التعامل مع الأعراق والقوميات والانتماءات المختلفة من القضايا الشائكة والمعقَّدة على مرِّ العصور، فكثيرًا ما كان يحصل تفضيلٌ لفئةٍ على حساب أخرى، وفيما عدا التصوُّر الإسلامي الحضاري للمواطنة، بقيت الحلول المطروحة للتعامل مع هذه المسألة غيرَ كافيةٍ لإلغاء الفوارق ونبذ التَّمييز، وقد تعالت مؤخرًا طروحاتٌ ونظرياتٌ للمواطنة العالمية في التعامل مع الاختلافات وتجاوزُها، فهل هي مواطنةٌ عالمية بالفعل؟ أم شكل من أشكال العولمة الغربية؟!
مدخل:
شهد التاريخ الإِنساني عددًا من المحاولات لتوسيع مفهوم المواطنة وتحريره من أُطر الانتماء الجغرافي والعرقي والانطلاق به نحو فضاءات أَوسع، وفي هذا السياق برزت إلى الوجود فكرة (المواطنة الأُممية)؛ إذ حاولت الأُمميات على اختلافها[1] أَن تتجاوز المفهوم القومي والعرقي للمواطنة وأَن تجعل من الرابطة الفكرية (الإيديولوجية) أَساسًا للمواطنة، وفي ذلك المسعى حاولت الأُمميات تقديم رؤية متجاوزة لمسألة الخصوصيات القومية والثقافية، ودولة الاتحاد السوفيتي سابقًا أقرب الأمثلة التاريخية على ذلك.
ومع مطلع الألفية الثالثة انبثق أنموذجٌ فكريٌّ جديد، حاول أَن يرسُم معالمَ معاصرة لمواطنةٍ عالميةٍ تقوم على الإيمان بغيرية الآخر، وبحقِّه في الاختلاف والمساواة، ولا يسعى إلى دمجه وقَولبته أيديولوجيًا (عقائديًا وفكريًا) كما تفعلُ الأُمميات؛ وذلك هو النموذج الكوزموبوليتاني «cosmopolitan».
ومع أَنَّ الفكرة الكوزموبوليتية أَو الكوسموبوليتية cosmopolitanism فكرةٌ قديمةٌ وضاربةٌ في أَعماق التاريخ؛ فقد تمَّ استدعاؤها خلال العقدين الماضيين على نحوٍ غير مسبوق، وبرز عالِم الاجتماع والمفكر الألماني أولريش بيك «Ulrich Beck» (١٩٤٤ – ٢٠١٥) على رأس المنظرين المعاصرين للفكرة، وذهب به حماسه ليُعلن عن انتصار الفكرة الكوزموبوليتية مع بداية الأَلفية الثالثة[2].
وخلافًا لما قد يظنُّه البعض فالكوزموبوليتية ليست دعوةً طوباوية (خيالية)، ولكنها استمدَّت إلهامها المعاصر من واقعٍ إنساني يموج بمتغيراتٍ كثيرةٍ وعابرةٍ للحدود، والسؤال الذي يبرز هنا: هل تكون الكوزموبوليتية اليوم أداةً في يد العولمة الغربية كما كانت بالأمس أداةً في يد الإمبراطوريتين: اليونانية والرومانية؟ أَم إِننا أَمام أنموذج مختلف؟
والإجابة عن هذا السؤال تتطلب الاقتراب أكثر من فكرة المواطنة العالمية (الكوزموبوليتية) وبما أَنها فكرةٌ تضرب بجُذورها في أَعماق التاريخ فلا بدَّ إذن من العودة إلى التاريخ لفهم الفكرة، ومن ثم النظر في مدى جدوى استدعائها في واقعنا المعاصر.
لم تلقَ فكرة المواطنة العالمية قبولاً في مجتمع الإغريق الذي كان يرى العالم قسمين: الإغريق والبرابرة، وكان يرى أَنَّ الإغريق هم وحدهم الذين يستحقُّون حياةَ المواطنة، وأَما بقية الشعوب (البرابرة) فلا يمكنهم الارتقاء إلى هذا المستوى من العيش!
