تأصيل

كيف نتذوق الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم؟

من مفاخر هذه الأمة امتلاكها لكتاب بلغ الغاية في الفصاحة والكمال في البلاغة، قال عنه ألدُّ أعدائه: «إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته»، لكن منا من يقرؤه ولا يتذوق بلاغته، مع أننا نؤمن به ونردد آياته صباح مساء. تحاول هذه المقالة تلمّس الطريق إلى تذوق هذه البلاغة واستشعارها

المقدمة:

لا يختلف أهل العلم أن أعظم معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام هي القرآن الكريم، فالقرآن كتاب الله الخالد الذي تحدى به الإنس والجن، فعجزوا عن الإتيان بنظيره ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨].

ثم عَجِزَ العربُ البُلغاء عن معارضة القرآن مع توفُّر الدوافع الشديدة لمعارضة القرآن؛ لإثبات ما زعموه من كونه مفترىً من عند محمد عليه الصلاة والسلام، ولشدَّة عداوتهم له، ومع ذلك وقفوا أمام تحدي القرآن عاجزين.

وقد تميَّز القرآن بوجوهٍ بلاغيةٍ عظيمة وهي: «حسنُ تأليفه والتئامُ كلمه وفصاحتُه ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادةَ العرب»[1] كما أنَّ «من إعجازه: صورةُ نظمه العجيب، والأسلوبُ الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، ووقفت مقاطع آيه وانتهت فواصل كلماته إليه، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحدٌ مماثلةَ شيء منه»[2]، فكتاب الله فيه أعلى درجات البيان، وأسمى أساليب البلاغة، وأعظم مراتب الفصاحة، وأعذب أنواع الكلم، وقد ألَّف علماؤنا الأجلة رحمهم الله كتبًا جليلةً حول إعجاز القرآن اللغوي ومن أشهرها:

  • النكت في إعجاز القرآن، لعلي بن عيسى الرماني (ت: ٣٨٦).
  • بيان إعجاز القرآن، لحَمْدِ بن سليمان الخطابي (ت: ٣٨٨).
  • إعجاز القرآن، لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت: ٤٠٣).
  • دلائل الإعجاز، لعبد القاهر الجُرجاني (ت: ٤٧١).
  • معترك الأقران في إعجاز القرآن، لعبد الرحمن جلال الدين السيوطي (ت: ٩١١).
  • إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، لمصطفى صادق الرافعي (ت: ١٣٥٦).
  • النبأ العظيم، لمحمد عبد الله دراز (ت: ١٣٧٧).
  • التصوير الفني في القرآن، لسيد قطب (ت: ١٣٨٥).
  • البيان في إعجاز القرآن، لصلاح عبدالفتاح الخالدي (ت: ١٤٤٣).

وليس المراد هنا إحصاء الكتب المؤلفة في هذا الباب، فهذا مما يضيق عنه المقام، إنما المراد بيان كيف يمكن أن يتذوق المرء الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم؟

عَجِزَ العربُ البُلغاء عن معارضة القرآن مع توفُّر الدوافع الشديدة لمعارضة القرآن؛ لإثبات ما زعموه من كونه مفترىً من عند محمد عليه الصلاة والسلام، ولشدَّة عداوتهم له، ومع ذلك وقفوا أمام تحدي القرآن عاجزين

كيف نتذوق الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم؟

للقرآن تأثيرٌ على النفوس والقلوب، سواءٌ أكان المرء عالمًا باللغة والفصاحة أم لا؟ وهذا أحد أوجه أعجازه كما وضّحه الخطابي فقال: «في إعجاز القرآن وجه آخر …، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثورًا، إذا قرع السمعَ خلص له إلى القلب من اللذّة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور»[3].

وهناك أمور عدة تعين المرء على تذوق الإعجاز البلاغي للقرآن وهي:

١- أن يفهم كلام الله حسب أساليب العرب:

الذين نزل القرآن بلسانهم، وإلا حاد الإنسان عن الصواب وضل طريق الهدى والرشاد، فلا يمكن أن يفهم كلام الله حسب ما استحدث في العصور اللاحقة، وإلى هذا نبه الإمام الشافعي بقوله: «وإنما بدأت بما وصفتُ، من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم مِن إيضاح جُمَل عِلْم الكتاب أحد جهِل سَعَة لسان العرب، وكثرةَ وجوهه، وجِماعَ معانيه، وتفرقَها. ومن عَلِمه انتفَتْ عنه الشُّبَه التي دخلَتْ على من جهِل لسانَها»[4]. كما أن الإمام الشاطبي بيّن في الموافقات أنه ليس في القرآن والسنة شيء من أساليب الأعاجم، وأن بعض الناس يأخذون دلالات القرآن والسنة حسب ما تفهمه عقولهم وليس حسب أساليب العرب مما يؤدي إلى فساد عريض وخروج عن مراد الله سبحانه وتعالى[5].

ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: ١٧٣] فكلمة «الناس» في كلا الموضعين لفظ عام أريد به الخاص، ففي الموضع الأول المقصود بالناس هم النفر الأربعة الذين قالوا ذلك لرسول الله ﷺ وأصحابه، و«الناس» في الموضع الثاني هم: أبو سفيان ومن معه من المشركين[6].

٢- تدبر كتاب الله تعالى وتكرار التأمُّل في آياته، وألفاظه ومعانيه:

قال ابن القيم: «ورأس الأمر وعموده في ذلك إنما هو دوام التفكُّر وتدبُّر آيات الله، حيث تستولي على الفكر وتشغل القلب، فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من قلبه وجلس على كرسيه، وصار له التصرُّف، وصار هو الأمير المطاع أمره، فحينئذ يستقيم له سيره ويتضح له الطريق وتراه ساكنًا وهو يباري الريح»[7]، وفي الرسالة التبوكية لابن القيم العجب العجاب من ثمار التدبر في إدراك عظمة القرآن وقوة إعجازه.

من أهم السبل لتذوُّق بلاغة القرآن: دوام التفكُّر فيه وتدبُّر آيات الله، حتى تستولي على الفكر وتشغل القلب، فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من القلب، وتربع على كرسيه، فحينئذٍ يستقيم له سيره ويتضح له الطريق وتراه ساكنًا وهو يباري الريح

٣- معرفة ألفاظ القرآن:

أصولها وجذورها واشتقاقها ومعانيها «فتحصيل معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه، كتحصيل اللَّبِنِ في كونه من أول المعاون في بناء ما يريد أن يبنيه… فألفاظ القرآن هي لبُّ كلام العرب وزُبدته، وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم»[8]. ومن أفضل ما أُلِّف في هذا الموضوع كتاب: المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني (ت: ٥٠٢).

وهاك نموذجًا مما ذكره في مفرداته: كلمة (أبى) تعني: «شدة الامتناع، فكل إباء امتناع وليس كل امتناع إباءً»[9]، فقوله تعالى: ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ [التوبة: ٣٢] يدل على أن كيد الكفار إلى ضلال وسعيهم إلى تباب لأنَّ الله أبى إلا نصر دينه وإتمام نوره، وإذا قرأت قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٣٤] علمت حينها لمَ استحق هذا العقاب والتوبيخ؛ فقد امتنع أشد الامتناع عن الاستجابة لأمر الله.

٤- دراسة علم النحو:

فلا يمكن للإنسان أن يعي القرآن ويدرك جميل سبكه، ولطيف رصفه، ما لم يكن عالمًا بالنحو والإعراب، فرب خطأ في حركة أحال المعنى القرآني الإيماني إلى معنى فاسد كما روي «أنه قدم أعرابي في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t فقال: من يقرئني شيئًا مما أنزل الله على محمد ﷺ؟ فأقرأه رجلٌ سورة براءة، فقال: [أن الله بريءٌ من المشركين ورسولِه] بالجر، فقال الأعرابي: أوَقد برئ الله من رسوله! إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه! فبلغ عمر t مقالة الأعرابي، … ثم قال للأعرابي: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: ٣] فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر t ألا يقرئ القرآن إلا عالمٌ باللغة»[10].

ومن أهمية علم النحو: أن اللفظة الواحدة في الآية قد تحتمل وجوهًا من الإعراب، وكل وجه منها يؤدي معنى مغايرًا لسواه، وهذا لا شك يساعد على تذوق إعجاز القرآن.

٥- دراسة علوم البيان والبلاغة:

فلا يمكن للمرء تذوُّق الإعجاز اللغوي للقرآن وهو خِلوٌ من علوم البلاغة والبيان.

