دعوة

مظاهر حكمة الله تعالى في المصائب والابتلاءات

يتناول المقال الحِكم المتعددة للمصائب وغاياتها، والتي يجملها في ستة معانٍ مترابطةٍ: الجزاء، البلاء، الجلاء، العلاء، الدواء، والعطاء، مبينًا أن المصائب قد تكون عقوبةً للذنوب، ووسيلةً للتمحيص والابتلاء، وتكفيرًا للخطايا، أو رفعًا للدرجات، كما قد توقظ الغافل ليعود إلى الله، موضحًا أن المصائب نِعمةٌ مِن الله، تُظهر لطفه ورحمته بعباده، وتستوجب الشكر لا الجزع، لتكمل مسيرة العبودية بالصبر والرضا.

من الصفات العظيمة لربنا تبارك وتعالى: الحكمةُ البالغة، ومن أسمائه: الحكيم، فهو سبحانه حكيمٌ في خَلقِه، حكيمٌ في شرعِه، فالحكيمُ “يضع الأشياء في مواضعها التي لا يليق بها سواها، ويخصُّها من الصفات والأشكال والهيئات والمقادير بما هو أعلمُ بها من غيره، ويُبرِزُها في أوقاتها وأزمنتها المناسبة لها التي لا يليق بها سواها … وكذلك جميع ما يُشاهَد من مخلوقاته عاليها وسافلها وما بين ذلك إذا تأملها صحيحُ التأمل والنظر وجدها مؤسسةً على غاية الحكمة، مُغَشّاةً بالحكمةِ، فقرأ سطورَ الحكمة على صفحاتها، وينادي عليها: هذا صنعُ العليم الحكيم، وتقدير العزيز العليم”[1].

وإنّ تلمّسَ الحِكم النبيلة والمعاني الجليلة في أمرٍ من الأمور الكونية أو الشرعية يزيد الإيمان بعظمة الله تعالى وكماله، ويعين على صحة تصور ذلك الأمر وحسن التعامل معه، ومن هنا وردت الشريعة بالحثّ على تأمل خلق الله وشرعه، وجاءت الآيات الكثيرة مخاطبةً أصحاب العقول، حاثّةً لهم أن يُعمِلوا عقولهم في التدبر في كلام الله وآياته الشرعية، والتفكر في خلق الله وآياته الكونية، فمن الأول قوله تعالى: {‌كِتَابٌ ‌أَنْزَلْنَاهُ ‌إِلَيْكَ ‌مُبَارَكٌ ‌لِيَدَّبَّرُوا ‌آيَاتِهِ ‌وَلِيَتَذَكَّرَ ‌أُولُو ‌الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، ومن الثاني قوله سبحانه: {إِنَّ فِي ‌خَلْقِ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضِ ‌وَاخْتِلَافِ ‌اللَّيْلِ ‌وَالنَّهَارِ ‌لَآيَاتٍ ‌لِأُولِي ‌الْأَلْبَابِ 190 الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190-191]، بل جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال عن هذه الآيات: (لقد نزلت علي الليلة آيةٌ ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي ‌خَلْقِ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضِ} الآية كلها)[2].

على أن الإنسان عاجز عن الإحاطة بحِكم الله تعالى ومراداته في خلقه وشرعه؛ لقصور إدراكه وضيق اطلاعه، مع عظمة الله تعالى وبديع حِكمته وسَعة علمه، ولكن حسب المرء أن يتأمل بكليل بصره وضعف آلته ما يمكنه الوقوفُ عليه من معالم الحكمة وآثار الإرادة ما يكون درسًا له، ونبراسًا في تفهّم سنن الله وحسن التعامل معها.

