دعوة

الرزق المنسيُّ.. عطايا إلهية نغفل عنها

الرزق المنسيُّ.. عطايا إلهية نغفل عنها

غمر الله سبحانه وتعالى عباده بالنعم، وسخَّر لهم ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم وما في الأرض من دواب وشجر وجبال وجمادات وموارد، ليعمروا الأرض ويستعينوا بها في منافعهم ومصالحهم، ويحمدوه ويشكروه على ما تفضَّل وأنعم، ونوَّع هذه النعم تنويعًا كبيرًا حتى إنَّ العقل ليعجز عن حصر هذه النعم واستحضارها كلِّها، وهذا المقال يسلِّط الضوء على جانبٍ مهمٍّ من نعم الله وعطاياه كثيرًا ما نغفل عنه وننساه.

مدخل:

نِعمُ الله تعالى على عباده لا تُحصى، وأخصُّ نعمِه سبحانه بعد نعمة إيجادهم هي نعمةُ رزقه لهم، فهي من أظهر مضامين ربوبيته تبارك وتعالى لمخلوقاته مسلمِهم وكافرِهم، لذلك تنوعت أساليب الخطاب القرآني في عرض التذكير بهذه النعمة، حيث وردت كلمة «رزق» وما يتفرع عنها في القرآن الكريم (١٢٣) مرة، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾ [الإسراء: ٧٠]، مُنبهًا عباده على صورة من صور تكريمه لهم، وكقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾ [العنكبوت: ٦٢]، مذكرًا لهم بتدبير وتقدير أرزاقهم.

وكذلك تنوعت أساليب الخطاب القرآني في عرض الاستدلال بهذه النعمة على استحقاقه جلَّ جلاله للعبادة وإفراده بها، فمنها الاستفهام التقريري، كقوله تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون﴾ [يونس: ٣١]، ومنها الحصر كقوله عز وجلَّ: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُون﴾ [النحل: ٥٣]، مُستدلاً سبحانه فيها بأن القادر على الإنعام والرزق -ومن باب أولى القادر على الخلق والإحياء والإماتة والتدبير- هو المستحق لعبادة المخلوق له.

لو وقف الإنسان متأملاً متدبرًا في أحوال نعمة الرزق، وفي صنوف تدبير الله جلَّ في علاه لأرزاق مخلوقاته؛ توسعةً وتقتيرًا، بسطًا وقدرًا، رفعًا وخفضًا لاستشعر عظمَ إنعام الله عز وجلَّ على خلقه، فيحمدَه على هذه المنَّة والتَّكريم

ولو وقف الإنسان متأملاً متدبرًا في أحوال هذه النعمة العظيمة، وفي صنوف تدبير الله جلَّ في علاه لأرزاق مخلوقاته؛ توسعةً وتقتيرًا، بسطًا وقدرًا، رفعًا وخفضًا لاستشعر المتأمل عظمَ إنعام الله عز وجلَّ على خلقه بهذه النعمة العظيمة، فيحمدَه المؤمن على هذه المنة وهذا التكريم، بقوله: (الحَمدُ لله الذي أطعَمَنا وسَقانا وكَفانا وآوانا، فكم مِمَّن لا كافي لَهُ ولا مُؤوِي)[1]، ويُبهَتَ بها المعرض عن الاستجابة لنداء الله تعالى ورسوله ﷺ، كما أخبرنا تقدَّست ذاته بذلك: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُور﴾ [الملك: ٢١].

ونعمة الرزق صورها كثيرة وأحوالها متعددة، تبعًا لتعدد المناظير والاعتبارات عند النظر إليها؛ ومنها ما سيتناوله هذا المقال من جهة كونه قيمة إيجابية أو سلبية.

