الافتتاحية

أوهام حول النصر والهزيمة

خير أمَّةٍ:

يتساءل بعض الغيورين: ألسنا خير أمة أخرجت للناس؟ ألسنا على الحق؟ فلماذا طال بنا هذا الضعف والهوان؟ وأين يكمن الخلل؟ وهل من شيء نفعله فرادى في أوقات اشتداد المحن والنوازل، وفي زمن تخاذل الدول، وظروف التضييق على العمل الجماعي أو تعذره في بعض الأحيان؟ فإن في عموم العالم الإسلامي رغبة عارمة في نصرة قضايا المسلمين، وطاقات كثيرة معطلة لا تجد للنصرة المباشرة سبيلاً!

بدايةً لا بدَّ من التأكيد على أن الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس، كما قال تعالى: ﴿‌كُنْتُمْ ‌خَيْرَ ‌أُمَّةٍ ‌أُخْرِجَتْ ‌لِلنَّاسِ ‌تَأْمُرُونَ ‌بِالْمَعْرُوفِ ‌وَتَنْهَوْنَ ‌عَنِ ‌الْمُنْكَرِ ‌وَتُؤْمِنُونَ ‌بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]، وفي الحديث عن معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه: أنه سمعَ النبي ﷺ يقولُ في قولِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، قال: (إنكم تُتمُّونَ سَبعينَ أمَّةً، أنتُم خَيرُها وأَكْرمُها على اللهِ)([1]).

لكن هذه الخيرية ليست دائمة مطلقة على كل حال، بل هي مرتبطةٌ بمهامٍ عظيمةٍ تقوم بها بين الأمم، وصفاتٍ ينبغي أن تتَّصف بها([2])، كما بيَّنتْها النصوص الشرعية، وأهمها:

  1. الإصلاح في الأرض، وحماية الحياة والناس من الشرِّ والفساد، والتمكُّن من أسباب القوة التي بها يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، قال تعالى: ﴿‌تَأْمُرُونَ ‌بِالْمَعْرُوفِ ‌وَتَنْهَوْنَ ‌عَنِ ‌الْمُنْكَرِ﴾.
  2. العبودية لله تعالى في جميع مجالات الحياة وتحقيق الاستخلاف في الأرض بإقامة دينه وشرعه ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾.
  3. الوسطية بين الأمم بما تعنيه من العدالة والخيرية والإنصاف وعدم الظُّلم، والتوسطُ في الأمورِ دون إفراط أو تفريط، وما تقتضيها من الشهادة لرسل الله أنهم بلّغوا ما أمرهم الله بتبليغه لأممهم ﴿وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾.

فخيرية الأمة الإسلامية منوطٌ بها تكاليفٌ وأعباءٌ تقوم بها، وهي تكليف لا تشريف، وليست حقًا مكتسبًا، ولا منحةً دائمة، بل هي خيرية مشروطة، وتكليف بالعمل والدعوة لهداية البشرية وتعمير الأرض وإقامة العدل، ومتى ما تخلَّف تحقيقُ هذه الشروط جَرَت سُنن الله على قَدْرِ فَقدها والتقصير فيها.

الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس، لكن هذه الخيرية ليست دائمة مطلقة على كل حال، بل هي مرتبطةٌ بمهامٍ عظيمةٍ تقوم بها بين الأمم، وصفاتٍ ينبغي أن تتَّصف بها، وتكاليفَ وأعباءٍ تقوم بها

ضعف قائم وتمكين قادم:

لا شك أنَّ الأمة الإسلامية تعيش منذ زمنٍ أسوأَ حالات الضعف والتخلُّف على جميع المستويات: المعرفية، والسياسية، والعسكرية؛ فهي تقبع في ذيل الأمم في مختلف الميادين الحضارية، مسلوبةَ القرار السياسي، ويقع العديدُ من بلدانها تحت الاحتلال المباشر أو غير المباشر، وشعوبُها مسلوبة الإرادة والفاعلية، وخيراتُها مرهونة لأعدائها، وعلومُها في تراجع وانحسار.

وفي المقابل نؤمن أنَّ التمكينَ لدين الله تعالى قادمٌ لا محالة([3]) بنصِّ كلامه تعالى، وبشارة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: 55].

وقد وعد الله بنصر عباده المؤمنين، وإعزاز دينه؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ 171 إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ 172 وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 171-173]، وقال سبحانه تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47].

