قراءات

قراءة في كتاب: مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي لحامد ربيع

تشتد الحاجة لإظهار المزايا الفريدة للحضارة الإسلامية في هذه الآونة، التي تشهد ضياعًا للهوية لدى فئام من أبناء الأمة، ويُسوَّق فيها لنماذج شرقية وغربية، في ظل تجاهل للموروث الحضاري الضخم للأمة المسلمة وخاصة في المجال السياسي، ويجتهد الكاتب في هذا الكتاب في دراسة عميقة لهذا التراث وطرق إحيائه.

نبذة عن المؤلف:

الدكتور حامد ربيع باحث متعمق في النظرية السياسية والنماذج الحضارية، حاصل على خمس شهادات دكتوراة من باريس وروما في العلوم السياسية والعلوم القانونية وعلم الاجتماع التاريخي وفلسفة القانون والعلوم النقابية، كما حاز درجة الأستاذية في القانون الروماني.

ولد في القاهرة في ذي القعدة ١٣٤٣ﻫ -أبريل ١٩٢٥م، وتوفي في ٨ صفر سنة ١٤١٠ﻫ الموافق ١٠ سبتمبر ١٩٨٩م في ظروف غامضة.

له مؤلفات ومقالات كثيرة أهمها:

نظرية القيم السياسية، استراتيجية التعامل الدولي في تقاليد الممارسة الإسلامية، تحقيق «سلوك المالك في تدبير الممالك» لابن الربيع، نظرية الأمن القومي العربي والتطور المعاصر للتعامل الدولي في منطقة الشرق الأوسط.

محتوى الكتاب:

الحضارة الإسلامية حضارة خالقة وخلّاقة، تمثّل قسطًا ضخمًا من الممارسات في النطاق القومي والإقليمي والدولي، فهل تملك بهذا المعنى أصالةً في تأملاتها السياسية؟ هذا ما يحاول الكتابُ الإجابة عليه.

خصّص المؤلف الجزء الأول لثلاثة موضوعات رئيسة:

  • الأول: تعريفات سياسية حول التراث السياسي الإسلامي.
  • الثاني: المصادر والنماذج الحضارية.
  • الثالث: الوظائف التنظيرية والأبعاد المنهاجية.

كما خصص الجزء الثاني بثلاث موضوعات أخرى:

  • الأول: المفاهيم.
  • الثاني: النماذج الفكرية في التراث الإسلامي.
  • الثالث: إحياء التراث الإسلامي والتجديد.

وقد خدم الدكتور سيف عبد الفتاح -أخصُّ تلامذة د.حامد ربيع- الكتابَ خدمةً جليلةً وذلك في مقدمته الطويلة التي قاربت مئة صفحة حيث حلّل فيها فلسفة حامد ربيع ومنهجيته في التعامل مع التراث السياسي الإسلامي وفي تحليل النص السياسي ونظرته في القضايا الحيوية.

قراءة في الكتاب: رؤية مقارنة:

إذا ألقينا نظرة مقارنة على التراث العالمي في محاولة تأصيل واضحة للنماذج الحضارية من حيث دلالتها السياسية استطعنا أن نميز بين نماذج خمسة أساسية[1]: النموذج اليوناني الذي أغرق في المثالية على حساب تقديم حل لمشكلات المجتمع اليوناني، والنموذج الروماني نموذج الدولة المستبدة المسيطرة واختفاء الفكر السياسي وسيطرة المفهوم الطبقي، والنموذج الفارسي حيث الإله الحاكم واختفاء حقوق المحكوم، ثم نموذج الدولة الكاثولوكية في العصور الوسطى نموذج التعصب الديني الاستفزازي المطلق، ثم نموذج الدولة القومية الذي انتهى بتأليه الدولة باسم حقوق الفرد.

ويبقى التساؤل: أين النموذج الإسلامي من هذه التصورات الخمسة للوجود السياسي؟ هل هو تكرارٌ لأي منها؟ أم هو نموذج متميز؟ أين التراث الإسلامي والخبرة الإسلامية والقيم الإسلامية من ذلك التراث الإنساني؟ الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها هو ما نحاوله في هذه الدراسة.

