قضايا معاصرة

أثر المستشرقين على الفكر الإسلامي

كان ظهور الاستشراق والمستشرقين علامةً فارقةً في تاريخ الحضارتين الإسلامية والأوربية؛ فبينما كان عاملًا مهمًا في نقل خلاصة الحضارة الإسلامية لأوروبا خلال عصور النهضة الإسلامية، فأسهم في ظهور النهضة الأوربية وتطورها، كان من عوامل الطعن في الحضارة الإسلامية حينما ضعفت الأمة الإسلامية وتراجعت في عدد من الميادين.. مع التسليم بوجود مستشرقين منصفين، وآخرين كانت لهم بحوث ومنتجات إيجابية. وفي هذا المقال إطلالة على أهم آثار المستشرقين على الفكر الإسلامي المعاصر.

مفهوم الاستشراق:

الاستشراق (Orientalism) باللغة الإنكليزية مشتق من الشرق عكس الغرب، وهو يعني طلب علوم الشرق.

ومن هنا تدلُّ كلمة الاستشراق على الاهتمام بما يحتوي عليه الشرق من علوم ومعارف وثقافات وميزات وسمات حضارية متنوعة.

يقول إدوارد سعيد: «إن لفظ الاستشراق لفظ أكاديمي صرف، والمستشرق هو كل من يدرس أو يكتب عن الشرق أو يبحث فيه، وكل ما يعمله هذا المستشرق يسمى استشراقًا.. وهو بإيجاز أسلوب غربي للسيطرة على الشرق وامتلاك السيادة عليه»[1].

والاستشراق أيضًا يعنى الدراسات الغربية المتعلقة بالشرق الإسلامي في لغاته وآدابه وتاريخه وعقائده وتشريعاته وحضارته بوجه عام. وهذا المعنى هو الذي ينصرف إليه الذهن في عالمنا العربي الإسلامي عندما يطلق لفظ استشراق أو مستشرق[2].

والمستشرق هو الإنسان الذي وهب نفسه للبحث والاهتمام بما يتعلق بالشرق، وما يدور فيه من علوم ومعارف، وقيم وحضارات، وفى مجالات مختلفة[3].

إسهامات المستشرقين العلمية:

بحث المستشرقون في التاريخ العربي والإسلامي، وعلم الكلام، والشريعة، والفلسفة، والتصوف، وتاريخ اللغة العربية وآدابها، والدراسات المتعلقة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، والنحو العربي، وفقه اللغة العربية. وبلغ ما ألفوه منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين ستين ألف كتاب[4].

وبينما يوجد لبعضهم مؤلفات ذات فائدة علمية للباحثين الغربيين والمسلمين على السواء، كالمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، يوجد لبعضهم مؤلفاتٌ تمتلئ بالطعن في الإسلام وتمتلئ بالأكاذيب والافتراءات التي ليس لها في سوق العلم والمعرفة رواجٌ ولا نصيب.

لبعض المستشرقين مؤلفات ذات فائدة علمية للباحثين الغربيين والمسلمين على السواء، كالمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ولبعضهم مؤلفاتٌ تمتلئ بالطعن والأكاذيب والافتراءات

ويوجد بعض المستشرقين المنصفين للحضارة الإسلامية مثل (رينو) الذي ترجم جغرافية أبي الفداء في أواسط القرن الماضي، و(دوزي) الذي كتب عن قرون الأنوار العربية في إسبانيا، و(سيديو) الذي بذل جهده من أجل أن يحقق للفلكي والمهندس العربي أبي الوفاء لقب المكتشف لما يسمى في علم الهيئة: القاعدة الثانية لحركة القمر[5]، وقد كانت بحوثهم من أجل خدمة مجتمعهم الغربي في المقام الأول.

ولكي ندرك هذا الأثر الاستشراقي على صورته الحقيقية في مجتمعنا الإسلامي، يجب أن نعيد هذا النوع من الاستشراق إلى مصادره التاريخية. فأوروبا اكتشفت الفكر الإسلامي في مرحلتين من تاريخها:

فكانت الأولى في مرحلة القرون الوسطى، والهدف منها اكتشاف هذا الفكر وترجمته من أجل إثراء ثقافتها بالطريقة التي أتاحت لها فعلًا الوصول إلى النهضة منذ أواخر القرن الخامس عشر[6].

