حضارة وفكر

بين التاريخ السياسي والحضاري للأمة

ليس من الإنصاف الاقتصار في قراءة تاريخ الأمة على جانبه السياسي دون الحضاري، أو المقارنة الظالمة بين أفضل ما وصل إليه الغرب اليوم وبين أسوأ ما اعترى تاريخ الأمة من حوادث، فضلاً عن التركيز على المغالطات الخطيرة وإغفال الصفحات المضيئة في الجانب السياسي والحضاري من تاريخ الأمّة على حد سواء، مما يبرز الحاجة إلى قراءة موضوعية منصفة لتاريخ الأمة من كافة جوانبه.

المتابع لما يجري على الساحة الثقافية في هذه الأيام سيلاحظ أنه ثمة حملة على التاريخ الإسلامي، حملة لا تخطئها العين، فيها ازدراء للماضي وتهجم على الدول الإسلامية التي جاءت بعد عصر الخلفاء الراشدين، بل قد تطال الخلافة الراشدة أحيانًا. حملة توحي للقارئ أو المستمع أن تاريخ المسلمين كله استبداد وظلم وقتال وفُرقة، تُبث تحت ستار: الموضوعية والحداثة والمعاصرة، أو تحت ستار التحقيق العلمي وعدم تقديس الأشخاص.

وإذا كان بعض من يتكلم بهذا الشأن له أغراض سيئة، فإن البعض يقوم بهذه الحملة من باب (التَّظرُّف) ليُشعر الآخرين أنه من الطبقة المثقفة التي لا تقدِّس الماضي، وأن كل شيء عنده خاضع للنقد حتى الأمور المسلَّمة والمتفق عليها. ولو أن هؤلاء النَّقَدَة يبنون أمورهم على أساس من المعرفة المتخصصة والنقد السليم لكان الأمر سهلاً، وقُبل حوارهم ومناقشتهم، لكنه التطرُّف في النقد الذي لا يتوقف عند نقد الظالمين الفاسدين، بل فيه نسف واغتيال للتاريخ كله، ومن العجيب أن يتنبَّه مؤرخٌ غربي لهذه النظرة الخاطئة عند بعض الناس، يقول: «هناك نظريات خاطئة صورت التاريخ الإسلامي على أنه سلسلة محكمة من الحكام الطغاة»[1].

والعجيب أيضًا أننا نجد أن الأمم الحية كأمم الغرب اليوم مِن أحرص الناس على إعادة تاريخهم وذكر أبطالهم والكبار من أدبائهم وعلمائهم؛ راجعَتْ أوروبا تاريخها لتستفيد منه، فدرَست تاريخ الرومان واليونان، ولم تقطع صلتها بالماضي بل جعلته مِهمازًا لنهضتها، ثم جددت وابتكرت وقامت بين جوانبها حركات إصلاحية.

بل إن الأمم التي ليس لها تاريخ تصيَّدت لنفسها أساطير تحيا بها «ونحن نحمل وراء ظهورنا تاريخًا حقيقيًا شهده الزمان وشُهد له، وهو تاريخ لو تقسمه أهل الكوكب الأرضي جميعًا لكفاهم دافعًا شريفًا نحو هدف شريف»[2].

«هناك نظريات خاطئة صورت التاريخ الإسلامي على أنه سلسلة محكمة من الحكام الطغاة»

المؤرخ الغربي روزنثال

لا يخفى على عاقل أهمية التاريخ وأنه أكبر مُربٍّ للأمم كما يصفه البعض، وأنه «في ظاهره أخبار عن الأيام والدول والسّوابق من القرون الأول… وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق» كما يصفه ابن خلدون[3].

فلا شك أن التاريخ «يُعيد نفسَه»، وفيه تفسير لكثير من الأمور الحاضرة، كما أنه يلقي الضوء على الطريق الذي نسير فيه، فيعين على مواجهة المواقف الجديدة.

