حضارة وفكر

تفسير التاريخ وإشكالاته بين المنهج الإسلامي والمناهج البشرية

التاريخ ليس مجرَّد أحداثٍ ووقائع سابقةٍ مضت وانقضت، وإنَّما هو تسجيلٌ لتفاعل الإنسان مع تلك الوقائع والأحداث وتعامله معها، ولما كان الكونُ يسير وُفق سننٍ وقوانين محكمة، وللنفس البشرية طبائع لا تكاد تخرج عنها؛ فإن أحداث التاريخ قابلة للتشابه والتكرار، ومن هنا ظهرت عدة مناهج في تفسير أحداث التاريخ وكيفية الاستفادة منه، وفي هذا المقال حديث عن تلك المناهج

مدخل:

إنّ دراسة التاريخ من أجلّ العلوم وأنفعها وفيه العظة والاعتبار، وبه يقيس العاقل نفسه على مَن مضى مِن أمثاله، وقد قال الشافعي عنه: «مَن عَلم التاريخ زاد عقله»[1]. وذهب السخاوي إلى أنّ: «مَن عرف التاريخ كمن عاش الدهر وجرب الأمور بأسرها»[2]. كما أنّ التاريخ يشكل الذاكرة الحيّة للأمم، ويصوغ هُويتها وشخصيتها.

ما هي موضوعات التاريخ؟

هناك مَن يرى أنّ التاريخ هو قصة المنجزات النوعية التي أحدثها الإنسان، وهو عند فئة يتسع ليشمل المعلومات التي يمكن معرفتها عن كل ما يحويه الكون وقصة الخلق وما جرى فوق البسيطة. فيدرس تطور الزراعة والعوامل التي أدت إلى الحروب ويتتبع الحركات الكبرى كالكشوف الجغرافية وتغير طرق التجارة وموازين القوى، وكيف نشأت الدساتير وانطلقت الثورة الصناعية والحداثة وأثرها في نمط الحياة والأخلاق، وبالتالي ظهرت تخصصات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

مِن هنا نلحظ ظهور مؤرِّخي الحضارات كلوبون وديورانت وتوينبي، وقد سبقهم (ابن خلدون) في مفهومه الاجتماعي والحضاري لموضوعات التاريخ، فعرّفه بأنه: «خبرٌ عن الاجتماع الإنساني الذي هو عُمْران العالم، وما يَعرِض لذلك العمرانِ مِن الأحوال… وما ينشأ عن ذلك مِن المُلك والدول ومراتبها…»[3]. أي أن ابن خلدون نظر إلى التاريخ كموضوع جوهره الاجتماع والعمران، وهذه مدرسة قائمة بحد ذاتها، لكن الفارق أنّ ابن خلدون إذ جعل موضوع التاريخ كذلك إلا أنه عالجه مِن خلال التصور الإسلامي للتاريخ كما سيأتي.

وفي العصر الحديث عرّف سيد قطب غرض موضوع التاريخ فقال: «التاريخ ليس هو الحوادث إنما هو تفسير هذه الحوادث، واهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان»[4].

«التاريخ ليس هو الحوادث إنما هو تفسير هذه الحوادث، واهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان»

سيد قطب

جريان التاريخ بين الماضي والحاضر:

اعتبر كروتشيه أنّ التاريخ بأجمعه تاريخٌ معاصر، أي أنه يتألف مِن رؤية الماضي مِن خلال عيون الحاضر وعلى ضوء مشاكله. وهنا يقول كولنجوود: إنّ فلسفة التاريخ لا تهتمُّ بالماضي في ذاته ولا تعتبره ميتًا، بل تدرسه لأنَّ الماضي لا يزال يعيش في الحاضر[5].

ويذهب إلى مثل ذلك د. محمد العبدة في مقدمة كتابه «أيعيد التاريخ نفسه؟» معتبرًا أنّ فهم الماضي والحاضر يتوقفان على بعضهما البعض، وكما قال ابن خلدون: «الماضي أشبه بالآتي مِن الماء بالماء»[6]. وهكذا يمكننا القول بأن عملية كتابة التاريخ عملية مستمرة على مستوى التعليل والفهم والاتعاظ.

