تزكية

السفر.. ودلالاته على سفر الآخرة

القرآن الكريم كتاب تذكرة وموعظة، يوقظ القلوب ويربطها بخالقها، ويذكِّر المؤمن بقيمة الحياة الدنيا وحقيقتها ومكانتها. فينوِّعُ الأساليب، ويكرِّرُ الطرق، ويضربُ الأمثال، ويقصُّ القصص، ليبقى المؤمن في ثقة من وعد ربه، ووُضوح من الهدف، ومعرفة بالطريق الذي يسير فيه، وهذه المقالة تبين لنا مثلاً تكرر طرحه في القرآن الكريم لذات الغاية والهدف

مدخل:

مما يلفت النظر في مواضع متعدِّدة في كتاب الله، ربطُ المؤمنين بالآخرة من خلال مشاهد الدنيا، والعبور بالمشاهد الحسية الملموسة إلى معانٍ معنويةٍ روحيةٍ وفكرية، وهي من الإشارات التي متى ما اهتمَّ العبد بها وتمرَّس عليها، سَمَتْ به في شُعوره وتفكيره، فيعيش بين الناس بجسده، لكنه يحلِّق بروحه وفكره، ويسْرح في عالَم آخر، ومسْرحٍ فريد.

إنَّ تعلُّقَ القلوب بالدنيا والركونَ إليها والرضى بها من أعظم أسباب الغفلة عن الآخرة وضعف السير إليها، وهي من الأسباب التي تُورد النار عياذًا بالله، قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ٧ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يونس: ٧-٨]، قال الحَسَنُ: «وَهُم غافِلُونَ عَن آياتِ اللهِ الكَوْنِيَّةِ فَلا يَتَفَكَّرُونَ فِيها، والشَّرعِيَّةِ فلا يأتَمِرُونَ بِها»، كما أنَّ دوام تذكُّر الآخرة واستحضارَها في كلِّ لحظة هو من أعظم ما يوقظ القلب ويشدُّ من عزم السائر إلى الله للعمل للآخرة، والموفَّق من استزاد من كل ما يذكِّره بالآخرة، وجعل ما حوله رسائل وإشارات تنبِّه قلبه إليها فلا يغفُلُ عنها طرفة عين!

من تلك الإشارات ما ستعرِض له هذه المقالة حول السفر والارتحال في الدنيا، حيث سنتأمَّل في صورة المسافر وأحواله أثناء سفره من لحظة تهيُّئه للسفر وتحديد المقصد والغاية، ثم إعداد العدة من زادٍ ولباسٍ وراحلة، ثم شروعه في السفر، متلمِّسين إشارات الهداية والذكرى التي تضمَّنتها تلك الصور والأحوال، وما يمكن أن يتذكَّر معها المسافر من صورة السفر إلى الآخرة، ليرتبط قلب المؤمن وحِسُّه بالسفر الحقيقي للآخرة، ومن تأمَّل حال الإنسان في الدنيا أدرك أنَّه في الحقيقة ما هو إلا على جناح سفر، لا يَحُلّ راحلته إلا بين أهل القبور، فهو مسافرٌ في صورة قاعد.

دوام تذكُّر الآخرة واستحضارَها في كُلِّ لحظة من أعظم ما يوقظ القلب ويشدُّ من عزم السائر للعمل للآخرة، والموفَّق من استزاد من كل ما يذكِّره بالآخرة وجعل ما حوله رسائلَ وإشارات تُنبِّه قلبه إليها فلا يغفل عنها طرفة عين!

زاد السفر:

قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: ١٩٧].

قال ابن عباس: كان نَاسٌ يحجُّون بغير زاد، فأنزل الله: ﴿وَتَزَوَّدُوا..﴾، وهنا في معرض الأمر بالتزوُّد بالزاد عند السفر للحج، ومع الأمر بالأخذ بأسباب النجاة لقطع مفازة الطريق ليصل المسافر إلى مقصوده ومُبتغاه، نلحظ أنَّ الله ذكّر عباده بوجوب الأخذ بالزاد الحقيقي من هذه الدنيا إلى الآخرة فقال: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾! ليلفت القرآنُ نظر المتزوِّد لسفر الدنيا إلى تذكُّر سفره الأعظم للآخرة، فنبَّهه إلى أخذ الزاد الحقيقي لسفر الآخرة وذلك بالتزوُّد بالتقوى، فلا يَكسَل في التزوُّد منه، ولا يتوانى ولا يضعف، وإلا فالهلاك مصيره؛ قال ابن كثير: «لما أمَرَهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها»[1].