التاريخ الحضاري للأمة:

ليس من الإنصاف ولا العدل أن نقتصر في قراءة التاريخ على الجانب السياسي، بل يجب أن يُقرأ من جميع جوانبه: السياسية والحضارية؛ لأن الاقتصار على قراءة السياسي يُفقد التاريخَ جوهرَه ويُعطل دورَه، وإذا كان تاريخنا السياسي قد أصابه الضعف أو التدهور في بعض الفترات وبعض المناطق إلا أن فيه قممًا سامقة، وفيه عدل ورحمة وفيه ملوك صالحون، كما أنه لا يخلو من الاستبداد والأهواء.

أما تاريخنا الحضاري فكله قمم؛ فقد كانت العلوم بشتى فروعها في تقدم وازدهار، ولم تتأثر بظاهرة الضعف السياسي، وذلك لأن الأمة الإسلامية نشأت بالدين الذي يحث على طلب العلم، وأن أكثر المدارس كانت بدعم من الأوقاف الخيرية وجهود الأفراد والجماعات وليست بجهود الدول؛ لذا كانت حركة العلم مستقلة عن حركة الدول وأنظمتها.

وإذا كان التاريخ السياسي يسرُد تعاقُب الدول وأخبار المعارك فإن التاريخ الحضاري يذكر الذين بَنَوا صرحَ الفقه الإسلامي والذين كشفوا أسرارَ الداء والدواء، والذين نظَّموا العمل الاجتماعي مِن خلال مؤسسة الوقف.

وقد شبَّه أحد المؤرخين التاريخَ بنهر ذي ضفتين؛ فالنهر قد يختلط ماؤه ببعض الدماء والأشلاء، لكن على ضفتَيهِ الأشجارُ والزروعُ والثمارُ النافعة، وهكذا التاريخ: فقد تختلط أحداثه ببعض ما يُعكِّر صفوَ الماء، لكن نجد على ضفتيه العلماء الذين أفنَوا أعمارهم في خدمة العلم وخدمة الناس، هنا الأطباء والأدباء، وهنا الجغرافيُّون والمؤرخون الذين يَصِلونَ الأمةَ بعضَها ببعض في الزمان والمكان.

الجغرافيون الذي تنقَّلوا في البلدان طولاً وعرضًا وعرَّفوا المسلمين بأحوال إخوانهم في البلاد الأخرى، والمؤرخون الذين دَوَّنوا أحداثَها ووقائعَها، وربطوا ماضي الأمة بحاضرها بما دَوَّنوه مِن تراجم الرجال والنساء، فوجد المتأخرون في تلك التراجم المثلَ الأعلى للخُلق الفاضل في حياة الأجيال الأولى، وتأريخ الشعوب التي صمدت وصابرت واستطاعت الفكاك مِن أسر الأعداء.

لا أريد الإطالة في الحديث عن هذا الجانب فالكل يعلم أسماء شخصيات كبيرة وعظيمة في علوم الدين وعلوم اللغة وفي الطب والهندسة والرياضيات وعلم النبات والفلك، ومن يقرأ كتب التراجم سيجد العدد الكثير من العالمات في الفقه والحديث النبوي.

وفي الجانب الحضاري كانت مؤسسة الوقف مِن أعظم المؤسسات نفعًا للأمة، ومِن آثارها: المدارسُ والمشافي والمكتبات والمساجد ومؤسسات أخرى كثيرة تتعلق بمساعدة الإنسان وخدمته، وفي هذه الحضارة بُنيت أكثر من ثلاثمائة مدينة أكثرها باق إلى اليوم.

التاريخ كنهر ذي ضفتين؛ يختلط ماؤه ببعض الأحداث التي تعكّر صفوه، لكن على ضفتَيهِ الثمارُ النافعة المتمثّلة بالعلماء الذين أسسوا للحضارة.

حقائق من تاريخنا السياسي:

من الواضح أن الخلافة الراشدة قد انقطعت بتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه وتحولت الدولة إلى ملكية وراثية، ومعاوية رضي الله عنه يعرف ذلك ويقول: «أنا أول الملوك»[4].

وقد عدَّ ابنُ خلدون أن فترة بعض ملوك بني أمية وبني العباس هي مِن المُلك الممتزج بالخلافة، ويقول: «وهُم وإن كانوا ملوكًا لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي»[5].

