تزكية

الثَّبَاتُ على الدين

يموج هذا العصر بسيول من الفتن والصوارف عن دين الله عز وجل، من أهم الواجبات على المسلم – في هذا العصر وفي غيره من العصور – الثباتُ على دينه، والاستمرار في الاستقامة عليه برسوخٍ وثقة ويقين، وعمود ذلك: طلب الثبات واستمداده ممن بيده الهداية: الله جل شأنه، ثم إن لهذا الثبات وسائل وأسباب يمكن للشخص أن يتحرَّاها ويطلبها حتى يتحقق له أو يقاربه، وهي ميدان تربية النفس وترويضها، والتنافس في العمل والاجتهاد فيه.

الثباتُ على الدين مطلبُ كلِّ مسلمٍ صادقٍ، ومنتهى كلِّ عابدٍ موفقٍ، وديدن الأنبياء والمرسلين، والأولياء الصالحين، والحاجةُ له ماسّة في كلِّ آنٍ وحين، وخاصةً في زمان كثر فيه المتساقطون على الطريق من عامة الناس وخاصتهم.

والثباتُ هو الدوامُ والاستمرارُ والرسوخُ والمتانةُ في ارتباط الشيء بما لُزّ به أو قام عليه.

وحقيقة الثبات هو الاستقامة على الطريق، قال السعدي: «الاستقامةُ: هي لزوم الصراط المستقيم بأن يستقيم العبد على الإيمان بالله، وأداء فرائضه، وترك محارمه، مداومًا لذلك، تائبًا مما أخلَّ به من حقوقها، ولهذا قال: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6]، أي: مما وقع منكم من الخلل في الاستقامة»[1].

والواجبُ على المسلم السَّداد؛ فإن لم يقدر عليه فالمقاربة، فإن نزل عن المقاربة، فلم يبق إلا التفريط والضياع.

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سدِّدوا وقارِبوا، وأبشروا، فإنّهُ لن يُدخِلَ الجنّةَ أحدًا عملُه. قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا، إِلّا أن يتغمَّدنيَ اللهُ منهُ برحمةٍ، واعلموا أنَّ أحبَّ العمل إلى اللهِ أدومُهُ وإن قَلَّ)[2].

وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالثبات على هذا الدين حتى الممات، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وقال أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

والثباتُ هو وصية الأنبياء والمرسلين لأبنائهم وأتباعهم، كما في قوله تعالى: {وَمَن يَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَٰهِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١٣٠ إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ أَسۡلِمۡۖ قَالَ أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٣١ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِـۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٣٢} [البقرة: 130-132].

وإذا كان الثباتُ على الإسلام وصيةَ الأنبياء والمرسلين، فإنه في زمان الاختلاف والافتراق يكون الثباتُ على الإسلام والسنة غايةَ كلّ أصحاب المنهج الحق.

قال الحسن البصريّ: «سنَّتُكم -واللهِ الذي لا إله إلا هو- بينهما بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمَكُمُ اللهُ، فإنَّ أهلَ السنَّة كانوا أقلَّ الناس فيما مضى، وهم أقلُّ الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإترافِ في أترافِهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سُنَّتِهم حتى لقُوا ربَّهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا»[3].

فإذا كان أهل الكفر يصبرون على كفرهم ويتواصون به فيما بينهم، كما قال الله عنهم: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص: 6]؛ فأولى لأهل الحق أن يصبروا على الحق ويصابروا، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، وقال أيضاً: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55].

أهل الحق أولى بالصبر والثبات وتحمل ما يصيبهم في سبيله

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فَأمره بالصبرِ وأخْبرهُ أنَّ وعدَ الله حقٌّ، وأمره أن يسْتَغْفر لذنبه. ولا تقع فتنةٌ إلا مِن ترك ما أمر الله بهِ، فإنَّهُ سبحانه أَمر بالحقِّ وأمر بالصبرِ، فالفتنة إمَّا مِن تركِ الحق وإمَّا مِن تركِ الصَّبْر»[4].

الله هو المثبِّت:

وقطبُ الرَّحى في عملية الثبات أن نعلمَ علم اليقين أنَّ الله هو المثبت، وأنَّ قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبُها كيف يشاء.

فاللهُ عزَّ وجلَّ يُثبتُ أولياءَه الصالحين في الحياة الدنيا والآخرة، والتثبيتُ هو وصفُه وفعلُه وليس اسمًا من أسمائه، ولا يستغني أحدٌ لحظةً واحدةً عن تثبيت الله سبحانه وتعالى حتى الأنبياء والرسل.