ولكن من منطلق أول نستطيع أن نلحظ أن العلاقة السياسية في التراث الإسلامي: هي علاقة مباشرة بين الحاكم والمحكوم لا تعرف الوسيط، وتنبع من العلاقة الدينية وتتحدد بها، وكفاحية، ومطلقة لا تعرف التمييز ولا التنوع، وتتميز بالبساطة فلم تعرف التجريد المثالي الذي عرفته الحضارة اليونانية، ولا التركيب النظامي الذي عرفته الحضارتان الرومانية والكاثوليكية، ولا الاستيعاب المطلق الذي سيطر على نموذج الدولة القومية.

التراث مجموعة من القيم التاريخية المرتبطة بجماعة معينة، وقد قُدّر لها أن تترابط مع تلك الجماعة كممارسة جماعية استقرت وترسبت في الوعي الجماعي؛ فالتراث يفترض عناصر ثلاثة: قيم، وممارسة، واستمرارية

الجزء الأول/ الفصل الأول: تعريفات أساسية حول التراث السياسي الإسلامي:

تعريف التراث: يمكن التميز بين تطبيقات ثلاثة توضح المقصود بالتراث، كل منها يحمل دلالة متميزة.

المفهوم الأول: يشمل كل ما تقدمه الحضارة من إسهامات في تطور الوجود الإنساني، فهو بهذا المعنى لا يتوقف على علاقة استمرارية ثابتة داخل حضارة واحدة.

المفهوم الثاني: يعبّر عن مجموعة المبادئ والقيم التي نقلها السلف إلى الخلف، يعبّر عن الاستمرارية الذاتية والترابط الثابت بين الأجيال، إنه العلاقة المعنوية التي لا تتقيد من حيث الزمان وإن تقيدت من حيث إطار التعامل.

المفهوم الثالث: يعود إلى القرن التاسع عشر إلى التقاليد الألمانية، حيث تعني العودة للأصول والتقاليد الجرمانية التي ميزت الممارسة والتعامل في مجتمع البرابرة الذي سبق واستقل عن الحضارة الكاثوليكية والغزو الروماني، فالتراث هنا أضحى مجموعة من الممارسات والتقاليد في التعامل مع الحياة اليومية.

مفهومنا للتراث: التراث في تصورنا مجموعة من القيم التاريخية المرتبطة بجماعة معينة، وقد قُدّر لها أن تترابط مع تلك الجماعة كممارسة جماعية استقرت وترسبت في الوعي الجماعي؛ فالتراث يفترض عناصر ثلاثة: قيم، وممارسة، واستمرارية.

يجب علينا أن نتذكر أن عملية العودة إلى التراث ليست جديدة في تقاليدنا العربية، بل إن العرب لم يقتصروا على التاريخ بمعنى تسجيل الأحداث وإنما تناولوا الخبرة السابقة بمعنى تجميع المعرفة في إطار متكامل على أساس التبويب الموضوعي لمختلف أنواع المعرفة، ونستطيع القول: إن إحدى خصائص الحضارة الإسلامية هي المفهوم التراثي، تسجيل للخبرة الماضية بكلياتها وجميع عناصرها، وهي نظرة فريدة لم تعرفها الحضارة اليونانية ولا الحضارة الرومانية، بل ولا الحضارة الكنسية في العصور الوسطى.

يرى د.حامد ربيع أن النظرية السياسية الإسلامية تقوم على خمسة عناصر: العدالة، والاعتدال، والرأي العام قيمة في ذاته، والدولة، وطبيعة السياسة التشريعية

النظرية السياسية الإسلامية:

يمكن تحديد الأعمدة التي يدور حولها البناء الممكن للنظرية السياسية الإسلامية بخمسة عناصر:

أولاً: العدالة. ثانيًا: الاعتدال، ثالثًا: الرأي العام قيمة في ذاته، فالشرعية السياسية تستمد مصادرها الحقيقية من قوة الرأي العام، وتتنوع المظاهر حسب كل موقف: فالإجماع والشورى نماذج للرأي العام الطبقي، والعرف وحق الإفتاء نماذج للرأي العام القومي، الاستحسان والمصالح المرسلة تعبير عن الرأي العام النوعي. رابعًا: الدولة، بمعنى أداة الضمان للأمن وتمكين المسلم. خامسًا: طبيعة السياسة التشريعية، فسلطة الحاكم مقيدة من حيث إن التشريع -بمعنى الكشف عن الأحكام- من اختصاص الفقيه.