وجاء في الحديث عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: انطلقت إلى رسول الله ﷺ ومعي أبي، فسمعتُه يقول: (لا يزال هذا الدين عزيزًا منيعًا إلى اثني عشر خليفة) ثم تكلم بكلام خفي عليَّ فقلت لأبي ماذا قال؟ قال: (كلهم من قريش)[6].

نعم لم يكن هناك شورى كالتي أرساها الخليفة عمر رضي الله عنه ولم يكن هناك مجلس مؤلَّف مِن عدد معين من أهل الشورى[7]، لكن استشارة أهل العلم والرأي لم تنقطع في جميع الأمور، فضلاً عن أنه كان هناك مجالس شورى بالفعل في عدد من الدول؛ فقد كان في الأندلس مجلس لشورى العلماء وعددهم عشرة والفتوى لهم.

لكن هل كل هذا يجعل تلك الدول كدول اليوم الاستبدادية الظالمة المدمِّرة للمجتمع؟

إن كلام المشنعين على التاريخ الإسلامي يُعطي انطباعًا للناس أن حكام الأمس مِن بني أمية وبني العباس مثل حكام اليوم! وهذه مغالطة كبيرة، بل هي جهل بتفاصيل تاريخ المسلمين، يقول الشيخ رشيد رضا: «حكامنا لا يُذكرون مع ملوك بني أمية وأمرائهم، حتى مع الحجاج الظالم، فأولئك فتحوا الممالك وهؤلاء أضاعوها، وأولئك حفظوا الشريعة مع تقصيرهم في الشورى وهؤلاء أضاعوها، وأولئك لا يَظلمون إلا مَن نازعهم وهؤلاء يَظلمون في كل شيء»[8].

إنَّ فتوحات بني أمية هي الفتوحات الراسخة والباقية إلى اليوم بعد فتوحات الراشدين، وقد تقبلت الشعوب هذه الفتوحات لأنها كانت للبناء الحضاري وليست للنهب والسلب والتدمير كما هي دول الغزو الامبراطوري.

اعتنت الدولة الإسلامية على مر التاريخ باختيار عمّالها وأمرائها من أهل التقوى والعلم والكفاءة، على خلاف الدول المستبدة اليوم التي لا تختار موظفيها إلا ممن كان على شاكلتها في الظلم والبعد عن الدين.

إن الدول الاستبدادية لا تختار أمراءها وموظفيها إلا ممن كان على شاكلتها في الظلم والنهب والاستبداد والبعد عن الدين، بينما نجد أن أمراء بني أمية الفاتحين سواء في الأندلس أو الشرق كانوا من أهل التقوى والعلم والكفاءة، كعقبة بن نافع وحسان بن النعمان الغساني وزهير بن قيس الذي وصف بأنه من رؤساء العابدين وأشراف المجاهدين، وجاء بعده موسى بن نصير فاتح الأندلس وفي المشرق مثل: قتيبة بن مسلم الباهلي والجرَّاح بن عبد الله الحكمي ومحمد بن القاسم الثقفي، وغيرهم كثير.

كما أن تلك الدول لم تكن مطلقة السلطة، فالشريعة حاكمة، وحرَّاس الشريعة من العلماء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر متوافرون، قائمون بما أمرهم الله، وقفوا حياتهم لخدمة الإسلام والتصدي للفساد والطغيان، ويمكن هنا تذكر مواقف: موقف المنذر بن سعيد البلوطي مع عبد الرحمن الناصر في الأندلس، والإمام الزهري مع هشام بن عبد الملك، وسفيان الثوري مع محمد المهدي العباسي.

وقد بقي الحال كذلك إلى أن أدخل السلطان العثماني عبد المجيد قوانين وضعية أتى بها من القانون الفرنسي، فكان في ذلك إضعافٌ للعلماء ترتب عليه إلغاء القيود والضوابط التي كانت مفروضة على السلطان مِن قبل الشريعة الإسلامية، أي إن هذا أدى إلى انفراد السلطان بالحكم وصار أكثر انطلاقًا في سلطته[9].