تاريخ المصطلح:
ترجع كلمة الكوزموبوليتية إلى الكلمة اليونانية (كوسموبوليتيس) kosmopolites وتتكون من مقطعين: (كوسموس) والتي تعني الكون والعالم، و(بوليتيس) التي تعني المواطن، فالكلمة تعني إذن: (مواطِن العالَم)، وتأتي في مقابل مصطلح (مواطن المدينة) الذي كان شائعًا لدى الإِغريق (اليونان) ومغايرًا له[3]؛ والذي كان يقوم على الانتماء العرقي، وعلى أَساسه كانت تُمنح امتيازات سياسية (ديمقراطية) واقتصادية واجتماعية في المدن اليونانية القديمة؛ فقد كان الإغريق يرون بقية الشعوب برابرة يعيشون حياة همجية ولا يعرفون حياة المواطنة، وكان الفيلسوف الكبير أَرسطو (٣٨٤ – ٣٢٢ ق.م) يتبنى هذه النظرة كما يظهر من وصيته لتلميذه الإسكندر المقدوني (٣٥٦ – ٣٢٣ ق.م): «أن يعامَل اليونان معاملة الأَحرار، وأَن يعامَل البرابرة معاملة العبيد»[4].
وفي مقابل هذا الفكر الاستعلائي برز الفيلسوف ديجين «ديوجانس» Diogenes (٤٢١-٣٢٣ق.م) ليعلن أنه مواطِن عالمي: كوسموبوليتيس[5] kosmopolites. ثم ظهر بعد ذلك فلاسفة المدرسة الرواقية[6] الذين دعوا إلى مواطنة عالمية kosmopolites في مدينة عالمية واحدة[7] Cosmopolis.
ولم تلقَ فكرة المواطنة العالمية (الكوزموبوليتية) قبولاً في مجتمع الإغريق الذي كان يرى العالم منقسمًا إلى قسمين: الإغريق والبرابرة، وكان يرى أَنَّ الإغريق هم وحدهم الذين يَحيَون حياة المواطنة، ويستحقون حياة المواطنة، وأَما بقية الشعوب (البرابرة) فلا يمكنهم الارتقاء إلى هذا المستوى من العيش!
لكنَّ هذه النظرة أخذت تتغير مع فتوحات الإسكندر المقدوني (٣٥٦ – ٣٢٣ ق.م) واختلاط الإغريق بالقوميات والثقافات الأُخرى، وكما يقول المؤرخ الكبير وِل ديورانت (١٨٨٥ – ١٩٨١): «لقد حطم الإسكندر الحواجز القائمة بين اليونان والبرابرة»[8]. فقد تبنى الإسكندر سياسة التعايش والتقارب بين اليونانيين والقوميات الأخرى، وشجع التزاوج بين اليونانيين وسكان البلاد المفتوحة، وتزوَّج هو بواحدةٍ من بنات ملوك الفرس، وكان جيشه خليطـــًا من أعراقٍ وقوميات مختلفة، وفي هذا المناخ الجديد لقيت فكرة المواطنة العالمية (الكوسموبوليتيس) kosmopolites تفهُّمًا وقبولاً[9].
ومع قيام الإمبراطورية الرومانية (٢٧- ٤٧٦م) وابتلاعها للإمبراطورية اليونانية، وانضواء قومياتٍ وثقافاتٍ متعدِّدةٍ تحت لواء الإمبراطورية الجديدة، كان لا بدَّ للرومان من البحث عن فلسفةٍ تقوم عليها إمبراطوريتهم المتراميةُ الأَطراف والمتعددةُ القوميات والثقافات، ووجدت الإمبراطورية الرومانية في نظرية الكوسموبوليتيس أَساســًا فكريًـا صالحًا لتوسيع مفهوم المواطنة والانتماء ليشمل أَبناء البلاد المفتوحة، ولأَنَّ المدرسة الرواقية كانت قد تبنَّت نظرية الكوسموبوليتيس ودافعت عنها، فقد أَصبحت هي الإيديولوجية الرسمية للإمبراطورية، ويمكن القول إنَّ الرواقية قد أعطت الإمبراطورية الرومانية الإيديولوجية التي تحتاجها[10]، وبسبب التأثير الكبير للفلسفة الرواقية على الإمبراطورية الرومانية أطلق وِل ديورانت على روما اسم: (روما الرواقية)[11].