إنَّ التقوى هو الزاد الحقيقيُّ للنجاة، وقطعِ مفازة الدنيا إلى الآخرة، وهو زاد القلوب والأرواح، منه تقتات، وبه تتقوَّى وتترقَّى وتُشرق، وعليه تستند في الوصول والنجاة، وأولوا الألباب هم من يُدرك التوجيه إلى التقوى، وهم خير من ينتفع بهذا الزاد، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: (من يتزود في الدنيا يَنْفَعه في الآخرة)[2]. وقد أحسن من قال:

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ** ولاقيت بـعد الموت من قد تزودا

ندمـت عـلى ألا تكـون كمـثلـه ** وأنك لم ترصد كما كان أرصدا[3]

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إنَّ لكلِّ سفرٍ زادًا لا محالة، فتزوَّدوا من الدنيا للآخرة وكونوا كمن عاين ما أعدَّ الله تعالى من ثوابه وعقابه، ترغبون وترهبون، ولا يطولنَّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، وتنقادوا لعدوكم»[4].

وقال ابن الجوزي: «عجبًا لراحلٍ مات وما تزوَّد للرحلة، ولمسافر ماجَ وما جمع للسفر رَحْلَه، ولمنتقلٍ إلى قبره لم يتأهَّب للنقلة، ولمفرِّط في أمره لم يستشر عقله»[5].

التقوى هو الزاد الحقيقي للنجاة وقطعِ مفازة الدنيا إلى الآخرة، وهو زادُ القلوب والأرواح.. منه تقتات.. وبه تتقوَّى وتترقَّى وتُشرق.. وعليه تستند في الوصول والنجاة.. وأولوا الألباب هم من يدرك التوجيه إلى التقوى، وخير من ينتفع بهذا الزاد

دعاء السفر:

قال تعالى: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ١٣ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ [الزخرف: ١٣-١٤].

وهذه إشارةٌ أُخرى يلفتُ النظرَ فيها تذكيرُ الله لنا بالسفر الحقيقي وأنَّه سيكون إلى دار الآخرة؛ حيث شَرع لنا أن نقول في دعاء الركوب: ﴿وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ [الزخرف: ١٤] أي: «لَصائِرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَماتِنا، وإِليهِ سَيْرُنا الأَكْبَرُ، وهذا مِن بابِ التَّنْبِيهِ بِسَيرِ الدُّنيا على سَيرِ الآخِرَةِ»[6].

قال الألوسي: «وفيه إيذانٌ بأنَّ حقَّ الراكب أن يتأمَّل فيما يُلابسه من السير ويتذكَّر منه المسافرةَ العظمى التي هي الانقلاب إلى الله تعالى، فيبني أموره في مسيره ذلك على تلك الملاحظة، ولا يأتي بما ينافيها، ومن ضرورة ذلك أن يكون ركوبه لأمرٍ مشروع، وفيه إشارة إلى أنَّ الركوب مَخطرة فلا ينبغي أن يغفل فيه عن تذكر الآخرة»[7].

تأمَّل في تلك الإشارات وما تحمل تلك العبارات الموجزة من معانٍ عظيمة لأولي الألباب والنُهى، مذكِّرةً بالوجهة الحقيقية للسفر النهائي وأننا صائرون جميعًا إلى الله تعالى لنستصحب دائمًا في حياتنا شعور المسافر فلا نغفل عن تذكر الآخرة ونجد في السير إليها كحال المسافر في هذه الدنيا.

متاع السفر:

﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ٧١ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ٧٢ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ﴾ [الواقعة: ٧١-٧٣].