تعريفٌ بمدرستي التاريخ الأساسيتين في الغرب:

هاتان المدرستان ينضوي تحتهما مدارس تفسيرية للتاريخ متباينة. كما أنّ هذا التقسيم ليس حديًا، فهناك تداخل معرفي بين مشارب كل فرعٍ مدرسي.

  1. المدرسة المثالية: ويمثلها هيجل، وهو صاحب فلسفة تستند إلى أن الفكرة هي قوام التاريخ وأساس الموجودات.

«إن الدراسة الفلسفية للتاريخ عند هيجل تعني «دراسة التاريخ من خلال الفكر؛ لأن التاريخ هو تاريخ الإنسان، وجوهر الإنسان هو الفكر. من هنا نبتت نظرية هيجل، وهي أن تاريخ العالم يتمثل أمامنا بوصفه مسارًا عقليًّا، وأن العقل يسيطر على العالم، وأن مسار التاريخ الإنساني إنما هو مسار تطور الأفكار»[7].

والمذهب المثالي في تفسير التاريخ يجعل الذات لا الموضوع محور المعرفة. والمثالية تنكر استناد التاريخ إلى الملاحظة، فعمل الباحث الحقيقي في التاريخ هو أن يعيد بعث الماضي ليعيش فينا عن طريق إعادة الروح إلى الوقائع. كما تنكر حتمية وقائع التاريخ كون الإنسان الذي يصنع التاريخ حرًا. وتقول المثالية بفردية وقائع التاريخ وأنه لا يتعلق بما هو كلي ولا يمكن استخلاص قوانين كلية منها[8].

لا شكَّ أن تضخيم المدرسة المثالية للذات على حساب الموضوع فيه إشكالٌ وانفصامٌ سافر عن الوقائع فضلاً عن مثالية الفكرة والخيال. وقد أسهمت هذه المدرسة في إذكاء نظرة صوفية رومانسية وذوقية نسبية للتاريخ لا واقعية.

  1. المدرسة المادية والعلمية الطبيعية: حفزت مثالية هيجل نفرًا من المؤرخين إلى إعادة الاعتبار للمادة -الوقائع- وإنكار أثر العوامل الروحية والفكرية في تسيير التاريخ، وقد تمثَّلَ هذه الأفكار نفرٌ مِن المؤرخين الذين نظروا إلى التاريخ وكأنه فرع من فروع التاريخ الطبيعي حيث كانت مؤلفاتهم أكثر واقعية فتركوا الجانب الروحي وقصروا همهم على الجانب المادي[9]. كما تمثلها الماركسيون الذين اعتبروا أن التاريخ لا يُسيّره العقل المطلق كما ذهب هيجل، ولا يصنعه الأبطال، وإنما تصنعه عملية تطور اجتماعي في كل أمة من خلال (صراع الطبقات) من أجل السيطرة على وسائل الإنتاج والثروة.

لكن من إشكالات المادية التاريخية ثم الماركسية أنها تجعل أسلوب إنتاج الحاجات المادية أساسًا للتطور، ثم تجعل صراع الطبقات سبيل هذا التطور. وقد أسهمت هذه المدرسة في انتشار الفكر المادي.

جدل حول علمية التاريخ[10]:

لم يتوقَّف الخلاف حول دراسة التاريخ، وهل هو علمٌ أم شيء آخر.

  • ذهب وليام جيفونز إلى أنّ التاريخ لا يمكن أن يكون علمًا لأنه يعجز عن إخضاع الوقائع التاريخية للمعاينة والاختبار. وبذلك لا يمكن استخلاص قوانين علمية ثابتة من دراسته.
  • وقيل: إنَّ استخدام الدراسات الإنسانية لمفهومات كيفية غير مبنية على صيغ كمية مثل مفاهيم المجتمع والقيم والديمقراطية، لا يمكن معاملتها معاملة ألفاظ الحرارة والضوء.
  • وذهب بعض (المثاليين) إلى القول بأنَّ التاريخ فن، فالعلم لا يمكن أن يعطينا عن الماضي سوى العظام المعروقة اليابسة، ولا بد من الاستعانة بالخيال وتصوير الكاتب لكي تبعث في تلك العظام الحياة.
  • وهناك مِن الفلاسفة كديكارت ونيتشه مَن كان يرى التاريخ عديم الفائدة.