إنّ تلمّسَ الحِكم النبيلة والمعاني الجليلة في أمرٍ من الأمور الكونية أو الشرعية يزيد الإيمان بعظمة الله تعالى وكماله، ويعين على صحة تصور ذلك الأمر وحسن التعامل معه، ومن هنا وردت الشريعة بالحثّ على تأمل خلق الله وشرعه، وجاءت الآيات الكثيرة مخاطبةً أصحاب العقول، حاثّةً لهم أن يُعمِلوا عقولهم في التدبر في كلام الله وآياته الشرعية، والتفكر في خلق الله وآياته الكونية

وبالتأمل والنظر في أدلة الكتاب والسنة، وكلام أهل العلم في المعاني والحِكم المتعلقة بالمصائب والشدائد التي تنزل بالعباد وتحدُث للناس؛ يمكن الوقوف على جملةٍ من المعاني التي تعود إليها مقاصد المصائب، وغايات الشدائد، وجُملتها ستة معانٍ اخترت لها ألفاظًا متشابهةً في كونها من الأسماء الممدودة[3]، فالمصائب: (جزاءٌ، وبَلاءٌ، وجِلاءٌ، وعَلاءٌ، ودَواءٌ، وعَطاء)، وجمعتها في بيتٍ[4]:

جَزاءٌ، بَلاءٌ، جِلاءٌ، عَلاءْ … دَواءٌ كذاكَ يكون الْعَطاءْ

وفيما يلي تجليةٌ لهذه المعاني مع أدلتها الشرعية:

أولاً: الجزاء[5]:

فالمصائب تقع عقوبةً للذنوب والمعاصي، وجزاءً للظلم والطغيان، كما قال سبحانه: {‌وَمَا ‌أَصَابَكُمْ ‌مِنْ ‌مُصِيبَةٍ ‌فَبِمَا ‌كَسَبَتْ ‌أَيْدِيكُمْ ‌وَيَعْفُو ‌عَنْ ‌كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال: {‌مَا ‌أَصَابَكَ ‌مِنْ ‌حَسَنَةٍ ‌فَمِنَ ‌اللَّهِ ‌وَمَا ‌أَصَابَكَ ‌مِنْ ‌سَيِّئَةٍ ‌فَمِنْ ‌نَفْسِكَ} [النساء: 79].

قال الطبري: “يقول تعالى ذكره: وما يصيبكم أيها الناس من مصيبةٍ في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم.. فإنما يصيبكم ذلك عقوبةً من الله لكم بما اجترمتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم، ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم، فلا يعاقبكم بها”[6].

بل دلّ القرآن على أن الله سبحانه لو آخذ الناس بما كسبوا من ظلمهم لأهلكهم واجتاحهم ولم يترك على وجه الأرض دابةً تسير؛ لأن العذاب إذا نزل كان عامًّا؛ قال سبحانه: {‌وَلَوْ ‌يُؤَاخِذُ ‌اللَّهُ ‌النَّاسَ ‌بِظُلْمِهِمْ ‌مَا ‌تَرَكَ ‌عَلَيْهَا ‌مِنْ ‌دَابَّةٍ ‌وَلَكِنْ ‌يُؤَخِّرُهُمْ ‌إِلَى ‌أَجَلٍ ‌مُسَمًّى} [النحل: 61]، وقال: {‌وَلَوْ ‌يُؤَاخِذُ ‌اللَّهُ ‌النَّاسَ ‌بِمَا ‌كَسَبُوا ‌مَا ‌تَرَكَ ‌عَلَى ‌ظَهْرِهَا ‌مِنْ ‌دَابَّةٍ} [فاطر: 45].

قال الطبري: “يقول: ولو يعاقب اللهُ الناسَ ويكافئهم بما عملوا من الذنوب والمعاصي، واجترحوا من الآثام؛ ما ترك على ظهرها من دابة تدِبُّ عليها”[7]، “ولكن بحِلمه يؤخر هؤلاء الظلمة فلا يعاجلهم بالعقوبة”[8].

