انطلقت الحضارة الإسلامية من قاعدةٍ عقديةٍ فكريةٍ صلبة، وتوسَّعت على ضوء أهدافٍ دعويةٍ سليمة، وتعمَّقت في سائر العلوم، فحقَّقت الغاية في خلافة الأرض وإعمارها، وصارت كلُّ أجزائها تلفت الأنظار نحو عظمة هذا الدين وجماله، وكانت سببًا في اهتداء الناس إلى الصراط المستقيم، وهذا المقال يأخذنا في جولة ماتعة مع الجانب العمراني لهذه الحضارة، وكيف قاد أشخاصًا إلى التعرف على الإسلام واعتناقه
مدخل:
تحفل كتب التراث وأحداث يومنا هذا بقصص اعتناق العديد من الأشخاص للإسلام، وتسرد هذه القصص رحلة كل معتنق منهم في التعرف على الدين الحنيف، والطريق الذي سلكه لمعرفة الحق والنطق بالشهادتين في نهاية الرحلة.
إن ما يلفت انتباه الباحث في هذه القصص على تنوعها الكبير، يتمثل في مرحلتين أساسيتين: أولاهما عند الاكتشاف والتعرف والاطلاع على دين الإسلام في التواصل الأول، وثانيتهما في الخطوة الأخيرة المتمثلة في الاقتناع بأنه الدين الحق.
وتتشابه هذه البدايات في التعرف على الإسلام إما من خلال الدعوة المباشرة من المسلمين، التي يؤديها دعاة أحسنوا امتثال أمر الله عز وجل: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: ١٢٥]، أو عن طريق دعوة غير مباشرة بالاحتكاك مع المسلمين في تعاملهم الطيب، وتقديمهم تعاليم الإسلام وأخلاقه التي تربّوا عليها من الصدق والأمانة والمروءة والوفاء بالعهد، والتي أكد عليها رسولنا الكريم ﷺ بقوله: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)[1]، ومن الأمثلة المشهورة على ذلك: مسلمو أندونيسيا والهند[2].
كان للحضارة الإسلامية بجميع جوانبها العلمية، والمعرفية، والثقافية، والعمرانية أثر في نفوس المقبلين على الإسلام، وإظهار عظمة هذا الدين الذي فجَّر الطاقات في سائر الشعوب، حتى أقامت حضارةً ممتدَّةً على مدى القرون والبلدان
كما كان للحضارة الإسلامية بجميع جوانبها العلمية، والمعرفية، والثقافية، والعمرانية أثر في نفوس المقبلين على الإسلام، وإظهار عظمة هذا الدين الذي فجر الطاقات في سائر الشعوب، حتى أقامت حضارة ممتدة على مدى القرون والبلدان، وفي هذا المقال نستعرض نماذج معمارية كان لها أثر في التعريف بحضارة الإسلام بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بغض النظر عما إن كان المسلمون قد أنتجوا عمارة إسلامية أم لا[3]، وكيف يمكن أن تمثل العمارة وإبداعات المعمار المسلم الخطوة الأولى في طريق التعرُّف على الإسلام وبدء رحلة البحث للوصول إلى الدين الحق.
وبطبيعة الحال لا يمكن إلغاء تأثير المعمار المسلم وتصاميمه وأبنيته التي أنتجها في مختلف البلاد على المستخدم والزائر لهذه الأبنية، والتي أعطت لبعض الزوار شعورًا عميقًا جذبهم للتعرُّف على الإسلام -ولو بشكل غير مباشر- وسأورد لذلك بعض الأمثلة في هذا المقال. ويجدر التنبيه إلى أن الأمثلة والقصص المذكورة لم تكن السبب أو العامل الوحيد في إسلام أصحابها، ولكنها أسهمت بالدعوة للتفكر والبحث في المصادر الفكرية والمبادئ الفلسفية التي شكَّلت فكر المعمار المسلم، وكانت سببًا في ظهور المنتج المعماري بهذه الأشكال والتكوينات الهندسية البديعة ذات الدلالات القيمية.