نظرة غلاة العلموية والمادية التاريخية:

يقول جوزيف هورس: «انعكس التطور المنهجي العلمي الغربي على العلوم الإنسانية في (عصر النهضة)، حيث صارت دراسة التاريخ تقوم على جمع أكبر عدد من الوقائع التاريخية بهدف الوصول إلى أحكام كلية أسوة باختبارات العلوم التجريبية، ثم تزويد الإنسان بقوانين تمكنه من فهم الحاضر والمستقبل. وظهر معها الاستقلال عن الدين واستبعاد النظرة الأخروية التي تجعل غاية التاريخ ترتبط بالعالم الآخر، وتربط مسار التاريخ بأفعال الإنسان دون تدخل أي قوة غيبية»[11].

وبذلك «بدأت تسيطر النظرة إلى التاريخ كعلم طبيعي يقوم على السببية والعلية وصولاً إلى وضع قوانين للتاريخ كما لاحظ كولنجوود»[12]. وتتجلى النزعة الطبيعية في تفسير التاريخ بالاهتمام بالتعليل، فالتاريخ دون تعليل مجرد رصد وسرد. إلا أن غلو القطعية في السببية تحول إلى إطلاق قوانين أشبه بالفيزياء، بمعنى أن فكرة القانون حلّت محل العلِيِّة[13].

ويصف د. محمد رشاد خليل إشكالات تلك المدرسة المتشعِّبة: «إنَّ هذا الخلط الذي حدث بين البحث العلمي وتراث الغرب الوثني الفلسفي الإلحادي قد جنى على البحث العلمي. ولقد دعا (كلود بِرنار) إلى التخلُّص من تلكم النظم الفلسفية، وسلاسل العبودية العقلية»[14].

«السُّنن الإلهية هي النظام الرباني لحياة البشر، ومعرفتها تعني: القدرة على تفسير التاريخ تفسيرًا صحيحًا. والأمة التي لا تعرف هذه السُّنن أمةٌ غير مأمونة العثار، وغالبًا ما تُوعَظ بنفسها… وكلُّ أمةٍ تحاول فهم هذا النظام، وتفسير حركة التاريخ من وجهة نظرها المنبثقة من تراثها الفكري والعقائدي»

د. حسن الحميِّد

التفسير الإسلامي للتاريخ:

نظّم (القرآن العظيم) محطَّات التاريخ البشري الكبرى ونشأة الكون؛ حاكيًا قصة الخلق ومُوجزًا أحوال الرسل والرسالات وعواقب الأمم، ثم نَبَّهَ القرآن واعظًا إلى (السنن الاجتماعية والنواميس) التي جَرَت عليها باطِّراد، مُفسِرًا بذلك التاريخ تفسيرًا واقعيًا شموليًا. من هنا درج العلماء كأهل التفاسير على أخذِ حظٍّ وافرٍ من التاريخ، فنجد مثلاً أنّ الطبري وابن كثير والسيوطي قد اشتغلوا بالتاريخ.

يقول د. حسن الحميد مؤكِّدًا أصولية وشمولية منهج التفسير الإسلامي: القرآن مشتملٌ على أصول منهج متكامل في التعامل مع التاريخ البشري، وينتقل بهذا التعامل من مرحلة العرض والتجميع إلى محاولة استخلاص القوانين التي حكمت الظواهر الاجتماعية على امتداد التاريخ. وهذا يتمثَّل بالتأكيد المستمر في القرآن على قصص الأنبياء وتواريخ الجماعات والأمم، وعلى وجود (سنن) و(نواميس) تخضع لها الحركة التاريخية في سيرها وتطورها وتحولها[15].