وهكذا لعبت فكرة الكوسموبوليتيس دورًا مهمًا في تشكيل العالم اليوناني – الروماني، وفي تماسك الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية، وقدمت أنموذجًا للتعايش بين القوميات والثقافات المختلفة وبما يحقق المصالح الحيوية العليا للإمبراطوريتين، وفي هذا السياق تشكَّلت طبقةٌ من الأعيان المثقَّفين من مختلف الأَعراق والقوميات كانت الفلسفة الرواقية اختيارهم، وتقلدوا مناصب سياسية رفيعة لاسيما في الإمبراطورية الرومانية، وبالتالي عملوا على تأمين وحدتها[12]. وما يجب ملاحظته هنا: أن القبول بالثقافات الأُخرى كان يتم تحت سقف الاعتراف بتفوق الثقافتين اليونانية والرومانية[13].
الكوزموبوليتية في العصر الحديث:
في العصر الحديث رأينا روح الفكرة الكوزموبوليتية حاضرةً في الفلسفة الليبرالية والاشتراكية، وإنْ كان مفكِّرا الاشتراكية كارل ماركس (١٨١٨ – ١٨٨٣م) وفريديريك إنجلز (١٨٢٠ – ١٨٩٥م) قد تحدَّثا عن الكوزموبوليتية في سياق التخوُّف من فَرض هيمنة الشركات الرأسمالية على العالم؛ بحيث تتمكَّن تلك الشركات الكوزموبوليتية العابرة للقارات من إنشاء مصانعها في عددٍ من البلدان، واختراق المجتمعات الضعيفة بحثًا عن الأيدي العاملة الرخيصة والمواد الأوّلية الوفيرة، وبالتالي تتمكَّن البورجوازية[14] من أن «تخلق عالمًا على صورتها»[15].
وعند التأمل في البيان الشيوعي (١٨٤٨م) سنجد أن السياق الذي ذكر فيه مصطلح الكوسموبوليتية هو سياق العولمة الرأسمالية؛ إذ جاء فيه: «والبرجوازية باستثمارها السوق العالمية طبعت الإنتاج والاستهلاك في جميع البلدان بطابع كوسموبوليتي، وانتزعت من تحت أقدام الصناعة أرضيتها القومية»[16].
وبالنظر إلى هذا السياق لا يمكن أخذ كلام ماركس وإنجلز عن الكوسموبوليتية والاستناد إليه في إدانة الفكرة الكوسموبوليتية في تنظيرها المعاصر -كما فعل البعض- وإنَّما يمكن الاستناد إلى كلامهما في إدانة العولمة الرأسمالية، لاسيَّما والتنظير الكوزموبوليتاني المعاصر يؤكِّد أنَّ الكوسموبوليتية لا تسعى إلى استلحاق الآخر ودمجه كما هو الشأن في العولمة، ولكنَّها تقوم على الاعتراف بغيرية الآخر؛ وتسعى من خلال ذلك إلى تحقيق السِّلم والمساواة والتعايش الإنساني[17].
بعث الفكرة من جديد:
وإذن فنحن أَمام فكرةٍ قديمة، خَدَمَتْها الظروف السياسية في عهد الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية واستخدمتها لتحقيق مآربها، والسؤال الذي يفرض نفسه: هل من مسوغ لإعادة بعث الفكرة اليوم من جديد والحديث عنها فكرةً خلاصيةً من بعض علماء الاجتماع؟
سنقف مع عالم الاجتماع والمفكر الألماني أولريش بيك إذ يُعدُّ الأكثرَ تفاؤلاً بشأن مستقبل الكوزموبوليتية حين يقول: «الكوسموبوليتية هي الفكرة المستقبلية التي ستحلُّ محل الأفكار التي طالما استُخدمت في التاريخ مثل: القومية، والشيوعية، والاشتراكية، والليبرالية المحدثة»[18].
وفي نظر أولريش بيك تُعدُّ الكوزموبوليتية الخيارَ الأَمثل للتعايُش الإنساني وتحقيق حُلم المواطنة العالمية، وهي كوزموبوليتية تقوم على رؤيةٍ جديدةٍ تلبِّي احتياجات العصر، ويقومُ بناؤُها التنظيري على ثلاثة أسس:
- الأول: معيار موحَّد تتعايش في ظلِّه الكيانات المختلفة.