قال الباقلاني: «إن من كان من أهل اللسان العربي -إلا أنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام، ووجوه تصرف اللغة، وما يعدونه فصيحًا بليغًا بارعًا من غيره- فهو كالأعجمي: في أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن، إلا بمثل ما بيَّنَّا أن يعرف به الفارسي الذي بدأنا بذكره، وهو ومن ليس من أهل اللسان سواء، فأما من كان قد تناهى في معرفة اللسان العربي، ووقف على طرقها ومذاهبها فهو يعرف القدر الذي ينتهي إليه وسع المتكلم من الفصاحة، ويعرف ما يخرج عن الوسع، ويتجاوز حدود القدرة فليس يخفى عليه إعجاز القرآن»[11].

وللوصول لذلك لا بدَّ من الاطِّلاع على عُيون النصوص العربية البليغة ومُداومة النظر فيها حتى تصير البلاغة مَلَكَةً، وفي ذلك يقول الشيخ رشيد رضا: «ولكن لا بد مع ذلك من قراءة الكثير من منظوم الكلام البليغ ومنثوره، واستظهار بعضه مع فهمه… فمعرفة مكانة القرآن من البلاغة لا يُحكِمها من الجهة الفنية والذوقية إلا من أوتي حظًا عظيمًا من مختار كلام البلغاء المنظوم والمنثور من مرسل ومسجوع، حتى صار ملكة له وذوقًا»[12]، والمقصود بهذا الذوق أنه «قوة يُقدَّر بها العمل الفني، وهو استعداد فطري يقدر به صاحبه على تقدير الجمال والاستمتاع به، والذوق في أصله موهبة من الله، لكن يمكن للمرء ترقيته، وهو مزيج من العقل والعاطفة والحس والشعور»[13].

ومن أفضل الكتب المصنفة التي تنمِّي الذوق إضافة إلى ما سبق ذكره: كتابا الإمام عبد القاهر الجرجاني (أسرار البلاغة)، و(دلائل الإعجاز)، فهما من خير ما يعين على تذوق بلاغة القرآن، ولا ننسى الإشارة إلى كتاب (التصوير الفني في القرآن) لسيد قطب؛ فهو معينٌ على إدراك جمال القرآن، وبديع تصويره، وسمو مشاهده، ورحابة معانيه، وعذوبة وقع حروفه، وقوة إقناعه.

«لتذوق بلاغة القرآن لا بد من قراءة الكثير من منظوم الكلام البليغ ومنثوره، فمعرفة مكانة القرآن من البلاغة لا يُحكِمها من الجهة الفنية والذوقية إلا من أوتي حظًا عظيمًا من مختار كلام البلغاء المنظوم والمنثور من مرسل ومسجوع، حتى صار مَلَكة له وذوقًا»

محمد رشيد رضا

٦- الاهتمام بالقراءات القرآنية وعلم توجيهها:

فبين هذه القراءات اختلافٌ في الأصول[14] والفرش[15]، والذي يعنينا هنا هو الفرش وتوجيهه دون الأصول، فالكلمة الواحدة قد تقرأ على أوجه مختلفة، وقد يكون بينها تغاير في المعنى، فتجد اللفظة الواحدة تعطيك معاني مختلفة، والذي يبين لنا ذلك علم توجيه القراءات أو علم علل القراءات، والمقصود بعلم توجيه القراءات: «بيان وجوه القراءات القرآنية، واتفاقها مع قواعد النحو واللغة، ومعرفة مستندها اللغوي تحقيقًا للشرط المعروف (موافقة اللغة العربية ولو بوجه)، كما يهدف علم التوجيه إلى ردّ الاعتراضات والانتقادات التي يُوردها بعض النحاة واللغويين والمفسرين على بعض وجوه القراءات»[16]. وبالمثال يتضح المقال: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ [النساء: ٩٤]. فكلمة (السلام) قرئت بحذف الألف (السلم) وهذه قراءة نافع وابن عامر وحمزة وأبي جعفر وخلف، وقرئت بإثباتها (السلام) وهي قراءة الباقين[17].

والفرق بينها أن السلم هو «الاستسلام وإعطاء المقادة من غير امتناع» وأما السلام فهو «التحية، ودليله أن رجلاً سلم عليهم فقتلوه لأنهم قدّروا أنه فعل ذلك خوفًا منهم»[18].

وقد اعتنى العلماء بهذه الفن وصنفوا فيه عددًا من الأسفار[19].