قد يُستغرب هذا الادعاء، فكيف لمن لم يشاهد المسلمين، ولم يتعرَّف على الإسلام إلا من خلال إبداعات معمارية وصروحٍ فنية أن يبدأ رحلة البحث عن الإسلام، أو يقتنع به دينًا حقًا يجب اتِّباعه والعمل به في الدنيا، لينال رضى الله ورحمته ويدخل جنته في الحياة الآخرة؟! وهل للعمارة مثل هذا التأثير حقيقةً؟ وإذا كان هذا التأثير موجودًا بالفعل، ما الذي يستطيع المعمار فعله لتكون المباني التي يشيدها ذات أثر في نفوس زائريه؟
ربما نستطيع أن نتلمَّس هذا التأثير في قصة ملكة سبأ مع نبي الله سليمان عليه السلام، فلمَّا دعاها وقومَها للإسلام ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ٣٠ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: ٣٠-٣١] ورغم أنَّها استشارت وزراءَها، وأرسلت الهدايا لسليمان محاوِلةً أن تسترضيه لتحمي مملكتها من جيوشه، تلك المملكة القوية والغنية بعُمرانها العظيم وعمارتها العجيبة، وخاصة حجرة وكرسي العرش ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: ٢٣]. ورغم ما رأته من أدلَّة نبوة سليمان عليه السلام منذ إرسالها الرسل والهدايا إلى أن أراها عرشها، لكنها لم تؤمن ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [النمل: ٤٣] ثم كان الإبداع المعماري أحدَ أسباب تيقُّنها من صحة دعوة نبي الله سليمان عليه السلام! ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: ٤٤] فهذا البناء المشيد من القوارير الزجاجية، والذي أمر سليمان عليه السلام الجنَّ ببنائه، والذي بدا من جودة الصنعة وإتقان التنفيذ أنه بحر، دفعها لتشمِّر عن ساقيها لتخوض فيه، وبمقارنته مع عرشها الذي كان آيةً في فنِّ الصناعة والسَّبك كان لها هذا الصرح معجزةً إضافيةً من معجزات نبيِّ الله سليمان عليه السلام، ودليلاً آخر على نبوَّته دفعها لأن تتفكَّر ثم تؤمن بالله رب العالمين.
في قصة ملكة سبأ كانت معجزة الصرح المعماري الإشارة والخطوة الأخيرة في رحلة الإيمان، وفي زماننا هذا نجد العديد من الأمثلة التي كان التعرُّف على عمارة المسلمين فيها الخطوةَ الأولى في رحلة التعرُّف على الإسلام، وسنذكر هنا مثالين اثنين للدلالة على دور وتأثير العمارة في الدعوة إلى الإسلام.
الصروح المعمارية التي أسلم بعض زائريها لم تكن السبب الوحيد في إسلامهم، لكنها أسهمت بالدعوة للتفكر والبحث في المصادر الفكرية والمبادئ الفلسفية التي شكَّلت فكر المعمار المسلم، وكانت سببًا في ظهور المنتج المعماري بهذه الأشكال والتكوينات الهندسية البديعة ذات الدلالات القيمية
المثال الأول:
قصر الحمراء في غرناطة[4]، الذي بناه أحد ملوك الطوائف في القرن الخامس الهجري، لكنه يعدُّ درة بني نصر لأن محمد بن الأحمر النصري جاء إليه هاربًا من ملوك قشتالة، فاستوطن فيه وجدَّد بناءه، وقرر تأسيس مملكته ودولته فيه. ومنذ ذلك الحين وعلى مدار ٢٠٠ عام استمرَّت إضافة المباني والقصور والمساكن، ليتحوَّل الحصن إلى مدينة داخل غرناطة. وقد بقي منذ سقوط غرناطة في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي وإلى منتصف القرن التاسع عشر عرضةً للإهمال والنسيان والكوارث. ثم أعاد الإسبان اكتشافه عندما بدأ الرحالة والمستشرقون زيارة القصر، بعد قرون من الانقطاع الذي فرضته محاكم التفتيش.
ولعل أشهر من زار القصر وافتُتن به الأمريكي واشنطن إيرفينج (Washington Irving) المعروف في الكتابات الغربية بـ (محمد الأمريكي)[5] والذي زار إسبانيا في عام ١٨٢٨م، وزار غرناطة وكتب عنها وعن الأندلس عدة كتب مثل «يوميات فتح غرناطة»، و«حكايا قصر الحمراء». وما لفت نظر إيرفينج في قصر الحمراء موضوعان مهمَّان دفعاه لمحاولة فهم المعاني الفنية والمعمارية في القصر، والتي تبين له أن لها جذورًا عميقة في قيم الإسلام، ترجمها المعماري المسلم بالعمارة والبناء، ولربما لم يكن مقصودًا أو مخططًا له ابتداءً عكس هذه القيم والأحكام، لكن المنتج بشكله الأخير أذهل إيرفينج، سواء من حيث المباني وعناصرها المعمارية أو المعاني، وما حملته من دلالاتٍ مرتبطة بمبادئ وقواعد العمارة والعمران في أحكام الإسلام.