وقال ﷺ: (ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزًّا يُعزُّ الله به الإسلام، وذلًّا يذلُّ الله به الكفر)([4])، وعن أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (بشِّر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، فمن عَمِل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب)([5]).

والأمة ما بين ألم الواقع وأمل المستقبل في صراع وجهاد، تنجح تارةً وتُخفق تارة، تتقدَّم في ميدان وتتخلَّف في آخر، ولن يَعدم العاملون في سبيل نهضتها من أجر العمل والسعي.

أوهام حول النصر:

وهنا لا بد من التنبيه أنه مع شدة ضغوط الواقع وطول أمد الابتلاء.. قد تتعلق نفوس العديد من الناس بتصورات غير صحيحة للنصر والتمكين، من أهمها:

  • استحقاق النصر بلا عمل، أو لمجرد أنهم مسلمون، والعيش في خيالات التمكين وهزيمة الأعداء بالكرامات والخوارق، وما يرافق ذلك من تفسيرات مغلوطة للنصوص الشرعية وتحريفات لمعانيها، وتطبيقات متنطعة لها. وهذا كله مخالفٌ لطبائع الأمور، وسنن الله تعالى في الكون، فلا نتيجة بدون عمل، ولا ثمرة دون جهد.
  • إهمال السّنن الإلهية في تحقيق النصر؛ فالله عزَّ وجلَّ لا يمكِّن لعباده في الأرض إلا بعد أن يُبْتَلَوْا، قال تعالى: ﴿‌أَمْ ‌حَسِبْتُمْ ‌أَنْ ‌تَدْخُلُوا ‌الْجَنَّةَ ‌وَلَمَّا ‌يَأْتِكُمْ ‌مَثَلُ ‌الَّذِينَ ‌خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214]، ولنا في سيرة رسول الله ﷺ أُسوة حَسنة، فقد كان في العهد المكيّ مع أصحابه مستضعَفين، ثمّ مَكّن اللهُ لهم بعد ذلك بعد الهجرة وحتى وفاته ﷺ، سُئِلَ الشافعِيُّ رحمه الله: أيُّهما أفضلُ للرجل أن يُمَكَّنَ أو يُبْتَلَى؟ قال: «لا يُمَكَّنُ حَتَّى يُبْتَلَى»([6]).
  • تقزيم معنى النصر واختصاره بصورةٍ واحدةٍ فحسب؛ وهي التغلُّب على الأعداء والإثخان فيهم، أو إقامة الدولة الإسلامية الراشدة أو الخلافة على منهاج النبوة، ونحو ذلك، وهذا وإن كان أهم صور النصر وأوضحها لكنه ليس الوحيد، بل هناك صور أخرى للنصر لا تقل أهمية عن هذه الصورة.

من المفاهيم الخاطئة حول النصر: الاستحقاق للنصر دُون عملٍ، وإهمال السنن الإلهية في تحقيق النصر، واختزال النصرٍ بصورة واحدةٍ فحسب؛ وهي التغلُّب على الأعداء والإثخان فيهم، أو إقامة الدولة الإسلامية الراشدة أو الخلافة على منهاج النبوة

من صور الانتصار والظهور على الأعداء:

للانتصار والظهور على الأعداء معانٍ عميقة وصور متعدّدة تتجاوز الحسم العسكري، فيما يأتي بيان أهمّها وأبرزها([7]):

1- ظهور الحق والحجة والبيان على الأعداء:

فالأعداء يدَّعون بأنهم على صواب، وأنهم أصحاب الحق في الأرض، وأهل الحجة والبرهان، ويتَّهمون أهلَ الحقِّ بشتى أنواع التُّهم والافتراءات، فظهورُ بُطلانِ ادِّعاءاتهم واتهاماتهم، وشُيُوع ذلك بين الناس هو نصر عظيم.

