اللغة العربية سبيل فهم النصوص الشرعية، وضبط استنباط الأحكام منها، والرد على الخطأ في ذلك، وقد اهتم أهل العلم ببيان هذه الضوابط وتقعيدها، واستخدموها في تفسير النصوص الشرعية، وبينوا الأخطاء التي وقعت في مخالفتها، وردوا عليها.. وفي المقال بيان هذه الضوابط وشيء من تطبيقاتها.
العدد الثاني
شعبان 1441 هـ – نيسان/أبريل 2020 م
أ. عبد الرحمن عبد الله رجو[1]
اللغة العربية لغة القرآن الكريم، ولسان خاتم الأنبياء والمرسلين، حفظها تعالى بحفظ كتابه العظيم: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]. وهي لغة مخدومة، فقد جُمِع شعرُها ونثرُها، وضُبِطت ألفاظُها، وحُدِّدت لغاتها (لهجاتها)، وعُزِيت إلى قبائلها، ثمَّ قام بعد ذلك علماء اللغة إلى هذا الإرث العظيم، فنظروا في أساليبه وتراكيبه، وفي قوانينه اللفظية والمعنوية، فخرجوا بقواعد وضوابط كفيلة ببقاء لغة العرب بيضاء نقيةً، محميةً من كل اختراع فيها أو ارتجال[2].
ولقد جاءت هذه القواعد في مظانِّها من كتب اللغة والأدب والنحو والصرف والبلاغة والتفسير، منها قواعد عامة، وأخرى فرعية جزئية، وقام بعض العلماء بتنبيه المهتمين بدراسة النصوص إلى أهمية النظر في الضوابط اللغوية، كما فعل العلامة ابن هشام (ت 761ه) في كتابه مغني اللبيب، والإمام الزركشي (ت 794ه) في كتابه البرهان، والإمام السيوطي (ت 911ه) في كتابه الإتقان، وغيرهم.
اللغة العربية لغة مخدومة، جُمِع شعرُها ونثرُها، وضُبِطت ألفاظُها، وحُدِّدت لغاتها، ونظر علماؤها في أساليبها وتراكيبها، وفي قوانينها اللفظية والمعنوية، فخرجوا بقواعد تحميها من كل اختراع فيها أو ارتجال.
وفي هذا العصر اُستُحدِثتْ طرقٌ ملتوية مليئة بالمغالطات اللغوية في التعامل مع النصوص، نتج عنها أقوالٌ شاذّةٌ في تفسير القرآن والسنة[3]، فاشتدَّت الحاجة إلى العناية بقواعد اللغة وضوابطها، سواء كانت في معاني الألفاظ أو في التراكيب.
وفي هذا المقال نعرِّج -بعون الله تعالى- على شيء من هذه الضوابط المهمة:
أولًا: العناية بفهم الكلمة، مفردة ومركَّبة:
معرفةُ معاني الألفاظ طريق إلى معرفة موقعها الإعرابي الصحيح في التركيب، وهي سبيلٌ بعد ذلك إلى الفهم الصحيح للنص المراد دراستُه، ولهذا يلزم العناية بها قبل النظر في وجوه إعرابها.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ [النساء: 12].
فقد ذكر العلماء وجوهًا عدَّة في إعراب كلمة (كلالة)؛ تبعًا لمعناها، فقالوا: إنْ أُريد بها الميِّت فهي حالٌ منصوبة، وإن أُريد بها القرابة فهي مفعولٌ لأجله، وإن أريد بها الورثة فهي صفةٌ لمصدرٍ محذوف، تقديره: يورثُ وراثةَ كلالة.
والمختارُ إعرابها حالًا من نائب فاعل يورَث، والتقدير: يورَث حالَ كونه ذا كلالةٍ؛ وذلك لأن المعنى المراد شرعًا هنا هو الميت الذي لا ولد ولا والد له[4].
ثانيًا: أن يكون معنى اللفظة المختار معروفًا في الاستعمال العربي زمنَ ورود النص:
فلا يُحمل شيءٌ من ألفاظ النص على معنى غير معروف في لغة العرب زمنَ نزول القرآن الكريم؛ وذلك لأنَّ القرآن الكريم نزل بلغتهم، وأقوال النبي r وأحاديثه إنَّما جاءت بلسان قومه وُوفق استعمالهم. فلا يُقبل أن يأتيَ شخص الآن ويفسر آية قرآنية أو حديثًا نبويًا بمعنى لم يعرفه العرب زمنَ التنزيل.