أولهما هو مدخل قصر الحمراء، فعند البحث عن مدخل القصر ومقارنته بمدخل قصر كارلوس الخامس ملك إسبانيا والذي بناه أيضًا داخل أسوار قصر الحمراء استعراضًا لقوته وتعبيرًا عن انتصاره على المسلمين وطردهم من غرناطة، وجد إيرفينج بساطة مدخل قصر الحمراء مقارنة بضخامة ومبالغة مدخل قصر كارلوس الخامس، حتى إنه من الصعب تمييز مدخل القصر لولا لوحات الدلالة للزوار[6]! (شكل رقم ١)
لكن المفاجأة تكمُنُ بعد الولوج من بوابة القصر، حيث تجد الجمال والروعة والاعتناء بأدقِّ التفاصيل، في معانٍ مستوحاةٍ من أهمية التركيز على دواخل ومعاني الأمور لا أشكالها وصورها الخارجية. فضلاً عن أنَّ هذه البساطة والبعد عن البهرجة من الخارج، لا تؤذي الفقراء الذين يمرُّون بجانب الأسوار، ولا تكسر قلوبهم بالبهرج والزخرف، وهذا لم يكن معتادًا في القصور والحصون الأوروربية.
أما القضية الثانية التي لفتت نظر إيرفينج ودفعته للتفكر والبحث فكان التوجيه الغريب لمسقط المسجد في القصر، فبينما كانت سائر المباني والساحات ذات مخطط منتظم مستطيل أو مربع الشكل بطريقة متناظرة، جاء مخطط المسجد ليكسر التناظر المتبع بباقي الفراغات من خلال ميل أحد الأضلاع بطريقة لا تستدعيها طبوغرافية الأرض ولا تستوجبها محددات الموقع! (شكل رقم ٢)، وعند بحثه في سبب هذا الشكل الهندسي تبيَّن له أيضًا أنَّ المعمار قدَّم المعنى على الشكل، فبينما كانت بقيةُ المباني منسجمةً في اتجاهٍ معيَّن لم يجد المعمارُ المسلم غضاضةً في جعل قطعةٍ من المبنى مختلفةً في اتجاهها واستقامة أضلاعها، حتى يكون جدارُ القبلية متَّجهًا بالشكل الصحيح نحو القبلة، بما يضمنُ انتظام صفوف المصلين بشكل موازٍ للقبلة. وهذا أيضًا لم يكن معتادًا في القصور والقلاع الأوروبية.
هذا الاهتمام بالمعاني وانسياب أحكام وقيم الإسلام من خلال التصميم المعماري قاد إيرفينج للاهتمام بالتعرُّف على الإسلام، وبدأ رحلةً دامت سبع سنوات في البحث والتدقيق حتى اعتنق الإسلام.
وكما كان الحال بتأثير قصر الحمراء على واشنطن إيرفينج، تكرَّر الحال مع الرسام الإنجليزي هيدلي شرشوارد (Hedley Churchward)[7] ففي زيارة له إلى إسبانيا أَسَرَتهُ مناظر قصر الحمراء، وافتُتن بجمال النقوش والمقرنصات[8] في القصر، لكنَّ أكثر ما لفت انتباهه النماذجُ الهندسية المتناظرة في بلاط أرضيات القصر، فمن المعلوم في الرياضيات من خلال تبسيط نظرية المجموعات (Group Theory) أنه يوجد (١٧) احتمالاً لتحقيق التناظر في الأشكال ثنائية الأبعاد، وقد قام الفنان المسلم بإنجاز جميع هذه الاحتمالات[9] وتضمينها في بلاط أرضيات القصر (شكل ٣).
وهذا الأمر له خلفيته الثقافية؛ فالفنان المسلم الذي قيَّدته النصوص الشرعية عن تصوير وتجسيم ذوات الأرواح في الإسلام، تدفَّقت طاقته الفنية في عدَّة أشكالٍ خاليةٍ من هذا المحذور، كان أحدُها فنون الزخرفة الهندسية، فبلغ بها شأوًا بعيدًا في الإبداع والإتقان؛ عندما ألزم نفسه بقواعد ومبادئ تصميمية تُترجم الأحكام الشرعية كالتجريد (Abstractionism)، والتناظر (Symmetry)، والكتلة والفراغ (Solid and Void)، والتي استقى منها الفنانون والمعماريون الغربيون لاحقًا فنون عصر النهضة وما تبعه من مدارس فنية ومعمارية[10].