الوقفة الأولى: ماهية الرزق:

عُرف الرزق بأنه: «كل ما يُنتفع به، سواءً كان ماديًّا كالأموال من ذهب وفضة وحيوان وزروع وثمار وعقار، وكل ما هو مأكول ومطعوم وملبوس ومشروب ومسكون ونحو ذلك، أو كان معنويًّا كالمعارف والعلوم والمنزلة والجاه والسلطان والعقل والذكاء وحسن الخلق ونحو ذلك، وسواءً كان ما ينتفع به في الدنيا وهو ما ذكرناه، أو ينتفع به في الآخرة وهو رضوان الله تعالى وثوابه ونعيم الجنة، ونحو ذلك مما أخبرنا الله تعالى به»[2].

ومن الرزق ما له ماهية إيجابية، أي أنه حقيقة قائمة مثبتة ملموسة، تتمثل في العطاءات المباشرة، وصوره أكثر من أن تحصى، مثل: أنواع الكسب الحلال، والراتب الشهري، والحوافز والمكافآت والهدايا المادية والمعنوية، والربح في التجارة، وإنتاج المحاصيل والزروع، والأجور على الأعمال، وإنجاب الأبناء، وغير ذلك.

ومن الرزق ما له ماهية سلبية، تتمثل في مفهوم المخالفة لما يضاد المفهوم الإيجابي لحقيقة الشيء من مثل ما يصرفه سبحانه وتعالى عن الإنسان من النفقات الكثيرة والخسائر في المصاريف والابتلاء بإنفاق المال فيما لا طائل فيه أو لا منفعة فيه.

وهذا النوع من الرزق -أي ما اتصفت ماهيته بالطابع السَّلبي- كثيرًا ما يُنسى؛ فلا يدركه البعض أو على الأقل لا يستحضر وجوده وآثاره.

وصور الرزق ذات المفهوم السلبي متعددة أيضًا، من أمثلتها: السلامة من الأمراض، ونجاة الإنسان من المخاطر والحوادث والنكبات، وتوفير الإنسان لجهده ووقته وماله، وغير ذلك.

من الرزق ما له ماهية إيجابية ملموسة، تتمثل في العطاءات المباشرة، ومن الرزق ما له ماهية سلبية، تتمثل فيما يصرفه سبحانه وتعالى عن الإنسان من الأمراض والمخاطر والنفقات الكثيرة وسائر الابتلاءات، وهذا النوع كثيرًا ما يُنسى؛ فلا يُستحضر وجوده ولا يُنتبه لآثاره

الوقفة الثانية: الأدلة الشرعية على اعتبار المفهوم السلبي للرزق:

ورد في الأدلة الشرعية الحديث عن نعمة الرزق بما يثبت المفهوم السلبي للرزق من عدّة وجوه:

الوجه الأول: أنَّ الله سبحانه أخبرنا بامتنانه وتفضُّله على عباده جميعًا بنعمٍ كثيرة، غير مقدور على إحصائها «لكثرتها وعظمها في الحواس والقوى، والإيجاد بعد العدم، والهداية للإيمان وغير ذلك»[3]، فقال سبحانه: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيم﴾ [النحل: ١٨]. وهذا عموم يشمل كل أنواع النعم بجميع أنواعها وصورها، بما في ذلك الحماية والوقاية من الأمراض والأضرار، وما كان منها من أصل الخلقة ومن غير كسب العبد.

الوجه الثاني: مِن أظهر النعم ذات القيمة السلبية نعمتا الصحة والفراغ، لأنهما ملازمتان لأكثر العباد، والفاقد لهما قليل، وقد نبَّه ﷺ على هذا المعنى بقوله: (نِعمَتانِ مَغبُونٌ فيهما كثيرٌ مِن الناس: الصِّحَّةُ والفَراغ)[4].

فمن حرصَ على استثمار صحته ووقته وملء أوقات فراغه فيما يرضي الله ورسوله ﷺ فقد أوتي الحكمة، ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَاب﴾ [البقرة: ٢٦٩].

ومن فرط في هاتين النعمتين -مع كونهما فرصة عظيمة للعاقل والبصير- وأسرف حالة عافيته ووقت فراغه في اللهو واللعب، بل وربما فيما حرم الله ورسوله ﷺ، فهو مغبونٌ، وسيندم ويتحسَّرُ يوم القيامة، لعدمِ استغلاله لهما بما ينفعه ويُفيده.