قال الشاطبي: « كلُّ معنى مستنبط من القرآن غير جارٍ على اللسان العربي؛ فليس من علوم القرآن في شيء، لا مما يستفاد منه، ولا مما يستفاد به، ومن ادَّعى فيه ذلك فهو في دعواه مبطل»[5].
ولقد ذكر أبو حيان في تفسيره أنه أعرض عن الأقاويل والمعاني التي خرجت في مدلولاتها عن كلام العرب، ومما قاله في ذلك: «وتركتُ أقوال الملحدين الباطنية المخرِّجين الألفاظَ القريبة عن مدلولاتها في اللغة إلى هذيان افتروه على الله تعالى»[6].
كلُّ معنى مستنبط من القرآن غير جارٍ على اللسان العربي؛ فليس من علوم القرآن في شيء
الإمام الشاطبي رحمه الله
ومن أمثلة هذا الضابط قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [الزخرف: 63].
ذكر العلماء أن (البعض) شيءٌ من أشياء، وبناء على هذا جاءت تفاسير عدّةٌ للآية[7]: الأول: أُبيِّن لكم بعض الذي تختلفون فيه من أحكام التوراة. والثاني: أبيِّن لكم ما تختلفون فيه من أمور الدِّين، وهو بعضٌ مما يختلفون فيه. والثالث: أبيِّن لكم اختلاف القرون الذين تحزَّبوا في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام. والرابع: أبيِّن لكم بعض ما تختلفون فيه، ثم يُكمَّل بيانُ الباقي بشكل تدريجي.
وجاء عن أبي عبيدة وغيره أنَّ (بعض) هنا بمعنى (كل)، ولكنَّ جمهور أهل العلم اعترضوا على هذا، محتجِّين بأنه لا يُعرف في لغة العرب، وأجابوا عما استدلَّ به أبو عبيدة، فمنهم ضعَّفه، ومنهم ردَّه بالكلِّية، بل حكى بعضُهم الإجماع عن أنَّ البعض شيءٌ من أشياء[8].
ثالثًا: حمل المعنى على ما يناسب سياق النص، قبله وبعده، ما لم يرد مانعٌ من ذلك[9]:
لا يكفي مجرد ثبوت معنى الكلمة في قواميس اللغة للقول به في تفسير النصوص؛ لأنَّ القواميس اللغوية تذكر جميع المعاني التي تُستخدم لها الكلمة، واختيار أحد هذه المعاني لا يكون بالتشهِّي أو الرغبة، بل بالنظر في سياق الكلام، إذ به يُعرَف المعنى المراد للكلمة إذا كان لها أكثر من استعمال في أصلها اللغوي، وبه يُسترشَد إلى تقييد مطلَق، أو تخصيص عام …
قال مسلم بن يسار: «إذا حدثتَ عن الله فقِفْ، حتى تنظر ما قبلَه وما بعدَه»[10]، وقال ابن جرير الطبري: «وإنَّما قلنا: ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب؛ لأنَّ الآيات قبلها وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها، إذ كانت في سياق واحد»[11].
ثبوتُ معنى الكلمة في قواميس اللغة لا يكفي للقول به في تفسير النصوص، فالقواميس تذكر جميع معاني الكلمة، واختيار أحدها لا يكون بالتشهِّي إنما بالنظر في السياق
ومن أمثلة هذا الضابط قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 231]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 232].
فقوله تعالى: (بلغن أجلهن) في الآيتين الكريمتين يُراد به أَجَلُ عدَّة المطلَّقة، ولكن بتأثير السياق يبدو وجود فرقٍ بين كلا المعنيين:
ففي الآية الأولى يخاطِب تعالى الأزواج، بأن يُمسكوا زوجاتهم المطلَّقات طلاقًا رجعيًّا مع القيام بحقوقهن، أو يتركوهن بلا إضرار، وهذا يعني أن العدَّة لم تنقضِ، وإنما شارفت على الانتهاء، وإلا لم يكن للزوج التخيير بين الإمساك والتسريح، وعليه فمعنى (بلغن أجلهن) هنا: قُربُ انتهاء العدة [12].