وتظهر مركزية دراسة التاريخ من خلال السنن الإلهية في القرآن، حيث: «إنّ السنن الإلهية هي النظام الرباني لحياة البشر، ومعرفتها تعني: القدرة على تفسير التاريخ تفسيرًا صحيحًا. والأمة التي لا تعرف هذه السُّنن، أمة غير مأمونة العثار، وغالبًا ما تُوعظ بنفسها… وكل أمة تحاول فهم هذا النظام، وتفسير حركة التاريخ من وجهة نظرها المنبثقة من تراثها الفكري والعقائدي، ومن تصورها للحياة وما بعدها؛ أي من مكوناتها الحضارية وطموحاتها…»[16]. فيما يقرر د. عبد الحليم عويس: «أنّ الباحثين قد وجدوا في القرآن إطارًا متكاملاً لتفسير التاريخ يتناول الواقعة التاريخية تناولاً تحليليًا، ويتناول الحضارة تناولاً تركيبيًا، ويُقدم من خلال منهجي التحليل والتركيب تفسيرًا للعملية الحضارية في سائر مراحلها…»[17].

كما ينبغي ملاحظة «أنَّ الرؤية التاريخية ترتبط بالقرآن ارتباطًا وثيقًا… أي سورة قرأت… طالعتك هذه العروض والإشارات المسهبة أو الموجزة، إلى مواقف تاريخية، لا ريب أنها تشكل بمجموعها نسقًا رائعًا ومتكاملاً للتفسير الإسلامي للتاريخ»[18]. وإلى مثل هذا ذهب عويس وعبدالحميد صدّيقي، وكذلك محمد قطب في كتابه «حول التفسير الإسلامي للتاريخ» بتأكيده على وجود فرق هائل بين التفسير الإسلامي والتفاسير الأخرى في كل شيء[19].

التفسير الإسلامي والموقف من علمية التاريخ:

  1. أَمَّنَ الإسلام الحكم الأخلاقي للتاريخ، واستمراره مع الإنسانية إلى الحياة الآخرة، بما يكشف عن الهدف الأخلاقي الأخروي للأفعال الإنسانية التي تبتهج بالمحتوى الأخلاقي، وبالبشارة الأخروية لصانعيها، وهو أمر لم يدركه دعاة الرؤية المادية والذرائعية.
  2. والحق أن فلسفة التاريخ بمعنى البحث عن العلل والأسباب، أقدم من القرن الثامن عشر، ذلك أن ابن خلدون ميز بين ظاهر وباطن التاريخ في تعريفه: «ففي ظاهره لا يزيد على أخبارٍ عن الأيَّام والدول، والسوابق من القرون الأُوَل… وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات دقيق، وعلم بكيفيَّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو أصيل في الحكمة عريق»[20]. وقد ألفَ متخصصون كتبًا أَصَّلت لإسلامية التاريخ عند ابن خلدون، مثل عويس: «التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون»، وعماد خليل: «ابن خلدون إسلاميًا»، ومصطفى الشكعة.
  3. مع وجاهة الاعتراضات السابقة على علمية التاريخ، «فمن السهل الرد عليها؛ إذ إنّ الفروق بين مجالي الظواهر الطبيعية والإنسانية هي فروق في درجة التركيب وليست في طبائع الأمور ذاتها، ولا في ارتباط النتائج والأحداث بالعلل والأسباب على غرار العلوم الطبيعية. «ويرى هرنشو أنّ عدم استخلاص قوانين علمية دقيقة من دراسة التاريخ، لا يجرده من صفة العلم»[21].