- والثاني: حماية الخصوصيات الثقافية قانونيًا.
- والثالث: تمتع الجميع بحقوق متساوية[19].
وانطلاقًا من هذه الأُسس يتمحور الحديث في أيامنا هذه حول الكوزموبوليتية باعتبارها نظريةً للمواطنة العالمية، ويتم توصيف بعض المدن المعاصرة بكونها مُدُنًا كوزموبوليتية، وهي تلك المدن التي يجري فيها التعايُش والتفاعُل بين السكان على اختلاف قومياتهم وثقافاتهم وأَديانهم، ويتمتَّع فيها الإنسان بحقوقه لا بوصفه مواطنًا في بلد ما، ولكن بوصفه إنسانًا له حقوقٌ متساوية مع غيره.
الكوزموبوليتية والقومية وسيادة الدول:
في هذا السياق برزت المسألة القومية، لاسيَّما مع تعريف البعض للكوزموبوليتية بـ «اللاقومية»، وبرز التساؤل: هل الكوزموبوليتية نقيضٌ للقومية؟
لا شك أَنَّ الكوزموبوليتية تدعو إلى تغليب البُعد الإنساني والعالمي على البُعد القومي، ولكنَّها مع ذلك لا تدعو إلى إلغاء الانتماء القومي. نعم، الكوزموبوليتية ترفُضُ إثارة النعرات القومية والطائفية؛ لأَنها تقوم على الاعتراف بغيرية الآخَر، وعلى الاعتراف بالتنوع والتعايش في إطار معياريٍّ مُشترك، وبالتالي: فهي ترفض كلَّ ما يؤدِّي إلى تعزيز وتأَجيج الاختلاف، وهنا تفترق الكوزموبوليتية عن أنموذج ما بعد الحداثة[20] الذي يُعزِّز الاختلاف ويشجع على الطائفية داخل الدولة الواحدة[21].
ومن منظورٍ كوزموبوليتانيٍّ معاصر: لم تعد هنالك مشكلات يمكن أَن تبقى حبيسة خلف حدود الدولة القومية دون أَن يمتدَّ تأثيرُها إلى بقية المجتمع العالمي، ولا يمكن تبرير انتهاك دولةٍ ما لحقوق مواطنيها بدعوى أَنَّ ذلك شأن داخلي، وبالتالي: فعلى الدولة القومية أَن تستوعب التغيير الحاصل في عالم اليوم؛ حيث «تخلق مشكلات العالم جماعاتٍ عابرةً للقوميات، ومن يسحبُ البطاقة القومية يخسر، لكن من يفهم السياسة القومية بمنحى كوزموبوليتاني ويمارس ذلك يستطيع البقاء»[22].
وهنا تظهر مسألةٌ أخرى حساسة؛ وهي موقف الكوزموبوليتية من سيادة الدول، وواضح أَنَّ الكوزموبوليتية لا تؤمن بالسيادة التي تُخوِّل دولةً ما انتهاكَ حقوق مواطنيها، أَو التمييز بينهم على أَساسٍ عرقي أَو ثقافي، ويمكن الحديث هنا عن نظرية «السيادة المحدودة»[23] حسب تعبير أولريش بيك حيث لا مكان للسيادة المطلقة التي تجعل أَي دولةٍ بمنأى عن التدخل الإنساني من جانب الجماعات والمنظمات الإنسانية لحماية «حقوق الإنسان» و«المواطنة العالمية»[24].
يستند مفهوم الحرية في التنظير الكوزموبوليتاني المعاصر إلى سُلَّم القيم الغربي الليبرالي الذي تتموضع الحرية في أعلى درجاته، بينما تتموضع قيمة العدل في أعلى درجات سلَّم القيم في التصور الإسلامي، ومن خلال هذا المنظور تتمايز عنها الرؤية الإسلامية
الكوزموبوليتية والسلام العالمي:
يذهب التنظير الكوزموبوليتاني المعاصر إلى أنَّ إحلالَ السلام في العالم يمكن أن يتحقَّق من خلال الكوزموبوليتانية؛ وأنَّ الكوزموبوليتية هي الردُّ المناسب على التهديدات الإرهابية؛ ذلك أنَّها تقول: إنَّ لكلِّ إنسانٍ -بغض النظر عمن يكون وأين يكون- الحقَّ في العيش والحرية والكرامة والأمن والاعتراف بغيريته، وأنَّ تحقيقَ ذلك هو ما يجعل العالم أكثر أمنًا وبمنأى عن الإرهاب[25].