فاللهُ سبحانه وتعالى “لا يغيّرُ ما بقومٍ من عافيةٍ ونعمةٍ فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضًا، واعتداء بعضهم على بعض، فتحلّ بهم حينئذٍ عقوبته وتغييرُه”[9]، فـ”لا يسلبُهم نِعمه حتى يغيروا ما بأنفسهم فيعملوا بمعاصيه”[10]، كما قال عز وجل: {‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يُغَيِّرُ ‌مَا ‌بِقَوْمٍ ‌حَتَّى ‌يُغَيِّرُوا ‌مَا ‌بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، {‌ذَلِكَ ‌بِأَنَّ ‌اللَّهَ ‌لَمْ ‌يَكُ ‌مُغَيِّرًا ‌نِعْمَةً ‌أَنْعَمَهَا ‌عَلَى ‌قَوْمٍ ‌حَتَّى ‌يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].

ولا يخفى ما قصه الله تعالى من قصص المكذبين للرسل، وكيف كانت عاقبة تكذيبهم وكفرهم من نزول العذاب بهم، وحلول الدمار عليهم {‌وَلَقَدْ ‌أَهْلَكْنَا ‌الْقُرُونَ ‌مِنْ ‌قَبْلِكُمْ ‌لَمَّا ‌ظَلَمُوا ‌وَجَاءَتْهُمْ ‌رُسُلُهُمْ ‌بِالْبَيِّنَاتِ ‌وَمَا ‌كَانُوا ‌لِيُؤْمِنُوا ‌كَذَلِكَ ‌نَجْزِي ‌الْقَوْمَ ‌الْمُجْرِمِينَ} [يونس: 13]، ولكن كون المصائب تقع بسبب الذنوب عقوبةً عليها ليس خاصًّا بالكفار والمنافقين، بل هو عامٌّ يشمل المؤمن كذلك، كما في الآيات العامة التي ذكرت أول هذه الفقرة، ويؤكد ذلك أن الله تعالى خاطب المؤمنين مبينًا أن ما أصابهم يوم أحدٍ كان من أنفسهم {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ ‌مُصِيبَةٌ ‌قَدْ ‌أَصَبْتُمْ ‌مِثْلَيْهَا ‌قُلْتُمْ ‌أَنَّى ‌هَذَا ‌قُلْ ‌هُوَ ‌مِنْ ‌عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].

ثانيًا: البلاء:

من المعلوم أن الدنيا دار ابتلاءٍ وامتحان، والابتلاء يكون بالشدة واليسر، والنعَم والنقَم، والخير والشر {‌وَنَبْلُوكُمْ ‌بِالشَّرِّ ‌وَالْخَيْرِ ‌فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] أي: “ونختبركم أيها الناس بالشر وهو الشدة نبتليكم بها، وبالخير وهو الرخاء والسعة والعافية فنَفتِنُكم به”[11].

وبهذا الابتلاء يكون التمحيص وتمييز الصادق من الكاذب، والخبيث من الطيب {‌أَحَسِبَ ‌النَّاسُ ‌أَنْ ‌يُتْرَكُوا ‌أَنْ ‌يَقُولُوا ‌آمَنَّا ‌وَهُمْ ‌لَا ‌يُفْتَنُونَ 2 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2-3]، {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ‌حَتَّى ‌يَمِيزَ ‌الْخَبِيثَ ‌مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]. ” أي: لا بد أن يعقدَ سببًا من المحنة، يَظهرُ فيه وَليُّه، ويَفتضِحُ فيه عدوُّه، يُعرَف به المؤمن الصابر، والمنافق الفاجر”[12].

وبالشدائد يظهر الصابرون الذين يُوَفَّون أجرهم بغير حسابٍ، ويكون عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة {‌وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ‌بِشَيْءٍ ‌مِنَ ‌الْخَوْفِ ‌وَالْجُوعِ ‌وَنَقْصٍ ‌مِنَ ‌الْأَمْوَالِ ‌وَالْأَنْفُسِ ‌وَالثَّمَرَاتِ ‌وَبَشِّرِ ‌الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].