الوجه الثالث: تذكير النبي ﷺ بأهمية تقدير دور النعم العامة ذات المفهوم السلبي، كخلوِّ الإنسان من الخوف والمرض والجوع، مما يلبي حاجات الإنسان الأساسية من أمن وصحة وغذاء فقال ﷺ: (مَن أَصبَحَ منكُم آمِنًا في سِرْبِهِ، مُعَافًى في جَسَدهِ، عندَهُ قُوتُ يومِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَت لَهُ الدنيا)[5].

وقال المناوي رحمه الله مبينًا معنى الحديث: «يعني: من جمع الله له بين عافية بدنه، وأمن قلبه حيث توجه، وكفاف عيشه بقوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع الله له جميع النعم التي مَن مَلكَ الدنيا لم يحصل على غيرها، فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها، بأن يصرفها في طاعة المنعم، لا في معصية، ولا يفتر عن ذكره»[6].

الوجه الرابع: نصُّه ﷺ على أحد أنواع الرزق -بمفهومه السلبي- وهو استجابة الدعاء بغير ما يدعو به الشخص؛ حيث إنَّ إحدى صور استجابة الدعاء الذي يدعو به المسلم صرف السوء والمصائب عن العبد، قال ﷺ: (ما مِن مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجَّل له دعوته، وإما أن يدَّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها) قالوا: إذا نُكثر، قال: (الله أكثر)[7].

يقول ابن حجر رحمه الله شارحًا الحديث: «كل داعٍ يُستجاب له، لكن تتنوّع الإجابة، فتارةً تقع بعين ما دعا به، وتارةً بِعِوَضِه[8]. وقد ورد في ذلك حديث صحيح، أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رفعه: (ما على الأرض مُسلم يدعو بدعوةٍ إلا آتاهُ الله إياها، أو صرفَ عنه من السُّوءِ مثلها) ولأحمد من حديث أبي هريرة: (إما أن يُعجِّلها له، وإما أن يدَّخرها له)»[9].

«من جمع الله له بين عافية بدنه، وأمْن قلبه حيث توجه، وكفاف عيشه بقوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع الله له جميع النعم التي مَن مَلكَ الدنيا لم يحصل على غيرها، فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها»

المناوي رحمه الله

الوقفة الثالثة: صور وأمثلة للرزق بمفهومه السلبي:

من رحمة الله بعباده وتفضله عليهم أن قدَّر لهم عددًا كبيرًا من أنواع الرزق بمفهومه السلبي، ومن أبرز أمثلة هذه الأنواع -على سبيل التمثيل لا الحصر-:

  • النوع الأول: سلامة الحواس من النقص:

من نعم الله تعالى على الإنسان أن خلقه في أحسن تقويم، فمن لم يُبتلَ بصورة من صور نقص الخلقة، كالعمى والصمم والبكم والعرج والإعاقات الخلقية الأخرى، فقد رُزق رزقًا عظيمًا وخيرًا كبيرًا، حيث إن وجود بعض هذه العلل خِلقةً أو إصابةً يترتب عليها كثير من الصعوبات والتحديات الحياتية والنفقات وهدر الأوقات التي يسلم منها الإنسان المعافى من مظاهر النقص المذكورة.

  • النوع الثاني: حفظ الوقت من الهدر:

ترجع أهمية الوقت إلى كونه محط أعمال الإنسان ومجالها الزمني، لذلك أقسم الله سبحانه بأقسام الزمان من العصر والفجر والليل وغيرها، وعظَّم السلفُ أمر الوقت، وشددوا على أهمية صيانته وخطورة التفريط فيه، قال الحسن البصري: «ابنَ آدم إنما أنت أيام؛ كلما ذهب يوم ذهب بعضُك»[10]. حتى إنهم كانوا يحسبون أعمارهم بالأنفاس، «فإن كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفسية لا عوض لها»[11].