الفنان المسلم الذي قيَّدته النصوص الشرعية عن تصوير وتجسيم ذوات الأرواح في الإسلام، تدفَّقت طاقته الفنية في عدَّة أشكالٍ خاليةٍ من هذا المحذور، كان أحدُها فنون الزخرفة الهندسية، فبلغ بها شأوًا بعيدًا في الإبداع والإتقان
هذا الافتتانُ بالفن الإسلامي في قصر الحمراء أوجد في نفس هدلي قدرًا من الانبهار والإعجاب، وقاده لرحلة البحث عن الإسلام، فانتقل إلى المغرب ليعيش هناك، ومع الزمن اختلط بالأهالي ثم أعلن إسلامه. وسافر بعد ذلك إلى القاهرة، ودرس بجامعة الأزهر. وبعد تخرُّجه عمل مدرسًا للسيرة النبوية.
لا تنتهي الأمثلة حتى في يومنا هذا عن تأثير قصر الحمراء في اكتشاف قيم الإسلام وحضارة المسلمين، وذلك من خلال إعادة اكتشاف العديد من المواطنين الإسبان للروح الأندلسية التي تسري في دمائهم، والتي قادتهم في النهاية لاعتناق الإسلام، ومن الأمثلة على ذلك: إبراهيم كابريرا وعبدالصمد روميرو وغيرهم كثير، الذين كان تعرُّفهم على الإسلام من خلال معرفتهم ببيوت غرناطة وعمارة قرطبة وقصور الأندلس الإسلامية[11].
المثال الثاني:
المثال الثاني الذي نسوقه في هذا المقال عن بناء معماري ألغيت وظيفته الأساسية، وطرد منه المسلمون، وتعرض للكثير من محاولات التزييف ومحو أي إشارة للأصل الإسلامي، لكنه رغم هذا التشويه التاريخي كان له دور في إثارة زواره للبحث عن الإسلام، ودفع بالعديد منهم ليبدؤوا رحلة التعرف على الدين، منطلقين من فهم الإشارات التي بثَّها المعماري المسلم في تصميم المبنى، والتي لم تتمكَّن جميع المحاولات من محوها.
هذا المثال من جزيرة صقلية في إيطاليا، وهو ما يعرف الآن بكاتدرائية السيدة مريم في مونريالة، إحدى أهم المعالم التاريخية والفنية والدينية جنوبي إيطاليا، والتي كان يعتقد حتى وقت قريب أنها بنيت بأمر من ملك صقلية النورماندي ويليام الثاني في ١١٧٤م، بعد إخراج المسلمين من صقلية. لكن رغم محاولات إخفاء الأصل الإسلامي من فترة حكم الأغالبة المسلمين لجزيرة صقلية، إلا أن بعض الدلائل بقيت ماثلة للعيان عن أصل البناء وهوية الباني؛ كبلاط الموزاييك لأرضية الكاتدرائية. (شكل رقم ٤)
هذه الزخرفة الفسيفسائية للأرضية هي التي قادت تشيزاري تيني (Cesare Tini) الإيطالي المتخصص بترميم الكنائس في صقلية ليبدأ رحلته في البحث والتعرف على الإسلام، وأصول صقلية الإسلامية[12]. حيث دأب على ممارسة عمله اليومي متخصصًا في ترميم فسيفساء الكنائس التي تعج بها مدينة باليرمو عاصمة جزيرة صقلية.
وبينما كان يعمل ذات يوم في إصلاح أجزاء بلاطة بمطرقة وإزميل، في أرضية كنيسة مونريالة التي تضررت مكوناتها تحت أقدام العدد الهائل من السياح الذين يقصدونها وقفت أمامه سائحة أمريكية من أصولٍ صقلِّية لتسأله سؤالاً محيرًا: هل تعرف سرَّ تلك الفسيفساء ذات النجمة، فهي تبدو مختلفة الاتجاه عن باقي البلاطات؟ فما كان جوابه إلا: نعم، لاحظت ذلك وتساءلت كثيرًا عن السر، لكنني أجهل السبب، فأخبرته السائحة الأمريكية الغريبة، أن أسلافها قالوا لها: إنَّ تلك النجمة مختلفة؛ لأن صانعها فنان مسلم فضل أن يحوِّل وجهتها صوب قبلة المسلمين في مكة! فما كان منه إلا أن توجَّه على الفور إلى البحث والاستقراء[13]، ليغوص إلى حقبة زاهية عاشتها صقلية على مدار قرنين، أيام حكم المسلمين.