وبه يُظهِر العبادُ شدة افتقارهم إلى الله، ويُنزِلون به ضرورتهم، ويتجردون من تعلقهم بغيره، ويترقَّون في منازل العبودية لربهم {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ‌وَلَمَّا ‌يَأْتِكُمْ ‌مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

وبقدر البلاء يكون الثواب والعقاب، والرضا والسخط، ففي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا: (إنَّ عِظَمَ الجزاء مع عِظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخْطُ)[13].

إن المصائب تُحرق ذنوب المؤمن حتى يخرج منها نقيًّا، فيمشي على وجه الأرض بلا ذنوب (فما يبرح البلاءُ بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئةٌ)؛ فيلقى ربه بلا خطايا

ثالثاً: الجِلاء[14]:

فالمصائب كفاراتٌ للذنوب، وماحياتٌ لخطيئات المؤمن كما ثبت في الحديث: (ما يصيبُ المسلمَ من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حُزنٍ ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتى الشوكةِ يُشاكُها؛ إلا كفَّر الله بها من خطاياه)[15] ، وفي حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه: (ما من مسلمٍ يصيبه أذًى -مرضٌ فما سواه- إلا حطّ الله له سيئاته، كما تَحُطُّ الشجرة ورقها)[16].

ومن رحمة الله بعبده المؤمن أن يعجّل له جزاء الذنب قبل يوم القيامة بأن يُنزِل به المصائب في نفسه وماله وذرّيته وغيرها (إذا أراد اللهُ بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد اللهُ بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافِيَ به يوم القيامة)[17].

بل إن المصائب تُحرق ذنوب المؤمن حتى يخرج منها نقيًّا، فيمشي على وجه الأرض بلا ذنوب (فما يبرح البلاءُ بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئةٌ)[18] ؛ فيلقى ربه بلا خطايا، كما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ما يزال البلاءُ بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئةٌ)[19].

رابعًا: عَلاء[20]:

من لطف الله بعبده المؤمن أنه إذا أراد له مقامًا رفيعًا قصُر عنه عمله، ولم يبلغه سعيه؛ أوقع به المصائب والشدائد، ثم يُلهمه الصبر عليها حتى يبلغ ذلك المقام، دلّ على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إنّ الرجل لتكون له عند الله المنزلةُ، فما يبلغها بعملٍ، فلا يزال اللهُ يبتليه بما يكره حتى يُبلِّغَه إياها)[21] ، ويوضحه حديث: (إنّ العبد إذا سبقت له من الله عز وجل منزلةٌ لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله جل وعز في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثمّ صبّره على ذلك، حتى يبلّغَه المنزلة التي سبقت له مِن الله جل وعزّ)[22].

خامسًا: دواء:

فالمعاصي والذنوب مرض وداء يحتاج إلى علاج ودواء، والدواء قد يكون مُرًّا، ودواؤها المصائب التي توقظ النائم، وتنبّه الغافل لعله يرجع إلى ربه، ويتوب إلى خالقه، ويتضرع إليه برفع البلاء عنه:

قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ ‌فَأَخَذْنَاهُمْ ‌بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ 42 فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42-43]. وقال: {‌وَلَنُذِيقَنَّهُمْ ‌مِنَ ‌الْعَذَابِ ‌الْأَدْنَى ‌دُونَ ‌الْعَذَابِ ‌الْأَكْبَرِ ‌لَعَلَّهُمْ ‌يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]، ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال في العذاب الأدنى: “مصائب الدنيا وأسقامها وبلاؤها مما يبتلي اللهُ بها العباد حتى يتوبوا”[23].

وقال عز وجل: {‌ظَهَرَ ‌الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] أي: “ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوا، ومعصيتهم التي عصَوا … كي يُنيبوا إلى الحق، ويرجعوا إلى التوبة، ويتركوا معاصي الله”[24].