إنَّ احتفاظ الفقه الإسلامي باستقلاله الكامل عن السلاطين والحكام أكبر مفخرة من مفاخر نظامنا السياسي على مرِّ التاريخ.

هذا، وإن احتفاظ الفقه الإسلامي باستقلاله الكامل عن السلاطين والحكام كان أكبر مفخرة من مفاخر نظامنا السياسي، ومهما قيل عن بُعد أولئك السلاطين عن العمل ببعض تطبيقات الشورى إلا أنهم لم يُقحموا نفوذَهم في آراء الفقهاء، وكان هؤلاء الفقهاء يفضِّلون السجن والأذى على الخضوع لرغبات الحكام.

والحقيقة أن الفقهاء لم يكونوا الوحيدين الذين يتمتعون بهذه الاستقلالية، بل كذلك كانت سائر مؤسسات التعليم والقضاء، وكانت حِلَقُ العلم في المساجد مفتوحة للجميع، وكذلك كانت سائر مؤسسات المجتمع.

عملٌ بالواقع لا رضًا به:

إنَّ الواقع السياسي المستجدَّ على البلاد الإسلامية، والذي تغير فيه نظام الحكم مِن شورى إلى مُلك، وإن حقَّقَ أهدافًا مهمة مِن أهداف الخلافة في القيام بشؤون الدين والمسلمين، وإن أصبح واقعًا لم يستطع حتى الملوك الصالحون تغييرَه والانفلاتَ منه، إلا أن أهل العلم كانوا على معرفة بأن الأصل هو الخلافة والشورى، قال ابن حزم رحمه الله: «ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها»[10]، وقال ابن تيمية رحمه الله: «ما قال أهل السنة إن الواحد مِن هؤلاء كان هو الذي تجب توليته وطاعته في كل ما أمر به، بل كذا وقع، فيقولون: تولى هؤلاء وكان لهم سلطان وقدرة فانتظم لهم الأمر، وأقاموا مقاصد الإمامة مِن الجهادِ وإقامةِ الحجِّ والجُمَع والأعياد وأَمْنِ السبل، ولكن لا طاعة في معصية الله»[11].

وفي المقارنة بين الخلافة والملك يسأل ابن تيمية: «هل الملك جائز في الأصل والخلافة مستحبة؟ أم ليس بجائز إلا لحاجة مِن نقصِ علم أو نقصِ قدرة؟ فنحتج بأنه ليس بجائز في الأصل، بل الواجب خلافة النبوة لقوله ﷺ: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء، وهذا دليل بيّن في الوجوب، وهنا قولان متوسطان: أن يقال الخلافةُ واجبة وإنما يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة، أو أن يُقال يجوز قَبول الملك بما يُيَسِّرُ فعلَ المقصود بالولاية ولا يُعسره، وبعضهم يوجب الخلافة ويذمُّ مَن خرج عن ذلك مطلقًا كما هو حال الخوارج والمعتزلة وطوائف من المُتَسنِّنَة والمتزهدة، وبعضهم يبيح الملك مطلقًا مِن غير تقييد بسنة الخلفاء كما هو فعل الظلمة والمُرجِئة»[12].

حافظ المجتمع المسلم رغم التجزؤ السياسي على القيم الإسلامية، وهذا مما ساعد في العصر الحديث على مقاومة الاستعمار والاحتلال الأجنبي.

ولابن خلدون رأي يؤيد فيه القولَ الثاني من القولين المتوسطين: «المُلك لمّا ذمّه الشّارع لم يذمّ منه الغلب بالحقّ وقهر الكافّة على الدّين ومراعاة المصالح وإنّما ذمّه لما فيه من التّغلُّب بالباطل وتصريف الآدميّين طوع الأغراض والشّهوات»[13].

وأما ولاية المتغلب التي يدندِنون حولها كثيرًا، فإن العلماء قالوا: إنها للضرورة وتقدَّرُ بقدرها بحسب المصلحة ويجب إزالتها عند الإمكان، واشترطوا في طاعته إقامةَ الجهاد والجُمعات وإنصافَ المظلوم[14].