ما المقصود بالنظرية السياسية الإسلامية؟

الإجابة عن هذا التساؤل تفترض عملية تبويب لمجموعة من التساؤلات تنتهي بتقديم إطار متكامل للفكر السياسي الإسلامي، الخطوة الأولى تجميع الآثار في التراث السياسي في إطار متكامل من التحقيق التاريخي والتحليل اللغوي، والخطوة الثانية تحديد المفاهيم التي تعبر عن الحقيقة السياسية في تراثنا، والخطوة الثالثة صياغة المشكلات السياسية التي تعيّن على المجتمع الإسلامي أن يواجهها، فإن منطلق بناء التنظير السياسي لا بد وأن يجعل من التعريف بالمشكلة السياسية الأساس الفكري الأول لعملية التجرد المرتبطة بالوجود السياسي، لذا علينا أن نطرح هذا التساؤل: ما المشكلات التي واجهها المجتمع السياسي الإسلامي؟

الجزء الأول/ الفصل الثاني: المصادر والنماذج الحضارية، مصادر الفكر السياسي الإسلامي:

معرفة مصادر التراث الإسلامي مقدمة لعملية كلية تبحث في سياق (المصدر -الهوية -الإحياء).

الحديث عن مصادر التراث السياسي الإسلامي جزء من التطور الذي يعانيه الفكر العربي المعاصر في إعادة تقييم نفسه.

إن قضية مصادر الفكر السياسي الإسلامي تثير عدة حقائق، من أهمّها:

الحقيقة الأولى: المصادر يجب أن تفهم بمعنى عملية التوثيق، فتكون بهذا مرادفة لمجموعة الوثائق والآثار لنستطيع من خلال تحليلها اكتشاف حضارة ذلك التراث، وأهم هذه المصادر:

  1. الخطب، فالعرب امتازوا بالخطابة، لذا فالخطب مادة جديرة بالمعالجة السياسية.
  2. الرسائل: تمثل مستوى آخر للإدراك السياسي، فهي تعتبر من خصائص التعامل على مستوى القيادة.
  3. الكتب الموسوعية.
  4. تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، أي الكتابات الفكرية العملاقة.
  5. الكتابات السياسية (مرايا الأمراء) وهي مجموعة انطباعات سجلها أشخاص لم يرتفعوا إلى الفلاسفة أو العلماء ولكنهم احتكوا بالسلطة بشكل أو بآخر فقدموا نصائحهم من منطلق صنعة الكتابة، ويسميها البعض بكتابات «الحكمة السياسية» وهي تعبر عن وعي جماعي أكثر من أن تكون صياغة لنبوغ فردي.
  6. كتب الإدراك السياسي المتداول ويعنى بها كتب الأدب عادة، وبخاصة الأدب السياسي.

الحقيقة الثانية: المصادر في أوسع معانيها ليس فقط الوثائق التي تتضمن تسجيلاً للأفكار ولكنها أيضًا الأصول التي ساهمت في خلق تلك الأفكار، الأصول الفكرية الخلاقة للتقاليد الإسلامية، وهي بالترتيب التاريخي التالي:

  1. التقاليد العربية السابقة على الدعوة.
  2. المبادئ والمفاهيم الواردة في القرآن والمستنبطة من الممارسة النبوية لتشكّل المبادئ الحاكمة.
  3. إسهامات الحضارات الأخرى التي انفتحت عليها تقاليد الممارسة العربية.
  4. دراسة النماذج السياسية التاريخية سواء أكانت سلبية أو إيجابية.

كان العالم الإسلامي يملك إدراكًا واضحًا للعالم الخارجي في القرون الثلاثة الأولى، ويثبت ذلك: النصوص الفقهية التي حاولت تأصيل نظرية وظائف الدولة. والنجاح الواضح في القتال العسكري الذي ارتبط بعملية نشر الدعوة

استراتيجية التعامل الدولي في تقاليد الممارسة الإسلامية:

كيف تصورت القيادات الإسلامية والأمة الإسلامية وبصفة خاصة خلال القرون الثلاثة الأولى حقيقةَ العالم الخارجي وأسلوب التعامل معه؟ للإجابة على هذا السؤال علينا البحث عن الإدراك الإسلامي لمفهوم الاستراتيجية الدولية، وسنجد أنّها تضم أربعة عناصر أساسية:

أولاً: أسلوب التعامل مع المواطن غير المسلم.