من تأمل وجوه الحكمة في وقوع المصائب عرف أنها نعمةٌ وعطاءٌ من الله، يستحقُّ عليها الحمد، فتعجيل العقوبة للعبد على ذنبه حتى لا يؤاخََذ به يوم القيامة، وابتلاؤه بما يُُظهر صبره ويُُكمّّل عبوديته ويكفر سيئاته ويرفع درجته، ويبلّّغه إلى ما عجز عمله عن بلوغه من المراتب، وينبّّهه ويوقظه من غفلته؛ كل ذلك مما يجعل العبد يشعر ببديع لطف الله به وعظيم رحمته وجميل اختياره له

سادسًا: العطاء:

جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يودُّ أهلُ العافية يوم القيامة حين يُعطى أهلُ البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرِضتْ في الدنيا بالمقاريض)[25].

بل دلت السنة الصحيحة على أن المصائب من إرادة اللهِ الخير بالعبد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرًا يُصِبْ منه)[26].

وهي من علامات محبة الله؛ كما سبق في حديث أنسٍ رضي الله عنه: (إنّ الله إذا أحب قومًا ابتلاهم).

ومِن هنا كان الأنبياء أشدَّ الناس بلاءً، وكان البلاء على قدرِ الدين؛ فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: (الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلى الرجلُ على حسَب دينه، فإن كان دينُه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقّةٌ ابتُلي على حسب دينِه)[27].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعَك، فقلت: يا رسول الله، إنّك لتوعك وَعْكًا شديدًا؟ قال: (أجل، إني أُوعَكُ كما يوعكُ رجلان منكم)، قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: (أجل، ذلك كذلك)[28].

فمن تأمل ما سبق ذكره من وجوه الحكمة في نزول البلاء والمصائب بالمؤمنين عرف أنها نعمةٌ وعطاءٌ من الله، يستحقُّ عليها الشكر والثناء، فحينما يعجّل الله العقوبة لعبده المؤمن على ذنبه حتى لا يؤاخَذ به يوم القيامة، ويبتليه ويمتحنه بما يُظهر صبره ويُكمّل عبوديته، ويغفر به ذنوبه، ويكفر سيئاته، ويرفع به درجته، ويبلّغه إلى ما عجز عمله عن بلوغه من المراتب، وينبّهه ويوقظه من غفلته؛ فإن العبد يحسُّ ببديع لطف الباري به وعظيم رحمته وجميل اختياره له، فيستشعر بذلك ما تضمنته المصائب من النِّعم والـمِنن، ويوقن أنه عطاء من الله وفضلٌ من لدنه، فلَهَجَ لسانُه بشكره والثناء عليه، فلا غرابة بعد ذلك أن يفرح المؤمن بالبلاء، وقد جاء وصف الأنبياء والصالحين في الحديث: (وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء، كما يفرح أحدكم بالرخاء)[29].

بل ورد عن بعضهم الدعاء به، كما ثبت عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه خطب بالشام، فذكر الطاعون فقال: “إنها رحمةُ ربكم ودعوةُ نبيكم، وقبضُ الصالحين قبلكم، اللهم أدخل على آل معاذٍ نصيبهم من هذه الرحمة”[30]، “فبينا هو كذلك إذ أُتي فقيل: طُعِن ابنك عبد الرحمن.. فمات من الجمعة إلى الجمعة آلُ معاذٍ كلهم، ثم كان هو آخرهم”[31].

على أنه جاء في السنة ما يدلُّ على كراهة الدعاء بوقوع البلاء خشية عدم الصبر عليه، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لم تُعطِني مالاً فأتصدقُ به، فابتلني ببلاءٍ يكون فيه أجرٌ، فقال: (سبحان الله! لا تطيقُه، ألا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)[32].