قال تعالى: ﴿‌إِنَّا ‌لَنَنْصُرُ ‌رُسُلَنَا ‌وَالَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌فِي ‌الْحَيَاةِ ‌الدُّنْيَا﴾ [غافر: 51]، قال أبو العالية رحمه الله في قوله: ﴿‌إِنَّا ‌لَنَنْصُرُ ‌رُسُلَنَا﴾ الآية: «ذلك في الحُجَّةِ؛ يَفتَحُ اللهُ حُجَّتَهُم في الدنيا»([8])، ولم يزل رسل الله عليهم الصلاة والسلام يقارعون المشركين بالحجج العقلية والحسية على بطلان معتقداتهم ومواقفهم، ويثبتون لهم خطأهم وتناقضهم، فهذا نبي الله إبراهيم عليه السلام قارع قومه بالأدلة والبراهين الدامغة، ﴿‌فَمَا ‌كَانَ ‌جَوَابَ ‌قَوْمِهِ ‌إِلَّا ‌أَنْ ‌قَالُوا ‌اقْتُلُوهُ ‌أَوْ ‌حَرِّقُوهُ﴾ [العنكبوت: 24].

وإن الأعداء ليبذلون الغالي والنفيس في سبيل طمس معالم الحق وتغييبه عن الناس، وتصوير القضايا على غير وجهها، تخديرًا للشعوب عن نصرة الحق، ومحاولة لتشريع باطلهم وعدوانهم، وانكشافُ كلِّ هذا وظهور بطلانه نصرٌ عظيم، وإيذانٌ بتغير موازين القوى الشعبية العامة.

قال ابن القيم: «لِأَنّ الحُجَّة تسلِّط صاحِبَها على خَصمه، فَصاحِب الحُجَّة لَهُ سُلطان وقُدرة على خَصمه وَإِن كانَ عاجِزًا عَنهُ بِيَدِهِ، وَهذا هُوَ أحد أَقسام النُّصْرَة التِي ينصر الله بها رسله وَالمُؤمنِينَ فِي الدنيا، كما قال تعالى: ﴿‌إِنَّا ‌لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]»([9]).

وقال السعدي: «… فهذا نصّ صريح، وبشارة، بأنّ كلّ مَن جادل الحقّ أنه مغلوب، وكلّ مَن تكبّر عليه فهو في نهايته ذليل»([10]).

2- خذلان الكافرين، وصَرْفُ كيدهم:

فقد يتمثَّل النصر في فشل مخططات الأعداء وذهاب كيدهم، أو كفِّ عدوانهم على المؤمنين بمختلف الأسباب، وهذا نصر عظيم وربح كبير للمؤمنين، قال الطبري عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿‌لِيَقْطَعَ ‌طَرَفًا ‌مِنَ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا ‌أَوْ ‌يَكْبِتَهُمْ ‌فَيَنْقَلِبُوا ‌خَائِبِينَ﴾ [آل عمران: 127]: «وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ}، فإنه يَعني بذلك: أَو يُخْزِيَهُم بالخَيْبَةِ بِما رَجَوا مِنَ الظَّفَرِ بِكُم»([11]).

أمثلة ذلك أيضًا: قوله تعالى: ﴿‌إِلَّا ‌تَنْصُرُوهُ ‌فَقَدْ ‌نَصَرَهُ ‌اللَّهُ ‌إِذْ ‌أَخْرَجَهُ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا ‌ثَانِيَ ‌اثْنَيْنِ ‌إِذْ ‌هُمَا ‌فِي ‌الْغَارِ ‌إِذْ ‌يَقُولُ ‌لِصَاحِبِهِ ‌لَا ‌تَحْزَنْ ‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌مَعَنَا ‌فَأَنْزَلَ ‌اللَّهُ ‌سَكِينَتَهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَأَيَّدَهُ ‌بِجُنُودٍ ‌لَمْ ‌تَرَوْهَا ‌وَجَعَلَ ‌كَلِمَةَ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا ‌السُّفْلَى ‌وَكَلِمَةُ ‌اللَّهِ ‌هِيَ ‌الْعُلْيَا ‌وَاللَّهُ ‌عَزِيزٌ ‌حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40].

ولو ذهبنا لتعداد أنواع خذلان الأعداء، وصور فشل مخططاتهم وهزائمهم لوجدنا من ذلك أنواعًا كثيرة وصنوفًا شتى، لو أنها تحقَّقت لكانت المصيبة كبيرة، ﴿‌وَيَمْكُرُونَ ‌وَيَمْكُرُ ‌اللَّهُ ‌وَاللَّهُ ‌خَيْرُ ‌الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30].