ثانيًا: أسلوب نشر الدعوة بمعنى أساليب الاحتكاك بالخارج لأداء الوظيفة الاتصالية.

ثالثًا: تأمين الاستقرار الذاتي والتجانس الداخلي والطمأنينة النفسية بصدد احتمالات الاعتداء من الخارج.

رابعًا: حقيقة العالم الخارجي من حيث اختبار أكثر أساليب التعامل نجاحًا لمواجهة ذلك العالم المعادي.

لقد كان العالم الإسلامي يملك إدراكًا واضحًا حول ذلك، ويثبت هذا الافتراض منطلقان:

الأول: تحليل النصوص الفقهية التي حاولت تأصيل نظرية وظائف الدولة.

المنطلق الثاني: تفسير أسباب النجاح الواضح في القتال العسكري الذي ارتبط بعملية نشر الدعوة.

ماهي المصادر الأصولية لبناء الإطار الفكري لهذا الإدراك؟

الذي يعنينا في هذا الصدد ثلاثة:

  • القرآن: حيث ورد فيه نصوص واضحة بخصوص الإدراك الإسلامي للعالم الدولي.
  • السنة: من خلال الممارسات النبوية في هذا السياق خلال العهد النبوي.
  • شرع من قبلنا: حيث يؤكد أن الإدراك الإسلامي للمجتمع الدولي لم ينفصل في كثير من جزئياته عن التقاليد الثابتة في المجتمع السابق للدعوة.

الجزء الأول/ الفصل الثالث: الوظائف التنظيرية والأبعاد المنهاجية:

الوظائف التي يستطيع أو يجب أن يؤديها التراث السياسي الإسلامي:

أولاً: إثارة الفضول لتقديم خبرة متميزة في القضايا الإشكالية في عالم السياسة.

ثانيًا: توضيح الخصائص المميزة للتراث السياسي الإسلامي كخبرة تاريخية.

ثالثًا: التطبيق، للإجابة عن سؤال محوري هو: كيف نجعل من هذا التراث منطلقًا للتعامل مع المستقبل؟

المنطلقات الفكرية لتحليل التراث السياسي الإسلامي:

أولاً: الفهم الحقيقي للتراث الإسلامي.

ثانيًا: الفصل بين التصور الذاتي وبين كيف فُهمتْ تلك الحضارة نفسها.

ثالثًا: التمييز بين الفكر اليوناني عبر الفكر السياسي الإسلامي، والفكر الإسلامي من خلال الفكر اليوناني.

رابعًا: التمييز بين تاريخ الحضارة الإسلامية ومايسمى بالعملية الاستشراقية.

خامسًا: دراسة المناطق، بحيث لا يجعل الدراسة العلمية للظاهرة السياسية مقيدة بالحدود القومية وكذلك يتناول جميع أبعاد الوجود الإنساني.

الجزء الثاني/ الفصل الأول: إسهام التراث السياسي الإسلامي في بناء المفاهيم:

إن طبيعة الحضارة الإسلامية تؤكد مبدأ رفض الفصل بين الحياة الخاصة والحياة العامة، وترفض أن تأخذ من البنيان النظامي جزءًا تجعله موضع التخريج والاستنباط وتترك جزءًا آخر جانبًا

مفهوم السياسة نموذجًا:

نستطيع أن نحدد مفاهيم أربعة لكلمة «سياسة» في التقاليد الإسلامية: القيادة، وقواعد الحركة، وأدوات أو أساليب تدبير الحكم، ومرادفة لكلمة «سلوك» أي رد فعل إزاء حدث معين.

هنا يثور السؤال: هل استخدمت كلمة «سياسة» للتعبير عن ظاهرة السلطة؟

إن طبيعة الحضارة الإسلامية تؤكد مبدأ رفض الفصل بين الحياة الخاصة والحياة العامة، وترفض أن تأخذ من البنيان النظامي جزءًا تجعله موضع التخريج والاستنباط وتترك جزءًا آخر جانبًا.