فالقول بجواز إمامة المتغلب ليس فيه تبرير لأي ظلم أو طغيان، ولا تشريع لولاية المتغلب، لكنه عمل بالمقدور عليه وما يصح به قيام أمور الناس، وصلاح دينهم ودنياهم.

التاريخ السياسي والأمة:

رغم التجزُّؤ السياسي وظهور الدول الصغيرة المنقطعة بعد القرن الثالث الهجري إلا أنَّ الأمة بقيت موحَّدة ثقافيًا وسياسيًا فالعالِم يأتي من الشرق ليستقرَّ في الغرب ويبثُّ علومه دون أي عوائق، والمسلم ينتقل من بلد إلى بلد ويستقر فيها ولا يشعر بأنه غريب، فلا حدود (ولا جوازات وتأشيرات) وليس هناك حواجز بسبب العِرق أو اللون أو الأصل الطبقي، ففي ظل هذه الحضارة وصل المماليك إلى أعلى درجات السلطة، وقد حافظ المجتمع المسلم ورغم التجزؤ السياسي على القيم الإسلامية، وهذا مما ساعد في العصر الحديث على مقاومة الاستعمار والاحتلال الأجنبي.

مقارنة مع تاريخ الغرب:

إن الذين ينظرون إلى تاريخنا السياسي ويُشَنِّعون عليه معجَبين بتاريخ الغرب، إنما ينظرون إلى تاريخ الغرب مجملاً دون تفاصيل، وينظرون إليه في زمنه القريب، ويعجبون به كالذي ينظر إلى الجبل مِن بعيد فلا يرى إلا أعلاه، يرى شخصيات سياسية وأدبية وعلمية منتقاة، ولا ينظر إلى بقية المجتمع وبقية شؤونه وأحواله، ولا إلى تاريخه.

لا ينظر هؤلاء إلى أن ألمانيا قبل مئة عام كانت مجزأة إلى (٣٩) دولة، ولا ينظرون إلى حروب الثلاثين وحروب السبعين بين دول أوروبا، ولا ينظرون إلى الحرب الأهلية في أمريكا التي كلفت أكثر من مليون قتيل، ولا يعلمون -أو لا يريدون أن يعلموا- أن فيلسوف السياسة في القرن السابع عشر (جون لوك) كان يقول: «للحاكم المدني سلطة مطلقة على كل أفعال الناس، وعليهم أن يطيعوا القوانين التي يسنُّها الحاكم حتى لو كانت خاطئة» وأن السياسي (هوبز) كان يقول: «أفوض وأتخلى عن حقي لهذا الجمع من الأشخاص (الدولة) وأبيح لها جميع أفعالها» وأن ملك بريطانيا (جيمس الأول) كان يقول: «إن الله هو الذي اختار الملوك، فهم المسؤولون أمامه فقط، ولا حكم للقانون عليهم، لأنهم فوقه وليس للرعية إلا أن تطيع ولو كان الملك شريرًا» ولويس الرابع عشر ملك فرنسا كان يقول: «الدولة أنا»، ولويس الخامس عشر كان يقول: «في شخصي وحدي تستقر السلطة العليا»، فهل قال أحد مِن ملوك المسلمين أنه فوق الشريعة وأن الله سبحانه هو الذي اختاره؟

كانت أول حركة إصلاح في بريطانيا عام (١٨٣٢م) حيث نُقلت السلطة التي كانت للأغنياء وملاك الأراضي إلى الطبقة الوسطى، ثم توسع حق الانتخاب ما بين (١٨٦٧ـ ١٩١٨) وأصبح لكل البالغين رجالاً ونساء لهم الحق في الانتخابات[15]، لقد تطورت الديمقراطية البريطانية على مدار قرنين ونصف من الديمقراطية النظرية إلى ديمقراطية كما هي واقعهم اليوم، ولا شك أن هذا الذي وصلوا إليه هو تجربة ناجحة نسبيًا، أي هذا أحسن ما وصلوا إليه في نظام الحكم بما أنّه ليس عندهم في النصرانية شيء يتعلق بنظم الحكم.