فكل حفظ للوقت واستثمار إيجابي له فهو رزق -بمفهومه السلبي- للعبد، وكل تفريط بالوقت وإهدار له إضاعة لهذا الرزق، ومن الأمثلة التطبيقية لذلك:

  • قدرة الدارس على الفهم والاستيعاب، والإنجاز بكفاءة، يوفّر الكثير من الوقت والجهد والإعادة وتبعات التأخير.
  • انتهاء العامل أو الموظف من مهامه في وقت قصير يتيح له وقتًا إضافيًا للراحة أو لإنجاز مهام إضافية، وبالتالي التخفيف من الضغوط النفسية وضغوط العمل عنه، ويسلم بذلك من الاحتراق الوظيفي.
  • النوع الثالث: نعمة السلامة من الأمراض:

من مظاهر ضعف المخلوق أن تعتريه أحوال التغير والنقص والمرض، فدوام الحال من المحال، فمن منَّ الله عليه بنعمة الصحة في النفس والبدن، والسلامة من الأمراض فقد أوتي خيرًا كثيرًا، لما يدفع الله تعالى عنه بتلك الحالة أنواعًا من الآلام وأشكالاً من الضغوط النفسية وأبوابًا من الإنفاق المالي، وضياع الأوقات، وقد وردت الإشارة لهذا المعنى، بقوله ﷺ: (نِعمَتانِ مَغبونٌ فيهما كثيرٌ مِنَ الناس: الصِّحَّةُ والفَراغ)[12].

وها نحن نعاين الآثار المادية والمعنوية التي ترتبت على ظهور وباء كورونا، ولو وقف المرء وقفة تأملية في الآثار التي نتجت عن ظهور وباء كورونا وانتشاره في العالم، ومدى تضرُّر مصالح العباد، وحجم ما أُنفق على مستوى الدول من جهود ونفقات وأوقات في معالجة الوباء والتخفيف من أضراره لأدرك نعمة العافية والسلامة من الأمراض، وقيل في الحكمة: العافية الملك الخفي.

ومن الأمثلة التطبيقية لذلك:

  • أن يكون المرء سليمًا من الأمراض المقعِدة أو المضعِفة عن العبادة والعمل والكسب.
  • أن تكون حالة المريض الصحية مستقرة على نحو منضبط وفي حدود معقولة، وألا تتطور إلى حالة أسوأ أو مستوى أخطر.
  • تقدير الله تعالى الشفاء للمريض بالإجراء الطبي الأدنى دون الحاجة للإجراء الطبي الأعلى.

لو تأمّل المرء في الآثار التي نتجت عن ظهور وباء كورونا وانتشاره في العالم، ومدى تضرُّر مصالح العباد، وحجم ما أنُفق على مستوى الدول من جهود ونفقات وأوقات في معالجة الوباء والتخفيف من أضراره، لأدرك نعمة العافية والسلامة من الأمراض

  • النوع الرابع: نعمة السلامة من العقم أو عقوق الولد:

امتن الله سبحانه وتعالى على الإنسان بنعمة الولد، بل وفطره على حب الولد، فقال سبحانه: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: ٤٦]، فإذا رُزق الإنسان بالولد، ولم يُحرم من هذه النعمة، فقد كسب الكثير من المصالح، لما دُفع عنه بذلك من السعي الحثيث والأخذ بالأسباب ابتغاء الذرية، كالتداوي وإجراء العمليات المتنوعة، ومتابعة العلاجات، وتكرار المراجعات للأطباء، وما يترتب على ذلك من صور الإنفاق المالي والهم والغم، بل وربما الخصومات بين الزوجين، وأحيانًا انتهاء العلاقة الزوجية.

ومن الأمثلة التطبيقية لذلك:

مجيء الولد معافى في بدنه، ذا خلقة تامة، سليم الحواس، خاليًا من التشوهات والإعاقات، سببٌ لسكينة البيت وراحة الأسرة النفسية والمعنوية، وعدم الاضطرار لنفقات إضافية.

