الافتتاحية

معركتنا: حقيقتُها وميدانُها

مدخل:
تعيش الأمّة الإسلامية منذ ما يزيد عن قرن من الزمن حالةً من الضعف المادي والتخلّف الحضاري، وهذه الحالة لها أسبابها التاريخية المعروفة، ولها نتائجها الواقعية الملموسة، ولا يكاد يختلف اثنان على ضرورة العمل على الخروج من هذه الحالة، والعودة بها إلى سالف مجدها. ومنذ أن هُزمت الأمّة في عقر دارها وتقاسمها الأعداء؛ شرع فريق من أبنائها -أفرادًا وجماعات- يبذلون الجهود العظيمة لاستنقاذ أمّتهم من هذا المستنقع.
هذه الجهود المبذولة، والتضحيات الجسيمة، والتجارب الكثيرة كانت متنوعةً للغاية؛ ففريقٌ نادى بفكرة الجامعة الإسلامية، وغيرهم رأى الدعوة إلى الوحدة العربية، ومنهم من دعا إلى تعلّم العلوم التطبيقية ومجاراة الدول المتقدّمة في المخترعات والصناعات، ويرى البعض في امتلاك القوة العسكرية أو الاقتصادية سبيلاً إلى النهوض. إلا أنَّ تحقيق الهدف المنشود ما زال يبدو بعيد المنال، وهذا ما يُعيد طرح التساؤلات في كلّ مرّة: أين أصبنا؟ وأين أخطأنا؟ وكيف نتعلم من تجاربنا السابقة، ولا نُلدغ مجددًا؟
أين الخلل؟ ومن أين نبدأ؟
لا شكّ أنَّ المصيبة التي نزلت بالأمّة قد ضربتها في جميع مفاصلها، وأفْقَدتها تفوُّقها حتى أصبحت تابعةً لغيرها، مما يجعل العمل على هذا المسار أو ذاك أمرًا مبرّرًا ذا وجاهة، وقد عمل غالب المصلحين في مختلف المسارات؛ السياسي منها، والدعوي، والتعليمي، والخَدَمي، … وهكذا. ومع ذلك فإنّ لقائل أنْ يقول: إنَّ هذه الجهود لم تؤدِّ النتائج المرجوّة منها، فما زالت الإنجازات محدودة الزمان أو المكان، أو سرعان ما يُبطش بها فتعود الأمور لما كانت عليه.

الحال الذي وصلت إليه الأمّة الإسلامية اليوم ليس مجرَّد تراجعٍ أو تعثُّر، بل هو في حقيقته إحكامٌ لسيطرة أممٍ وثقافات أخرى على الأمّة بما لم يسبق له مثيل في التاريخ

وهنا يعود طرح الأسئلة من جديد: أين أخطأنا؟ ولماذا لم نصل للهدف؟ وماذا ينبغي أن نصحّح؟ وكيف نغير طريقتنا؟ ومتى النصر؟ ونحو ذلك.
ومع الإيمان بأنَّ هذه التساؤلات مشروعة، وأنّ المراجعات لتصحيح المسار وسدّ الثغرات واستكمال النقص والرفد بالكوادر مطلوبٌ شرعًا وواقعًا، إلا أنّ ثمةَ مَلحظًا مهمًّا لا بدّ من التنبُّه له.
إنَّ الحال الذي وصلت إليه الأمّة اليوم -لأسبابٍ عديدة- ليس مجرَّد تراجعٍ أو تعثُّر، بل هو في حقيقته إحكامٌ لسيطرة أممٍ وثقافات أخرى على الأمّة الإسلامية بما لم يسبق له مثيل في التاريخ، لدرجة وضع الأطواق تلو الأطواق حول الأمّة لمنعها من النهوض من جديد، ممّا يعني أنَّ إدارة الصراع والعمل في ظلِّه مختلفةٌ عن العمل في ظروفٍ أخرى، مما يستدعي إعادة النظر في بعض المسلَّمات، من خلال الزوايا الآتية:

  1. معركتُنا اليوم ليست متكافئة ماديًا؛ فالعدو يمتلكُ السلاح والجيوش، ويتحكَّمُ في الاقتصاد، ويفرضُ إرادته السياسية، ويسبقُنا بالتقنية والعلوم المادّية والإدارية بسنوات طويلة، فضلاً عن عشراتِ المسائل تحتها من إعلام، وتعليم وغيرها، وتكاد أمّتنا لا تملك قرارها في هذه الأمور.
  2. نحن لا نواجه العدو القوي المتحكِّم مباشرة، بل بيننا وبينه طوقٌ من الحكومات الوظيفية، التي وُضعت لتكريس التخلُّف والتَبَعية، وجَعلِ البلاد ومقدَّراتها رهن العدو القوي، ومواجهةِ أيّ حراكٍ محتمل بقوى الأمن والمخابرات والجيش.
  3. الخروجُ من هذه الحالة ليس شيئًا واحدًا قطعيًا لا يحتمل التعدّد ولا التجزؤ ولا الاجتهاد؛ وبالتالي: لا يمكن تخطئةُ مَن عَمِلَ بالسياسة عند من يرى أنّ واجب الساعة هو الجهاد، ولا تخطئةُ مَن حَمَل سلاحه في وجه الطغيان مدافعًا عن دينه وعِرضه وماله عند من يرى أنّ الواجبَ انتزاعُ الحقوق عن طريق السياسة، وكذا القول في الجوانب الدعوية، والتعليمية، والتربوية، والاقتصادية. فالأمّة محتاجةٌ للعمل في شتّى المجالات ومختلف الأصعدة.
  4. ليس هناك معيارٌ معيّن للنصرِ في هذه المعركة مَن وصلَ إليه فهو ناجح، ومَن لم يصل إليه فهو فاشل، فضلاً عن عدم وجود نموذجِ عملٍ مثالي يجب أن تنتهجه جميعُ الجماعات والشخصيات وتُعرض عمّا سواه، فالمعركة ممتدَّة الجبهات، متشعِّبة المسائل، مختلفة الأحوال، وأيّ نجاح فهو محسوب للأمّة، وما ينجح هنا قد لا ينجح هناك.
  5. نهوضُ الأمم وشفاؤها ليس كنهوض وشفاء الأفراد؛ فهي تستغرق أوقاتًا طويلة تمتدُّ لعقود أو أجيال بالإضافة إلى علاقة النهضة بالكثير من العوامل الداخلية والخارجية التي قد تُسرّعها أو تبطّئها؛ لذا لا ينبغي استعجال النهضة ولا استبطاؤها، ولا تعليق الآمال والنصر بزمن أو جيل[1].

ينبغي ألّا نختلف على أنّ حقيقة المعركة تبدأ من تحدّي بناء الإنسان الواعي، والذي يقوم بدوره بما يناسبه من الأعمال والمشاريع

إذًا ما هي حقيقة المعركة؟
إنَّ مما ينبغي ألّا نختلف عليه أنّ حقيقة المعركة تبدأ من تحدّي بناء الإنسان الواعي، والذي يقوم بدوره بما يناسبه ويتقنه من الأعمال والمشاريع، الدعوية منها أو الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية وغيرها. فالتدافع بين الأمم تدافع حضاري ثقافي ركنه الأساس هو الإنسان، تتبدّى ملامحه في مختلف ميادين الحضارة، وتنعكس فيها.
ولأجل ذلك اهتمَّ الإسلام ببناء الإنسان أولاً؛ فعمل على تحرير عقله من الخرافات والأساطير، وتحرير جسده من نِيْر الظلم والاستعباد، وتحرير فكره من العبودية لغير الله تعالى، مع تصحيح التصوّرات عن مكانة الإنسان في هذا الكون والتأكيد على كرامته وتكريمه، وتشريع ما يحافظ على إنسانيته وعقله، مما يؤهّله ليكون قادرًا على الخلافة في الأرض.
وقد عمل الرسول ﷺ على تربية الصحابة رضي الله عنهم في مكّة حتى أحسن تربيتهم وتنشئتهم، فتعلّموا كيف تكون نفوسهم قلاعًا صامدة لا يمكن هزيمتها أمام مغريات الدنيا وزخرفها الفاني، حتى كان آحادهم يفهم الرسالة التي يحملها الإسلام للبشرية، «لِنُخْرِجَ العِبَادَ مِن عِبَادَةِ العِبِادِ إلى عِبَادِةِ ربِّ العِبَادِ، ومِن ضِيْقِ الدُّنْيَا إلى سَعَةِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، ومِنْ جَوْرِ الأَديَانِ إلى عَدْلِ الإسلامِ»[2]؛ فكانوا أساسَ إقامةِ أرقى الحضارات البشرية فيما بعد، فمنهم من جاهد، ومنهم من تفرّغ للدعوة والتعليم، ومنهم من تولّى الولايات العامة، ومنهم من رجع إلى مكّة أو أقام بالمدينة، بينما هاجر عدد منهم إلى مختلف البلدان؛ فأسّسوا فيها حضارةً ما زالت آثارها إلى اليوم.