  1. ونحن إذ ندافع عن مبدأ العِلِيّة في علوم التاريخ، إلا أنه ينبغي التأكيد على اختلاف النموذج الإسلامي مع درجة قطعية وعلمية (قوانين التاريخ) التي استخلصتها المدارس الوضعية جازمة بها رغم جدلية وقائعها وتنزيلاتها وتأويلاتها. فيما يقوم التفسير الإسلامي على مفهوم (الاطراد السُّنني) في فهم جريان وتعليل التاريخ. أمّا الاطراد، فيعني التكرار والتتابع على نهج واحد؛ كلما وُجدت الأسباب، وانتفت الموانع، ولولا الاطراد لم يصح الاعتبار القرآني السنني.
  2. والقرآن الكريم نَظَمَ كل ذلك من خلال منهج عرضه القصصي للسنن الإلهية التي جرت على الأمم والأفراد بنسق عِلَلِي مطرد يتصف بالربانية والعمومية والشمول والدوام من خلال معادلات وقتية حكيمة كالإملاء الرباني والتدافع بين الأمم، ضمن سنن الاستبدال والتغيير والعلو والهلاك وعواقب الظلم والصلاح.
  3. وها هو سيد قطب يضع التفسير الإسلامي والمادي في نِصابَيهما: «والتفسير الإسلامي -بشموليتة وصدقه وواقعيته- لا يغفل أثر العناصر المادية -التي يجعلها التفسير المادي كل شيء- ولكنه يعطيها مكانها الذي تستحقه في رقعة الحياة العريضة… يبرز قدر الله من وراء كل شيء؛ ويبرز التغيير الداخلي في الضمائر والعقائد والتصورات؛ ويبرز السلوك الواقعي والعنصر الأخلاقي. ولا يغفل عاملاً من العوامل التي تجري بها سنة الله في الحياة…»[22].
  4. كما يجلي لنا ابن تيمية المعنى: «وحقيقة الاستدلال (بسنته) وعادته: هو اعتبار الشيء بنظيره، وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين، وهو الاعتبار المأمور به في القرآن. وإنما تكون العبرة بالقياس والتمثيل…»[23].
  5. ويُزيل د. السّلمي إشكالاً في مسألة (التحقق الزمني) للسنن بقوله: «والسُنة الربانية قد تستغرق وقتًا طويلاً لكي تُرى متحققة، في حين أن عمر الفرد محدود؛ ولذلك فقد لا يمكنه رؤية السنة متحققة، مما قد يدفعه إلى عدم إدراك السنة، وهنا يكون دور التاريخ في معرفة أن السنة الربانية لا بد أن تقع، ولكن لمَّا كان عمرها أطول من عمر الأفراد، فإنها تُرى متحققة من خلال التاريخ الذي يُثبت أن سنة الله ثابتة…»[24].

التفسير الأنثروبولوجي والتطوري:

كان أفلاطون وأرسطو يؤمنان بتفوُّق اليونان الفطري. وزعم أرسطو أنَّ هناك جماعاتٍ وُلدت لكي تصبح آلاتٍ لليونان العباقرة. وقد تلقى العالَم الغربي الحديث فكرة التفوق العنصري من منبعه اليوناني والروماني استنادًا إلى الطبيعة، ومن اليهود الشعب المختار استنادًا إلى الآلهة. وزعم الكونت دي جوبينو عام ١٨٥٣ أن الجنس الأشقر الطويل هو الجنس الخلاق.

استحسن الأوروبيون هذا المفهوم وبرَّروا به استعمار القارات وإبادة واضطهاد الزنوج والهنود الحمر، وطبقوا الداروينية البيولوجية والاجتماعية «الانتخاب الطبيعي للأقوى». هنا تبرز مقولة تشيرتشل: «لا يوجد شيء اسمه إبادة للهنود الحمر، لقد حل الجنس الأصلح للبقاء في أمريكا»[25]. يمثل هذا التفسير تفسيرًا عنصريًا لا أخلاقيًا، كما أنّ الداروينية التطويرية مُنتقدةٌ علميًا بشدة، وثبوتها مدحوضٌ في كثير من المجامع العلمية.

التفسير البيئي الجغرافي:

أحيا توماس باكل فكرة يونانية حينما قرر أن اختلاف المناخ بين الدول يفسر الاختلافات في حركة التاريخ الخاصة بشعوبها. وتأثرًا بهذا الفهم بات بعض المؤرخين يُفسِّرون أحداث التاريخ وتطور المجتمعات بناء على الظروف الجغرافية والبيئية. فمثلاً؛ ساعدت سهول روسيا المتجمدة على إخفاق نابليون وهتلر مما غير وجه التاريخ. ويُذكر أيضًا دور النيل في حياة المصريين وتعلمهم هندسة الري مما دفعهم إلى الوحدة والتعاون، وأنّ ظروف الجغرافيا تحكَّمت بالهجرات، وكيف عَصَمَ إنجلترا موقعُها، وعلاقة نشوء الثورة الصناعية بتوفر المناجم وخطوط التجارة[26].