٧- العناية بسبب اختيار اللفظة القرآنية دون غيرها في موقعها:

فكل لفظة في القرآن لها دور بلاغي في مكانها لا تؤديه أي كلمة أخرى، كما قال ابن عطية: «كتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد»[20]. وقريب من هذا كان كلام الزركشي: «مما يبعث على معرفة الإعجاز اختلافات المقامات وذكر في كل موضع ما يلائمه ووضع الألفاظ في كل موضع ما يليق به وإن كانت مترادفة حتى لو أبدل واحد منها بالآخر ذهبت تلك الطلاوة وفاتت تلك الحلاوة»[21]، وأما الخطابي فيعتبر أن هذا هو عمود البلاغة: «ثم اعلم أنَّ عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوعٍ من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخصَّ الأشكَلَ به، الذي إذا أُبدل مكانه غيره جاء منه: إما تبدُّل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذى يكون معه سقوط البلاغة»[22].

ومن الأمثلة ما ذكره الخطابي في قول الله تعالى: ﴿فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ [يوسف: ١٧] عوضًا عن (افترسه الذئب) فقال: «إن الافتراس معناه في فعل السبع القتل فحسب، وأصل الفَرْس دقُّ العنق، والقوم إنما ادَّعوا على الذئب أنه أكله أكلاً وأتى على جميع أجزائه وأعضائه، فلم يترك مفصلاً ولا عظمًا، وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم إياهم بأثر باق منه يشهد بصحة ما ذكروه، فادعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة، والفَرس لا يعطي تمام هذا المعنى، لم يصح على هذا أن يعبر عنه إلا بالأكل»[23].

على من رام تذوق بلاغة القرآن أن يهتمَّ بالقراءات القرآنية وعلم توجيهها؛ فالكلمة الواحدة قد تقرأ على أوجه مختلفة، وقد يكون بينها تغاير في المعنى، فتجد اللفظة الواحدة تعطيك معاني مختلفة، والذي يبين لنا ذلك علم توجيه القراءات أو علم علل القراءات

٨- تدقيق النظر وإعمال الفكر في اختلاف الألفاظ:

وذلك بين الآيات المتشابهة، فقد تكرَّرت بعض القصص في القرآن، أو تكرر بعض معاني الآيات واختلفت ألفاظها أو اختلف ترتيب ألفاظها، وما ذلك إلا لأن مقتضى البلاغة يتطلَّب ذلك، فعلى المرء أن يتنبه إلى هذه الفروق الدقيقة، وقد أجاد في هذا الفن أبو جعفر الغرناطي في كتابه: مِلاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل.

ومن الأمثلة قوله تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ [البقرة: ٦٠] وقال في سورة الأعراف: ﴿فَانْبَجَسَتْ﴾ [الأعراف: ١٦٠] فلماذا ذكر الله في الموضع الأول فعل (انفجرت) وفي الموضع الثاني فعل (انبجست)؟

والجواب: أنَّ الانبجاس أول الانفجار والانفجار بعده وغايته، وابتداء الطلب كان من بني إسرائيل ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ [الأعراف: ١٦٠] ثم كان طلب موسى من الله كما في البقرة، فناسب ذلك ذكر الانبجاس في الأعراف وذكر الانفجار في البقرة[24].

٩- التنبه إلى علم المناسبات في القرآن:

وهو أنواع كثيرة منها: مناسبة السورة للسورة قبلها، ومناسبة مطلع السورة لخاتمتها، ومناسبة مطلعها لخاتمة السورة قبلها، ومناسبة الآيات بعضها لبعض، ومناسبة اختتام السورة ببعض أسماء الله تعالى دون غيرها، ومناسبة تكرار الألفاظ، ومناسبة جزاء المؤمنين لحسناتهم، وجزاء الكافرين لذنوبهم، وقد استوعب هذه المناسبات جميعًا وأفاض فيها الإمام البقاعي في تفسيره الفذ «نظم الدرر في تناسب الآي والسور»، ولنذكر نماذج من علم المناسبات تبين عظم أهمية هذا العلم في تذوق بلاغة القرآن:

فقد افتتح الله سورة الملك بقوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك: ١] واختتمها بقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: ٣٠] فما هي المناسبة بين فاتحة السورة وخاتمتها؟

يجيب عن ذلك البقاعي بقوله: «ولما افتتح سبحانه السورة بعظيم بركته وتمام قدرته وتفرده في مملكته، ودل على ذلك بتفرده بالإماتة والإحياء، ختم بمثل ذلك بالماء الذي وجوده هو سبب للحياة وعدمه سبب للموت»[25].

