الورقة الأخيرة

اذهب إلى فرعون

خرج من المدينة خائفًا يترقب، فآواه الله في مدين بأهلٍ ومال، ولمّا عاد بأهله بعد سنين ناداه الجليل تبارك وتقدَّس في عليائه: ﴿‌أَنْ ‌يَامُوسَى ‌إِنِّي ‌أَنَا ‌اللَّهُ ‌رَبُّ ‌الْعَالَمِينَ﴾، وأمدّه بالبراهين والآيات ليذهب وأخاه إلى فرعون لأنه طغى ﴿‌فَقُولَا ‌لَهُ ‌قَوْلًا ‌لَيِّنًا ‌لَعَلَّهُ ‌يَتَذَكَّرُ ‌أَوْ ‌يَخْشَى﴾.
لم تكن رسالةً يحملها جبريل عليه السلام، إنما كلامٌ مقدس مُباشِر، ﴿‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى ‌تَكْلِيمًا﴾، مثل التكليف بالصلاة في رحلة المعراج النبوي إلى السماء؛ فأعطى ذلك الوحيُ المباشرُ درجةً أرفع ووزنًا أثقل لهذين التكليفين العظيمين: الصلاة، ومقاومة الطغيان.
صلاةٌ فُرضت على الكليم محمد صلى الله عليه وسلم وهو في السماء، لتنقل قلب المصلي إلى العلياء، فيمتلك قوة القيام بالتكليف الآخر الذي فرض على موسى الكليم -عليه الصلاة والسلام- وهو في الأرض محل تجبر ملوك الأرض.
بقدر إقامة الصلاة تَعظُمُ القدرة على مقاومة الطغيان؛ لذا وجدنا أرقّ الصحابة رضي الله عنهم قلبًا وأكثرهم بكاءً في صلاته أصلبَهم عند موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأثبتهم في مقاتلة المرتدين، وأقواهم في إنفاذ جيش أسامة إلى الشام والأعداءُ يتربَّصون بالمدينة. يُذكِّرنا هذا بقول أحد خبراء القيادة الغربيين: “يجب أن تعيش بين الناس لتعرف مشاكلهم، وأن تقترب من الله لتحلّ هذه المشاكل”( ).
يثور الناس على الطغيان من الصفر، بنوايا صافيةٍ وقلوبٍ صادقةٍ ونفوسٍ قوية، صادحين: (ما لنا غيرك يا الله). ثم مع طول أمد ثورتهم تكثر أسبابهم المادية البشرية فيتعلقون بها، وتغيب عنهم السنن الإلهية فيتعجّلون الظَفر والسيادة، وتزدحم المصالح العامة والخاصة فيضطرب ميزانهم فيها، وتغرقهم الماجريات فتُفقدهم تركيزهم على أهدافهم، ويرتفع من بعضهم خشوعه فتقسو القلوب وتبتئس النفوس، حتى إذا ما انكسروا في معركة من معارك الحرب الطويلة مع الطغيان: تسارع إليهم اليأس، وتشكّكوا في صحّة الطريق، وتلاوموا على أخطاءٍ طبيعية، وطحنتهم الخلافات الخلّبية، فلا قوةَ أبقَوا، ولا ثورةً نصروا، ولا سلاحًا ادَّخروا، ولا خُطّةً صنعوا، ثم تكثُر الانتكاسات عن الطريق، حتى لا يبقى إلا المتَّصلون بأسباب السماء.
يذكرنا المجاهدون الأبطال بالقوة المعنوية التي تحتضنها بيوت الله.. وقد جاء طوفان الأقصى ثورةً على طغيان امتدّت جذوره في الأرض عقودًا طويلة وأمدّته قوى الشرّ في العالم بأسباب البقاء، فرأينا صمودًا عجيبًا من المجاهدين وحاضنتهم الشعبية، لتفتح أعيننا على القوة المعنوية التي أثمرها التعلّق الطويل ببيوت الله على مائدة كتاب الله منذ الطفولة. لكن لن تكتمل صورة هذا الصمود وتتوّج بفرحة النصر حتى ينقطع من القلوب التعلُّق بإمدادات المصالح المتقاطعة، وحتى تتطهَّر ألسن القادة من امتداح القتلة أعداء الصحابة الأطهار، الذين أبت نجاستهم أن تقيم بيوتًا لله تعالى في عاصمة بلادهم، وحتى تنقطع الذريعة إلى الباطل بشيء من الحق، فإنَّ الطغيان لا يقاوم الطغيان.
تقوى قلوب المصلين الصادقين في مواجهة الطغيان، فيجمعون إلى قوة الحق في ذاته قوة الأسلوب في لينه؛ فلا يضعفون أمام الباطل ولا يهادنونه، ولا تغلبهم شهوة الغضب والانتقام، فيقدمون الحق البيّن بالقول الليّن، فتنفذ دعوتهم بسلاسة إلى قلوب المدعوين، ولا يمنعهم من لين القول أن يكون المدعو فرعونًا، فإن مقام الدعوة لا يحتمل إلا الرفق.
يتمدد اللين في صدورهم فلا يهدفون في دعوتهم إلى إقامة الحجة على الخصم المخالف، إنما يقصدون هدايته وصلاحه وتوبته ونجاته ومصلحته، فهم يترفقون بقلبه عسى أن ﴿‌يَتَذَكَّرُ ‌أَوْ ‌يَخْشَى﴾، ممتثلين بذلك أمر خالقهم الذي يعلم أن فرعون حطب جهنم، لكنه عز وجل لم يكلف الدعاة إليه إلا لين القول رجاء القبول.
لين القول ورجاء القبول لا يطيقهما إلا المصلون الخاشعون، وهما ركيزة قوتهم وبدايتهم الحاسمة في حسم معركة الطغيان عند وقوفه في وجه دعوة الحق.


د. خير الله طالب

X