وفي الآية الثانية يخاطب تعالى الأولياء: إذا طلق الرجل زوجته، وانقضت عدَّتها، وأراد الزواجَ بها من جديد، فلا تمنعوا ذلك. وهذا يدلُّ على أن معنى (بلغن أجلهن) هنا: انتهاء العدة تمامًا[13]، وإلا لكان للزوج مراجعة مطلَّقته دون حاجة إلى ولي أمرها.
رابعًا: ألا يأتي بتقديرات لم يثبت لها مثال في لغة العرب:
ومن هنا اشترط العلماء أن يكون الناظر في النص الشرعي متمكِّنًا في اللغة العربية، مليئًا بشعرها ونثرها ونحوها وصرفها؛ لئلا يأتي في توجيه النصوص وتقديراتها بما لا تعرفه لغة العرب من الأساليب والمعاني، وإذا حصل شيء من هذا فهو عن غفلة أو وهم[14].
ومن أمثلة هذا الضابط قوله تعالى: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ [الأنفال: 5].
جاء في إعراب الكاف في قوله (كما) أقوالٌ وتقديراتٌ عدة، منها: أن تكون بمعنى مثل، ويكون محلها الرفع خبرًا لمحذوف، تقديره: هذه الحال كحال إخراجك، وجوَّزوا أن تكون حرف جرٍّ، وقالوا بصحة كونها في محل نصبِ صفةٍ لمصدر فعلٍ مقدَّر، تقديره: الأنفالُ ثبتت لله والرسولِ ثباتًا مثلَ ثباتِ إخراجِ ربِّك إياك من بيتك وهم كارهون[15].
وكلُّ هذه التقديرات معروفةٌ في لغة العرب، إلا أنَّ بعض العلماء جعل الكاف حرفًا للقسم، قال: الكاف بمعنى واو القسم، و(ما) بمعنى الذي، وهي تعود على اسم الجلالة (الله)، والتقدير: واللهِ الذي أخرجك من بيتك… ليُجادِلُنَّك. ولقد ردَّ العلماء هذا التخريج؛ لأنَّه لا يُعرف عند العرب مجيءُ الكاف حرفًا للقسم[16].
خامسًا: مراعاة الشروط المختلفة في الأبواب النحوية:
العرب يشترطون شيئًا في باب من الأبواب النحوية، ثم تراهم يشترطون نقيضه في باب آخر منها، وإذا لم يتنبَّه الدارس لمثل هذا فإنه يعرّض نفسه للوقوع في الوهم والخطأ في التعامل مع النصوص.
ومن أمثلة ذلك:
قول الله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 66].
قوله (الصِّراطَ): منصوب بنزع الخافض، ومن وجوه إعرابه أيضًا أن يكون ظرفًا مكانيًّا، كما جاء عن بعض العلماء، منهم الزمخشري في تفسيره[17]، ولكنَّ ابنَ هشام في كتابه: المغني ردَّ هذا التقدير، واعتبره من الوهم الذي وقع فيه الزمخشري؛ لأنَّ من شروط الظروف أن تكون مبهمة، وكون (الصراط) هنا غير مبهم فلا يصح إعرابه ظرفًا.
ولقد استفاض ابن هشام في ذكر الأمثلة على هذا الضابط، وذكر أنواعًا كثيرة من هذه الشروط[18].
سادسًا: حمل النص الشرعي على أصح وأفصح الوجوه في العربية:
على الناظر في النص الشرعي أنْ يحملَ إعرابَه على أحسن الوجوه وأفصح التقديرات، فيحفظه من الوجوه الضعيفة والشاذة، وينزِّهه من طرائق التكلُّف غير المستساغة، وهذا الضابط هو عادةُ أهل اللغة وطريقتهم في التعامل مع النص القرآني.
قال ابن سيده: «وهكذا عادتنا في إعراب القرآن، لا نسلك فيه إلا الحَمْل على أحسن وجه»[19].
وقال الطبري: «وكلام الله جل ثناؤه أفصح الكلام، فغير جائز توجيهه إلا إلى الذي هو أولى به من الفصاحة»[20].