والمرحلة الثانية: في العصر الحديث ومرحلة الاستعمار، حيث استكشفت الفكر الإسلامي مرة أخرى للسياسة لا الفكر؛ فقد أرادت أن تكون خططها السياسية مطابقة لما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية من ناحية، ولتسيير هذه الأوضاع طبق ما تقتضيه هذه السياسات في البلاد الإسلامية لتسيطر على الشعوب لسلطانها[7]، إلا أن هذا اللقاء الجديد (بين الشرق والغرب) وقع في ملابسات تاريخية لم يكن فيها العلم الإسلامي علمًا حيًا يُنقل من أفواه الأساتذة مباشرة ومن كتبهم المعاصرة بل أصبح أشبه شيءٍ بعلم الآثار يكتشفه الباحثون الأوروبيون بحكم الصدفة ويصدُقون أو لا يصدُقون في نقله، ثم ينسبونه لأصحابه من العلماء المسلمين كالمستشرق (سيديو) و(غوستاف لوبون). أو ينسبونه لأنفسهم أو لأحد الأوروبيين، فهكذا كانت اكتشافات كبرى نُسبت لغير أصحابها، مثل دورة الدم الصغرى للإنجليزي (وليام هارفي) بينما كان صاحبها هو الطبيب ابن النفيس[8].

كما تجدر الملاحظة أيضًا أن العالم الإسلامي أصبح في هذه الظروف يعاني من الصدمة التي أصابته بها الثقافة الغربية، ويعاني بسببها على وجه الخصوص أثرين: مواجهة مركّبِ نقصٍ محسوسٍ من ناحية، ومحاولة التغلب عليه من ناحية أخرى حتى بالوسائل التافهة، لقد أحدثت هذه الصدمة عند بعض المثقفين المسلمين شبهَ شللٍ في حصانتهم الثقافية.

حاصلُ الأمر أن الصدمة التي حصلت للضمير الإسلامي منذ القرن التاسع عشر تجاه الحضارة الغربية كانت محسوسةً في عالم أفكارنا على وجه الخصوص، وفي مجال الأفكار العلمية بالذات، واستَعَرَتِ الدعوات للعلمانية التي هي بالنسبة للفكر الإسلامي عمليةُ تعويضٍ في الميدان الذي شعر فيه بتحدي الحضارة الغربية.

تحاول طائفة من المستشرقين جعل الحضارة الإسلامية العربية قاصرةً على مجرد تبليغ ما أنتجه اليونان والرومان، في محاولة من هؤلاء المستشرقين بإيعازٍ واضحٍ من أوساط استعمارية، تحت رداء تقدميةٍ جوفاء تحاول سلب الإسلام من كل قيمة حضارية، بل تنسب له حالة التخلف الراهنة في العالم الإسلامي.

تحاول طائفة من المستشرقين جعل الحضارة الإسلامية العربية قاصرةً على مجرد تبليغ ما أنتجه اليونان والرومان، في محاولة منهم لسلب الإسلام من قيمه الحضارية، وينسبون له حالة التخلف الراهنة في العالم الإسلامي

ولا شك أن بعض المثقفين بحسن نية أو بقصدٍ غدَوا آلاتٍ مسخَّرةً بين أيدي متخصصي الصراع الفكري، سائرين على أثر أساتذتهم الغربيين، لا يختلفون معهم إلا في مهارة الأسلوب والتزوير في الصيغة، ويلتقون مع أساتذتهم في الانتقاص من سوابق الفكر الإسلامي، ولكن يمتازون في إحاطة مستقبله بالريبة بتلك الثرثرة التقدمية كما نجد ذلك واضحًا في كتاب (الأيديولوجيات العربية في محضر الغرب) للمراكشي وبتقديم من مكسيم رودنسون[9].

نماذج للانحراف الفكري تأثرًا بالفكر الاستشراقي:

وسنعرض هنا لأبرز الكتب التي تشكّل تجليًا واضحًا لمدى التأثُّر بفكر وإنتاج المستشرقين، والتي تركت أثرها في الساحة الفكرية والثقافية لدى المسلمين:

  • «الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية» لخليل عبد الكريم الناصر: للكاتب كتب متعددة غير هذا أثارت زوبعة في الحياة الثقافية في مصر بسبب جرأته على الثوابت في الشريعة الإسلامية، يقول في كتابه هذا: «إن هذه الشريعة التي ينادون بها هي مجرد تعاليم كان يقول ويأخذ بها عرب الجاهلية، ثم جاء محمد، فأخذ هذه التعاليم، وأعمل فيها عقله وفكره حتى بدت وكأنها شيء جديد». وقال: «هل تصلح هذه التعاليم التي كان يطبقها بدو الصحراء قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا لكي تحكمنا اليوم؟»[10]، ويذهب أبعدَ من ذلك حين يشكّك في صحة القرآن من خلال تمييزه بين القرآن المتلو والقرآن المكتوب في عهد عثمان بن عفان t فيقول: «هذه المفارقة الصارخة تدعونا أو تضطرنا للتمييز بين القرآن المقروء أو المتلوّ.. وبين القرآن المكتوب الذي دُوّن إبّان عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان الأموي.. أما القرآن المدوَّن أو المكتوب فتغلّفه القداسة.. تحوطه أسيجة منيعة وأسوار عالية يقف عليها حجّاب وسدنة مرازبة يحولون بين أي إنسان والاقتراب منه.. وكنتيجة حتمية له فإن التفاسير الحديثة ليست للقرآن المجيد إنما هي للتفاسير التراثية السلفية القديمة التي مرت عليها قرون»[11]، ومعنى قوله هذا: أنَّ القرآن الذي أنزله الله غير المقروء في المصاحف الآن، وأنه من فعل عثمان بن عفان.
    فهو يؤكد على فكرة تاريخية القرآن، وأنه منتج ثقافي عَمِل عليه النبي ﷺ، وهو ما نادت به العلمانية حيث ترفع القدسية عن أي نص، وتتعامل مع جميع النصوص المقدسة على أنها منتج بشري تاريخي قابل للتعديل بل والإلغاء، وهي فكرة قديمة رُوّجت في الغرب نهاية العصور الوسطى على إثر تزايد نشاط حركات الإصلاح الديني وبدء تنامي النظرة العلمانية[12].
  • «قراءات في القرآن: الوصية الفكرية الاخيرة» و«الإسلام بين الأمس والغد» و«الفكر الإسلامي: قراءة علمية» لمحمد أركون: ينطلق أركون من ملاحظة يعتبرها منهجية بخصوص التعامل السائد مع النص القرآني، فهو يرى أن المسلمين يستهلكون القرآن في حياتهم اليوميّة (يعملون بتعاليمه)، ولا يخضعونه للدراسة والتفحص العلمي الحديث، وأنه لا بد من اعتبار النص القرآني غنيًا ومنفتحًا على عدة احتمالات، أي إنه معروض للفكر الإنساني أن يتأمله ويفكر فيه دون انقطاع[13]، وهذا عين ما تُدندن حوله طروحات علمنة النص من نزع القداسة عنه ومعاملته كمنتج بشريٍّ خاضعٍ لجميع أشكال النقد.
    أما بخصوص الجهاد فهو يقرر أنّه تم تقديم الجهاد على أساس أنّه نضال في سبيل الله، ولكنه في الواقع يمارس دوره طبقًا لمجريات معتادة للصراع الذي قد يندلع بين الفئات الاجتماعية.. فمجريات الجهاد وأساليبه كانت هي نفسها مجريات وأساليب الصراعات والحروب السابقة على الإسلام، فقد استُخدم مثلها: أسلوب الحصار ونصب الكمائن والقتل والأسر وأخذ الغنيمة. وكانت لها نفس غاياتها، أي التوصل إلى السلطة ثم التوسع وترسيخ الدولة.
    وفي موضع آخر يقول أركون: «كان البابا يوحنا بولس الثاني قد أعلن قبل فترة قصيرة (في ۱۲/۳/۲۰۰۰) توبة عامة عن جميع أعمال العنف التي ارتكبها بعض المسيحيين على مدار تاريخ الكنيسة الطويل، كما واعتذر عن أعمال الاضطهاد التي حصلت والانحراف عن مبادئ الإنجيل، إن هذه التوبة ذات مدلول لاهوتي عالي المستوى، وتتخذ أهمية كبرى في سياق ثقافتنا الحديثة التي تفكر في العنف من خلال مبادئ فلسفية ومعايير قانونية كانت تستعصي على التفكير بالنسبة لأجيال المؤمنين السابقين حتى انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني على الأقل». يتضح من هذا النص ما يلي:[14]
    • حرص المؤلف على نقد الجهاد واعتباره صراعًا على السلطة والغنائم، بينما يمدح الكنيسة والبابا، بشيء ثبت عنهم أنهم لم يفعلوه (التوبة).
    • شمل النصارى تحت اصطلاح «المؤمنين السابقين»!
  • «الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة» لمحمد ديب شحرور: ويُعدّ هذا الكتاب نموذجًا صارخًا لعلمنة النص القرآني وسبك ما نادى به المستشرقون في قالب قرآني، ومن أبرز ما ورد فيه:

أولًا: دعواه بوجوب إخضاع القرآن للتأويل، يقول محمد شحرور: «لا بدَّ أن يكون القرآن قابلًا للتأويل، وتأويلُه يجب أن يكون متحركًا وفق الأرضية العلمية لأمة ما في عصر ما، على الرغم من ثبات صيغته، وفي هذا يكمن إعجاز القرآن للناس جميعًا»([15]).
نلحظ في كلامه هذا الدعوة الصريحة إلى التأويل المتحرِّك لمعاني القرآن دون الوقوف عند ثبات صيغته ودلالاته تؤدي إلى إفراغ النص من مضمونه ليصبح منطلقًا للأهواء والأعراف والتقاليد، وهذا حقيقةً ما توصَّل إليه محمد شحرور حيث أثبت معاني جديدة متناقضة بشكل كلي مع ما تقتضيه صيغة النص ودلالته[16].