ذكر الله في سياق تعداد بعض نعمِه وامتنانه بها علينا، نعمةَ الخلق والإيجاد ثم نعمةَ الحرث والزرع ثم الماء، ثم ذكر النار فقال: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ﴾ ولو سألنا عن منافع هذه النار، ولماذا خلقها الله؟ وعَدّها من نِعمه التي يمتنُّ بها علينا؟ فبمِ سنجيب؟ إنَّ جواب القرآن عن منافع هذه النار التي بين أيدينا مدهشٌ حقًا حيث بدأ بذكرِ منفعةٍ معنويةٍ دينية، وقدّمها على الفائدة الحسية الملموسة والتي تسبقُ إلى خاطر كل من سُئل عن منافع النار في الحَضَر أو السَّفَر، فقال: ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً﴾ أي لنتذكَّر عند رؤيتها نار الآخرة، فإذا رآها الرائي ذكر نار جهنم، وما يُخاف من عذابها، فاستجار بالله منها!

«قال مجاهد، وقتادة: أي تُذَكّر النارَ الكبرى»[8]، «وقال عطاء: موعظةٌ يتَّعظ بها المؤمن»[9].

ثم ذكر بعدها المنفعة الحسِّية الملموسة فقال: ﴿وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ﴾ «قال مجاهد: أي للحاضر والمسافر، لكلِّ طعامٍ لا يُصلحه إلا النار، وقيل للمستمتعين، أي الناس أجمعين»[10].

قال ابن القيم رحمه الله: «تذكرة تُذْكَر بها الآخرة، ومنفعةً للنازلين بالقَواءِ وهم المسافرون؛ يقال: أقوى الرجل: إذا نزل بالقِيِّ والقَوى وهي الأرض الخالية، وخص المُقْوِين بالذِّكْر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين؛ تنبيهًا لعباده -والله أعلم بمراده من كلامه- على أنهم كلهم مسافرون، وأنهم في هذه الدار على جناح سفر ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين»[11].

سل نفسك: هل فكرتَ يومًا أن تُوقد نارًا، أو تنظر إلى نارٍ مشتعلةٍ لتتذكَّر بها نار الآخرة؟ إنَّ القرآن يعبُر بخاطرك وشعورك في حِلِّك وترحالك من خلال مشاهدة نار الدنيا، لترى نار الآخرة فتستعيذ بالله منها وتجدّ في الفرار منها.

هل فكرت يومًا أن توقد نارًا، أو تنظر إلى نار مشتعلة لتتذكر بها نار الآخرة؟ إن القرآن يعبرُ بخاطرك وشعورك في حلِّك وترحالك من خلال مشاهدة نار الدنيا.. لترى نار الآخرة فتستعيذَ بالله منها وتجدّ في الفرار منها

طريق السفر:

قال تعالى: ﴿وَالخَيلَ وَالبِغالَ وَالحَميرَ لِتَركَبوها وَزينَةً وَيَخلُقُ ما لا تَعلَمونَ﴾، وقال جلَّ شأنه: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصدُ السَّبيلِ وَمِنها جائِرٌ وَلَو شاءَ لَهَداكُم أَجمَعينَ﴾ [النحل: ٨-٩].

وهنا أيضًا لفتةٌ أخرى في سورة النحل -وهي سورة النِّعَم- ففي معرِض تعداد الله شيئًا من نعمه وآلائه، ذكر نعمته على عباده بتسخير الدواب -من الأنعام ونحوها- للركوب والزينة فقال: ﴿وَالخَيلَ وَالبِغالَ وَالحَميرَ لِتَركَبوها وَزينَةً وَيَخلُقُ ما لا تَعلَمونَ﴾ [النحل: ٨].

وقد كان لتلك الدوابِّ قيمتُها ومكانتُها حيث كانت تحملهم في أسفارهم ويحملون عليها متاعَهم، وكانت سببًا من أسباب رفاهيتهم وطيب معاشهم، ومع ذكر تسخيرها لعباده في قضاء حوائجهم ناسَبَ أن يذكّر بطريق الآخرة والنجاة الذي يَسلُك بالمرء إلى الجنة؛ وهو طريق الحق والإسلام، فقال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصدُ السَّبيلِ وَمِنها جائِرٌ وَلَو شاءَ لَهَداكُم أَجمَعينَ﴾ [النحل: ٩].