مفاهيم الوظيفة: نظرية وظائف الدولة في الفكر الإسلامي:

نظرية وظائف الدولة من أعقد الفصول التي لم يستطع الفكر السياسي أن يتوصل بخصوصها إلى نظرة واضحة صريحة متكاملة، والنظرية السياسية الغربية لاتزال تبحث عبثًا عن تأصيل إنساني أخلاقي ومثالي لوظائف الدولة، استطاع الفقه الألماني أن يحطم تقاليد الممارسة الفرنسية بخصوص الفصل بين السلطات الثلاث حيث يتضمن خلطًا بين الوظيفة والأداة، كذلك فإن الفقه الأمريكي قاد إلى تشويه آخر عندما حاول باسم «التوازن الدستوري» أن يؤصل تصورًا مميزًا حول وظائف الدولة؛ الحضارة الإسلامية تقدّم في ذلك موقفًا متميزًا وفي محاولة لسد هذا النقص الذي يعيشه علم السياسة المعاصر فقد ميزنا بين أربع وظائف للدولة: وظيفة تطويرية للأوضاع القانونية السائدة والمنظمة لقواعد التعامل الفردي والجماعي، ووظيفة توزيعية تنبع وتتحدد بمفهوم العدالة، ثم وظيفة اتصالية أساسها خلق العلاقة المعنوية بين المواطن والدولة، ثم تأتي الوظيفة الجزائية فتخلق الإطار الذي يسمح باحترام وفاعلية ذلك الأساس الأول.

الجزء الثاني/ الفصل الثاني: نماذج فكرية في التراث السياسي الإسلامي:

السائد في فهم التراث الإسلامي أنه مجموعة المؤلفات المرتبطة بتلك الأسماء الخلاقة، وهذه إنما تعكس النبوغ الفكري وهو ليس إلا جزئية من التراث المرتبط بالخبرة.

فمناقشة فلسفة الحكم لم تقتصر على من يسمونهم «فلاسفة»، بل هناك فئات أخرى تناولت الظاهرة هي أكثر تعبيرًا عن الوعي الجماعي، فهناك الفقهاء وظيفتهم تخريج الأحكام، أي وضع القواعد السلوكية لتنظيم العلاقات الفردية، وعلى رأسهم الأئمة الأربعة.

وكذلك المفكرون، فكروا وتأملوا في السلطة وصناعة الحكم وسجلوا ذلك في مؤلفات أو انطباعات، وهذا أشبه بالفكر السياسي في عالمنا المعاصر، وإذا لم يعرف العالم القديم هذه المجموعة إلا استثناء فإنها على العكس في التراث الإسلامي منتشرة ونماذجها عديدة لكنها للأسف لم تكن موضع عناية.

دراسة فلسفة الحكم في الإسلام تقتضي دراسة كل هذه النماذج، وسنقتصر في هذه الدراسة على نموذج من كل فئة: ابن خلدون عن فئة الفلاسفة، أبو حنيفة عن فئة الفقهاء، وكتاب «سلوك المالك في تدبير الممالك» لشهاب الدين ابن أبي الربيع عن الفئة الثالثة.

ولتقديم تصور متكامل للنظرية السياسية الإسلامية فيمكن تحديد عناصر بنيان هذه النظرية في المتغيرات التالية:

نظرية المناخ: أي تكوين النظرية السياسية من حيث عناصرها ومتغيراتها، وقد عرض لها بالتفصيل ابن خلدون في مقدمته.

نظرية السلطة: أي تفسير التعامل بين الحاكم والمحكوم، وهنا نجد على الأقل تفسيرين: تفسير عضوي يقدمه الفارابي، والثاني أخلاقي يعرضه الغزالي.

نظرية الدولة: أي فهم الدولة بوصفها إطارًا قانونيًا للممارسة، وكتاب الماوردي خير من يقدم تحليلاً لهذه الناحية.

نظرية وظائف الدولة: حيث يسيطر على التحليل الأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها، والفارابي يحلل هذه الوظائف من منطلق مبدأ العدالة، وشهاب الدين ابن أبي الربيع يجعل المنطلق مبدأ السلامة والثقة.

فلسفة السياسة لدى ابن خلدون هي تعبير فلسفي عن حقيقة حضارية، لذا فهو لم يتعرض للسياسة بمعنى الحركة والقيادة، بل يتناول الظاهرة السياسية بوصفها هيكلاً وإطارًا للحقيقة الاجتماعية

النموذج الأول: فقه السياسة في فلسفة ابن خلدون الاجتماعية:

موضوع دراسة ابن خلدون هو الظاهرة الاجتماعية، وإحدى تلك الجزئيات ظاهرة السلطة، من هذا يستنتج أن ابن خلدون لم يعرض لظاهرة السلطة في ذاتها وإنما بوصفها أحد خصائص الجماعة المنظمة، وهو في ذلك يتأثر بمسلكه في علم الاجتماع دون أن يفكر في تناول فلسفة السياسة بطريقة مباشرة.