يتبين للناظر أن أثر التحريف الذي جاء به المستشرقون لم يقتصر عليهم، بل تشربه عدد من مدعي العلم من بني جلدتنا، الذين بثوه في ثقافتنا المعاصرة، مما يحتم دراسة فكر كلا الفريقين، والوقوف على مصادر هذه الشبهات.

ثانيًا: تقسيم الوحي إلى كتب، والزعم أن لكل كتاب منها مهمة خاصة به؛ اعتمادًا على نفي الترادف في اللغة العربية، وتفسير النصوص الشرعية والحوادث التاريخية على غير ما هي عليه، وصولًا إلى إخراج الكثير من الأحكام من دائرة التشريع لأنها لم ترد في القرآن، الذي هو جزء من الكتاب[17].

  • «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» و«أوروبا والإسلام: صِدام الثقافة والحداثة» و«الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية» و«الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر» لهشام جعيط: ويبدو تأثُّر الكاتب الشديد بالفكر الاستشراقي؛ فهو يقتفي نظرية تيودور نولدكه التي اعتبر فيها أن النبي ﷺ إنما انطلق في دعوته من هاجس نفسي تخيَّل أنه وحيٌ من الله تعالى. كما اعتبر نولدكه أن الإسلام في جوهره دينٌ يقتفي آثار المسيحية أو بعبارة أخرى أن الإسلام هو الصيغة التي دخلت بها المسيحية إلى بلاد العرب كلها[18]، حيث يقرر أن محمدًا ﷺ حَمَلَ طويلًا في وحدته ما تسلّمه من الغرباء وجعله يتفاعل وتفكيرَهُ ثم أعاد صياغته بحسب فكره، حتى أجبره أخيرًا الصوتُ الداخليُّ الحازمُ على أن يبرز لبني قومه. ومن هذا المنطلق يضع هشام جعيط تصورًا للإسلام أنه تأثر بدرجة كبيرة جدًا بالفكر المسيحي،[19] فيقول: «ومن دون المسيحية الشرقية لم يكن ليظهر محمد»[20].

ويتضح مدى تأثره كذلك من خلال توضيحه لمنهجه في مشروعه في السيرة النبوية في النقاط التالية: حيث جرّد القرآن والنبي وكلَّ مقدسٍ من قداسته، ليصبح معطىً قابلًا للتحليل والنقد، ويُقارن ببقية المصادر البشرية.

كما نزع الثقة من كل المصادر التاريخية ابتداء بالتشكيك في القرآن الكريم، ثم كتب التاريخ والسير والغزوات.

من نماذج كتاباته: تفسيره لكلمة (مجنون) و(به جنة): أفرد فصلًا كاملًا في كتابه: (الوحي والقرآن والنبوة) بعنوان: (النبوة والجنون) وتعرض في ثناياه لتفسير كلمة (مجنون) و(به جنة)، التي قالها مشركو قريش في معرض اتهاماتهم للنبي ﷺ، وعلل هذا الاتهام بأنه: «من مركزِ رفضٍ في البداية تم توصيف النبي بعدة صفات كما يشهد على ذلك القرآن – مأخوذة عادة من ثقافتهم الخاصة»[21]، ثم فسر الجنون في الاتهام فقال: «واضح أن «الجنون» في القرآن لا يعني الاختلاط العقلي وذهاب العقل والتميز، بل المقصود بذلك أن محمدًا مسكونٌ من الجِنة، أو له تابعٌ منهم ممتلِكٌ له يُملي عليه أقواله بصفة من الصفات»[22].

ويقول: «كلمة «الجن» مأخوذة عن اللاتينية «جينيوس» التي كانت أصلًا تعني الإله، ثم تطور معناها في اللغات اللاتينية، لتعني القوة الإلهامية لدى الشاعر والفنان. وكانت كثير من الحضارات بل كلها تقريبًا ترى أن إجابات المتنبئين بالمستقبل إنما هي وحي إلهي، أو أن الشعر يأتي -تشبيها بذلك- عن إله ثم عن شيطان داخلي أو تابع ما خارج عن الإنسانية»[23].