قال ابن عباس: «وعلى الله البيان، أن يُبين الهدى والضلالة»، وقال ابن زيد: «السبيل: طريق الهدى»[12]، وقال ابن كثير: «لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يُسَار عليه في السُّبُل الحسية، نبَّه على الطُّرُق المعنوية الدينية، وكثيرًا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية، ولما ذكر في هذه السورة الحيواناتِ من الأنعام وغيرها، التي يركبونها ويبلُغُون عليها حاجة في صدورهم، وتحمِل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقَّة شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه، فبيَّن أنَّ الحق منها ما هي موصِلةٌ إليه، فقال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصدُ السَّبيلِ﴾، كما قال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه[13].

قال سيد رحمه الله: «وفي معرض النقل والحمل والركوب والسير لبلوغ غاياتٍ محسوسةٍ في عالم الأرض، يدخُلُ السياق غاياتٍ معنويةً وسيرًا معنويًا وطرقًا معنوية، فثمة الطريق إلى الله.. وهو طريق قاصدٌ مستقيمٌ لا يلتوي ولا يتجاوز الغاية، وثمة طرقٌ أخرى لا تُوصل ولا تهدي، فأما الطريق إلى الله فقد كتب على نفسه كشفها وبيانها: بآياته في الكون وبرسله إلى الناس… وعلى الله قصد السبيل»[14].

وقال السعدي: «لما ذكر تعالى الطريق الحسِّي، وأن الله قد جعل للعباد ما يقطعونه به من الإبل وغيرها ذكر الطريق المعنوي الموصل إليه فقال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصدُ السَّبيلِ﴾ أي: الصراط المستقيم، الذي هو أقرب الطرق وأخصرها موصل إلى الله»[15].

«الناسُ في هذه الدار على جناح سفرٍ كلّهم، وكلّ مسافرٍ فهو ظاعنٌ إلى مقصده ونازلٌ على مَن يُسرُّ بالنزول عليه، وطالبُ الله والدارِ الآخرة إنما هو ظاعنٌ إلى الله في حال سفَره، ونازلٌ عليه عند القدوم عليه؛ فهذه هِمّتُه في سفره وفي انقضائه»

ابن القيم

مَثَلُ الحياة الدنيا:

قال النبيُّ ﷺ: (مالي ولِلدُّنيا! إنّما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا كمثل راكبٍ قال -أي: نام- في ظل شجرة، في يوم صائف، ثم راح وتركها)[16].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ النبيُّ ﷺ ببعض جسدي، فقال: (اعبدِ الله كأنّك تراه، وكُنْ في الدُّنيا كأنّك غريبٌ، أو عابرُ سبيل)[17]، وهذا الحديث أصلٌ في قِصَر الأمل في الدنيا، وأنّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يتَّخذ الدُّنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئنّ فيها، ولكن ينبغي أنْ يكونَ فيها كأنّه على جناح سفر، يُهَيِّئُ جهازَه للرحيل.

بل إنَّ وصايا الأنبياء وأتباعِهم اتَّفقت على ذلك، قال تعالى حاكيًا عن مؤمن آل فرعون: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ [غافر: ٣٩]، ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه أنّه قال لهم: «اعبُروها ولا تَعمُرُوها»، ورُوي عنه أنّه قال: «من ذا الذي يبني على موجِ البحر دارًا، تلكُمُ الدُّنيا، فلا تتَّخذوها قرارًا»[18].

وقال ابن القيم: «الناسُ في هذه الدار على جناح سفرٍ كلُّهم، وكلُّ مسافرٍ فهو ظاعنٌ إلى مقصده ونازلٌ على مَن يُسَرُّ بالنزول عليه، وطالبُ ﷲ والدارِ الآخرة إنما هو ظاعنٌ إلى ﷲ في حال سفَره، ونازلٌ عليه عند القدوم عليه؛ فهذه هِمّتُه في سفره وفي انقضائه»[19].