والحق أنه لا يمكن إنكار هذه التأثيرات، لكن من إشكالات التفسير الجغرافي أنه يتجاهل الدور الفعال للإنسان ناحية البيئة… فمثلاً استطاع المهاجر الأمريكي تدريجيًا مواجهة البيئة الشديدة والطقس البارد، وتطويع حاجزي جبال الروكي ونهر المسيسيبي اللذين شطرا أمريكا، ومن ثم اتصل واتحد الشرق مع الغرب ولم تنشأ دول منفصلة بسبب هذه الحواجز الجغرافية العظيمة. هذا ويُعتبر توينبي من نقاد هذه المدرسة.

التفسير الاقتصادي الماركسي والمادية التاريخية:

أَسَّسَت الماركسية حتمياتها على المادية التاريخية في التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وهي نظرة أحادية تنكر الروح والغيب، واعتبرت أن التاريخ تحكمه قوانين يدركها العقل وهي حتمية تفرض نفسها لأنها ناتجة عن حركة التاريخ نفسه. وإذا فهم الإنسان القوانين، فبإمكانه أن يقرر صورة مستقبل الجماعة الإنسانية، فمثلاً وضع ماركس قانون تحول الكم إلى الكيف في جميع الظواهر، وعند حدوث هذا التحول تقع الثورة[27].

والحق أنّ العامل الاقتصادي هو من أكثر العوامل فعالية خصوصًا منذ الثورة الصناعية. كما أنّ ليس كل من قال بهذا الرأي ماركسيًا، بل امتد التفسير الاقتصادي ليشمل تفسير الحروب الصليبية وقيام الحركة البروتستنتية والثورة الأمريكية والفرنسية. لكن حصرية التفسير الاقتصادي رُفضت بسبب تداخل العوامل الاجتماعية والدينية والسياسية مع الاقتصادية وتبادل التأثيرات فيما بينها. كما تظهر لنا سورة قريش الحاجة لعامل الأمن إلى جانب الاقتصاد.

تفسيرات المستشرقين الفيلولوجية للتراث الإسلامي:

هذه المدرسة تعنى بالتحليل الثقافي للنصوص اللغوية. وهي تحت مظلة دراسات اللغات السامية تقوم بتحقيق الوثائق والنصوص التراثية والتاريخية، ثم تتعسف ردّ مضامينها إلى ثقافات وحضارات أخرى. استخدمت الفيلولوجيا تقنية التوفيد «لإعادة التراث الإسلامي إلى ثقافات وافدة سابقة، بمعنى أنّ المستشرقين نظروا إلى التراث الإسلامي باعتباره مزيجًا من عناصر موجودة قبل الإسلام ولم يقم المسلمون إلا بتركيبها وخلطها»[28].

يقول إبراهيم السكران: «لما شاهد المستشرقون عظمة الفقه الإسلامي، زعموا أنه مأخوذ من الفلسفة اليونانية والقانون الروماني… وادعى جولدزهير أن الأحاديث النبوية فيها جمل أُخذت من التوراة والإنجيل وحِكم الفرس والهنود… وذهب بروكلمان في كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية» إلى ذات الفِرية بخصوص القرآن»[29]. كما انبثقت مدرسة المراجعين التشكيكية عن هذه المدرسة، لتدعي أن كل ما لدى العرب منحول.

موريس بوكاي يدحض فيلولوجيا المستشرقين:

طبيب التشريح موريس كان عالمًا في اللغات والآثار، ويُعدّ نموذجًا لشخصية الباحث العلمي المنهجي[30].

تعلَّم بوكاي العربية في السوربون ليدرس القرآن. وكان يجيد العبرية والهيروغليفية. ولبوكاي معرفة علمية بالكتب اليهودية والمسيحية والمصريات. عكف في مصر مع فريقه وحدد محنط فرعون مُثبتًا علميًا موته بالغرق من خلال تحليل نسبة الأملاح. ثم كشف عن شخصية هامان وصدَّق رواية القرآن. ثم ألَّف بوكاي كتابه الشهير «التوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث» في مقارنة الأديان. تُرجم الكتاب إلى ١٧ لغة أعلن فيه أنّ رواية القرآن لقصة بني إسرائيل دقيقة، وأنّ القرآن وحده مِن عند الله، لأنه لم يأت فيه ما يعارض حقائق العلم.