ولقد ترك أبو حيان في تفسيره تقادير كثيرة، وبيَّن أن الداعي لتركها كونها من التقادير البعيدة، والتراكيب القلقة والمجازات المعقَّدة[21].
ومن الأمثلة على هذا الضابط قوله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الأنفال: 43].
فهذه الرؤيا في الآية الكريمة رؤيا منام، وجاء في قولٍ: إنها رؤيا عين، وقد رُدَّ هذا التفسير؛ لكونه لا يلائم كلامَ العرب وفصاحتَهم؛ فالمعنى: لقد أراك اللهُ يا محمدُ الأعداءَ في منامك قليلًا، ولو أراكهم كثيرًا لخرتم وجبُنتم عن اللقاء … والذي يناسب هذا المعنى رؤيا المنام.
قال القرطبي:» ولكن الأُولى أسوغ في العربية؛ لأنه قد جاء: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ فدل بهذا على أن هذه رؤية الالتقاء، وأن تلك رؤية النوم»[22]. ويؤيِّدُه أن (أرى) متعدِّية لمفعولين هما: الكاف، والهاء، في قوله: (يريكهم)، فـ(أرى) هنا قلبية، وليست بصرية، وكذا مجيء اللفظ (منامك) صريحًا في النوم، فلا حاجة إلى التأويل الذي لا دليل عليه[23].
كلامُ الله جلَّ ثناؤه أفصحُ الكلام، فلا يُحملُ إعرابُه إلا على أفصح التقديرات
سابعًا: إجراء التقديرات على الأصل والظاهر، وعدم العدول إلى خلافه إلا لسبب صحيح:
قال رضي الدين النحوي: «إنَّما يترك الظاهر إلى المقدَّر إذا كان المقدَّر أقوى من الظاهر… أو إذا تعذَّر الحمل على الظاهر»[24].
وقال الأمين الشنقيطي: «والتحقيق الذي لا شكَّ فيه، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامة علماء المسلمين أنَّه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال من الأحوال … حتى يقوم دليلٌ صحيحٌ شرعيٌّ صارفٌ عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح»[25].
ومثال هذا قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: 79].
جعل ابن العربي رحمه الله (العظامَ) مفعولًا به لـ (يُحيي) على الظاهر، دون تأويلِ محذوفٍ، إذ معروف في العربية إقامة المضاف إليه مقام المضاف، والتقدير: من يُحيي أصحاب العظام. ولقد صحح ابن العربي الأول، وهو بقاء الآية على ظاهرها دون تقدير المضاف، قائلًا: «إنما يكون ذلك إذا احتيج إليه لضرورة، وليس هاهنا ضرورة تدعو إلى هذا الإضمار، ولا يفتقر إلى هذا التقدير، وإنما يحمل الكلام على الظاهر؛ إذ الباري سبحانه قد أخبر به، وهو قادر عليه، والحقيقة تشهد له؛ فإن الإحساس الذي هو علامة الحياة موجود فيه»[26].
يذكر ابن العربي هذا الضابط، مع العلم أن المعنى الآخر سائغٌ لغةً وشرعًا، فكيف إذا كان التأويلُ والإضمار يُلغي المعنى الظاهر، ويَصرفه عن حقيقته؟!
لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم … حتى يقوم دليلٌ صحيحٌ شرعيٌّ صارفٌ عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح
ثامنًا: التقدير الإعرابي الموافق للأدلة الشرعية مقدّمٌ على غيره:
فالمعنى الصحيح هو العُروة التي يُستمسَك بها، فإذا تنوَّعت التقديرات النحوية، وتجاذبت مع المعاني، فإنه يقدَّم حينها التقدير الموافق للمعنى الصحيح، خاصة إذا دُعِّم هذا المعنى بأدلة شرعية معتبرة.
قال ابن جني: «فإن أمكنك أن يكون تقديرُ الإعراب على سَمْت تفسير المعنى فهو ما لا غاية وراءه، وإن كان تقديرُ الإعراب مخالفًا لتفسير المعنى تقبَّلتَ تفسير المعنى على ما هو عليه، وصحَّحتَ طريقَ تقدير الإعراب حتى لا يشذَّ شيءٌ منها عليك»[27].