ومن التناسب بين الآيات:

ما المناسبة بين قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: ١٢] وبين الآية التي تليها؟ وهي قوله تعالى: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الملك: ١٣].

والجواب: «ولما كانت الخشية من الأفعال الباطنة، وكان كل أحد يدعي أنه يخشى الله، قال مخوفًا لهم بعلمه نادبًا إلى مراقبته لئلا يغتروا بحلمه… ﴿وَأَسِرُّوا﴾»[26].

وأنواع المناسبات كثيرة جدًا، إنما المقصود أن نبيّن أهمية هذا العلم في إدراك الإعجاز اللغوي في القرآن، فكل سورة وكل آية مرصوفة في مكانها بحكمة بالغة، وإهمال هذا العلم سيفوِّت على القارئ وجوهًا بلاغيةً عظيمة؛ إذ هذا العلم «علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه [أي القرآن] وهو سر البلاغة، لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه الحال»[27]. وتفسير البقاعي المُسمَّى بـ «نظم الدرر في تناسب الآي والسور» أفضل ما أُلِّف في هذا الباب.

لعلم المناسبات في القرآن أهمية كبيرة في إدراك إعجازه اللغوي، فكل سورة وكل آية مرصوفة في مكانها بحكمة بالغة، وإهمال هذا العلم سيفوِّت على القارئ وجوهًا بلاغيةً عظيمة؛ وهذا العلم تعرف منه علل ترتيب أجزاء القرآن وهو سر البلاغة

١٠- تجنب منهج التفسير الباطني للقرآن الكريم:

فإنَّ الله تعالى أنزل كتابه بيانًا للناس، والباطنية يجعلون للكلام باطنًا لا ارتباط له بالظاهر، فيُحيلون بذلك كلام الله من البيان والإيضاح إلى الإلغاز والتعمية، فيفقدونه بذلك إعجازه وبلاغته وفصاحته[28].

قال الرازي: «القانون أنَّه يجبُ حملُ كلِّ لفظٍ وردَ في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالةٌ عقليةٌ قطعيةٌ توجب الانصراف عنه، وليت من لم يعرف شيئًا لم يخض فيه»[29].

ولنذكر مثالاً يتضح به جناية المنهج الباطني على إعجاز القرآن وبلاغته وهو تفسير الرافضة لقوله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ١٩ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ٢٠ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٢١ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ١٩-٢٢] فقد فسروا البحرين بأنهما علي وفاطمة، وأن البرزخ بينهما هو رسول الله ﷺ، وأن اللؤلؤ والمرجان هما الحسن والحسين[30]. فانظر كيف يبطل هذا التفسير الباطني بيان القرآن وإعجازه وفصاحته، ويجعل التفسير خاضعًا للأهواء والأمزجة[31].

على المرء أن يتزوَّد من العلم ويُكرِّر النظر في كلام الله مع سؤال الله والتضرع إليه حتى تنفتح له أبواب العلم والمعرفة، وأن يحذر من الغرور والتطاول على أهل العلم، بل عليه أن يتواضع لله ويسأله من فضله

وبعد:

فهذه عشرة أمور تعين على تذوُّق الإعجاز البلاغي للقرآن، وكلما كان نصيب المرء منها أوفى زاد ذلك في إدراكه لوجوه الإعجاز، وكلما نقص منها نصيبه قلَّ إدراكه لوجوه الإعجاز، ويجب على الإنسان أن لا يتعجَّل الثمرة، بل يتروَّى ويكثر من مطالعة كلام أهل العلم في هذا الشأن حتى تتشرَّبه روحُه ويغدو ساريًا كدمه في عروقِه، ويكرر النظر في كلام الله مع سؤال الله والتضرع إليه حتى تنفتح له أبواب العلم والمعرفة، وأن يحذر من الغرور والتطاول على أهل العلم إذا أدرك بعض وجوه إعجاز القرآن فإن ذلك مفتاح الخذلان، وأول طريق البوار، بل عليه أن يتواضع لله ويسأله المزيد من فضله، وأن يعلم حق أهل العلم ومقدارهم وأننا بالنسبة إليهم كالبقل حول أصول النخل السامقات كما أثر ذلك عن الإمام أبي عمرو بن العلاء رحمه الله.