ربّى الرسول ﷺ أصحابه خير تربية، فتعلّموا كيف تكون نفوسهم قلاعًا صامدةً لا يمكن هزيمتها أمام مغريات الدنيا وزخرفها الفاني، حتى كان آحادهم يفهم الرسالة التي يحملها الإسلام للبشرية بكلّ أبعادها

إدراك الأعداء لهذا الأمر:
أدرك الأعداء خطورة مسألة الوعي ومركزيتها في البناء الحضاري، فركَّزوا جهودهم في تغييب وعي الإنسان، وحَرْفِ فكره، ليصبح عاملَ تخريبٍ مساعدٍ لهم، أو تحييده ليكون دون فائدة على الأقل، يقول المنصّر «صمويل زويمر» في خطابٍ له في مؤتمر في القدس عام ١٩٣٥ موضّحًا أهداف التبشير: «…ولكن مهمّة التبشير الذي نَدَبتكم دولُ المسيحية للقيام بها في البلاد المحمّدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية؛ فإنّ في هذا هدايةً لهم وتكريمًا، وإنّما مهمّتكم أنْ تُخرجوا المسلم من الإسلام ليصبحَ مخلوقًا لا صلة له بالله، وبالتالي فلا صلةَ له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بِعَمَلكم هذا طليعةَ الفتحِ الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به خلال الأعوام المئة السالفة خيرَ قيام، وهذا ما أهنّئُكم عليه، وتهنّئُكم عليه دولُ المسيحية والمسيحيون كلّ التهنئة»[3].

«أشدُّ النكبات التي يُصاب بها البشر نكبة الغفلة؛ لأنّها محوٌ لما تقوم به حياة الناس، والمرء لا يكون إنسانًا ناميًا إِلا مع اليقظة؛ فإذا سُلب اليقظة، فقد استقرّ في حومة الموت والهلاك، وإن بقي حيًّا يتحرك»
الأستاذ محمود محمد شاكر

إذًا بأي المشاريع ننشغل؟
إنَّ الناظر لحال الأمة في العقود الأخيرة يُدرك أنّ معركتنا أكبرُ من مجرّد فوزٍ بصندوق اقتراع، أو وصولٍ لمنصبٍ، أو انتصارٍ في معركةٍ ما، أو تقدمٍ صناعي هنا أو هناك، فإنَّ الملاحَظ أنّ هذه المكاسب الممكنُ تحقيقُها مرحليًّا وموضعيًّا -على أهمّيتها- في ظل الظروف الكبرى العامّة تبقى غير راسخة، ويمكن للأنظمةِ المسيطرةِ الانقلابُ عليها أو مصادرتُها في أيِّ وقت، وبشتُى الحجج، وسرعان ما يبدأ الحديثُ عن النقد الذاتي، والمراجعات وتصحيح الأخطاء، وينفضُّ عنها الناس على الرغم من جسامة التضحيات، والعامل الأهمّ والأبرز في هذه المواقف: غيابُ الوعي عن الجماهير أو عدم وضوحه بشكل صحيح، ويمكن التعريج على حالةِ الربيع العربي، وكيف كان نقصُ الوعيِ عاملاً مؤثّرًا في التراجعات الكبيرة التي حصلت في بلداننا من مصر وسوريا وتونس وغيرها، وكيف كان العبثُ بوعي الناس وسهولةُ تغيير قناعاتهم وأفكارهم من الأنظمة المستبدّة من أهمّ عوامل حسم المعركة.
من مظاهر غياب الوعي:
لغياب الوعي خطورة كبيرة، ونتائجه وخيمة أينما حلّ، بل «أشدُّ النكبات التي يصاب بها البشر، نكبة الغفلة؛ لأنّها محوٌ لما تقوم به حياة الناس، والمرء لا يكون إنسانًا ناميًا إِلا مع اليقظة، فإذا سُلب اليقظة فقد استقرّ في حومة الموت والهلاك، وإن بقي حيًّا يتحرك»[4].
وفي واقعنا المنظور صورٌ كثيرة لهذا الغياب، فمنها على سبيل المثال: قدرة وسائل الإعلام الموجّهة على تغيير قناعات الناس وتزوير الحقائق، ودفعهم إلى خيارات ليست في صالحهم، لدرجة تصفيقهم لجلّاديهم وطغاتهم. ومنها الانقسامات المجتمعية الحادّة لدرجة التطاحن حول قضايا لم يحن وقتها أو ليست ذاتَ أهمّية أو أولويّة. ومنها قعود الجماهير عن حقّها في منع الظالم من الظلم أو جهلها بحجم قوّتها، إلى غير ذلك من القبول بفتات العيش في مقابل سحق كرامتها من قِبَلِ أفرادٍ يتحكّمون في ثروات الأمّة ومقدّراتها.