وقال العز بن عبد السلام: «وقد يقدِّر بعضُ النحاة ما يقتضيه علم النحو، لكن يمنع منه أدلة شرعية، فيُترك ذلك التقدير ويقدَّر تقديرٌ آخر يليق بالشرع»[28].
ومثال ذلك قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 64].
قدر بعض العلماء قوله تعالى: (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) في محل رفع معطوفًا على اسم الجلالة (الله)، والتقدير: حسبُك الله، وحسبُك المؤمنون، أي: كافيك اللهُ، وكافيك المؤمنون[29].
ولقد ردَّ ابن القيم هذا التقدير؛ لأنَّ المعنى المتخرَّج عليه مخالفٌ للأدلة الشرعية، فالحسبُ (الكفاية) لله وحده، ولا تكون لغيره [30]؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 62].
ولهذا رجّحوا غيره، واختاروا من التقديرات ما يوافق المعنى الشرعي الصحيح، ومن ذلك:
أن تكون (مَنْ) في محل رفع خبرًا لمبتدأ محذوف، والتقدير: يا أيها النبيُّ حسبُك الله، وحسبُ من اتبعك[31]. وقدر بعض العلماء (مَنْ) في محل جرٍّ معطوفًا على الضمير (الكاف) في قوله: (حسبك)، وعليه يكون المعنى: اللهُ كافيك وكافي المؤمنين، وهذا المعنى موافق للتقدير الذي قبله. وهو الموافق للأدلَّة الشرعية، ويؤيِّده ما جاء عن الشعبي وعطاء وعبد الرحمن بن زيد رحمهم الله تعالى[32].
الضوابطُ اللغويةُ طريقُ الفهمِ الصحيح للنصوص الشرعية، ووقايةٌ من مغالطات المنحرفين العابثين، الذين رفعوا رايةَ التفسير اللغوي الحديث، وهم يُناضلون لهدم ثوابت الأمَّة وتدمير بنائها.
لماذا الاهتمام بالضوابط اللغوية؟
سبق الحديث أن الضوابط اللغوية تُساعد الناظر في النصوص الشرعية على الفهم الصحيح، وإذا أخطأ بعد بذل الجهد وإفراغ الوسع فهو معذورٌ بإذن الله تعالى… والاهتمامُ بهذه القواعد مطلوبٌ أيضًا للوقاية من المنحرفين والعابثين، الذين يُناضلون لهدم ثوابت الأمَّة وتدمير بنائها.
وممّن حمل لواء العبث بالنصوص الشرعية وأحكامها في الوقت الحالي برفع راية التفسير اللغوي الحديث المعاصر: محمد شحرور، وعلي منصور الكيالي، وتبعهم على ذلك آخرون، فقد خرجوا على الناس بمغالطات لغوية في تفسير النصوص، حتى وصلت العبثية بشحرور إلى القول: «أما القول بأن (سبحان الله) هي تنزيهٌ لله عن النقائص والعيوب فهو قول قد مضى زمانه»[33]. ومن أغاليطهم في ذلك[34]:
- تفسير (جُيُوبِهِنَّ) في قوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 31].
جاء شحرور إلى معنى الجيب عند العامَّة، وهو ما توضع فيه الدراهم ونحوها[35]، وإلى أحد معاني كلمة (الجوب) في اللغة، وهو الخرق، فاستحدث منهما تعريفًا لم يقله أحدٌ غيره، قال: «والجيب كما نعلم له طبقتان لا طبقة واحدة… فالجيوب في المرأة لها طبقتان أو طبقتان مع خرق، وهي ما بين الثديين وتحت الثديين وتحت الإبطين والفرج والأليتين»[36].
وهو بهذا (العبث) خالفَ أهل اللغة وأهلَ التفسير، فقوله تعالى: (جُيُوبِهِنَّ): جمع جيب، وهو في الاستعمال العربي طوقُ القميص والثوب ونحوُهما، أي الفتحة التي يدخل منها الرأس، ولما كان موضعُ الفتحة الصدرَ والنحرَ سمِّي به، وبه قال أهل التفسير: وليُسدِلْنَ ويُرخِينَ خمارهنَّ على النَّحر والصَّدر والعُنُق. فكلمة المفسرين واللغويين واحدة في الآية[37].