بدا كما لو أنَّ مستقبله الشخصي رهينٌ لتركة الماضي التي خلَّفها الأسلافُ فوق الأحجار. بدأ رحلته للتعرُّف على الإسلام بالعيش مع مهاجرين مسلمين من مصر والجزائر وتونس، ليتعرف على الإسلام وأصوله من خلال أسلوب حياتهم البسيط والأخوي، وبعد فترة طويلة من القراءة والبحث والتأمل والتنقيب، عكف فيها على قراءة ترجمة القرآن الكريم بالإيطالية، قرر اعتناق الإسلام، وعمل منذ ذلك الحين على توثيق وإظهار البصمة المعمارية التراثية الإسلامية في صقلية، والتي يمكنك أن تجدها من أسماء الشوارع، مثل: (لاتاريني) وتعني شارع العطارين، إلى النقوش والآيات القرآنية في كنائس وكاتدرائيات باليرمو وكاتانيا في صقلية.
على المعمار المسلم أن يفهم رسالته في هذه الحياة، ودوره في إعمار الأرض من وجهة النظر الهندسية غير مفصولة عن نور الإيمان، وبات من الضروري تعليم العمارة جنبًا إلى جنب مع الفقه الإسلامي، وتخريج المعمار الفقيه من جامعاتنا لإنتاج عمارة تعكس مفاهيم الإسلام ومعانيه، وتتحدث عن عظمة وروعة هذا الدين
وفي نهاية المطاف:
عند البحث عن أمثلة معمارية بناها المسلمون لوظيفة معمارية معينة، وكان لها دورٌ في قدح شرارةِ البحث عن الطريق القويم، سنجدُ العديد من الأمثلة التي كانت فيها هذه المباني نقطة البداية في رحلة البحث عن الإسلام للكثير من الغربيين الذين لم تكن تربطهم أي علاقة أو رابط مع هذا الدين، ولا مع أتباعه من المسلمين، ولم يتلقَّوا الدعوة مباشرة من المسلمين.
ومن جهة أخرى وجدنا أمثلة كانت فيها هذه المباني بما تحتويه من جوانب مدنية وحضارية هي الحلقة الأخيرة التي شجعتهم على اعتناق الدين الحنيف. وعلى سبيل المثال: يمكن الاطلاع على قصة الشابة البريطانية عائشة روزالي[14]، والتي لا يتسع المقام لذكر تفاصيل قصتها هنا، كيف تحوَّلت حياتُها تمامًا بعد أن ساقتها قدماها والبحث في برنامج (خرائط غوغل) إلى مسجد ”السلطان أحمد“ في إسطنبول، خلال زيارة سياحية للمدينة التركية، لتحكي قصة تحولها من ممثلة في عالم السينما إلى الإسلام، بعد أن كانت قد اطلعت على الإسلام عبر شبكة الإنترنت ومشاهدة فيديوهات الدعوة على موقع يوتيوب.
كلُّ ما ذُكر من قصصٍ وأمثلة في هذا المقال عن عمارةٍ ومبانٍ كان لها دور -بشكل أو بآخر- في اقتراب الناس من الإسلام، ليست إلا دليلاً على عظمة الدين الإسلامي، وأنَّ جميع جوانبه يمكن أن تجذب الناس إلى الإيمان به، بما في ذلك ما لا يبدو ذا علاقةٍ مباشرةٍ بالدعوة، إضافةً إلى أهمية فهم المعمار المسلم لرسالته في هذه الحياة، ودوره في إعمار الأرض ليس من وجهة النظر الهندسية البحتة فحسب، ولكن من الناحية الإيمانية أيضًا، وما قلناه في مقال سابق[15] عن ضرورة تعليم العمارة مع ربطه مع الفقه الإسلامي، وتخريج المعمار الفقيه من جامعاتنا بات ضرورة مُلحَّة ليس لتأمين حاجات المجتمعات الإسلامية لعمارة تناسب أحكام الدين وقيمه فحسب، بل لإنتاج عمارة تعكس مفاهيم الإسلام ومعانيه لتجذب غير المسلمين وتدعوهم للاطلاع على الإسلام، وتدفعهم للتفكر والبحث فيمتثلوا أمر الله في النظر في خلقه، كما قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [العنكبوت: ٢٠] لعل الله يهديهم إلى دينه، ونكون كمعماريين قد ساهمنا في الدعوة إلى دين الله ولو بشكل غير مباشر.