خصائص فلسفة ابن خلدون:

أولاً: فلسفة السياسة لدى ابن خلدون هي تعبير فلسفي عن حقيقة حضارية، لذا فهو لم يتعرض للسياسة بمعنى الحركة والقيادة، بل يتناول الظاهرة السياسية بوصفها هيكلاً وإطارًا للحقيقة الاجتماعية.

ثانيًا: منهج ابن خلدون علمي يستند إلى الملاحظة المباشرة متعددة الجوانب مع استخدام فكرة النموذج، فهو ينظر إلى علم السياسة بوصفه علمًا تجريبيًا، وغايته من دراسة الظاهرة السياسية الكشف عن القوانين السياسية بمعنى العلاقات الارتباطية التي تحكم ظاهرة السلطة، وهو ليؤكد هذه القوانين يلجأ إلى فكرة النموذج وهي فكرة لم يستخدمها علم السياسة في تفسير النظرية السياسية إلا في أواخر القرن العشرين.

ثالثًا: طبيعة الظاهرة السياسية ظاهرة تابعة تتحدد بالظروف الاجتماعية، فهو يجعل النظام السياسي -ويقصد به النظام القانوني- تعبيرًا عن الظروف الاجتماعية التي تحيط بهذا النظام، لذا فهو يستبعد فكرة الديناميكية المتسللة في تفسير النظام السياسي لتفسير التنقلات المتتابعة من نظام إلى آخر.

المثل السياسي الأعلى في فلسفة ابن خلدون:

وهو يتميز بعنصرين:

العنصر الأول: فكرة العصبية أساسًا للتنظيم النوعي لظاهرة السلطة: فهي سبب لوجود الظاهرة السياسية، ومحور الصراع الداخلي الذي يخلق الحركة السياسية.

العنصر الثاني: فكرة العدالة كغاية تسعى إلى تحقيقها الجماعة السياسية.

النموذج الثاني: الفكر السياسي عند أبي حنيفة:

لأبي حنيفة منهجية محددة واضحة المعالم في التناول الفقهي، كما أن تحرره في تقييم المصادر التقليدية للتشريع سمح له بالانطلاق في عملية التأصيل الفقهي لتنظيم العلاقات اليومية، وهو لايقف في عملية البناء القانوني عند الوقائع بل جعل عملية التحليل التجريدي غاية في ذاتها، فيكثر من الافتراضات وينوع في التطبيقات، ويتصور القائم بل والمستحيل.

فلسفة البنيان القانوني للأحكام عند أبي حنيفة؟

تتلخص في خمسة مبادئ:

الأول: النسبية في تطبيق الحدود، فقاعدة الحد لا تؤدي وظيفة ذات بعد واحد وهي مصلحة الجماعة بل تُفَسّر على مصلحة الشخص الذي تؤدى عليه العقوبة، فمن سرق ووجب عليه القطع لكنه أشل اليمنى صحيح اليسرى قطعت الشلاء، وإذا كانت اليمنى صحيحة واليسرى شلاء لم يقطع لأنه لو قُطع لصار ذاهب اليدين.

الثاني: العمومية في تفسير مبدأ العدالة: فيجعله مبدأ عامًا يسيطر على جميع تحليلاته الفقهية.

الثالث: الثقة والطمأنينة قاعدة للتمزيج: فمن اشتبه عليه الأمر واجتهد وتيمم وصلى ثم وجد الماء لا يعيد.

الرابع: التشريع أداة لحماية الفقير وتقوية الضعيف: فالمدين إذا كان دينه يستغرق ماله لا زكاة عليه.

الخامس: الأصل في المسوغات الخمسة: فهو يتجنب إبطال تصرف العاقل بقدر الإمكان فلا يهدره إلا حيث يجد الأمر لا يسمح إلا بذلك.

يضاف إلى هذه المبادئ الخمسة الحيل الشرعية أي التوفيق بين واقع الحياة ونصوص الدين، كانت وسيلة لتطوير النظم القانونية بسبب اختلاف ظروف المجتمع السياسي.