وهذا التفسير لم يُعرف عند العرب وقت نزول الوحي، بل مخالف للمعنى الشائع عند العرب قبل ذلك، فقد كانوا يستخدمونه بمعنى الطوق المنفتح على النحر، وهذا معلوم مشهور في شعرهم ونثرهم؛ وقد أنشدوا في ذلك العديد من الأشعار والمراثي لقتلاهم في غزواتهم وحروبهم، فكانت نساءُ القتيل يشقُقْنَ جيوبهن دون سواها من ثيابهن، قال طرفة بن العبد[38]:
فإن متُّ فانعيني بما أنا أهلُه
وشقِّي عليَّ الجيبَ يا ابنةَ معبدِ
وفي زمن ظهور الإسلام استمرَّ استعمالُ العرب لهذه الكلمة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ليس منَّا مَنْ ضربَ الخُدُودَ، وشقَّ الجُيُوبَ، ودعا بدعوى الجاهليَّةِ)[39].
فالعَوَرُ ظاهرٌ بائنٌ في تفسير شحرور، فما الجيبُ الذي يطلب طرفةُ من ابنة أخيه أن تشقَّه حزنًا عليه؟! وأيّ جيبٍ ينهى النبيُّ عليه السلام أُمَّتَهُ عن شقّه؟!
- تفسير الحول في قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: 33].
جاء علي منصور كيالي بمعنى مخترع لكلمة (الحول) في الآية الكريمة، حيث ادَّعى أنَّ الحول ليس بمعنى السنة، بل بمعنى عشرةِ أشهرٍ ونصف! ثم بنى على مقولته أحكامًا، منها: وجوب الزكاة بعد مضيِّ عشرة شهور ونصف، وليس اثني عشر شهرًا قمريًّا.
وهذا القول مخالف لما اتَّفق عليه أهل اللغة، فالحول عند العرب سَنَةٌ بأسرها، كما نقل ذلك ابن منظور والفيروزآبادي وابن سيده والزبيدي والهروي والفيومي وغيرهم[40]. وهو مخالف للمعنى الشرعي للحول أيضًا، فالفقهاء متفقون على أن الحول اثنا عشر شهرًا قمريًّا[41].
المعنى الصحيح المؤيَّد بالأدلة الشرعية هو العُروة التي يُستمسَك بها، وهو التقدير المختار إذا تنوَّعت التقديرات النحوية، وتجاذبت مع المعاني
وفي الختام:
إنَّ الحاجة ماسَّةٌ إلى العناية بهذه الضوابط اللغوية، لتقوم بدورها في ترشيد فهم النصوص الشرعية، وفي تربية الدارسين على التأني والتريث عند تفسيرِ أو استنباطِ حكمٍ من آية قرآنية أو حديث نبوي، وفي معرفة الزائغين عن المنهج الصحيح في التعامل مع النصوص، وثمَّة قواعد لغوية كثيرة تحتاج إلى اهتمام أبناء العربية، فالعمل على جمعها ودراستها وإظهارها هو التقدير الحقيقي لجهود أئمتنا الذين فَنِيَت أعمارُهم في حفظ هذه اللغة.
[1] باحث في الدراسات العربية والإسلامية.
[2] بيضة الديك، يوسف الصيداوي، ص (5).
[3] يقوم منهج هؤلاء على أصول عدة، أهمها: أ-المغالطة اللغوية، وهي اختيار معان غير مرادة ولا مقصودة في النصوص الشرعية ولا مرادة عند العرب في هذا السياق، معتمدين على مجرد الورود في القواميس، ومعلوم أن القواميس تذكر كافة استعمالات الكلمة، والسياق هو يحدد المراد. ب-ترك الاستدلال بالسنة النبوية، سواء بالإهمال أو التصريح بعدم حجيتها.
[4] إعراب القرآن الكريم، الدرويش، (2/175). وفتح القدير، الشوكاني، (1/653). والتسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي، (1/182). وتفسير القرآن العظيم، ابن كثير، (2/230).
[5] الموافقات، للشاطبي، (4/224).
[6] تفسير البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، (1/104).