مذهب التسامح العلمي في التفسير:

لم تستطع أي مدرسة وضعية أن تجعل من نظريتها الأساس الصحيح أو الوحيد لتفسير التاريخ والأحداث. ورغم اندراج تلك المدارس تحت المذهبين المثالي والمادي المتناقضين، فإن كثيرًا من الباحثين يجمع بينهما بصورة انتقائية.

من هنا ظهرت (المدرسة التسامحية) مستندة على أن طبيعة الظواهر الاجتماعية يصعب تفسيرها بنظرية واحدة أو سبب مباشر. ورأت الخلاص (بالتفسير الإحصائي والتمثيل النسبي) لمختلف العوامل والتفسيرات. إلا أن هذا يعيدنا إلى إشكالية التفسير الرياضي المحض.

يؤسس النموذج المعرفي الإسلامي علاقةً إصلاحية تقوم على التراحم والتكامل بين سادة الصحابة وضعافهم كأبي بكر وبلال، وعلى الدعوة والتواصل والأخلاق مع الشعوب، وعلى التدافع مع الخصوم بصيرورة حضارية لا تدمر وتقتلع الوجود، بل هي أقرب إلى استيعابهم كما حصل مع الفرس والتتار

الالتقاط اللحظي مقابل الاستقراء:

يُلاحَظُ أنَّ ابنَ خلدون بنى تعليله للتاريخ على استقراء القوانين المسيطرة على سير التاريخ، والإلمام بأكبر عددٍ من العوامل التي تؤثر في تطوّر المجتمع، فأحداث التاريخ متشابكة الأسباب.

الالتقاط اللحظي لحدث ما يوصلنا إلى فهم مُجتزأ. يظهر مثل ذلك في كتاب «أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية» للدكتور محمد الشنقيطي، حتى تخال الفاطميين والشيعة قسماء للسنة في دفع الصليبيين وفي كل شيء. وكذلك يظهر في الدعوى بأنّ صلاح الدين أطاح بالفاطميين لأسباب سياسية دون مذهبية، والتي لا تصمد عند استقراء مؤلفات القضاة آنذاك كابن واصل وابن شداد والقاضي الفاضل ثم العماد الأصفهاني، بالإضافة إلى منهج المدارس النظامية تحت السلاجقة والزنكيين وصلاح الدين لعقودٍ ودورها في مواجهة الفكر الفاطمي. فقد أغلق صلاح الدين الأزهر الذي بناه الفاطميُّون، ومنعَ تدريس المذهب الفاطمي، وعزلَ قضاته وأبطل أعيادهم.

الإسلام وإشكال الصراع في تفسيرات التاريخ:

في مقابل ماركس الذي اعتبر أن التاريخ هو تاريخ (الصراع) الطبقي المحرك الأساس للتاريخ، تمحور كل من هيجل حول صراع السادة والعبيد، والداروينية الاجتماعية حول صراع الانتخاب والبقاء، وهنتنجتون حول صراع الحضارات، وبيرنار لويس حول مبدأ الصدم والتفتيت للشرق. وبالتالي تمركز غالبهم حول نموذج معرفي يعتنق الصراع. وعلى النقيض من ذلك، يؤسس النموذج المعرفي الإسلامي علاقةً إصلاحية تقوم على التراحم والتكامل بين سادة الصحابة وضعافهم كأبي بكر وبلال، وعلى الدعوة والتواصل والأخلاق مع الشعوب: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: ١٣]، وعلى التدافع مع الخصوم بصيرورة حضارية لا تدمر وتقتلع الوجود، بل هي أقرب إلى استيعابهم كما حصل مع الفرس والتتار.