وأنَّ الفكرة الكوزموبوليتية استُخدِمت تاريخيًا في تهذيب النزعات الإمبراطورية القائمة على استلحاق الآخر ودمجه، كما حدث في الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية، وهكذا لعبت الكوزموبوليتية دورَها في تحقيق التعايُش بين مختلف الثقافات من خلال الاعتراف بغيرية الآخر بدلاً من محاولة إخضاعه وقَولبته وفرض ثقافة النموذج الإمبراطوري المتحكم، ومن هذا المنظور يرى أولريش بيك أنه قد ظهر بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر ٢٠٠١م في الولايات المتحدة الأميركية «خطابٌ يثير الدهشة؛ حيث جرى تحويل مفهوم الإمبراطورية الذي يعطي غالبًا قيمة سلبية إلى مفهوم يحمل قيمةً جديدة، يميل هذا المفهوم للإيحاء بأنَّ أحداث الحادي عشر من أيلول قد برهنت على عدم كفاية الالتزام الأميركي وعدم كفاية الحضور الأميركي أيضًا في العالم. أما الحلُّ فيقوم على اقتراح نشر القيم الأميركية -طريقة الحياة الأميركية- بطريقةٍ أكثر تصميمًا، وأكثر فاعلية، والفكرة الكامنة خلف ذلك كله تبدو وكأنها تبشِّر بضرورة تحويل كل الناس إلى أميركيين، وذلك حتى يتسنّى للأميركيين العيش بأمانٍ في عالم لا حدود له»[26].
إنَّ التنظير الكوزموبوليتاني المعاصر إذ يرفض ذلك التصور (الأمركة) طريقًا لتحقيق السلام ومحاربة الإرهاب، فإنَّه يؤكِّد على أمرين هما: الحرية والاعتراف بغيرية الآخر طريقًا لتحقيق الأمن الوجودي للبشرية وإحلال السلام في العالم، ومن منظورٍ كوزموبوليتاني معاصر فإنَّ الإنسان الذي يعيش بسلامٍ بعيدًا عن ويلات الحرب والفقر والاضطهاد لن يكون بمقدور الإغواءات الإرهابية استمالته إلى صفها.
ومع التسليم بوجاهة هذا الطرح، وبأهمية الحرية قيمةً حضاريةً وإنسانية؛ لكن ما ينبغي الوقوف عنده هو: أنَّ مفهوم الحرية في التنظير الكوزموبوليتاني المعاصر يستند إلى سلَّم القيم الغربي الليبرالي الذي تتموضع الحرية في أعلى درجاته، بينما تتموضع قيمة العدل في أعلى درجات سلم القيم في التصور الإسلامي، وبالتالي فالعدل هو القيمة العليا والمطلقة والحاكمة على ما سواها من القيم في التصور الإسلامي، ومن خلال هذا المنظور تتمايز الرؤية الإسلامية للمواطنة العالمية وإحلال السلام في العالم عن المنظور الكوزموبوليتاني، وتنعكس آثار هذا التمايز على مسألة الأمن الوجودي والسلام العالمي، وإنَّ إلقاء نظرة على السجل الإنساني في مجال حقوق الإنسان والمواطنة منذ أقدم العصور وإلى أيامنا هذه تظهر مدى الحاجة إلى قيمة العدل قيمة عليا وحاكمة وضابطة، وأنه من خلال ذلك فقط يمكن تحقيق الأمن الوجودي للإنسانية جمعاء، وإرساء مواطنة عالمية تحتكم إلى معايير وموازين منصفة ومقبولة من الجميع.