 

أ. محمد غياث إستانبولي

طالب في مرحلة الماجستير في مجال التفسير وعلوم القرآن في جامعة شام.


 

[1] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (١/٢٥٨).

[2] المصدر السابق (١/٢٦٤).

[3] بيان إعجاز القرآن، للخطابي، ص (٧٠).

[4] الرسالة، للشافعي، ص (١٣٣-١٣٤).

[5] ينظر: الموافقات، للشاطبي (١/٣٩).

[6] ينظر: الرسالة، ص (٥٨-٦٠).

[7] الرسالة التبوكية، لابن القيم، ص (٦٣).

[8] المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، ص (٦).

[9] المصدر السابق، ص (٥٨).

[10] نزهة الألباء في طبقات الأدباء، لكمال الدين الأنباري، ص (١٩-٢٠).

[11] إعجاز القرآن، للباقلاني، ص (١١٣).

[12] تفسير المنار، لرشيد رضا (١/١٦٨).

[13] البيان في إعجاز القرآن، لصلاح عبد الفتاح الخالدي، ص (٩٨).

[14] الأصول: هي القواعد الكلية التي تنطبق على ما تحتها من الجزئيات، مثل الإدغام والإمالة وغير ذلك، ينظر: مختصر العبارات لمعجم مصطلحات القراءات، لإبراهيم بن سعيد بن حمد الدوسري، ص (٢٧).

[15] الفرش: ما حكمه مقصور على مسائل معينة ولم يطرد على سَنن واحد، فهو ما قلَّ دوره من الحروف المختلف فيها بين القراء، وسمي فرشًا لانتشاره، فكأنه انفرش. (المصدر السابق، ص: ٨٦).

[16] مقدمات في علم القراءات، لمحمد أحمد مفلح القضاة ورفاقه، ص (٢٠١).

[17] ينظر: التسهيل لقراءات التنزيل بهامش القرآن الكريم، محمد فهد خاروف، ص (٩٣).

[18] الحجة في القراءات السبع، لابن خالويه، ص (١٢٦).

[19] وأشهر المصنفات في هذا الفن: الحجة في القراءات السبع لابن خالويه (ت:٣٧٠)، الحجة في علل القراءات السبع لأبي علي الفارسي (ت: ٣٧٧)، حجة القراءات لابن زنجلة (ت: ٤٠٣ تقريبًا)، الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها لمكي بن أبي طالب (ت: ٤٣٧)، الموضح في وجوه القراءات وعللها لابن أبي مريم (ت: ٥٦٥).

[20] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لعبد الحق بن عطية الأندلسي، (١/٥٢).

[21] البرهان في علوم القرآن، لبرهان الدين الزركشي (٢/١١٨).

[22] بيان إعجاز القرآن، للخطابي، ص (٢٩).

[23] المصدر السابق، ص (٤١).

[24] ينظر: ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، لأبي جعفر الغرناطي (١/٤٠).

[25] نظم الدرر في تناسب الآي والسور، لبرهان الدين البقاعي (٢٠/٢٧١).

[26] المصدر السابق (٢٠/٢٤٢).

[27] نظم الدرر في تناسب الآي والسور، لبرهان الدين البقاعي (١/٥).

[28] ينظر: فضائح الباطنية، لمحمد بن محمد الغزالي، ص (٥٢).

[29] مفاتيح الغيب، لمحمد بن عمر الرازي (٢٢/١٠).

[30] ينظر: بحار الأنوار للمجلسي (٣٧/٦٤) نقلاً عن المكتبة الشيعية على الشبكة، وراجع ما ذكره شيخ الإسلام في مقدمة في أصول التفسير في هذا الشأن (ص: ٣٦).

[31] ويدخل في هذا مختلف التفاسير البدعية التي تخرج بآيات القرآن عن معانيها إلى معان أخرى موهومة، باطنة مزعومة، أو مغايرة …، ومن أهم معالم التفسير البدعي: إهمال التفسير بالمأثور وفهم السلف، وإهمال اللغة في التفسير، والتفسير بالهوى، والتفسير الباطني، وبعض الاتجاهات المعاصرة مثل اعتبار القرآن نصًا مفتوحًا يستطيع كل واحد أن يفهم منه ما يريد.

X