قال تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفۡتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ لِتَفۡتَرِيَ عَلَيۡنَا غَيۡرَهُۥۖ وَإِذٗا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِيلٗا٧٣ وَلَوۡلَآ أَن ثَبَّتۡنَٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡـٔٗا قَلِيلًا٧٤ إِذٗا لَّأَذَقۡنَٰكَ ضِعۡفَ ٱلۡحَيَوٰةِ وَضِعۡفَ ٱلۡمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيۡنَا نَصِيرٗا٧٥} [الإسراء: 73 -75].

قال ابن القيم: «فلا يركن العبدُ إلى نفسه وصبره وحاله وعفته، ومتى ركن إلى ذلك تخلَّت عنه عصمةُ الله، وأحاطَ به الخذلان، وقد قال الله تعالى لأكرم الخلق عليه وأحبهم إليه: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّت قَلْبي على دينك)، وكانت أكثر يمينه: (لا ومُقَلِّبَ القُلوبِ)، كيف وهو الذي أُنزل عليه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ})[5].

وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].

وفي الصحيحين -واللفظ لمسلم- عن البراء بن عازبٍ، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم، قال: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]، قال: نزلت في عذاب القبر، فيُقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]) [6].

قال ابن القيم: «وتحت قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} كنزٌ عظيمٌ، مَنْ وُفِّقَ لمظنته، وأحْسَنَ استخراجَه واقتناءه، وأنفق منه فقد غَنِم، ومن حُرِمَه فقد حُرم؛ وذلك أنَّ العبدَ لا يستغني عن تثبيت الله له طَرْفةَ عينٍ، فإنْ لم يثبته وإلا زالَتْ سماءُ إيمانه وأرضه عن مكانهما، وقد قال تعالى لأكرم خَلْقه عليه عبده ورسوله: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]، وقال تعالى لأكرم خلقه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]، وقال تعالى لرسوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]؛ فالخلقُ كلُّهم قسمان: مُوَفَّقٌ بالتثبيت، ومَخْذُولٌ بترك التثبيت، ومادةُ التثبيتِ أصله ومنشؤه من القول الثابت وفعلِ ما أُمِرَ به العبدُ، فبهما يُثبِّتُ اللَّه عبدَه، وكل من كان أثبتَ قولًا وأحسنَ فعلًا كان أعظَمَ تثبيتًا؛ قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]؛ فأثبتُ الناسِ قلبًا أثبتهم قولًا، والقول الثابت هو القول الحق والصدق، وهو ضد القول الباطل الكذب؛ فالقول نوعان: ثابتٌ له حقيقة، وباطلٌ لا حقيقة له، وأثبتُ القول كلمة التوحيد ولوازمها، فهي أعظم ما يثبت اللَّه بها عباده في الدنيا والآخرة؛ ولهذا ترى الصَّادقَ من أثبت الناس وأشْجَعِهم قلبًا، والكاذبَ مِنْ أمْهَن الناس وأجبنهم وأكثرهم تَلَوُّنًا وأقلهم ثباتًا، وأهلُ الفِرَاسة يعرفون صدق الصادق من ثَبَات قلبه وقت الاختبار، وشجاعَتِهِ ومَهَابته، ويعرفون كذبَ الكاذب بضد ذلك؛ ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة»[7].

التثبيت يُطلب من الله بالدعاء والتضرع

ولما كان الله هو المثبِّت فالثبات منه وإليه، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء بالثبات؛ فعن شهر بن حوشب قال: (قلتُ لأُمِّ سلمة رضي الله عنها: يا أُمَّ المؤمنين، ما كان أَكثَرُ دُعاءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذا كان عندكِ؟ قالت: كان أَكثَرُ دُعَائه: يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّت قَلبي على دينك. قالت: فقلتُ له: يا رسولَ الله، ما أَكثَرَ دُعَائِكَ بهذا؟ قال: يا أُمَّ سلمةَ، إنه ليس آدَميٌّ إلا وقلبُه بين إِصبَعينِ من أصابعِ الله، فمن شاءِ أقَامَ، ومن شاء أزَاغَ)[8].

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ قُلوبَ بَنِى آدمَ كُلَّهَا بَينَ إِصبعينِ مِن أَصابِعِ الرَّحمنِ كقلبٍ واحدٍ يُصرِّفُهُ حيثُ يشاءُ. ثمَّ قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللّهمَّ مُصَرِّفَ القُلوبِ صَرِّف قُلوبَنا عَلى طَاعَتِك) [9].

وعن أنسٍ قال: (كان النّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ أن يقُولَ: يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبّت قلبِي على دينك. قال: فَقلنَا يا رسولَ الله، آمنَّا بكَ وبما جِئتَ بِه، فَهل تخافُ علينا؟ قال: فقال: نعم، إنَّ القُلوب بين أُصبُعينِ مِن أصابعِ الله عزَّ وجلَ يُقلِّبها)[10].