ومن ذلك ما حصل في غزوة الأحزاب التي انتهت دون قتال، بل أرسل الله ريحًا شديدة على معسكر الكافرين فاقتلعت خيامهم وفروا، قال تعالى: ﴿‌يَا أَيُّهَا ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌اذْكُرُوا ‌نِعْمَةَ ‌اللَّهِ ‌عَلَيْكُمْ ‌إِذْ ‌جَاءَتْكُمْ ‌جُنُودٌ ‌فَأَرْسَلْنَا ‌عَلَيْهِمْ ‌رِيحًا ‌وَجُنُودًا ‌لَمْ ‌تَرَوْهَا ‌وَكَانَ ‌اللَّهُ ‌بِمَا ‌تَعْمَلُونَ ‌بَصِيرًا﴾ [الأحزاب: 9].

3- اعتراف الأعداء بالهزيمة وفشل مخططاتهم:

فتحقق الهزيمة -الكلية أو الجزئية- والاعتراف بها شديد الوقع على النفس، بما فيه من حسرة وألم وانكسار وندم، وما يحمله من معاني الفضيحة والفشل، ومن أشهر هذه الاعترافات اعتراف فرعون قبيل غرقه، قال تعالى: ﴿‌حَتَّى ‌إِذَا ‌أَدْرَكَهُ ‌الْغَرَقُ ‌قَالَ ‌آمَنْتُ ‌أَنَّهُ ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا ‌الَّذِي ‌آمَنَتْ ‌بِهِ ‌بَنُو ‌إِسْرَائِيلَ ‌وَأَنَا ‌مِنَ ‌الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 90].

ومن ذلك شهادة الوليد بن المغيرة في القرآن الكريم بعدما سمعه من فم النبي r، فعاد إلى أصحابه، ووصف القرآن بكلام جميل يدلُّ على اعترافه بعُلوِّ القرآن وظهوره عليهم، وكان مما قال: “والله، إنَّ لقوله الذي يقول حلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّه لمثمرٌ أعلاه، مُغدقٌ أسفلُه، وإنَّه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته”([12]).

وفي كتابه Beyond Peace كتب الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون: (الإسلام عقيدة قوية، والعلمانية في الغرب لا تستطيع أن تغالبه، وكذلك العلمانية في العالم الإسلامي، إنَّ حقيقة أننا أقوى وأغنى دولة في التاريخ لا تكفي، العامل الحاسم هو قوة الأفكار العظيمة)([13])، وهذا بلا شك اعترافٌ منه بعلوِّ الإسلام وانتصاره.

4- تخليد ذِكْر المؤمنين:

بأن يبقى اسم المؤمن وذكره إلى ما شاء الله، يدعو له الناس ويترحمون عليه، ويشيرون له بالفضل والأثر، وأنه صاحب حق وصدق، وقد يُتَّخذ قدوةً ومثلاً، فيا له من شرفٍ عظيم! فالذكر الحسن مما تهفو إليه النفوس ويسعى إليه الناس، ولطالما عمد الساسة والرؤساء إلى صنع المجد الكاذب بنصب التماثيل وإطلاق الأسماء على المرافق والميادين بهدف التخليد.

ومن أمثلة ذلك: تخليد ذِكر مؤمن آل فرعون، ومؤمن سورة يس، ومَن حرقوا في الأخدود، الذين نزل فيهم قرآن يُتلى إلى يوم الدين، بينما لا تجد أحدًا يثني على خصومهم أو يعتبرهم منتصرين، وما ذكر فرعون أو إبليس أو النمرود وغيرهم إلا زيادة في تحقيرهم في الأعين والنفوس.

قال أحمد شوقي عن الشهيد عمر المختار:

رَكَزوا رُفاتَكَ في الرِمالِ لِواءَ * يَستَنهِضُ الوادي صَباحَ مَساءَ

يا وَيحَهُم نَصَبوا مَنارًا مِن دَمٍ * يوحي إِلى جيلِ الغَدِ البَغضاءَ

جُرحٌ يَصيحُ على المَدى وَضَحِيَّةٌ * تَتَلَمَّسُ الحُرِّيَةَ الحَمراءَ

5- الانتقام من الظالمين:

فمن سنن الله تعالى: الانتقام من الظالمين بشتى أنواع الانتقام في هذه الدنيا، مع ما يدَّخره لهم من عذابٍ في الآخرة، قال تعالى: ﴿‌فَلَا ‌تَحْسَبَنَّ ‌اللَّهَ ‌مُخْلِفَ ‌وَعْدِهِ ‌رُسُلَهُ ‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌عَزِيزٌ ‌ذُو ‌انْتِقَامٍ﴾ [إبراهيم: 47]، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ‌إِنَّ ‌أَخْذَهُ ‌أَلِيمٌ ‌شَدِيدٌ﴾ [هود: 102].