فهل هذه دعوة للتخلي عن العمل والانعزال للتربية والتعليم؟
كلا وحاشا، ولا يستقيم الأمر بذلك، بل المقصود ألّا تطغى المعاركُ الظرفيةُ على المعركة الأساسية المستمرّة، فالعمل ينبغي أن يكون على مسارين:
1. بناءُ الإنسان وصقلُ وعيه ضمن رؤيةٍ صحيحةٍ تتمثّل في السعي إلى التحرّر من هيمنة قوى الأعداء.
2. المدافعةُ بالمشاريع المتاحة بحسب معطيات الزمان والمكان، ووفق رؤية التحرّر.
ومن هنا يبدأُ العمل؛ فمعركتنا اليوم معركة وعي، وهذه المعركة نملك التحكّم فيها، ونحن الأقوى في أدواتها؛ فلدينا قرآنٌ يهدي القلوب، وسنّة تضيء الطريق، وثقافةٌ سامية لا ترقى إلى إنسانيتها أرقى الثقافات والحضارات، وتاريخٌ حافلٌ بالدروس والانتصارات، ومعركة الوعي هذه مساحاتها كبيرةٌ لا يملك الأعداء التحكّم فيها.
ما الذي يتطلّبه الوعي ونشره؟
يتطلّب بثُّ الوعيِ إحياءَ الأملِ في النّفوس، وحسنَ إدارة الموارد والطاقات، والكثيرَ من العمل والصبر، وتقديم الغالي والنفيس من التضحيات، وعلى رأس ذلك:

  1. تصدّي أهل العلم للتعليم والبيان والفتيا في عظائم الأمور وكلّياتها، قبل صغارها وجزئياتها، وتحمّل تبعاتِ أمانةِ الكلمة والتضحية في سبيل ذلك.
  2. تأصيلُ الوعي لدى طلبة العلم والعاملين في الحقل الدعوي ولفتُ أنظارهم إلى أولويات الدعوة وواجبات الساعة.
  3. قيامُ المشتغلين بالفكر والسياسة والإعلام ببيانِ حقائق الأمور، وكشفِ الأقنعةِ الزائفة، وفضح مخطّطات الأعداء وأذنابهم، وتمييز المصلحين من المفسدين.
  4. رفعُ مستوى الإيجابية لدى الشعوب، وبثُّ الأمل فيهم، ودفعهم للعمل والإنتاجية وتكامل الجهود، ونبذُ اليأس والكسل والخلاف.
  5. تعريفُ الشعوب بحقوقهم وواجباتهم، وتربيةُ الجيلِ على المطالبة بالحقوق وأداء الأمانات والواجبات.
    وفي النهاية .. يمكننا فعلُ الكثير إذا عرفنا حقوقنا ومكامِنَ قوّتنا، بل لا يمكن للإنسان أن يحصل على حقّه ما لم يعرف أنّهُ حقُّهُ، ولا يمكن للمقاتل أن يقاتل عدوًّا لا يعرف أنّه عدوه، ولا يمكن للطبيب أن يعالج مرضًا لا يعرفه، وأوّل الطريق المعرفةُ، وجَلَّ من ابتدأ إنزال الوحي بكلمة (اقرأ).

[1] ومما يدخل في هذا الأمر: التصورُ الخاطئ لانهيار الأمم أو ضعفها واضمحلالها؛ وافتراضُ تصوراتٍ غيرِ صحيحةٍ ولا واقعية في كيفية حدوث ذلك، كما يحصل لدى كثير من السامعين للحديث عن انهيار الحضارة الغربية، وجميع هذا من قلّة الوعي.

[2] قالها ربعي بن عامر رضي الله عنه لقائد جيش الفرس (رستم) لما دخل عليه مبعوثًا من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ينظر: تاريخ الطبري(٣/٥٢٠).
[3] ينظر مقالة: الإسلام الذي لا يعاديه الغرب، لمحمد السؤالي، موقع تبيان – نصنع الوعي.

[4] من مقدمة كتاب: في مهب المعركة، لمالك بن نبي، بقلم الأستاذ محمود محمد شاكر.

X