وذكر ابن القيم أن للعبد في المصائب “أربع مقامات:

– أحدها: مقام العَجز، وهو مقامُ الجزَع والشكوى والسخط، وهذا ما لا يفعله إلا أقلُّ الناس عقلاً ودينًا ومروءةً، وهو أعظم المصيبتين.

– المقام الثاني: مقام الصبر إما لله وإما للمروءة الإنسانية.

– المقام الثالث: مقام الرضا، وهو أعلى من مقام الصبر، وفي وجوبه نزاعٌ، والصبر متفقٌ على وجوبه.

– المقام الرابع: مقام الشكر، وهو أعلى من مقام الرضا؛ فإنّه يشهد البلية نعمةً؛ فيشكر المبتلي عليها”[33].

فوقوعُ البلاء والمصائب بالمؤمن خيرٌ له كنزول النعم والعافية به، وهو يتقلب في منازل العبودية بين الصبر والشكر؛ فعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبًا لأمر المؤمن، إنّ أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضرّاءُ صبر فكان خيرًا له)[34].

“وفي كلِّ فقرٍ ومرضٍ وخوفٍ وبلاءٍ في الدنيا خمسةُ أمورٍ ينبغي أن يفرح العاقل بها، ويشكر عليها:

– أحدها: أن كل مصيبةٍ ومرضٍ فيُتصور أن يكون أكبرَ منها… فليشكر؛ إذ لم تكن أعظمَ منها في الدنيا.

– الثاني: أنّه كان يمكن أن تكون مصيبته في دينه… وفي الخبر: (اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا)[35].

– الثالث: أنّه ما من عقوبةٍ إلا ويُتصور أن تؤخر إلى الآخرة، ومصائب الدنيا يُتسلى عنها بأسباب أُخر تُهوِّن المصيبةَ فيخفُّ وقعها، ومصيبةُ الآخرة تدوم، فلعلّه لم تُؤخر عقوبته إلى الآخرة وعُجّلت عقوبته في الدنيا، فلم لا يشكر الله على ذلك؟

– الرابع: أنّ هذه المصيبة والبلية كانت مكتوبةً عليه في أم الكتاب، وكان لا بد من وصولها إليه وقد وصلت، ووقع الفراغ واستراح من بعضها أو من جميعها، فهذه نعمة.

– الخامس: أن ثوابها أكثرُ منها؛ فإن مصائب الدنيا طرقٌ إلى الآخرة … فمن عرف هذا تُصوِّر منه أن يشكر على البلايا، ومن لم يعرف هذه النعم في البلاء لم يُتصوَّر منه الشكر؛ لأنّ الشكر يتبع معرفة النعمة بالضرورة”[36].

ولا تعارض بين هذه المقامات والمعاني فقد تجتمع كلها أو أكثرها، فتكون المصائب عقوبةً للمرء على ذنوبه، وهي كفارةٌ لتلك الذنوب وتمحيصٌ لها، ثم هي كذلك امتحانٌ للعبد، ثم تكون سببًا لتوبته ورجوعه إلى الله، ويكون بذلك كثرةُ حسناته ورفعةُ درجاته، وقد يتخلف بعضها في بعض الأحوال.

وبهذا تظهر حكمة الله البالغة فيما يوقعه بعباده المؤمنين من الشدائد والمصائب والكوارث، وما يحيطهم به من لطفه ورحمته، وما يقدره لهم من بديع تدبيره وحسن اختياره، فله الحمدُ في الأولى والآخرة، وله الحُكم، وإليه ترجعون.

إن العبد يحسُّ ببديع لطف الباري به وعظيم رحمته وجميل اختياره له، فيستشعر بذلك ما تضمنته المصائب من النِّعم والـمِنن، ويوقن أنه عطاء من الله وفضلٌ من لدنه، فلَهَجَ لسانُه بشكره والثناء عليه، فلا غرابة بعد ذلك أن يفرح المؤمن بالبلاء


د. عمار بن إبراهيم العيسى

أكاديمي، ومتخصص في البحث والتعليم الشرعي


[1] الصواعق المرسلة، لابن القيم (4/1566-1567).

