خرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه رضوان الله عليهم معتمرين، فصدّهم المشركون عن البيت، ثم صالحوهم على شروط مجحفة بالمسلمين في ظاهرها، فأصابت المسلمين منها صدمة أقعدتهم عن المبادرة بالتحلل من إحرامهم، وعادوا متألمين من إرجاع المسلم الهارب بدينه إلى أيدي المشركين، دون العكس، فكان الموقف عليهم أشد من القتل والقتال، لكنهم صبروا عليه وصابروا.
ومع حزنهم.. وفي طريق عودتهم ينزل عليهم: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ١ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ٢ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ [الفتح: 1-3].
بشارة بالنصر الذي يبدأ بثبات القلوب، ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الفتح: 4]. والسكينة تشمل الطمأنينة، والسكون إلى الحق، والثبات عند نزول المحن المقلقة، والأمور الصعبة التي تشوش القلوب وتزعج الألباب وتضعف النفوس، والشجاعة عند البأس، والثقة بوعد الله، والارتياض على ترقُّبه دون حسرة. “فمن نعمة الله على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه، وينزل عليه السكينة، ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ونفس مطمئنة، فيستعد بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال، فيزداد بذلك إيمانه، ويتم إيقانه، فالصحابة رضوان الله عليهم لمّا جرى ما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين، من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم، وحطّ من أقدارهم، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس، فلما صبروا عليها ووطنوا أنفسهم لها، ازدادوا بذلك إيمانًا مع إيمانهم”. ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ “فتقتضي حكمته المداولة بين الناس في الأيام، وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر”([1]).
تتوالى البشارات في السورة ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ١٨ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾ [الفتح: 18-19]. رضي الله عن المؤمنين المبايعين ثم المطاوعين، فعلم ما في قلوبهم من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة، جاهدوا أنفسهم على أمر الله ورسوله مرتين.. فأنزل السكينة عليهم، فصاروا أهلاً للفتح، فجعل الله صلح الحديبية أعظم الفتوح، كما قال الزهري([2])، وصارت الشروط المزعجة سببًا لفتح مكة، وفتح لهم قبلها خيبر، ثم فتح لهم الأرض.
فتحوا قلوبهم للنور، فصاروا أهلاً لفتح الأرض بالنور، ومنع من يحجب الناس عن النور بالقوة.
وبعض شعوب المسلمين اليوم قامت للجهاد، فانكسرت شوكتها الأولى، فنحن اليوم نُختبر بالمرابطة على الإعداد، وملازمة ثغور المسوؤليات الذاتية، واستمرار المجاهدة في الواجبات الجماعية، والعزيمة على استبانة أمر الله في كل مسألة، والتزام إرشاد الوحي في كل نازلة، في شؤون الفرد والأسرة والتربية والتعليم والاقتصاد والإعلام والسياسة والفتوى والعلاقات والقتال والسلم، بعيدًا عن شذوذات المسائل وسقطات العلم والْتواءات الثقافة.
الأمر الذي يحتّم مسؤوليات على أهل العلم والفتوى في بيان المسائل وتوضيح المواقف، والصدع بالحق في مواجهة الباطل متّحدين على قلب واحد، كما يوجب على أهل الدعوة والتربية تقريب العلم الواجب، وتسهيل التعلم والعمل، وتزكية النفوس، ويدعو أهل الفكر إلى أصالة النبع دون شوائب المستنقعات، ويستلزم من سائر العاملين في خدمة الناس أن يكون عملهم على بصيرة، وفي خدمة الوعي، دون خضوع لمانحين مستبدّين، يسلبون الفطرة ويطفئون النور بدعوات الجاهلية المظلمة التي أهلكت أصحابها، فيودّون أن نكفر كما كفروا فنكون سواء.
حينما تسكن نفوسنا لأوامر الله مالك الأرض وما عليها، فلا نجد فيها حرجًا ونسلّم تسليمًا؛ حينها تتنزل السكينة في القلوب، ويغشاها ما غشي المسلمين قبيل بدر، وأيد الله عباده بجند من السماء، وكان النصر المبين.
د. خير الله طالب
([1]) تفسير السعدي لسورة الفتح. وينظر تفسير ابن كثير، وابن عاشور.
([2]) ذكره الواحدي والبغوي في تفسيرهما.