قال ابن القيم: «إنَّ العبدَ إذا علم أنَّ الله سبحانه وتعالى هو مقلِّب القلوب، وأنه يحولُ بين المرء وقلبه، وأنه سبحانه كلَّ يومٍ هو في شأْن، يفعل ما يشاءُ ويحكم ما يريد، وأنه يهدي من يشاءُ ويضل من يشاءُ، ويرفع من يشاءُ ويخفض من يشاءُ، فما يؤمنه أن يُقلّبَ اللهُ قلبه، ويحول بينه وبينه، ويزيغه بعد إقامته؟ وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقولهم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم»[11].

والدعاءُ بالثبات كان ديدن الصالحين من قبل، وخاصة في مقامات الشدائد.

قال تعالى واصفًا المجاهدين الأولين: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250].

وقال أيضاً: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّٰبِرِينَ١٤٦ وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ١٤٧ فَـَٔاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا وَحُسۡنَ ثَوَابِ ٱلۡأٓخِرَةِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ١٤٨} [آل عمران: 146-148].

وقال في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ٨} [آل عمران: 8].

وفي الصحيحين عن البراءِ رضي الله عنه قال: (رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الأحزاب ينقُل التّراب، وقد وَارى الترابُ بياضَ بطنِه، وهو يقول: لولا أنتَ ما اهتدينا، ولا تصدَّقنا ولا صَلينا، فأنزِلَنْ سَكينة علينا، وثبِّت الأقدامَ إن لاقينا، إن الأُلى قد بَغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا) [12].

والثبات له أسبابه ووسائله الكثيرة، فمن ذلك:

1-التوكلُ على الله، وهو من أعظم وسائل الثبات، وخاصةً في وقت الشدائد. فقد وصفَ اللهُ حالَ النبي صلى الله عليه وسلم والذين معه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].

وفي صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، قالها إِبراهِيمُ عليه السلام حِين أُلقي في النَّار، وقالها محمّدٌ صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ١٧٣} [آل عمران: 173]»[13].

والتوكلُ هو الاعتمادُ على الله والثقة به في تحقيق المطلوب مع اتخاذ الأسباب الشرعية. ولأهميته جُعِلَ شرطاً للإيمان، كما قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وقال أيضًا: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]، وجُعِلَ جزاؤه الكفاية، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

قال ابن القيم: «التوكلُ نصفُ الدين، والنصفُ الثاني الإنابة، فإنَّ الدين: استعانةٌ وعبادةٌ. فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة. ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين، لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكل، ووقوعه من المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، والطير والوحش والبهائم.

التوكُّل نصفُ الدين، والنصفُ الثاني الإنابة، فإنَّ الدينَ استعانةٌ وعبادةٌ. فالتوكُّل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة.

فأهلُ السماوات والأرض -المكلَّفون وغيرهم- في مقام التوكل، وإن تباين متعلق توكلهم، فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابِّه وتنفيذ أوامره.

ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله، فارغاً عن الناس.

ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله منه، من رزق أو عافية، أو نصر على عدو، أو زوجةٍ أو ولد، ونحو ذلك.

ودون هؤلاء من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش، فإنَّ أصحابَ هذه المطالب لا ينالونها غالبًا إلا باستعانتهم بالله، وتوكلهم عليه، بل قد يكون توكلهم أقوى من توكل كثير من أصحاب الطاعات؛ ولهذا يلقون أنفسهم في المتالف والمهالك، معتمدين على الله أن يسلمهم، ويظفرهم بمطالبهم.

فأفضل التوكلِ التوكلُ في الواجب، (أعني: واجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس)، وأوسعه وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم، ثم الناس بعد في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمن متوكِّلٍ على الله في حصول الملك، ومن متوكِّلٍ في حصول رغيف»[14].

2- التأصيلُ الصحيح، ونقصد بالتأصيل: أن يبني المسلمُ علمَه وعملَه على أصولٍ ثابتةٍ راسخةٍ، مصدرها الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، مستنيرًا بتأصيلات الأئمة الأعلام في القديم والحديث.

قال ابن القيم: «من أراد علوَّ بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدة الاعتناء به، فإنَّ البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه، فالأعمـال والدرجـات بنيانٌ، وأساسُها الإيمان، ومتى كان الأساس وثيقًا حمل البنيان، واعتلى عليه، وإذا تهدَّمَ شيءٌ من البنيان سَهُلَ تداركه، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفـعْ البنيان ولم يثبت، وإذا تهدّمَ شيءٌ من الأساس سقطَ البنيانُ أو كاد.