[2] أخرجه ابن حبان في صحيحه (620) بإسناد صحيح.

[3] “الممدودُ: كلُّ اسمٍ مُعرَبٍ آخرُه همزةٌ قبلها ألفٌ زائدة كحَوْراء ووَرْقاء”. اللباب في قواعد اللغة وآلات الأدب، لمحمد علي السرّاج، ص (65).

[4] من بحر المتقارب، ومفتاحُه: (عَنِ الْمتقاربِ قالَ الْخليلْ … فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعُولْ).

[5] يطلق الجزاء على الثواب والعقاب، كما قال سبحانه: {لِيَجْزِيَ ‌الَّذِينَ ‌أَسَاءُوا ‌بِمَا ‌عَمِلُوا ‌وَيَجْزِيَ ‌الَّذِينَ ‌أَحْسَنُوا ‌بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]، والمراد هنا العقوبة؛ لأن المصائب عقوبات المعاصي وجزاؤها.

[6] تفسير الطبري (20/512).

[7] المرجع السابق (19/396).

[8] المرجع السابق (14/259).

[9] المرجع السابق (13/471).

[10] زاد المسير، لابن الجوزي (2/486).

[11] تفسير الطبري (16/268).

[12] تفسير ابن كثير (2/173).

[13] أخرجه الترمذي (2396)، وابن ماجه (4031).

[14] جَلا السَّيْفَ والـمِرآةَ جَلْوًا وجِلاءً: صَقَلَهُما، والهَمَّ عنه: أذْهَبَهُ. القاموس المحيط، ص (1271).

[15] أخرجه البخاري (5641)، ومسلم (2573): من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما. والنّصَبُ: التعب. والوَصَبُ: الوجع الملازم والمرض. والهَمُّ: هو التفكير في إزالة المكروه وجلب المحبوب في المستقبل. والحزنُ: الأسى على ما حصل له من مكروه في الماضي. والأذى: من تعدّي غيره عليه. والغّم: ما يحصل به ضيق القلب وكدَر النفس.

[16] أخرجه البخاري (5660)، ومسلم (2571).

[17] أخرجه الترمذي (2396) من حديث أنس رضي الله عنه.

[18] أخرجه الترمذي (2398)، وابن ماجه (4023): من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

[19] أخرجه الترمذي (2399)، وقال: حديث حسن صحيح.

[20] “عَلِيَ في الـمكان يَعلَى، من بابِ تَعِبَ، عَلاءً بالفتح والمَدِّ” المصباح المنير (2/428).

[21] أخرجه أبو يعلى الموصلي (6095)، وابن حبان (2908).

[22] أخرجه أبو داود (3090) مِن حديث محمد بن خالد السُّلَمي، عن أبيه، عن جده وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[23] تفسير الطبري (18/627).

[24] المرجع السابق (18/513).

[25] أخرجه الترمذي (2402)، وقال: غريب.

[26] أخرجه البخاري (5645).

[27] أخرجه الترمذي (2398)، وابن ماجه (4023): من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

[28] أخرجه البخاري (5648)، ومسلم (2571).

[29] أخرجه ابن ماجه (4024)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/188): إسناده صحيح، رجاله ثقات.

[30] أخرجه أحمد (22085)، وقال محققو المسند: حسن.

[31] أخرجه الحاكم في المستدرك (5186).

[32] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (727).

[33] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، ص (66-67).

[34] أخرجه مسلم (2999).

[35] أخرجه الترمذي (3502)، وقال: حديث حسن غريب.

[36] موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين، لجمال الدين القاسمي، ص (287-288).

أكاديمي، ومتخصص في البحث والتعليم الشرعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

X