دعوة

وكم لله من لطفٍ خفي!

العالم -كل العالم – اليوم قد انقلب رأساً على عقب من جراء وباء الكورونا، وقد ظهرت أضراره الكثيرة وتكاليفه الباهظة في شتى مجالات الحياة. لكن قلة من الناس من ينظر إلى ألطاف الله الخفية فيما يجري، من جلب خير أو دفع شر أعظم، ويعلم ما يجب عليه من وظائف وواجبات في هذا الظرف خاصة.

العدد الثاني

شعبان 1441 هـ – نيسان/أبريل 2020 م

أ. هانيا محمد مصري[1]

المراقب للأوضاع العسكرية والسياسية في الساحة منذ عدة سنوات يكاد يجزم أنَّ حربًا كونية توشك على الوقوع؛ فنُذُرها كثُرت والقادة يتصارعون، أحلافٌ تنهار وأخرى تقوم، ومراكز القوى تتغير، والكبار يتجاذبون قطعة الكعك، ويتناوشون بصواريخهم وقنابلهم.

أما المراقب للحال الاقتصادية الخاصة والعامة فليس أقل تشاؤمًا من ذاك؛ إذ تكررت الانهيارات في العقود القليلة الماضية، والركود يلقي بظلاله ولا مخرج -عادة في رأي المتحكمين في هذا العالم- من الركود إلا بحرب تحرق الأخضر واليابس؛ لتحرك عجلة الآلة العسكرية وتعيد انتعاش الاقتصاد.

وفي المقابل نرى ظلمًا وتجبرًا وطغيانًا قد فاق الظلم الكائن في تاريخ البشرية مجتمعًا، ووقع غالبه على عباد الله الموحدين لا لجرم إلا أن يقولوا ربنا الله، وعمَّ الاستكبار والإلحاد وتُفُكِّه به في النوادي، وفَشَت الفواحش وقُنِّن للشذوذ وحُورب أهل الفضيلة والطهر، وفسدت الروابط الاجتماعية وسادت الفردية، كما حوربت الأسرة والزواج لصالح العهر والبغاء، أما على مستوى الأخلاق فقد استُعلن بالرذائل وبارز الخلق ربهم بالمعاصي جهارًا، ليلاً ونهارًا وأُنفقت في ذلك أموال الأمم.

استُضعف أهل المعروف واستقوى أهل المنكر، وبُدل دين الله، وشاع العقوق والتباغض والتفاخر بالدنيا..

واستوجب الخلق العقوبة..

المشهد مرعب، فهل أَمِن الناس أن ينظر الله إليهم بِمقته كما نظر إلى أهل الأرض قبل بعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب؛ وهم من كان ثابتًا على آثار النبوة السابقة؟!

 فهل أَمِن الناس أن ينظر الله إليهم بِمقته كما نظر إلى أهل الأرض قبل بعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب؛ وهم من كان ثابتًا على آثار النبوة السابقة

أيفهم هذا الإنسان حقيقة مقت الرب الملك الجبار لأهل الأرض؟!

ترى كيف كان الحال لو قامت مثل هذه الحروب؟

كم سيكون حجم الرعب والهلع والتشرد والقتل، والدمار وانتهاك الإنسانية الذي سيلحق بنا، خاصة من يقطن في بؤر الصراع ومعاقد النزاعات؟

لكن الملك القهار أرسل مخلوقًا واحدًا فردًا من خلقه متناهٍ في الصغر.. أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الملساء في الليلة الظلماء، كائنًا لا يكاد يُرى بالمجاهر..

عطَّل حركة البشرية وتنقلاتها، أوقف الاقتصاد، وعرقل خطط التنمية والصناعات والاختراعات.. أوقف خطط الحروب وآلاتها، وفكَّ آلاف المعتقلين والمسجونين. أوقف الربا والمكوس، وأذل الجبابرة والطغاة وأرغم معاطسهم.

وأفحم الملاحدة حتى أقروا بقدرة العظيم الجبار وخضعت ألسنتهم وقلوبهم لجبروته، أوقف مجمعات الخنا والفجور، وحفلات الرقص والطرب، ستر العورات، وفرَّق المختلطين رغمًا عنهم..

لكن.. بلطف وخفاء..

حقًا إن الوفيات بالمئات أو الألوف في كل بلد، وأن الأرقام تتصاعد، وهذا، مؤلم، ويثير الهلع في النفوس!

لكن يا ترى كم كان سيموت مع كل صاروخ نووي كان يمكن أن يلقى؟!

وكم لله من لطف خفي!

الشعوب الآن قرّت في بيوتها لتأمن من عدوى الفيروس، لكن من كان سيحميها من التشريد والسلب والنهب وهتك الأعراض لو كان الحرب هو البديل؟

وكم لله من لطف خفي!

سيتألم أفراد بسبب هذا المرض، ويموت آخرون، ويجوع آلاف.. لكن هل يقارن هذا بأعداد القتلى والمشوهين والمشردين والجائعين لو كانت الحرب هي البديل..

وكم لله من لطف خفي!

وحقًا أنه توقفت الأعمال وغلت الأسعار، وعطلت المساجد، وأوقفت الجمع، في أغلب جوامع الأرض، إلا قليل نادر، وتوقفت حلق الذكر..

 ولكن لازال لطف الله جار فما توقف واقعا تحرك افتراضا عبر وسائل بديلة عديدة، والداعية الذي كان يحضر درسه العشرات بات الحضور له بالآلاف عبر شبكات التواصل المختلفة، والدرس يكرر مرتين وثلاثا في اليوم الواحد..