هداية واستقامة الولد سبب للحياة الرغيدة لأسرته، وطمأنينة الوالدين، وراحتهم النفسية، ويزيل عنهم مخاوف العقوق وهم متابعته في فروضه وواجباته ومسؤولياته الدينية والدنيوية.

سلوك الابن طريق طلب العلم وحفظ القرآن الكريم سبب في صرف الكثير من الشرور عن الوالدين، ببركة العلم والقرآن الكريم، وبما يثمره هذا التحصيل من فوائد وهداية، وفي المآل يكون ذلك النتاج في صحيفة أعمال الوالدين.

  • النوع الخامس: نعم العافية من المصائب وأنواع الابتلاءات الأخرى:

من سنن الله ابتلاء عباده في الحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور﴾ [الملك: ٢]، وبيّن سبحانه الأنواع الرئيسية للابتلاء بقوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين﴾ [البقرة: ١٥٥]، فكلُّ إنسان عافاه الله تعالى من نوعٍ أو أكثر من أنواع الابتلاء المذكورة فقد ربح وفاز وحصَّل من المصالح الدنيوية الشيء الكثير، لأن المصائب والبلاءات، كالفقر والخسائر التجارية والجوائح والحوادث والحرائق وظلم الطغاة ونحوها… لو وقعت على العبد لاستغرقت من الأموال والجهود والأوقات ما الله به عليم، ومن عُوفي فليحمد الله على هذه النعمة العظيمة، وقد كان من دعائه ﷺ: (اللهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة)[13].

ومن رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن جعل إحدى صور استجابة دعاء العبد أن يصرف عنه من البلاء بقدر دعائه كما تقدم.

ومن الأمثلة التطبيقية لذلك:

إصابة الإنسان بمصائب خفيفة بالمقارنة بغيره رغم وحدة الظروف.

إصابة الإنسان بمصيبة خفيفة لأجل تحقيق نعمة خافية، كمن يتعثّر ويسقط ليتأخّر لحظة مرور سيارة تدهسه مثلاً.

عدم ارتفاع الوفيات والإصابات والخسائر المالية في الحوادث والنكبات كالحرائق والحوادث والزلازل والسيول وغير ذلك.

أن يقدر الله الخير للإنسان في غير مظنته أو فيما يظن أنه ضرر به، قال تعالى: ﴿عَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾ [البقرة: ٢١٦].

  • النوع السادس: نعمة الرخص الشرعية:

من صور تيسير الله على عباده والتوسعة عليهم أن شرع أحكامًا اصطلح العلماء على تسميتها بـ «الرخصة»[14]، حيث يشرع للمكلف العمل بالرخص عند حصول المشقة المعتبرة شرعًا، فالمسافر -مثلاً- رخص له مجموعة الأحكام الشرعية الخاصة به حالة كونه مسافرًا سفرًا شرعيًا؛ كقصر الصلوات والجمع بينها، والمسح على الخفين والتيمم، والإفطار في نهار رمضان، فهذه التوسعة من الشارع للمسافر هي من قَبيل الرزق ذي المفهوم السلبي للمكلف، ويدخل في هذا الباب إباحةُ المحظورات في أحوال الضرورات، وكذلك سائر ما جاءت شريعتنا بتيسيره في العبادات والمعاملات بأنواعها.

وهكذا يمكننا تصور الموضوع في بقية أنواع الرزق ذي المفهوم السلبي، حيث تتجلى صور العائد لهذا المفهوم للرزق في آثاره المادية كتوفير الجهد والمال وتخفيض الإنفاق و… ، وفي آثاره المعنوية كتوفير الوقت والراحة النفسية والراحة الذهنية … وغير ذلك من العوائد على الإنسان، فالعافية لا يعدلها شيء.

