيعٌ فِي رَهْطِهِ، مثلُ أبي زَمْعَةَ)[12].

لقد أضاف الله الفعل إليهم جميعًا: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾، فعمَّهم الله بالعذاب، ولم ينجُ منهم إلا مَن لم يرض وهم المؤمنون؛ وهذا يدل على أن الراضي كالفاعل في حكم الله سبحانه وميزانه، روى أبو داود مرفوعًا: (إذا عُمِلَتِ الخطيئةُ في الأرضِ كانَ مَن شَهِدَها فَكَرهها -وقال مرة: أنكرها- كمَن غابَ عنها، ومن غابَ عنها ورضِيَها كانَ كمَن شَهِدها)[13].

قال ابن رجب: «من شهد الخطيئة فكرهها في قلبه كان كمن لم يشهدها، إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومَن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم يُنكرها؛ لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، وهو فرضٌ على كل مسلم لا يسقط عن أحد في كل حال من الأحوال»[14].

كيف نستفيد من القصص القرآني:

هذه بعض التنبيهات والخطوات التي تعين على تحصيل أكبر قدر من الفائدة عند قراءة القصة في القرآن الكريم، وقد علمنا سابقًا أن للقصة في القرآن مكانة بارزة وجاء سياقها لأهداف وغايات متعددة، وحتى يمكن الاستفادة من القصة القرآنية ينبغي مراعاة بعض الأمور:

  • القراءة بتدبر وحضور قلب وعقل مع دعاء الله بالفتح والفهم:

وتأمل قول الله تعالى وهو يقول في سورة يوسف: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ [يوسف: 7]. فلك أن تتخيل كم في هذه القصة من الفوائد والدروس والعبر والتوجيه والإرشاد في مجالات شتى، كل ذلك يمكن استخلاصه إذا قرأنا هذه السورة بتدبر وحضور قلب وإعمال العقل.

  • تحديد الهدف من القصة:

وذلك بمعرفة موضعها، والقدر الذي حُكي منها، وأسلوب الحكاية، وجو السورة وأهدافها، تأمل معي قول الله تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ 54 أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ 55 فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ 56 فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناهَا مِنَ الْغَابِرِينَ 57 وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾ [النمل: 54-58]، في هذه الوقفة القصيرة في سورة النمل، تُبرز همَّ قوم لوط عليه السلام بإخراجه من قريتهم لأنه يأمرهم بترك فاحشة الشذوذ المنافية للفطرة، ونجاته ومن آمن معه وإهلاك القوم المكذبين.

وسورة النمل سورة مكية، ومعلوم أن موضوعات السور المكية الرئيسي هو بيان العقيدة في الله وتصحيحها، والإيمان بالآخرة، وحقيقة الوحي وإثبات الرسالة، وإقامة الحجة على الناس وبيان عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين، ويأتي القصص لتثبيت هذه المعاني، لذلك يذكر طرفًا من القصة باختصار وهو يركز على نهايتها بإهلاك المكذبين، لأنه الهدف الذي يخدم سياق السورة ومحورها.

أبرز موضوعات السور المكية بيان العقيدة في الله وتصحيحها، والإيمان بالآخرة، وحقيقة الوحي وإثبات الرسالة، وإقامة الحجة على الناس وبيان عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين، ويأتي القصص لتثبيت هذه المعاني، ويركز على نهايتها بإهلاك المكذبين

  • جمع مواضع القصة في القرآن الكريم:

ومثال ذلك قصة نبي الله لوط عليه السلام، فقد وردت في مواضع من القرآن في سور عدة[15]، وطريقة القرآن أن يستشهد بالمقطع الذي يذكره من القصة بما يناسب سياق السورة واتجاهها العام وموضوعها البارز، فجمع مواطن القصة في القرآن يعطي تصورًا أكبر حولها، ومعرفة محور كل سورة واتجاهها العام، فيُفهم الشاهد المذكور من القصة في ضوء السورة واتجاهها.

  • الرجوع إلى ما ثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم:

ففيها زيادة إيضاح وشرح وبيان، كما في البخاري من ذكر لبعض تفاصيل ما جرى بين نبي الله موسى عليه السلام والخضر، وما ورد في بيان حال أصحاب السبت اليهود ومسخهم، وغير ذلك.

  • الاستعانة بكتب التفسير الموثوقة:

وذلك لفهم مجريات القصة والأحداث والشخصيات الواردة، كتفسير الطبري، وابن كثير، والبغوي، والقرطبي، وبعض المؤلفات المعاصرة التي اهتمت بتحرير الروايات والمنقولات الإسرائيلية والدخيلة التي لا تثبت أو تتعارض مع ما ثبت في شريعتنا.

  • المناقشة والتفكير الناقد:

وذلك عن طريق معرفة المحور الذي تدور حوله، ومعرفة الشخصيات والزمان والمكان الذي حدثت فيه، وربط القصة وشخصياتها وأفكارها بالواقع، واستخلاص المعاني والدروس، يقول ابن القيم: «أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته -تحت القرآن- وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خَلَوا.. ولعَمْرُ الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شرٌّ منهم، أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك»[16].


أ. محمد أمجد عبد الرزاق بيات

ماجستير في الفقه، باحث شرعي ومدرس


[1] ينظر: معالم القصة في القرآن الكريم، لمحمد خير العدوي، ص (7، 8).

[2] ينظر: القصص القرآني: عبر ودروس، لمرشد الحيالي.

[3] وردت قصة سليمان -عليه السلام- في سورة النمل من (الآية 15 إلى الآية 44) وفي سورة الأنبياء (الآيات 79 و81و82) وفي سورة سبأ (الآيات 12- 14)، وفي سورة ص (الآية 30 إلى الآية 40).

[4] ينظر: في ظلال القرآن، سورة النمل (15-44)، سورة ص (30-40)، الفوائد التربوية من قصة سليمان عليه السلام، لعبدالعزيز الرويلي.

[5] أخرجه البخاري (4850)، ومسلم (2846).

[6] أخرجه البخاري (3335) و (7321)، ومسلم (1677).

[7] ينظر: في ظلال القرآن، سورة المائدة (27-31).

[8] التربية في القصص القرآني، لحسام العيسوي، ص (46).

[9] وردت قصة نبي الله صالح وقومه ثمود في مواضع من القرآن، في سورة الأعراف: (73-79)، وفي سورة الحجر: (80 – 84)، وفي سورة الشعراء: (141 – 159). وهود: (61-68) . والقمر: (23-31) . والشمس: (11-15).

[10] رواه مسلم (145).

[11] هذه إحدى روايات الحديث، وهي في مسند أحمد، برقم (6650)، وقال محققو المسند: حسنٌ لغيره.

[12] رواه البخاري (4942)، ومسلم (2855).

[13] أخرجه أبو داود (3651)، وحسَّنه الألباني.

[14] جامع العلوم والحكم، ص (281).

[15] وردت قصة لوط عليه السلام في سورة: الأعراف، وهود، والحجر، والأنبياء، والشعراء، والنمل، والعنكبوت، والذاريات، والنجم، والقمر.

[16] مدارج السالكين (1/343).

X