إنَّ التأكيد الكوزموبوليتاني المعاصر على قيمة الحرية وما تنطوي عليه من الاعتراف بغيرية الآخر كطريق لتحقيق الأمن الوجودي للبشرية وإحلال السلام في العالم يبقى منقوصًا ما لم يأخذ بعين الاعتبار قيمة العدل قيمة أساسية عليا يجب أن يحتكم إليها الوجود الإنساني ومن خلالها تستقيم أحواله، والمعادلة هنا يجب أن تكون واضحة وهي أننا عندما نخلق عالمًا أكثر عدلاً فنحن نخلق عالمًا أكثر أمنًا.
الكوزموبوليتية والأممية الإسلامية:
في التجربة الحضارية الإسلامية جرى تحريرُ مفهوم المواطنة من ضِيقِ الإطار الجغرافي والقومي، والسموُّ به إلى أفقٍ إنساني رحيب ارتكازًا على مفهوم (الأمة) عملاً بقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٩٢]. وأصبح مبدأ العدل هو القيمةَ الحضاريةَ العليا الحاكمة والناظمة للمجتمعات والشعوب المنضوية تحت لواء الدولة الإسلامية، وحظيت الخصوصيات والعادات والتقاليد المجتمعية بالاحترام الكامل ما لم تتصادم مع قطعيات الشريعة، ويمكن القول: إنَّ الأممية الإسلامية تلتقي مع الكوزموبوليتانية في توسيع مفهوم المواطنة والإعلاء من شأن الروابط الفكرية والقيمية على روابط الدم والجغرافيا، ومع ذلك فالإسلام لا يتنكر للروابط الاجتماعية ولا يعلي من شأن الفردية في مواجهة الجماعية كما في التنظير الليبرالي المعاصر للكوزموبوليتانية، بل يركز على مفهوم العدل ويجعله على رأس سلم القيم في الأمة، مما يجعل التصور الإسلامي للمواطنة أكمل الطروحات وأرقاها وأحكمها.
الإسلام لا يتنكَّر للروابط الاجتماعية ولا يعُلي من شأن الفردية في مواجهة الجماعية كما في التنظير الليبرالي المعاصر للكوزموبوليتانية، بل يُركِّز على مفهوم العدل ويجعله على رأس سُلمَّ القيم في الأمة، مما يجعل التصوُّر الإسلامي للمواطنة أكملَ الطروحات وأرقاها وأحكمها
وختامًا..
قد يرى البعض في فكرة المواطنة العالمية (الكوزموبوليتانية) حلمًا بعيد المنال، وقد يخشى آخرون من استخدام الفكرة ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للمجتمعات وفرض أفكار الثقافة الغالبة، بينما قد يرى آخرون في الفكرة تجسيدًا للمبادئ والقيم الإِنسانية في المساواة والسلم والتعايش، وأَن ذلك التجسيد ممكنٌ في عصرنا هذا -بفضل ثورة الاتصال والمواصلات- أَكثر من أي عصر مضى، وإذا ما أَخذنا الفكرة بعيدًا عما قد يشوبها من التوظيفات والمؤثِّرات السياسية والإيديولوجية فإنه يمكن القول: إنَّ الفكرة -في أَصلها- تعبِّر عن النزوع الإنساني نحو المساواة والعيش المشترك، وإنها في كل تجلِّياتها التاريخية والمعاصرة ارتبطت بتقارب وتواصل المجتمعات وتلاقح الثقافات، ولهذا كان من المنطقي أَن يكون الانبعاث المعاصر للفكرة الكوزموبوليتية مع بدايات الألفية الثالثة التي أَسفرت عن انفتاح وتواصل غير مسبوق بين المجتمعات والشعوب الإنسانية، ولعبت الشابكة العالمية (الإنترنت) دورًا محوريًا في ذلك، ويمكن القول: إنَّ موت المسافة مع بداية الألفية الثالثة قد قابله بعث وحياة جديدة للفكرة الكوزموبوليتية.
يمكن للكوزموبوليتانية أن تلعب دورًا فاعلاً في مواجهة الأفكار الإقصائية كفكرة (صراع الحضارات) وأفكار اليمين المتطرِّف في أوروبا على سبيل المثال، وإن كان لا يزال أمام الفكرة الكثير لتُثبت حضورها الفاعل في ترسيخ دعائم السلم والتعايش الإنساني
وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل العديد من العوامل الأخرى التي هيَّأت للانبعاث المعاصر لفكرة المواطنة العالمية (الكوزموبوليتانية) وأهمها: أبحاث العولمة في العلوم الاجتماعية، والأبحاث الاجتماعية لحركة انتقال المهاجرين، والعديد من الظواهر العابرة للحدود، ودراسات ما بعد الاستعمار وما بعد النسوية، ودراسات الثقافة العالمية والإثنوغرافيا أَو علم الأعراق، وأبحاث الهوية ذات المنحى السوسيوسيكولوجي (علم النفس الاجتماعي)[27].