وأخبر النبي ﷺ أن (دعوةُ المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي ‌لأنصرنك ‌ولو ‌بعد ‌حين)([14])، وقد لا يظهر للناس ما هو هذا الانتقام، فقد يكون في الصحة، أو في النفس، أو في الذرية، أو في كثرة الأمراض الجسمية والنفسية، وقد يكون بتسلُّط أعداء آخرين، ونحو ذلك.

وقد عدَّ النبي ﷺ إغراق فرعون ونجاة موسى عليه السلام مع قومه انتصارًا، واحتفل بذكرى هذا الانتصار بصيام يوم عاشوراء، مع أنه لم يحصل بينهم قتال، وكذلك كان دعاء نوحٍ عليه السلام لربه بعد أن كذَّبه قومه: ﴿‌أَنِّي ‌مَغْلُوبٌ ‌فَانْتَصِرْ﴾ فجاء الجواب: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ١١ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: 10-12].

6- تحقق القضية التي يناضل لأجلها:

فكثيرًا ما يناضل الشخص لأجل فكرة أو قضية، ويموت قبل أن يراها أو يرى ثمارها، ثم تتحقق بعد مدة من الزمن، فهذا انتصار في حد ذاته، وهي سنّة لم يتخلف عنها الأنبياء عليهم السلام، فكثير من الأنبياء ماتوا أو قتلوا قبل تحقق النصر على الأعداء أو انتشار دعوتم، وكثير مما بشر به النبي ﷺ إنما تحقق بعد وفاته، وكذلك ما حصل لموسى عليه السلام الذي مات قبل دخول الأرض المقدسة، فتابع قومُه من بعده وانتصروا، وغيرها من الحالات.

قال السُّدِّيّ: «لم يبعث اللهُ -عزّ وجلّ- رسولاً قطّ إلى قَوْم فيقتلونه، أو قومًا من المؤمنين يدعون إلى الحقّ فيُقتَلون، فيذهب ذلك القرن حتّى يبعث اللّه -تبارك وتعالى- لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممّن فعل ذلك بهم في الدنيا»([15]).

7- الفوز في الآخرة:

وهذه المسألة من أهم النقاط التي ينبغي العناية بها وتوضيحها وفهمها؛ فالدنيا دار ابتلاء وعمل ومجاهدة، وما قد يحصل فيها من انتصارات أو تمكين فليس هو الأصل ولا الأكثر زمنًا ولا حالاً، بل النصر الكامل هو الفوز في الآخرة، ﴿‌وَإِنَّ ‌الدَّارَ ‌الْآخِرَةَ ‌لَهِيَ ‌الْحَيَوَانُ ‌لَوْ ‌كَانُوا ‌يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 64]، وقال سبحانه: ﴿‌وَالْآخِرَةُ ‌خَيْرٌ ‌وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 17].

قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ٥١ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ‌وَلَهُمْ ‌سُوءُ ‌الدَّارِ﴾ [غافر: 51-52].

وهذا الصورة من صور النصر هي الصورة الأكيدة التي لا تتخلَّف في حق المؤمنين وأتباع الأنبياء، بينما قد لا تحقق بقية الصور، أو تحقق بدرجة دون أخرى.

للانتصار والظهور على الأعداء معانٍ عميقة وصور متعدّدة تتجاوز الحسم العسكري أو الظفر الدنيوي، ومنها: تحقق القضية التي يناضل لأجلها بعد مدة من الزمن، ولو مات قبل أن يراها أو يرى ثمارها

ما هو دور الأفراد في أوقات الضعف؟

طُرِقَ كثيرًا الحديث عما يمكن أن تقوم به الجماعات والمنظمات والدول في العودة بالأمة لمكانتها ودورها الحضاري بما يغني عن إعادته هنا، والسؤال: هل يمكن للفرد أن يقوم بشيءٍ من هذه الأدوار؟ وهل يستطيعُ القيامَ بشيءٍ في مسار التطوُّر والتعافي للمجتمع والحضارة وهو فرد واحد؟ وخاصة عند تعذُّر العمل الجماعي أو وجود عوائق وموانع أو مخاطر دونه؟ خصوصًا عند وجود سعةٍ من الوقت والجهد.