إلى أن يقول: «واختلال العقل بسبب المرض مفهومٌ بعيدٌ عن الثقافات القديمة، وبالتالي، فـ«الجنون» و«الجنة» بالمعنى القرآني أي القرشي، لا يعني فقدانَ العقل وقوى التمييز وحسِّ الواقع، لكن بناء علاقة مع من يكون الشخص مسيطَرًا عليه فيها أو مسيطِرًا. ولا يمكن الاعتماد على ما ذكرته سيرة ابن هشام من أن قومه عرضوا عليه أن يطلبوا له «الطب»[24].

يتبين تعسُّفُ هشام جعيط في إرجاع كلمة (مجنون) و(به جنة) إلى أصل لاتيني بينما هي مشتقة من مادة عربية صِرفة.

لو سلمنا هشام جعيط بما قاله -وهو غير سليم- فما الفائدة من رفض أو قبول تفسير المفسرين السابقين المعني (به جنة) و(مجنون) بالجنون الذي يعني ذهاب العقل، فهل هذا سيؤثر في تأصيل ظاهرة الوحي! إلا أن يكون الهدف من هذا التنظير والتقصّي هو تأكيدُ شكٍّ مسبقٍ في ألوهية القرآن، وهو مرتَكَزٌ أساسيٌّ في تعامل هشام جعيط مع القرآن الكريم. إن ما يهمنا في هذا الاتهام هو أنه اتهامٌ قاله كفار قريش للهرب من التسليم لمحمد ﷺ بالنبوة والرسالة، فأنكرها الله تعالى عليهم وقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ [المؤمنون:٧٠]، وقال: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم:٢]، وقال: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ [التكوير:٢٢].

وختامًا:

بهذا يتبين أنَّ أثر التحريف الذي جاء به المستشرقون لم يقتصر عليهم، بل تشربه عدد من مدعي العلم من بني جلدتنا، الذين بثوه في ثقافتنا المعاصرة، وانتشر في بعض الأوساط، مما يحتم دراسة فكر كلا الفريقين، والوقوف على مصادر هذه الشبهات، مما يعين على التعامل معها ونقضها.


د. محمد بن سليمان الفارس

أستاذ علم الاجتماع بجامعة ماردين آرتوكلو، مدرس سابق بجامعة حمص.


[1] الاستشراق، لإدوارد سعيد ص (٤٤).

[2] الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، د.محمود زقزوق ص (١٨).

[3] المصدر السابق ص (١٨).

[4] الاستشراق: أخطر تحدٍ للإسلام، شاكر شوق ص (٧٣).

[5] إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، لمالك بن نبي ص (٧).

[6] المصدر السابق ص (٩).

[7] المصدر السابق ص (٩).

[8] المصدر السابق ص (١٠).

[9] المصدر السابق ص (٢٣).

[10] الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، خليل عبد الكريم ص (١١).

[11] إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، خليل عبد الكريم: ص (١٤٢-١٤٣).

[12] الاتجاهات المنحرفة في التفسير في العصر الحديث، لعادل بن علي الشدي ص (٢٣٨).

[13] الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، محمد أركون ص (٩٣).

[14] الإنسان والقرآن وجهًا لوجه، حميدة النيفر ص (١٣٧).

[15] الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة محمد شحرور ص (٦٠).

[16] المصدر السابق ص (٥١-١٠٠).

[17] الإنسان والقرآن وجهًا لوجه، حميدة النيفر ص (١٠٣-١٠٤).

[18] ينظر: في السيرة النبوية، تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، هشام جعيط ص (١٧٣).

[19] المصدر السابق ص (١٦٤).

[20] الاتجاهات المحرفة في التفسير في العصر الحديث، عادل الشدي ص (٣١٨).

[21] في السيرة النبوية: الوحي والقرآن والنبوة لهشام جعيط: ص (٨٤).

[22] المصدر السابق ص (٨٥).

[23] المصدر السابق ص (٨٦).

[24] المصدر السابق ص (٨٩-٩٠).

1 تعليق

  • […] يقول إدوارد سعيد: «إن لفظ الاستشراق لفظ أكاديمي صرف، والمستشرق هو كل من يدرس أو يكتب عن الشرق أو يبحث فيه، وكل ما يعمله هذا المستشرق يسمى استشراقًا.. وهو بإيجاز أسلوب غربي للسيطرة على الشرق وامتلاك السيادة عليه»[1]. […]

التعليقات مغلقة

X