وبخصوص تحليل فكر أبي حنيفة السياسي لا بد أن نقف قليلاً إزاء علاقته بالسلطة والسلطان:

أولاً: كان أبو حنيفة يؤمن بحرية رأي الفقيه في الإعلان عن موقفه من السلطة والسلطان، وإنكارُه على المنصور مشهورٌ لما كان اشترط على أهل الموصل أنهم إن انتفضوا عليه حلت له دماؤهم فانتفضوا عليه، فلما جمع المنصور الفقهاء أنكر عليه أبو حنيفة وقال له: إنه دم المسلم لا يحل إلا بأحد معان ثلاث، فإن أخذتهم أخذتَ بما لا يحل، وشرط الله أحق أن توفي به.

ثانيًا: يرى أبو حنيفة أن موقف الفقيه في نقد السلطة يبقى في حدود الرأي دون حقه في الثورة أو حمل السلاح، وهذا لا يفهم منه رفض الفقيه للمشاركة الفعلية في الثورة على السلطة ولكنه حسن التقدير لموضع استخدام هذا الحق، فأبو حنيفة لم يظل على هذا الموقف خلال فترة حكم العباسيين.

ثالثًا: أما نظرته إلى الخلافة فهو يرى أنها لا تورث، ولا تفرض على الناس، بل طريقها الوحيد المبايعة الحرة.

رابعًا: يرى حق الفقيه في نقد القضاة، نستخلص منه أنه يرى أن الفقه مصدر القضاء فمن حقه أن يجرحه.

هذه خلاصة موقفه من السلطة فأعطى لنفسه حق النقد لكن دون المواجهة.

النموذج الثالث: كتاب «سلوك المالك في تدبير الممالك» لشهاب الدين بن أبي الربيع:

هذا الكتاب كُتب في عصر الخليفة المعتصم الذي ولي الخلافة بعد المأمون، وكان يوصف المعتصم بأنه محدود الثقافة لكنه عملي يميل إلى الحزم، كما يميل بطبعه إلى حب سماع الرأي والنصيحة والاسترشاد.

يحتاج كتاب ابن أبي الربيع إلى قراءات ثلاث:

الأولى: استكشاف الإطار الفكري للوجود السياسي الذي يسعى ابن أبي الربيع لتحليله وتقديم خصائصه: ونستطيع أن نحددها من أربع متغيرات أساسية: الإنسان وملكاته، أنواع المعرفة، متغير القيادة في الوجود الإنساني، ثم وظيفة الدولة.

القراءة الثانية: اكتشاف المفاهيم الأساسية في «سلوك المالك في تدبير الممالك»:

وهي تتحدد بخمس كليات: القيادة، السلطة، العدالة، التدبر، السلوك.

القراءة الثالثة: إطار التعامل البشري في عالم الإنسانية الاجتماعية: إن تنظير الحقيقة السلوكية كمحور لإطار التعامل البشري في عالم الإنسانية العاقلة هو العمود الفقري لمفاهيم ابن أبي الربيع.

فهذه نماذج فكرية ثلاثة (ابن خلدون، وأبو حنيفة، وابن أبي الربيع) تمثل بعض اتجاهات الإسهام في الفكر السياسي الإسلامي، وإن لم تستوعب كامل الخريطة التي يمثلها ذلك التراث، فالبحث في أرجاء هذه الخريطة بكاملها لا يزال في حاجة إلى مشروع بحثي وعلمي ممتد.

يرى د.حامد ربيع أن الحضارة الإسلامية تتميز بخصائص ثلاث لا تجتمع في أي حضارة أخرى: الأولى: الوحدة في معايير تقييم السلوك. الثانية: هي حضارة مسيطرة لا تقبل أن توضع أي حضارة أخرى منها موضع المساواة في العلاقات الفردية؛ الخصيصة الثالثة: الاستمرارية الحضارية

الجزء الثاني/ الفصل الثالث: إحياء التراث الإسلامي وعملية التجديد:

وظيفة إحياء التراث تتنوع وتتوزع بين تصورات ثلاثة:

الوظيفة اللغوية: تعني تحليل النص بعناصره ودراسة مقومات التعبيرات اللفظية من حيث متغيراتها وأبعادها الجمالية.