والجواب: لا شك أنّ للفرد دورًا عظيمًا في النهضة والخروج من الأزمات، فالأمّة تنهض تبعًا لنهضة أفرادها، ونهضةُ الأفراد تبدأ من الأفكار التي يؤمنون بها، والتي تتحّول إلى سلوكٍ وعملٍ يُحرز التقدّم خطوة بخطوة حتى يتحقق الهدف.

ومن أهّم ما يمكن للأفراد القيام به تجاه أمّتهم:

  • فهم العقيدة الإسلامية الصحيحة والتمسك بها، بعيدًا عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وترقيعات أعوان الطغاة والظلمة، وإدراك أبعاد الحضارة الإسلامية بخصائصها ومميزاتها وأوجه خيريَّتها، والمهمة التي أناطها الله بها تجاه غيرها من الأمم؛ فهذا رأس المال والركن الأساس في أيّ نهوض حضاري؛ ففي أوقات الضعف والانحلال تضعف الأفكار في النفوس وتضمحل، وتتعرض للنسيان والهجر، بل قد تتعرض للتحريف والتأويل وفق ظروف الثقافة الغالبة والمسيطرة كما هو المعتاد من تأثر الضعيف بالقوي. فالعمل ومكابدة المشاقّ والنهوض والانتصار تحتاج إلى عقيدة صافية وإيمان راسخ ويقين ثابت.
  • الثبات على الدين والتمسُّك بالهوية والقيم الثقافية، والاستعانة على ذلك بالعبادات والطاعات؛ ولذا كانت العبادة وقت الفتن واختلاط الأمور وتخبّط الناس وانهماكهم في الدنيا كهجرة إليه ﷺ كما جاء في الحديث([16])، ولا شّك أنّ لهذا الثبات دورًا مهمًا في الحفاظ على المبادئ وتماسك الهوية، ورفع روح الانتماء، والاعتزاز بالمبادئ والقيم.
  • فهم الواقع الذي تعيشه الأمة فهمًا صحيحًا، والوعي بمخططات الأعداء وحروبهم الفكرية والنفسية والاجتماعية، مع معرفة نقاط الضعف وعوامل القوة، والفُرص المتاحة؛ للإفادة مما يقدّمه العصر من أدوات ووسائل تفيد في طريق التحرر والنهوض.
  • الدفاع عن هذه المعرفة والفهم، ومقاومة كل ما يُضعفها، والرد على الشُّبهات والطعونات فيها؛ للحفاظ على الفكرة ناصعة البياض، وإبقاء الجذوة مشتعلة في النفوس دون كدر أو غبش.
  • نقل الوعي والمعرفة والمبادئ والقيم من جيل إلى جيل، وتربية الأجيال على هذا الوعي، وتنشئتهم على مخاطر الطريق ومصاعبه؛ مما يزيدهم صلابة وقوة واستعدادًا للتحمّل والمواصلة، وليقوموا بدورهم في نقلها للأجيال التالية، مما يعززها ويبقيها حية.
  • العمل على إشاعة الاهتمام بقضايا الأمّة، وشعور الجسد الواحد، وتعزيز التكافل الاجتماعي والتضامن بين المسلمين في المحافل واللقاءات والتجمعات؛ بهدف تقريب النفوس من حالة وحدة الصف واجتماع الكلمة، والإبقاء على القضايا الملتهبة والجراح النازفة والدفع بها نحو الحلّ النهائي ضمن الاهتمام العام.
  • بث الأمل والتفاؤل الصحيح المنضبط الذي يدفع إلى العمل والبذل، وإحداث التغيير الإيجابي، ودفع اليأس والإحباط والتشاؤم الذي يدفع إلى القعود عن العمل، وربما التحوُّل إلى مِعْول هدمٍ وإفسادٍ بحُجَّة أنه لا فائدة، مع الحذر من التعلُّق بالأوهام والتصوُّرات غير الصحيحة للنصر والتمكين.
  • التضامن والتكافل الاجتماعي وتقديم المساعدة بالمستطاع، ولو كانت بإظهار التعاطف والدعم والتشجيع؛ فالدعم المعنوي له أكبر الأثر في التثبيت على الحق وعدم التراجع، وتشجيع الآخرين على تقديم يد العون والمساعدة.
  • بذل الجهد فيما يعود على المجتمعات بالبناء والنهضة، كالتعلم وتطوير المهارات، والاستفادة مما أبدعه الآخرون لا سيما وقت الأزمات، والتفاعل الثقافي بهدف التفاهم والتواصل مع الثقافات الأخرى لنقل وجهة النظر إليهم وإطلاعهم عليها، وتعزيز المشاركات المجتمعية كالأعمال التطوُّعية والمبادرات غير الربحية وغيرها، حيث يمكن لهذه التجارب أن تنمِّي الخبرات وتُعزِّز فاعلية الأفراد بما يؤهِّلهم لأدوارٍ مجتمعيةٍ قياديةٍ في المستقبل، وعند الحاجة إليها.
  • دعم جماعات الضغط وجمعيات المجتمع المدني، والعمل بالمتاح في أروقة المحاكم المحلية والدولية والضغط على الأنظمة السياسية.
  • السعي لبناء نواة صلبة مؤثّرة (طليعة) واعية ومُصلحة في المجتمع، تعمل على إبقاء الوعي بقضايا الأمّة وآلامها وآمالها حيًّا نابضًا، وتبث الأمل فيهم وتدفع عنهم اليأس، وتصحّح مسار العمل، وتعين على تقديم الأولويات، وضبط السرعة دون إفراط أو تفريط.
  • المساهمة الإعلامية الواعية الفاعلة بمخاطبة الشعوب والجماهير بلغة مناسبة مباشرة، ومحاولة التأثير فيهم ببيان الحقائق وكشف الزائف والتضليل، وبخاصة من يتقنون اللغات العالمية.
  • تقديم البحوث والدراسات ومختلف المواد العلمية والبحثية لخدمة قضايا الأمة، لإثرائها بالمعرفة اللازمة، وإرشادها وتوجيهها بما يخدمها بشكل فاعل.