قال الفيروز آبادي:

وما هـذه الأيـام إلّا مـراحل ** يحثّ بها داعٍ إلى الموت قاصدُ

وأعجب شيء لو تأمّـلت أنّها ** منازل تُطوى والمسافر قاعدُ[20]

دلالاتٌ أخرى على سفر الآخرة:

بعد أن تأمَّلنا شيئًا من أوجُه التشابه بين السفر في الدنيا والسفر إلى الله والدار الآخرة، تعالَ بنا نضطردْ في ذكر أوجُه أخرى تبعث في نفوسنا مزيدًا من التعمُّق والتأمُّل في رحلة سَيرنا إلى الله تعالى، لعلَّ هذه الإشارات أن تكون مناراتٍ لنا في طريقنا ومسيرتنا والله وحده المعين:

  • وضوح الوجهة:

إنَّ وضوح الوجهة للمسافر من أوَّل خطوةٍ في سيره تجعله أقوى همةً وأوثقَ وأسرعَ في بلوغ هدفه، بخلاف من ضاعت بوصلته فيوشك ألا يصل وإنْ وصل كان متأخرًا، كذلك هو حال السائر إلى الله كلما كان عارفًا بصراطه المستقيم كان سيرُهُ أشدَّ وهمتُه أقوى، وكان أجدر بالوصول إلى حيث يريد، ومن لم يستبن الطريق تفرَّقت به عن سبيل الله ويوشك ألا يصل، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣]، فكم نجتهد في استبانة الصراط المستقيم؟ وكم نبذل من الجهد في معرفة الحق والبحث عن مُراد الله منا في سيرنا إليه؟ ومفتاح ذلك علوم الشريعة من الكتاب والسنة.

  • الصاحب والحادي والهادي:

الرفيق في السفر من أعظم ما يعين المسافر على قطع الطريق، فلا يستوحش السائر بمفرده ويجد في رفيقه سندًا وعونًا يتجاوز به عقبات الطريق ومخاطره؛ لذا جاء النهي عن السفر منفردًا، وقد كان العرب يتَّخذون الحاديَ يحدو بهم ليؤنسهم في سفرهم ويخفِّفُ عليهم عناءَه ومشقَّته، كما كانوا يتَّخذون هاديًا يدلُّهم الطريقَ ويُرشدهم لقطع مفازة السفر، وإلا كان سفر مهلكةٍ وموتٍ وضياع، كذلك هو حال السائر إلى الله؛ لا يستغني عن رفيقٍ صالحٍ يوقظ قلبه، ويستحث خطاه للسعي حثيثًا للآخرة، ويحدو بروحه لدار الأفراح فلا يستبطئ الطريق، ولا تفتُرُ همَّتُه، ولا يستوحش الطريق، ولا يضلُّ عن الهدى، ولا يحيد، والصاحب ساحب، والمرء على دين خليله.

  • العلم بطبيعة الطريق:

المعرفة السابقة بالطريق وما فيه من عقبات وأشواك تجعل السائر أكثر ثباتًا عند مواجهتها، وتُحيد عنه عنصر المفاجأة فيها! والتي توهن المسافر وربما صرفته عن سفره أو حرفت مساره عن وجهته، كذلك هو الحال في السير إلى الله فمعرفة السائر السابقة بطبيعة الطريق إلى الله وأن الجنة حُفَّت بالمكاره، وعلمه بما فيه من مشاقّ يجعله أكثر استعدادًا وتأهُّبًا في سيره، كما أنَّ معرفته بما سيعترضه من ابتلاء وتمحيص يجعله أقوى وأثبت عند البلاء، قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ٢ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ٢-٣]، وكذلك كانت وصية لقمان الحكيم لابنه: ﴿يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: ١٧].

  • الصوارف وقطاع الطريق:

لالتفات المسافر إلى الملهيات والشواغل التي تعرض له في سفره -وما أكثرها- أثر لا يخفى في ضعف سيره ونسيان هدفه الذي خرج لأجله، وكذلك فإنّ ترك الحذر من قطّاع الطريق وخداعهم وأساليبهم من أشدّ ما يصرف المسافر عن بغيته، كذلك هو الحال في السير إلى الله، فمن أكثر الالتفات واستمع للمثبطين وأتبع نفسه هواها ولحق وراء شهواته وملذاته فيوشك أن ينقطع سيره إلى ربِّه، وسيتأخَّر عن بلوغ مدارج السائرين العلية، لذا جاءت الوصية بالإعراض عن اللغو لمن رام طريق الفلاح: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ١ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ٢ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: ١-٣]، وجاء الأمر جليًا واضحًا بعدم مدِّ العين إلى مُتع الدنيا وإلا فالسقوط في الفتنة: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: ١٣١].

