الورقة الأخيرة

إنَّ معيَ ربي

سرى موسى عليه السلام بقومه للنجاة بهم، فتَبِعَهم فرعون بجُنده حتى صار البحرُ أمامَهم، فأيقنوا بالهلاك، فقال موسى واثقًا: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبيِّ سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62]. فأَمَرهُ الله أن يضربَ البحرَ بعصاهُ، فعَبَروا، وانطبق البحر على عدوِّهم ليكون لمن خلفه آية.

مشهدٌ يتكرَّر لأهل الإسلام: تدْلَهمُّ الخطوب، يتكالبُ الأعداء، يُحكمون الخطط، يُطلقون البرامج، يُنفقون الخزائن، يَبطشون بالجميع.. حتى ما يُظنَّ أن تبقى حياةٌ ولا أمةٌ ولا دين. ثم يبزغ الفجر من جديد.

أرصدوا شبابهم لقتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة هجرته، واشتدَّ كيدُهم ومكرُهم، فنجَّاه الله من مكرهم وفُتحت له البلاد، ودخل الناس في الدين أفواجًا. وارتدَّ ناسٌ عن دينهم بعد موته، وقُتل عمر وعثمان رضي الله عنهما ووقعت الفِتن حتى ظنَّ البعض أنَّ شجرة الإسلام ستسقط، وإذا بها تضرب عميقًا في الأرض وتبلُغ أغصانها أعالي السماء وأقاصي الأرض. وعندما تتابعت الحملات الصليبية واحتلَّت بيت المقدس، واجتاح المغول بغداد وجرت الأنهار بالدماء، وتآمرَ الحلفاء على دولة بني عثمان، وجثم الاحتلال والاستغراب.. إذا بحروب التحرُّر والتطهُّر منه تملأ بلدان العالم الإسلامي.

واليوم تجري محاولاتٌ مستميتةٌ لاجتثاث الفضيلة والأسرة والإسلام، وشرعنة الرذيلة والفُحش، وتجريم الحُرية والكرامة والعدالة، وتلفيق الأديان، وعقد الاصطفافات الدولية، والتسويات الجائرة على حساب الشعوب الناهضة، وغيرها من الأحداث والمكائد.. وتبدأ النفوس القلقة بالشعور بالعدّ التنازلي لبدء إعدامهم أو تشريدهم من جديد أو بيعهم على طاولة المفاوضات.

هنا يصيح الواثقون: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبيِّ سَيَهْدِينِ﴾. عَرَفوا غايةَ الوُجود، فتقلَّبوا في منازل الابتلاء، وعلموا أنها مراحلُ مطويّةٌ، بمقادير عُلويةٍ، وسُننٍ إلهية. وفهموا أنَّه حتى يكون الله معنا، فلا بدّ أن نكون معه، نستقي من وَحيه، وندور مع أمره، ونؤمن بقدره خيره وشره وحلوه ومره. يجِدون في كلام العلي الكبير أنَّه عزَّ وجلَّ مع الصابرين، ومع المتقين، ومع المؤمنين([1])، ﴿إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، وإذا كنتم كذلك من الصبر والتقوى والإيمان والإحسان ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 35].

تتجلَّى معيّةُ العبد لربه في بوصِلَة قلبه، من يُحبُّ؟ وهل يُقدِّم أمرَ المحبوب على كلِّ حبيب؟ ومن يرجو؟ وهل يَصدُقُ الطلبَ بيقين؟ دون استشراف ما بأيدي المخلوقين، وممن يخاف؟ وهل يترك ما يُغضبه ولو غضب الناس جميعًا، ولمن يعمل؟ وهل يتحرَّك ابتغاء وجه مولاه، أم ابتغاءَ وجوه عبيده خجلاً أو طمعًا أو خوفًا؟ وعلى من يعتمد ويتوكَّل؟ وهل يبذل الأسباب يقينًا في حُسن العواقب، دون همّ وقلق؟ ثم هل يهتدي بِنور الله ووحيه، بعيدًا عن الظنون والأوهام والروغان والتلفيق؟

العبادات القلبية هذه تبني إنسانًا بقوّة داخليةٍ تخترق أمواجَ الحياة الصعبة، ببصيرة فائقة في رؤية الأحداث بعين السُّنن، وباستقلاليةٍ مستقوية بصاحب الملكوت وحده عن التعلُّق بالأشخاص مهما كان صلاحُهم وإنجازُهم، ومهما بلغ تخويفُهم وبطشُهم، وبمعرفةٍ مكتفيةٍ بما أنزل الله. أولئك هم أقدرُ الناس على نسج العلاقات الصحية المتينة وبناء المجتمعات المنتجة الرصينة. وهم خريجو موائد القرآن وقدوات التربية.

تشرَّد أهل الشام من فلسطين كالأيتام في موائد اللئام، وهم اليوم يملؤون الساحات، ويُشكِّلون رقمًا صعبًا، وقضية القدس تفرض نفسها في جميع المعادلات، وإنما هو ثبات قلوب المرابطين في الأقصى، رغم المخمصة والمسغبة والرعب والعنف. وما أحوج أهل الشام الناهضين في سوريا إلى أن يتعلَّموا من إخوانهم استصحابَ الأمل ومُواصلة العمل، فمَن كان مع الله كان الله معه.

وسيبقى شعار المرابطين على ثغور قضاياهم كلما اشتدت الخطوب: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبيِّ سَيَهْدِينِ﴾.


 

د. خير الله طالب

 


[1] ﴿مع الصابرين﴾ (في خمس مواضع منها البقرة: 153)، ﴿مع المتقين﴾ (في ثلاث مواضع منها البقرة 194)، ﴿مع المؤمنين﴾ (الأنفال: 19).

X