كما أن الجماعات والمنظمات والدول لها دورٌ في العودة بالأمة لمكانتها ودورها الحضاري، فإنّ للفرد دَورًا عظيمًا في النهضة والخروج من الأزمات، فالأمّة تنهض تبعًا لنهضة أفرادها، ونهضةُ الأفراد تبدأ من الأفكار التي يؤمنون بها، والتي تتحّول إلى سلوكٍ وعملٍ يُحرز التقدّم خطوة بخطوة حتى يتحقق الهدف

إن هذه الجهود وغيرها مهما بدت صغيرة أو متناثرة، لكن لو قام بها الأفراد خير قيام لأدت إلى تغيرات كبيرة وحقيقية، وهو ما يؤدي إلى تقدم المجتمع ونقله إلى مرتبة أعلى، والتي تؤدي بدورها إلى نقلة أخرى، وهكذا تستمر المسيرة، فتبلغ الأمة بعض أهدافها وتحقق بعض غاياتها، إلى أن يأذن الله بالتغيير الشامل الذي لا يأتي دفعة واحدة، بل يكلل الجهود الكثيرة المجتمعة.

 


([1]) أخرجه الترمذي (3001).

([2]) مبدأ الخيرية في الإسلام مرتبط بالصفات التي يلتزم بها المسلمون، وهذا مختلف عما يعتقده اليهود من أنهم شعب الله المختار، وأنهم أحباء الله، وأنهم مفضلون على غيرهم من الأمم لمجرد كونهم يهودًا.

([3]( ينظر مقال: “هل ستنتصر أمة الإسلام حقًا؟”، د. عمر النشيواتي، مجلة رواء – العدد الثالث عشر.

([4]( أخرجه أحمد (16957).

([5]( أخرجه أحمد (21223).

([6]( نسبه ابن القيم وغيره إلى الشافعي، ينظر: زاد المعاد (3/17).

([7]) ينظر مقال: “معنى الانتصار”، للشيخ صالح الحصين. ومقال: “صور نصر الله للمؤمنين في سورة غافر؛ نظرات وتأمّلات”، لإبراهيم لبيب.

([8]( تفسير ابن أبي حاتم (18437).

([9]( الفروسية (1/121).

([10]( تفسير السعدي، ص (740).

([11]( تفسير الطبري (7/193).

([12]( أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (3827).

([13]( مقالة “معنى الانتصار” للشيخ صالح الحصين على موقع rowaq.org.

([14]( أخرجه الترمذي (3598).

([15]( تفسير ابن كثير (7/137).

([16]( أخرج مسلم (2948) عن معقِل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العبادةُ في الهَرْجِ كهجرةٍ إليَّ)، والهرج: الفتنة واختلاط أمور الناس.

X