وكما قال رئيس وزراء بريطانيا (تشرشل): هذا أحسن الأسوأ. وهي تجربة بشرية بدأت بعد أقل من قرن تظهر عيوبها ونقائصها، وبالتأكيد هناك ما هو أفضل منها وأحكم وأسلم لو فكر المسلمون بطريقة صحيحة.

الأمة الإسلامية أمة غير منقطعة؛ إذا ضعُفت في جانب قويت في جانب آخر، فالخط البياني للحضارة الإسلامية كثير القمم وقد يهوي في لحظات ضعف وعجز، لكنه يعاود الصعود من جديد.

ملوك صالحون:

هناك أسماء مشهورة في تاريخنا مِن أهل العلم أو الحكم يتكرر ذكرها والكتابة عنها، لكن هناك أيضًا أسماء غير مشهورة ظهرت في أزمان مختلفة وأماكن مختلفة تمثل مبادئ الإسلام وشريعة الإسلام وحفظ كيان الأمة. وهذا يدل على أن الأمة الإسلامية أمة غير منقطعة إذا ضعُفت في جانب قويت في جانب آخر، وفي أحلك الظروف يظهر هنا وهناك ملوك صالحون وعلماء ربانيون، فالخط البياني للحضارة الإسلامية كثير القمم وقد يهوي في لحظات ضعف وعجز، ولكنه يعاود الصعود من جديد.

ومن هؤلاء الملوك في الغرب الإسلامي:

1. أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن أمير دولة الموحدين:

تولى المُلك عام (٥٨٠ هـ)، كانت مجالسه مزينة بحضور العلماء، تُفتتح بالتلاوة ثم بالحديث، وكان يجيد حفظ القرآن ويحفظ الحديث ويتكلم في الفقه ويناظر، بنى مستشفى غرس فيه جميع الأشجار ورتب له كل يوم (٣٠) دينارًا للأدوية، وكان يجمع الزكاة ويفرقها بنفسه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وصنف كتابًا في العبادات وله فتاوى، وفي عام (٥٩٠) كتب له ملك قشتالة الأسباني (الأذفونش) يهدده ويطلب منه بعض البلاد فلما قرأ الكتاب غضب وكتب له (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها) وحشد جيشًا كبيرًا وتمت الملحمة الكبرى ونزل النصر وهي موقعة (الأرك).

2. محمد بن عبد الله بن محمد التُّجيبيّ الأندلسيّ:

صاحب (بطليوس) والثغر الشمالي الأندلسي، كان رأسًا في العلم والأدب والشجاعة والرأي، وكان مناغرًا للروم (الأسبان) شجًى في حلوقهم، له تأليف كبير في الآداب يكون عشر مجلدات، كتب إلى المعتمد بن عباد ملك إشبيلية: أيها الملك إن الروم إذا لم تُغز غزت، ولو تعاقدنا تعاقد الأولياء المخلصين فَلَلْنا حَدَّهم وأذللنا جَدَّهم.

وله تفسير للقرآن، ومع استغراقه في الجهاد لا يترك العلم وإقامة العدل، وكان يبيت على أهبة الاستعداد في منظرة له، ولا ينام إلا قليلاً.

وهذا مثال من الشرق الإسلامي، من القارة الهندية:

3. السلطان خُرّم بن سليم الملقب بـ (أورنك زيب) من السلالة التيمورية (التركية المغولية)، جده (جهان كير) هو الذي بنى (تاج محل) المشهور.

ولد خرّم بن سليم عام (١٠٢٨هـ) (١٦١٩م) وكان عالمًا زاهدًا، حارب البدع والخرافات، وأبطل الاحتفالات الوثنية، وألغى القوانين المناقضة للإسلام، وقضى على الدويلات الرافضية في الهند، ورفع المظالم عن الناس، وألغى التقويم الإيراني، ومِن أعظم أعماله تكوين لجنةٍ مِن العلماء لترتيب المسائل الفقهية بعبارة سهلة واضحة حتى يسهل الأمر على القضاة ويكفل تنفيذ القوانين، وقد تم هذا العمل الضخم في ستة مجلدات ويعرف بـ (الفتاوى الهندية) وهو على المذهب الحنفي، ومن مشايخ هذا الملكِ: الشيخُ عبد اللطيف سلطان، ومعصوم بن الشيخ أحمد السرهندي، ومحمد هاشم الكيلاني، وكان ملتزمًا بالسنة محافظًا على الصلوات.