ومن الواضح أَننا أَمام طرحٍ جديد للفكرة الكوزموبوليتية (المواطنة العالمية)، وهو طرحٌ يتجاوز الكوزموبوليتية في نماذجها التاريخية في العالم القديم (اليوناني والروماني)، ولكن هل يمكن تجاهل أَنَّ فكرة المواطنة العالمية (الكوزموبوليتية) وهي تحاول اليوم تقديم نفسها في نموذج جديد ومعاصر لا تخرج عن سياق النموذج الغربي والفهم الغربي لحقوق الإنسان؟
الحقيقة أنه وعلى الرغم من محاولة أَنصار الكوزموبوليتية تقديمها على أنها فكرة جديدة وبديلة للأفكار القائمة، لكن عند التأمل يظهر تأثير المذهب الفردي (الليبرالي) بوضوح في مفاصل النظرية؛ فالتنظير المعاصر للكوزموبوليتية يؤكد على الفردية، ويرفض النظر إلى الفرد باعتباره جزءًا من كيانات معينة، بل يرى في تلك النظرة قدرية اجتماعية يجب كسرها[28].
ومع أخذ كل التحفظات التي قد يبديها البعض على فكرة المواطنة العالمية (الكوزموبوليتانية) في تنظيرها المعاصر الجديد بعين الاعتبار، فإنه ومن منظورٍ حضاري وإنساني يمكن القول: إنَّ الفكرة في تنظيرها المعاصر -المرتكز على المساواة والتعايش واحترام الخصوصيات الثقافية- يمكن أن تلعب دورًا فاعلاً في مواجهة الأفكار الإقصائية والاستعلائية كفكرة (صراع الحضارات) وأفكار اليمين المتطرف في أُوروبا على سبيل المثال[29]، وإن كان لا يزال أمام الفكرة الكثير لتثبت حضورها الفاعل في ترسيخ دعائم السلم والتعايش الإنساني، ولكي تحدث تحولاً في الفكر والتوجهات السياسية بما يخدم نظريتها في المواطنة العالمية.
د. أمين نعمان الصلاحي
أستاذ مادة العقيدة والأديان والفرق في المعهد العالي للمعلمين بمحافظة تعز – اليمن.
[1] عند الحديث عن الأممية قد يتبادر إلى الذهن الأممية الاشتراكية (اللادينية)، وقد عرفت البشرية قبل الأممية الاشتراكية أمميات كان الدين أساسها كالأُممية المسيحية والإسلامية. ويرى عالم الاجتماع والمفكر الألماني أولريش بيك «Ulrich Beck» (١٩٤٤ – ٢٠١٥م) أنَّ الأممية والكوزموبوليتية تنتميان إلى الأصل الفكري نفسه، وتعبِّران عن توق الإنسان إلى السلم والوحدة الإنسانية، وإن كانت الأمميات لها منظوراتها المختلفة عن المنظور الكوزموبوليتاني، كالأممية الحمراء (الاشتراكية) والأممية الرمادية (الليبرالية) والأممية السوداء (الكنسية). ينظر: السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة، لأولريش بيك، ص (٦٧١).
[2] السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة، لأولريش بيك، ص (٦٤٧).
[3] ينظر: موسوعة لالاند الفلسفية، لأندريه لالاند (١/ ٢٣٤). وقصة الحضارة، لوِل وإيريل ديورانت (٢/٢/٤٦٣).
[4] قصة الحضارة، لوِل وإيريل ديورانت (٢/٢/٥٣١). والحقيقة أن فلسفة أرسطو كانت ذات نزعة عرقية، وقد كان لهذه النزعة أثرها في فلاسفة المذهب الأرسطوي من بعده. ينظر: السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة، لأولريش بيك، ص (٦٥٠ – ٦٥١).