[7] جامع البيان، الطبري، (21/634). وتفسير البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، (8/26). وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (7/236). ومنهج الزجاج في اختياراته في التفسير، عادل العُمري، رسالة ماجستير، (1/25). والتحرير والتنوير، لابن عاشور، (25/247). واللباب في علوم الكتاب، عمر بن علي ابن عادل، (17/287). والتسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي، (2/263).
[8] نفس المصادر في الحاشية السابقة.
[9] قواعد الترجيح عند المفسرين، حسين بن علي الحربي، ص (125).
[10] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، (1/13).
[11] جامع البيان، الطبري، (6/581).
[12] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، (3/155)، وتفسير آيات الأحكام، السايس، (1/160)، وأضواء البيان، الشنقيطي، (1/149).
[13] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، (3/159)، وأضواء البيان، للشنقيطي، (1/283).
[14] مغني اللبيب، لابن هشام، ص (706)، والإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، (2/311).
[15] إعراب القرآن الكريم، الدرويش، (3/530-531).
[16] مغني اللبيب، لابن هشام، ص (707). إعراب القرآن الكريم، الدرويش، (3/535).
[17] إعراب القرآن الكريم، الدرويش، (8/222)، والكشاف عن حقائق التنزيل، للزمخشري، (4/27).
[18] مغني اللبيب، لابن هشام، ص (741).
[19] إعراب القرآن الكريم، منسوب لابن سيده، ص (16).
[20] جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري، (9/398).
[21] تفسير البحر المحيط، لأبي حيان، (1/103).
[22] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، (8/22).
[23] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (1/13)، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، (4/497).
[24] شرح الرضي على كافية ابن الحاجب، (3/412).
[25] أضواء البيان، للشنقيطي، (7/ 266).
[26] أحكام القرآن، لابن العربي، (7/33).
[27] الخصائص، لابن جني، (1/284).
[28] علم إعراب القرآن، يوسف العيساوي، ص (283).
[29] أضواء البيان، للشنقيطي، (2/104). والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، (8/43). وإعراب القرآن وبيانه، الدرويش، (4/38).
[30] زاد المعاد، لابن قيم الجوزية، (1/35-36).
[31] إعراب القرآن الكريم، الدعاس، (1/437).
[32] أضواء البيان، الشنقيطي، (2/104). وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (4/86).
[33] الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، محمد شحرور، ص (224).
[34] ينظر: بيضة الديك: نقدٌ لغويٌّ لكتاب «الكتاب والقرآن» لمحمد شحرور، إعداد يوسف الصيداوي. وبؤس التلفيق، نقد الأسس التي قام عليها طرح محمد شحرور، ليوسف سمرين. وما جاء من ردود في الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) على علي منصور الكيالي.
[35] جاء في كتاب العامي الفصيح، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، باب الجيم، كلمة (جاب):» الجيب (عند العوام): ما توضع فيه الدراهم ونحوها، ولا يعرفون استعمال هذه الكلمة في معناها الفصيح، وهو ما يُدْخَلُ منه الرأس من الثوب والقميص ونحوهما».
[36] الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، محمد شحرور، ص (606).
[37] المعجم الوسيط، مجموعة من المؤلفين، (١/١٤٩)، وتاج العروس، للزبيدي، (٢/٢١٠)، والتحرير والتنوير، لابن عاشور، (١٨/٢٠٨)، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (٦/٤٦)، وتفسير آيات الأحكام، للسايس، (١/٥٨٧)، وتفسير الجلالين، (١/٤٦٠).
[38] ديوان طرفة بن العبد، ص (29).
[39] أخرجه البخاري (1232)، ومسلم (296).
[40] لسان العرب، لابن منظور، (11/ 184)، والقاموس المحيط، للفيروزآبادي، (1/1278). والمحكم والمحيط الأعظم، لابن سيده، (4/5)، والمخصص، لابن سيده، (2/403)، وتاج العروس، للزبيدي، (28/365)، وتهذيب اللغة، للهروي، (5/155)، والمصباح المنير، للفيومي، (1/292).
[41] المبسوط، للسرخسي، (2/295)، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي، (1/363). وفتح القدير، للشوكاني، (5/27).
باحث في الدراسات العربية والإسلامية.
1 تعليق
التعليقات مغلقة