ترجم له محمد خليل المرادي في كتابه (سلك الدُّرَر في أعيان القرن الثاني عشر) وقال عنه: «سلطان الهند، أمير المؤمنين، والمجاهد في سبيل الله، والملك القائم بنصرة الدين، فتح الفتوحات العظيمة».

بلغت الدولة في عهده من القوة والاتساع والازدهار ما لم تكن قبله ولا بعده، حكم خمسين عامًا، كانت حدود دولته من آسام وأركان في بورما وأفغانستان إلى شواطئ المحيط الهندي في الجنوب، توفي في ٢٨ ذي القعدة (١١١٨هـ) (١٧٠٧م) رحمه الله.

إن قراءة التاريخ والرجوع إلى الماضي هو للفهم والمقارنة وإنصاف أهل الفضل والعلم والجهاد، وليس للوقوف عند التمجيد فقط كما يتوهَّم الناقدون، والتاريخ من الأهمية بحيث إنّه (يجب أن يخلد في الصدور قبل السطور، وأن يكتب على الحِدق قبل الورق) كما يقول الأمير شكيب أرسلان.

إنَّ حركة التاريخ ليست تقدُّمًا دائمًا كما ظنَّ أو كما هوي بعضُ فلاسفة الغرب، ولكنها حركة صُعودٍ وهبوط واجتماع وتشتُّت، وهداية وضلال قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١٤٠].


[1] بحوث عربية وإسلامية، لزاهية قدورة، ص(٤٣) والكلام للمؤرخ (روزنثال).

[2] عربي بين ثقافتين، لزكي نجيب محمود، ص (٢٢).

[3] تاريخ ابن خلدون (١/٦).

[4] البداية والنهاية، لابن كثير (٨/١٤٤). وقد ورد أن معاوية t عندما حُدث بحديث: (خلافةُ نُبوَّة، ثم يُؤتي الله الملك من يشاء) قال: «قَد رضينا بالملكِ». أخرجه أحمد (٢٠٥٠٥). وقد ورد في الحديث ما يدل على أن حكم معاوية t ليس من الملك العضود، فقد أخرج الطبراني في المعجم الكبير (٢٣٦) أن رسول الله ﷺ قال: (أولُ هذا الأمر نبوَّة ورحمة، ثم يكونَ خلافةً ورحمة، ثم يكونُ مُلكًا ورحمة، ثم يكون إمارةً ورحمة، ثم يتكادَمُونَ عليه تكادُم الحُمُر)، وللحديث روايات أخرى.

[5] تاريخ ابن خلدون (١/٢٥٨).

[6] أخرجه مسلم (١٨٢١).

[7] لا نبرر عدم وجود الشورى، ولكن من قواعد التاريخ ألا نحاكم القدامى بمفاهيم عصرنا.

[8] مجلة المنار (٩/٤٢٦).

[9] ينظر: نحو تيار سياسي للأمة، لطارق البشري ص (٥٤).

[10] الفصل في الملل والنحل، لابن حزم (٥/٧).

[11] المنتقى من منهاج الاعتدال، للذهبي، ص (٦١).

[12] الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (٣٥/٢٤)، باختصار وتصرف يسير.

[13] تاريخ ابن خلدون (١/٢٥٤).

[14] تفسير المنار، لرشيد رضا (١٢/١٨٠)، وينظر: العواصم والقواصم، لمحمد بن إبراهيم الوزير (١/٢١٢) وما بعدها.

[15] في عام ١٨٧٧م افتُتح في العاصمة استانبول مجلس المبعوثان (البرلمان) العثماني وهو يضم كل الأعراق في الدولة وكل الطوائف.


د. محمد العبدة

مفكر وداعية، دكتوراه في التاريخ الإسلامي، عضو المجلس الإسلامي السوري، نائب رئيس رابطة علماء المسلمين.

X