الورقة الأخيرة

ذلك الفوز الكبير

 

بعث النبي ﷺ عددًا من أصحابه لدعوة بعض القبائل، فغدروا بقائد المجموعة، فقال الصحابي المطعون: (الله أكبر، فزت ورب الكعبة)، فأسلم قاتله تأثرًا بكلمته العفوية الصادقة، [1].

هكذا رباه القرآن المجيد بقصة أصحاب الأخدود الذين أُحرقوا بالنار لإيمانهم، فحكم الله بفوزهم فوزًا كبيرًا لم يرد ذكره إلا في سورة البروج التي تذكرنا بفوز الغلام المؤمن الذي كان سببًا في إسلام أصحاب الأخدود[2] الذين آمنوا برب الغلام، وصبروا على الحريق صابرين أنهم على الحق.

المتاجرون مع الله تعالى تعلّمهم سورة الصف أن صفقتهم أخروية، فتجارتهم إيمان وجهاد بالمال والنفس، تنجيهم من عذاب أليم، يغفر الله بها ذنوبهم، ويدخلهم بها جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة في جنات عدن: ﴿‌ذَلِكَ ‌الْفَوْزُ ‌الْعَظِيمُ﴾ [الصف: 12]. مكسبهم فوز أخروي يمثل انتصارًا أبديًا سرمديًا، مع دوام استبشارهم العاجل بـنصر من الله وفتح قريب. وهذا هو الظن بدوافع طوفان الأقصى[3] الذي ابتهج له المسلمون.  

الفوز في القرآن يدور حول الزحزحة عن النار، ودخول رحمة الله الجنة، ونيل رضوان الكريم. أما المنافق فلا يرى الفوز إلا في الغنيمة ولعاعة الدنيا، ولا يتمنى إلا ذلك الكسب القريب. وتدور أسباب الفوز في القرآن على: العمل الصالح، والصدق، والولاية بين المؤمنين، وخشية الله وتقواه، والجهاد في سبيله بالمال والنفس، والصبر على الإيذاء والاستهزاء، وطاعة الله ورسوله وقول السداد، والوفاء بالبيعة مع الله الجليل.

الفوز شيء، والنصر شيء آخر؛ الفوز فردي وجماعي، سبيله الصلاح الفردي في القلب والسلوك، وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا. أما النصر فيكون جماعيًا، وهو يتطلب تظافر قلوب المؤمنين، وتقوّي بعضهم ببعض أولياء، دون ركون إلى الظالمين، مع إعداد المستطاع من القوة ومن رباط الخيل إرهابًا لعدوّ الله عدوّهم.

ومهما اجتهد المؤمنون في الإعداد والسعي والجهاد، فإن للنصر سُنَنًا وقوانين لله، هي في عالم الغيب وتصاريف القدر المكتوم عن البشر، مثله مثل الرزق والشفاء والحياة والموت. وفي طريق النصر: مجازر، وضحايا، ومعاقون، ومشردون، وأيتام، وبائسون.. (أمتي هذه أمةٌ مرحومةٌ، ليس عليها عذابٌ في الآخرةِ، عذابُها في الدنيا الفتنُ والزلازلُ والقتلُ)[4] ، ومع ذلك فهي تبقى موقنة بالنصر، متيقنة أن توقيته من شأن الخالق لا المخلوق، وأنه محكوم بسنن الله وحكمته في مداولة الأيام، وإظهار المصدّقين، واتخاذ الشهداء، وتمحيص المؤمنين، ومحق الكافرين، واستبدال المعرضين.

بين يدي النصر فوز معنوي عاجل يتمثل في تأييد الله عباده ودفاعه عنهم بألطافه، من الربط على قلوبهم، واطمئنانها بفوز الآخرة، ورعب العدو، ونزول السكينة، ومشاركة الملائكة، والتوبة على بعض الكافرين.. ثم يأتي التمكين والاستخلاف بعد مسيرة طويلة تتجلى فيها الحقائق للمناوئين، وتتتابع فيها صفوف المناصرين.

وذلك الختام الذي يسعد به المجموع إنما هو نتيجة صلاح المجموع، حين تصير السيادة للشريعة على النفوس، ويطبق الناس شرع الله في نفوسهم وفيما بينهم، حتى تعمّ روح الوحي ونوره حياتهم كلها، في أفكارهم ومشاعرهم وكلماتهم ومواقفهم وسلوكهم، وتعاملاتهم وتجارتهم وصفقاتهم وبيعهم وشرائهم، وزواجهم وطلاقهم وإنجابهم ومناسباتهم، وتربيتهم وتعليمهم وإنتاجهم وتوظيفهم، وخططهم ومشاريعهم واستراتيجياتهم وتطبيقاتهم، وأبحاثهم ودراساتهم ومقاييسهم ومؤشراتهم، وعقودهم وخلافاتهم ومشكلاتهم وحلولهم، وإدارتهم وإعلامهم واقتصادهم وسياستهم.

فإذا صدقوا الله فهم قطعًا فائزون، في الآخرة منصورون، على طريق النصر في الدنيا سائرون، وإليه صائرون، في موعده المكنون، وقانونه المصون. ولمثل هذا فليعمل العاملون.

 



د. خيرالله طالب

 



[1]
القصة في صحيح البخاري (2801)، وأما القاتل الذي أسلم فهو جبّار بن سلمى، كما في الفتح (7/390).

[2] القصة في سنن الترمذي (3340).

[3] الباعث على هذا الموضوع (طوفان الأقصى) في السابع من أكتوبر، 22 ربيع الأول 1445.

[4] أخرجه أبو داود (4278).

X