فالعارفُ همتُه تصحيح الأسـاس وإحكامه، والجاهل يرفع في البناء عن غير أساس، فلا يلبثُ بنيانه أن يسقط. قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109].

فاحمل بنيانك على قوة أساس الإيمان، فإذا تشعَّث شيءٌ من أعالي البناء وسطحه، كان تداركه أسهل عليك من خراب الأساس.

وهذا الأساس أمران:

الأول: صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته.

والثاني: تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه.

فهذا أوثق أساس أَسَّسَ العبدُ عليه بنيانه، وبحسبه يَعتلي البناء ما شاء»[15].

3- الإقبال على الأعمال الصالحة بانشراح صدرٍ وصدقٍ وإخلاصٍ ويقينٍ. قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265].

4- تحقيق الاتّباعِ، كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

وحقيقةُ الاتّباع هي اتباع الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، وتجنب البدع والمذاهب الرَّدية في العقيدة والسلوك والمنهج.

5- الارتباطُ بالقرآن تلاوةً وتدبرًا وعلمًا وعملاً؛ فإنَّ القرآن العظيم من أعظم المثبتات؛ وخاصةً في وقائع الفتن.

قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلۡنَآ ءَايَةٗ مَّكَانَ ءَايَةٖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفۡتَرِۭۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ١٠١ قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ١٠٢} [النحل: 101-102].

وقال أيضاً: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32].

6- تدبرُ قصص الأولين من الأنبياء والمرسلين، والعلماء والصالحين في كتاب الله وسنة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم مما فيه عبرة، كما قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].

7- كثرة ذكر الله سبحانه، فقد أمر الله بالذكر الكثير، قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرٗا كَثِيرٗا٤١ وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلًا٤٢} [الأحزاب: 41-42]، وفي مقام القتال أمر الله بالذكر الكثير، قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمۡ فِئَةٗ فَٱثۡبُتُواْ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ٤٥} [الأنفال: 45].

8- عدم الاغترارِ بالحياة الدنيا، فإنَّ كثيرًا من المتساقطين على الطريق قد أرْدتهم الدنيا بساحاتها صرعى كأعجاز نخلٍ خاوية. واستحبابُ الدنيا والحرص عليها دون الآخرة هو سبيلُ الكافرين والمغرورين.

من بذل أسباب الثبات، فحريٌّ به أن يُثبِّته الله

9- عدم تعريض النفس للبلاء والفتن، فلا يتمناها ولا يستجلبها، أو يبحث عنها ليواجهها، ولكن إذا جاءته وهجمت عليه صبر واحتسب، واستخدم معها الدواء الشرعي.

10- صحبة الثابتين من العلماء الراسخين، والعاملين الصابرين.

قال تعالى: {وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا٢٨} [الكهف: 28].

11- نصرةُ دين الله في عقائده وأحكامه، وفي كلِّ أمرٍ فيه نصرة للإسلام والمسلمين، وخاصةً في الزمن الذي يعزُّ فيه الناصر، ويكثر فيه الأعداء والخاذلون.

12- عدمُ الاغترار بكثرة الهالكين ولا بقلة السالكين، ولا يستوحش من عناد المخالفين ولا تخاذل المتخاذلين.

13- عدم الأمن من مكر الله، فإنَّ الآمن من مكر الله يسترسل في المعاصي معتمدًا على رحمة الله، متغافلاً عن عقاب الله.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا جميعًا على دينه القويم ومنهجه المستقيم، في الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب، وعلى كل شيء قدير.


[1] تيسير اللطيف المنان، للسعدي، ص (364).

[2] أخرجه البخاري (6467)، ومسلم (2818)، واللفظ له.

[3] أخرجه الدارمي في سننه (1/296).

[4] الاستقامة، لابن تيمية (1/38).

[5] روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن القيم، ص (459).

[6] أخرجه البخاري (1369)، ومسلم (2871).

[7] إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (2/306).

[8] أخرجه الترمذي في سننه، (3522)، وقال: حسن، وأحمد في مسنده (26618)، وابن أبي شيبة في مصنفه (30406)، وغيرهم، والحديث صحيح بشواهده.

[9] أخرجه مسلم (2654).

[10] أخرجه أحمد (12128)، والترمذي (2140)، وقال: حسن، والحاكم (1927)، وقال: صحيح.

[11] طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم، ص (431).

[12] أخرجه البخاري (2837) واللفظ له، ومسلم (1803).

[13] أخرجه البخاري (4563).

[14] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (2/114).

[15] الفوائد، لابن القيم، ص (155).

X