[5] ينظر: قصة الحضارة، لوِل وإيريل ديورانت (٢/٢/٤٦٣).
[6] الرواقية: هي إحدى مدارس الفلسفة اليونانية، وسميت بالرواقية لأن مؤسسها زينون zenon كان يعلم تلاميذه في رواق. ترى الرواقية أن السعادة تكمن في الفضيلة، وأن الحكيم هو الذي يرى أن كل شيء في الطبيعة إنما يقع بالعقل الكلي أو بالقدر، ولذلك يجب على الإنسان أن يجعل سلوكه مطابقًا لما تمليه عليه الطبيعة. ينظر: المعجم الفلسفي، لجميل صليبيا (١/٦٢٢). والمعجم الفلسفي، لمراد وهبة، ص (٣٢٩)، وتاريخ الأفكار السياسية، لجان توشار (١/٧٨ – ٧٩).
[7] ينظر: رسالة في النظام الفلسفي للرواقيين، ف. أجرو، ص (٢٨٨).
[8] قصة الحضارة، مرجع سابق (٢/٢/٥٣٩).
[9] ينظر: تاريخ الأفكار السياسية، لجان توشار (١/٨١).
[10] ينظر: المرجع السابق (١/٨٣، ٨٩).
[11] قصة الحضارة (٣/١/١١٧).
[12] ينظر: تاريخ الأفكار السياسية، لجان توشار (١/١٣٠).
[13] ينظر: الخوف من البرابرة.. ما وراء صدام الحضارات، لتزفيتان تودوروف، (١٨٦).
[14] كثيرًا ما يستخدم مصطلح البرجوازية في أدبيات الفكر الاشتراكي، ويقصد به طبقة الرأسماليين مالكي وسائل الإنتاج والمتحكِّمين في أجور الطبقة العاملة.
[15] البيان الشيوعي، لكارل ماركس وفريديريك إنجلز، ص (٦).
[16] المرجع السابق، ص (٦).
[17] ينظر: السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة، لأولريش بيك، ص (٦٤٩ – ٦٥٣).
[18] السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة، لأولريش بيك، ص (٢٦).
[19] ينظر: الخوف من البرابرة.. ما وراء صدام الحضارات، لتزفيتان تودوروف، ص (١٨٦).
[20] ما بعد الحداثة: فلسفة مادية تقوم على التشكيك في السرديات واليقينيات الكبرى، وإنكار وجود قيم أخلاقية موضوعية معيارية، والإعلاء من شأن الوعي الذاتي والتعددية. أطلق عليها المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري اسم: المادية السائلة. ينظر: (الحداثة وما بعد الحداثة) للدكتور عبد الوهاب المسيري والدكتور فتحي التريكي. و(توجهات ما بعد الحداثة) لنيكولاس رزبرج. و(حالة ما بعد الحداثة) لديفيد هارفي.
[21] ينظر: الخوف من البرابرة.. ما وراء صدام الحضارات، لتزفيتان تودوروف، ص (١٨٦ – ١٨٧).
[22] مخاطر المجتمع العالمي.. بحثًا عن الأمان المفقود، لأولريش بيك، ص (٣٦٧).
[23] السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة، مرجع سابق، ص (٤٠).
[24] ينظر: ماهي العولمة، لأولريش بيك، ص (١٥٣- ١٥٦).
[25] ينظر: المرجع السابق، ص (٦٧٦).
[26] نفس المرجع، ص (٦٧٦ – ٦٧٧).
[27] ينظر: مجتمع المخاطر العالمي، لأولريش بيك، ص (٣١٦).
[28] ينظر: السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة، لأولريش بيك، ص (٦٥٤ – ٦٥٥).
[29] يقترح عالم الاجتماع الألماني أولريش بيك «Ulrich Beck» الكوزموبوليتية على الاتحاد الأوروبي كإطارٍ نظري يستوعب أساليب العيش والغيرية الثقافية، ويرى في الكوزموبوليتية طريقة مثلى لإمبراطورية أوروبية يعيش في ظلها الجميع تحت سقف القانون ويتمتع بحقوق متساوية. ينظر: الخوف من البرابرة.. ما وراء صدام الحضارات، لتزفيتان تودوروف، ص (١٨٥ – ١٨٦).