د. صلاح حاج إسماعيل
مهندس معمار وباحث أكاديمي.
[1] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (٢٧٣).
[2] الإسلام في أندونيسيا المعاصرة، لحسن محمد الكاف، ص (١٨-١٩).
[3] ناقشت في مقال سابق إن كان المسلمون قد أنتجوا عمارة إسلامية أم لا؟ وتعرضت فيها لوجهات النظر المختلفة عن عمارة المسلمين في بقاع الأرض، في مقالة بعنوان: (هل أنتج المسلمون عمارة إسلامية؟) مجلة رواء، العدد (١٤).
[4] قصر الحمراء في الأندلس، دراسة تاريخية تحليلية، لرياض أحمد عبيد العاني، ٢٠١٦.
[5] مقالة (Washington Irving in Muslim Translation: Revising the American «Mahomet، واشنطن إيرفينج في ترجمات المسلمين: مراجعة محمد الأمريكي)، لجيفري اينبودن، مجلة ترجمات وآداب، المجلد ١٨، العدد ١، ٢٠٠٩، ص ٤٣-٦٦.
[6] مقال: EL PALACIO DE CARLOS V EN LA ALHAMBRA TRAZADOS INCISOS Y GEOMETRÍA) قصر كارلوس الخامس في الحمراء الخطوط والهندسة)، لانتونيو اورتيجا وجوميز جوردو، ٢٠٢٢، ص ٣٨-٥٠ ، doi: ١٠.٤٩٩٥/ega.٢٠٢٢.١٦٢٣٤
[7] كتاب (From Drury Lane to Mecca: Being An Account of the Strange Life … of Hedley Churchward,An English Convert to Islam) من دوري لاين إلى مكة: سجل الحياة الغريبة لهدلي شورشوارد، إنكليزي اعتنق الإسلام)، إيريك روزنتال وهدلي شورشوارد، ١٩٣٢م.
[8] المقرنصات جمع مقرنص وهو عنصر معماري ابتكره العرب المسلمون ثم تحوَّل فیما بعد إلى عنصر زخرفي، وهو الحنیة الركنیة التي كانت توضع في كل ركن من أركان الحجرة المربعة التي یراد إنشاء قبة علیها، فتستخدم هذه الحنایا للتدرج من الجزء المربع إلى السطح الدائري أو مثمن تقوم علیه القبة ویسمى عنق القبة. (كتاب العمارة العربیة الإسلامیة، لمحمد حسین جودي، ١٩٩٨م).
[9] مقال (ISLAMIC TILINGS OF THE ALHAMBRA PALACE: TEACHING THE BEAUTY OF MATHEMATICS ) البلاط الإسلامي لقصر الحمراء: تعليم جمال الرياضيات، لريموند تنانت، ٢٠٠٤م.
[10] كتاب (STEALING FROM THE SARACENS How Islamic Architecture Shaped Europe) السرقة من السارقين: كيف شكَّلت العمارة الإسلامية أوروبا، لديانا دارك، ٢٠٢٠م.
[11] كتاب انبعاث الإسلام في إسبانيا، أديبة روميرو، ٢٠٢٢م.
[12] مقال (ترك المسيحية وسمَّى ابنه من القرآن.. قصة إيطالي أسلم بسبب قطعة فسيفساء في كنيسة موجهة نحو القبلة) لطاهر حليسي، ٢٠٢٢م، متوفر arabicpost.net
[13] ذكر ذلك في مقابلته مع المخرج الجزائري بوعلام قريتلي الذي كان يُعدُّ فلمًا وثائقيًا عن صقلية.
[14] فيديو بعنوان (تركت التمثيل واعتنقت الإسلام.. رحلة غيرت حياة البريطانية عائشة روزالي) ٢٠٢١، متوفر على Aljazeera.net.
[15] مقالة (هل أنتج المسلمون عمارة إسلامية؟) للكاتب، مجلة رواء العدد (١٤).