بناء المستقبل القوي العزيز، لا يقوم إلا على أساس فهمٍ سليمٍ للماضي ليكونَ تاريخُنا مدرسةً عظيمةً لإلهام الأجيال، تمدُّهم بالتجارب والعزيمة والثقة من أجل صناعة المستقبل المزهر

خُطىً إلى المستقبل:

هي دعوة حثيثة إلى تناول التاريخ الإسلامي من مصادره الصحيحة روايةً ودرايةً بعقول واعية مدربة على الفهم السُنني والتفسير القرآني ومنهج البحث العلمي المتزن. فإنّ بناء مستقبلٍ قوي عزيز، لا يقوم إلا على أساس فهمٍ سليمٍ للماضي ليكونَ تاريخنا مدرسة عظيمة لإلهام الأجيال، تمدهم بالتجارب والعزيمة والثقة من أجل صناعة المستقبل المزهر… لعلنا بمثل هذا نرد على توصية بيرنار لويس ببناء ماضٍ مشرقي جديد، ليقطف الغرب مستقبلاً مجيدًا.


 

م. طاهر صيام

باحث في الحضارات والفكر، عمل في جامعة ولاية واشنطن.


[1] تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، للجبرتي (١/٩).

[2] الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التوريخ، للسخاوي، ص (١١١).

[3] تاريخ ابن خلدون (١/٤٦).

[4] في التاريخ فكرة ومنهاج، لسيد قطب، ص (٤١).

[5] ينظر: البحث في التاريخ، لعاصم دسوقي، ص (١٠).

[6] تاريخ ابن خلدون (1/14).

[7] فلسفة التاريخ، لمصطفى الشنار، ص (٣٣-٣٤).

[8] ينظر: في فلسفة التاريخ، لأحمد صبحي، ص (٤١-٥٠).

[9] ينظر: تلخيص الدسوقي، ص (١٠٤-١٢١).

[10] ينظر: البحث في التاريخ، لعاصم الدسوقي، ص (٣٠-٣٣) نقلاً عن جوزيف هورس.

[11] قيمة التاريخ، لجوزيف هورس، ص (٦٥).

[12] النقد التاريخي، لعبد الرحمن بدوي، ص (٢٣٣-٢٣٨).

[13] ينظر: في فلسفة التاريخ، لأحمد صبحي، ص (٤١-٥٠).

[14] دفاع عن التاريخ الإسلامي، ص (٥٥).

[15] ينظر: التفسير الإسلامي للتاريخ، لعماد الدين خليل، ص (٨-٩).

[16] ينظر: سنن الله في الأمم من خلال آيات القرآن الكريم، لحسن الحميد، ص (٤٨).

[17] ينظر: تفسير التاريخ علم إسلامي، لعبد الحليم عويس، ص (٥١و١٠٣).

[18] التفسير الإسلامي للتاريخ، ص (٧).

[19] ينظر: سنن الله في الأمم من خلال آيات القرآن الكريم، لحسن الحميد، ص (٦٠).

[20] مقدمة ابن خلدون، ص (٢-٤).

[21] البحث في التاريخ، لعاصم دسوقي، ص (٣٣-٣٧).

[22] في ظلال القرآن (٢/١٠٣٨)، وينظر: دراسات تاريخية، لمحمد موسى الشريف، ص (١٤٤).

[23] النبوات، لابن تيمية (٢/٩٦٣).

[24] منهج كتابة التاريخ الإسلامي، لمحمد السلمي، ص (٦١)، وكذلك عقد د. حسن الحميد في المرجع السابق مبحثًا لشرح هذا المفهوم بعنوان: «الفرق بين سنن الله في الأفراد وسننه في الأمم»، ص (٣٢-٤٨).

[25] ينظر: التاريخ، لجوردون شايلد، ص (٩٠-٩٨).

[26] ينظر: الناس والطبيعة، دراسة في التاريخ البورجوازي، لكودويل، ص (٣١-٤٠).

[27] ينظر: التاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير، لفتحي عثمان، ص (١٧-١٨).

[28] التأويل الحداثي للتراث، لإبراهيم السكران، ص (٢٤).

[29] المرجع السابق، ص (١٣٣-١٣٩) بتصرف.

[30] ينظر: وقفات مع المسيري، نموذج الباحث المجتهد، لطاهر صيام، رؤيا للدراسات، على الشبكة العنكبوتية.

X