  • الاستعداد والتخفُّف:

مما يُعين المسافر استعدادُه بحسن اختيار الدابَّة وتهيئتها، والتزوُّد لسفره بما يلزم من طعام ولباس وأدوات لدفع قطاع الطريق وقطع المسافات ومفازة الصحراء، كما أنه كلما تخفف المسافر من المتاع الزائد الذي لا منفعة له فيه في سفره أو وجهته التي يتَّجه إليها؛ اشتدَّ سيره وخفَّت دابته ووصل إلى مبتغاه، كذلك هو حال من أحسن الاستعداد لسفر الآخرة، وتزود بالتقوى ما استطاع، وتخفف من الدنيا ومتاعها وزخرفها، وكل ما يثقل كاهله في سفره من فضول الطعام والشراب والزينة واللهو ونحوه، فتسمو روحه وتشرق نفسه ويحث الخطو سريعًا إلى الله.

  • المنبتُّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى:

المنبتُّ: هو المنقطع عن أصحابه في السفَر، والظَّهْرُ: الدابة، وهو مثلٌ يُضرب لمن يُبالغ في طلب الشيء، ويُفْرِط حتى ربما يُفَوِّته على نفسه[21]، كذلك هو الحال في السير للآخرة يتطلب القصد والتؤدة ليستمر العامل في سيره ولا ينقطع، فقليل دائم خير من كثير منقطع، كما أنه ربما تطلب الأمر شيئًا من الدلجة وهو السير ليلاً وإلا لم يبلغ المسافر المنزل، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: (إنّ الدِّينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلّا غلَبه، فسدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا واستعينوا بالغَدوةِ والرَّوحةِ وشيءٍ مِن الدُّلْجةِ)[22].

خاتمة:

تتفاوت القلوب في تعاطيها وتفاعلها مع الآيات المقروءة، فتكون سببَ هداية وتبصر لأهل الإيمان والتقوى، كما تكون سبب ضلال وغواية لأهل النفاق والعصيان. كذلك هو الحال مع الآيات الكونية المشاهدة والمحسوسة، يزداد بها أهل الشقاء بُعدًا وعمى وشقاوة؛ لجهلهم بحقيقتها، ولانشغالهم بها عن الآخرة، ويزداد بها أهل الإيمان قربًا ونورًا وبصيرة، وتطلعًا للآخرة الباقية، وزهدًا في الدنيا الفانية.


د. عمر النشيواتي

طبيب وكاتب مهتم بالقرآن وعلومه.


[1] تفسير ابن كثير (١/٤٠٨).

[2] قال الهيثمي في المجمع: «رجاله رجال الصحيح».

[3] التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، للقرطبي (١/‏٣٠٦).

[4] سيرة عمر بن عبد العزيز، ص (٢٥٨).

[5] المدهش، لابن الجوزي، ص (٢١١).

[6] تفسير ابن كثير (٧/٢٠٢).

[7] تفسير الألوسي (١٣/٦٩).

[8] تفسير ابن كثير (٨/٢٩).

[9] تفسير البغوي (٥/١٨).

[10] تفسير ابن كثير (٨/٣٠).

[11] طريق الهجرتين، ص (١٤١-١٤٢).

[12] تفسير الطبري (١٧/١٧٥).

[13] تفسير ابن كثير (٤/٤٨٠-٤٨١).

[14] في ظلال القرآن (٤/٢١٦٢).

[15] تفسير السعدي، ص (٤٣٦).

[16] أخرجه الترمذي (٢٣٧٧) وأحمد (٢٧٤٤).

[17] أخرجه أحمد (٦١٥٦).

[18] جامع العلوم والحكم، لابن رجب (٣/١١٢٤).

[19] الفوائد لابن القيم، ص (١٩٦).

[20] بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (٤/‏١٢٨).

[21] مجمع الأمثال، للميداني (١/٧).

[22] أخرجه البخاري (٣٩).

X