الوظيفة التاريخية: تنقلنا لمستوى آخر من التحليل حيث يصير النص اللفظي ذاته تعبيرًا عن مرحلة معينة من مراحل التطور العام للجماعة وللقوى التي ينسب إليها النص.

الوظيفة السياسية: تنقلنا إلى نطاق أكثر اتساعًا، التحليل السياسي يلغي عنصر الزمان، إذ يفرض على المحلل أن يسعى لإدراج التراث في إطار أكثر اتساعًا إطار الحركة الجماعية والإنسانية، بحيث يستطيع المحلل إدخال مفهوم المقارنة المنهاجية والغوص في المفاهيم المستترة خلف النص، ثم مقارنة الوثيقة بالعناصر التراثية الأخرى لاكتشاف الحقائق الدائمة الثابتة وتمييزها عن المؤقتة المتغيرة، ثم يرقى إلى بلورة مجموعة العناصر والمتغيرات تصير وحدها مظاهر التعبير حقيقة الطابع القويم والوعي الاجتماعي، الوظيفة السياسية لإحياء التراث بهذا المعنى لم تُعرف ولم تمارس في صورتها الكاملة حتى اليوم إلا من منطلق خبرتين: المدرسة القومية الألمانية من جانب، ثم الصهيونية السياسية من جانب آخر.

والواقع أن الحضارة الإسلامية تجمع بين خصائص ثلاث لا تعرفها أي حضارة أخرى، الأولى: الوحدة في معايير تقييم السلوك، سواء بخصوص العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو التعامل مع العدو وغير المسلم؛ الثانية: هي حضارة مسيطرة لا تقبل أن توضع أي حضارة أخرى منها موضع المساواة في العلاقات الفردية؛ الخصيصة الثالثة: الاستمرارية الحضارية، فالفارق الجوهري بين الحضارة الإسلامية وأي حضارة أخرى هو أن تاريخها لم ينقطع.

لماذا إحياء التراث السياسي الإسلامي وتجديده؟

إن عملية إحياء التراث بحث عن الذات القومية، وبلورة للوعي الجماعي التاريخي للأمة، واستعادة للذات الحضارية، وتمكين لمواجهة الغزو الثقافي.

أهم أدوات التجديد:

لاستكمال الحديث عن التجديد لا بد من ذكر أهم أدواته استفادةً من تجارب الأمم:

1. الجامعات الحضارية، والمقصود بها الجامعات التي تركز على الدور الرسالي، لذا سميت بالحضارية حيث تركز على بناء الجانب الحضاري، ومن نماذج هذه الجامعات في العالم المعاصر ثلاثة[2]:

النموذج الأول: جامعة اللاتيران بروما فهي أكثر الجامعات اليوم عراقة واتساعًا من حيث الإيناع الحضاري دفاعًا عن الكاثوليكية السياسية.

النموذج الثاني: الجامعة العبرية في القدس، والتي سبقت إنشاء إسرائيل بقرابة عشرين عامًا ولا تزال حتى اليوم تستقل استقلالاً تامًا عن الدولة العبرية.

النموذج الثالث والذي لا يقل خطورة عن الجامعتين السابقتين هو الجامعة الأمريكية المعروفة باسم القضية الغربية (Western Case) وهي موجودة في شمالي الولايات المتحدة الأمريكية.

2. مراكز بحوث إحياء التراث القومي.

3. السياسة الثقافية الموحدة والمتجانسة.

4. تشجيع وخلق مسالك التعامل المباشر بين الطبقات والفئات المثقفة والمتخصصة.

فهل نستطيع أن نتعرف على وظيفة التراث في تحقيق النهضة ووظيفتنا نحن حياله؟ تساؤل ربما تجيب عنه الأيام القادمة.


[1] لمزيد من الاطلاع على المقارنة بين هذه النماذج ينظر مقالة: النظرية السياسية الإسلامية مقارنة بالنظريات السياسية الحضارية، ياسر المقداد، مجلة رواء، العدد الخامس.

[2] هذه الأمثلة الثلاثة المذكورة توضح مدى أهمية وخطورة هذه الأدوات في التكوين الحضاري للأمة، وكيف أن الأمم الأخرى تنبهت لذلك فأعطتها أولوية ضمن خططها.


أ. ياسر المقداد

ماجستير في أصول الفقه، له عدّة إسهامات في التأليف والتحقيق.

X