وكم لله من لطف خفي!

توقَّف الاختلاط، وغُطيت الوجوه، وقرّت النساء، وانشغل كل فردٍ بخاصّة نفسه وأهله، ولُمّ شمل الأسر، وظهرت خيرية الأمة وتعاضدها وتكاتفها، وانتشرت مجالس العلم، وآب كثير من الناس لربهم.. بلطف وخفاء..

ويبقى المسلم وقّافًا عند آيات الله متأمِّلًا فيها، يستمدُّ العبر ويتَّعظ بالحوادث.

فلعل ما حدث استوجبناه بأعمالنا وآثامنا: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41].

وتأمل قوله: {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} وليس كله!

وهذا يستوجب الرجوع لله تعالى بالتوبة الصادقة  ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، والذلة والانكسار بين يديه: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: 42].

ويبقى المسلم وقّافًا عند آيات الله متأمِّلًا فيها، يستمدُّ العبر ويتَّعظ بالحوادث

وقد نعى الله على أقوام وعظهم وزجرهم بأنواع الابتلاءات فلم يتعظوا: ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾[التوبة: 126].

فليحذر المسلم أن يكون كالمنافق ابتلي ثم عوفي فلم يفقه عن ربه لمَ ابتلاه ولا لمَ عافاه..

روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ يَفِيءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا، فَإِذَا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ، وَكَذَلِكَ المُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلاَءِ، وَمَثَلُ الكَافِرِ كَمَثَلِ الأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ)[2].

فالمؤمن ينزل به البلاء فيتعظ ويرجع ويتوب، يميل مع البلاء يمنة ويسرة، أما المنافق فلا يهتز لبلاء وقع ولا يتعظ لآية نزلت، حتى يكون هلاكه مرة واحدة، كشجرة الأَرز لا تهزها ريح حتى يكون وقوعها مرة واحدة، أعاذنا الله.

المؤمن ينزل به البلاء فيتعظ ويرجع ويتوب، يميل مع البلاء يمنة ويسرة، أما المنافق فلا يهتز لبلاء وقع ولا يتعظ لآية نزلت

وظائف المؤمن عند البلاء:

الكيّس من تفكر فيما نزل بأهل الأرض، وقام لله بما وظفه فيه، ولم ينشغل عما أريد له..

وللمؤمن وظائف عدة عند البلاء، منها:

تفويض الأمر كله لله، واليقين بأنه وحده المتصرف في الكون بما يشاء وكيف يشاء ومتى شاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

الطمأنينة إلى كفاية الله وعدله وحكمته.

الاجتهاد في الأخذ بأسباب العافية الشرعية (كالأذكار) والقدرية (التي ينصح بها أهل الطب والخبرة والرقية واستعمال الطب النبوي الوقائي)

الاستسلام لقضاء الله وق   دره والرضى بما ينزل به فيتقلب المرء بين الشكر على النعمة والعافية، والصبر على البلاء والمرض.

الرجوع إلى الله بالتوبة والذلة والاعتراف بالذنوب، والخوف من نزول العقوبة، واستدفاعها بالإخبات والإنابة.

تفقُّد آفات النفس وأخلاقها الردية وتزكيتها قبل أن تتفلت.

تفقُّد أوامر الله التي أمره بها، فما قصر فيه عمله، وما تباطأ فيه بادر إليه، متعلما أحكامها مقيما لها على الوجه الذي يرضيه عنه.

تفقُّد نواهيه وحدوده فيتوب مما اقترفه ويعيد المظالم والحقوق لأهلها.

أخذُ نفسه وأهله بشرع الله، وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعلم العلم الشرعي وتعليمه والعمل به، والاشتغال بكل قربة لله يقدر عليها.

استنزالُ رحمة الله بالعكوف على القرآن وشغل عمره به تلاوة وحفظا وفهما وعملا واستماعا «لعلكم ترحمون»

الاجتهاد في إيصال البر والإحسان للخلق ﻓ «إن رحمة الله قريب من المحسنين».

التفكر في حكم الله البالغة، وألطافه الخفية، ورحمته الواسعة، والقيام لله بواجب الحمد والشكر.

الاستعداد للموت بأحسن ما يستطيعه الإنسان، فالموت آتٍ لا محالة ..

من لم يمت بالطعن مات بغيره

                                          الموت حق والورى فانونا

الأخذ بالآداب الشرعية كحمد الله عند رؤية المبتلى، وسؤال الله العافية، وعدم الشماتة بمسلم.

ومن قدر الله عليه الإصابة بالمرض فعليه واجب الصبر ليكون كفارة لذنبه، فإن احتسب الأجر وشكر فزيادة في حسناته ورفعة في درجاته، فإن رضي فتلك منازل أولياء الله.. وعليه أخذ كافة الاحترازات لئلا يكون سببا في نقل المرض فلا يورد ممرض على مصحّ، ولا ضرر ولا ضرار.

ربَّنا إن الوباء يستشري، والموتى بالآلاف، ولا مُغيث إلا أنت، أنت القادر فلا مُعجز لك، وأنت الرحيم سبحانك، نعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وبرضاك من سخطك وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

 نعوذ بك من تحوُّل عافيتك وزوال نعمتك وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

ربنا قد استوجبنا العقوبة وأنت أرحم الراحمين، فارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء أنت ربُّ المستضعفين وربنا، توكَّلنا عليك أنت نعم المولى ونعم الوكيل.


[1]  داعية ومربية

[2] أخرجه البخاري (7466، ومسلم (2810).

X