شرع الله تعالى الرُّخص بتخفيف بعض الأحكام عند حصول المشقّة، وهي من قَبيل الرزق ذي المفهوم السلبي، فيدخل فيها تيسير العبادات والمعاملات بأنواعها وإباحةُ المحظورات في أحوال الضرورات

الوقفة الرابعة: التوجيهات الشرعية في باب الرزق بمفهومه السلبي:

وردت مجموعة من النصوص في الكتاب والسنة المتضمنة لمجموعة من التوجيهات الشرعية ذات العلاقة بباب الرزق بمفهومه السلبي، والتي ينبغي للمسلم مراعاتها، وعدم تجاهلها، من تلكم التوجيهات:

  1. أهمية استحضار هذه النعم، فهذا مما يعين على شكرها، وكلما زاد شكر المنعم زادت النعم، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون﴾ [البقرة: ١٧٢]، فهو سبحانه المستحق للشكر لأنه المنعم والمتفضل بها، قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾ [النحل: ٥٣]، وكذلك أخذًا بأسباب دوامها، قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد﴾ [إبراهيم: ٧]، وقال ﷺ: (إن الله ليرضَى عَنِ العبدِ أن يأكلَ الأكلَةَ فيحمَده عليها، أو يَشربَ الشَّربَةَ فيحمَدَه عليها)[15].

فإن شكر النعم يورث الحياء من الله جلّ جلاله، ويجلب محبته.

  • الامتثال للأوامر الشرعية الحاضَّة على اغتنام موارد صور الرزق بمفهومه السلبي وعدم التفريط فيها، ومنها:

أ- اغتنام أوقات وأحوال السعة والقوة والصحة في العبادة والطاعة، يقول ﷺ: (اغتَنِم خمسًا قبلَ خمسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوتِكَ)[16].

ولذلك كان ﷺ يتعوذ من فقدان هذه النعم، فيقول: (اللهم إني أَعُوذُ بكَ مِن زَوَالِ نِعمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ)[17].

يقول الشيخ الطنطاوي رحمه الله: «لماذا نطلب الذهب ونحن نملك الذهب الكثير، أليس البصر والصحة والوقت من ذهب؟!، فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا وصحتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟»[18].

ب- الأخذ بأسباب الرزق الحلال الشرعية، كالعبادة والاستغفار والصدقات وصلة الرحم و…، والأسباب المادية كبذل الجهد والسعي في الأرض والتبكير في الطلب و.. قال ﷺ: (لو أنكُم توكلتُم على الله حَقَّ تَوكُّلِهِ لَرَزَقَكُم كما يَرزُقُ الطيرَ، تَغدو خِماصًا وترُوحُ بِطانًا)[19]، وقال في الحديث القدسي: (يقول ربّكم تبارك وتعالى: يا ابن آدم، تفرّغ لعبادتي، أملأ قلبك غنىً، وأملأ يديك رزقًا، يا ابن آدم، لا تباعد منّي، فأملأ قلبك فقرًا، وأملأ يديك شغلاً)[20].

يقول ابن القيم رحمه الله: «إِذا أصبح العَبد وَأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حَوَائِجه كلهَا، وَحمل عنه كل ما أهمه، وَفرغ قلبه لمحبته وَلسانَه لذكره وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمَّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوَحش في خدمة غيره، كالكير ينفخ بَطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره»[21].

ج- أن يحرص المسلم على سؤال الله تعالى العافية من الابتلاءات والمصائب والأمراض والفتن، فإن العافية هي الملك الخفي، وما من دعوةٍ يدعو بها العبدُ أفضل منها، وقد أوصانا ﷺ بذلك فقال: (اسألوا الله العفو والعافية، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية)[22].

كما أنه ﷺ كان يدعو -ويوصي عمه العباس رضي الله عنه- بذلك فيقول: (اللهم إني أسألُك العافيةَ في الدنيا والآخرةِ)[23].

ليحرص المسلم على سؤال الله تعالى العافية من الابتلاءات والمصائب والأمراض والفتن، فإن العافية هي الملك الخفي

  • إدراك حقيقة الحياة الدنيا، ومركزية سنة الابتلاء فيها، وأن الغاية الكلية من الابتلاء فيها هي العودة إلى الله تعالى والتوبة والتضرع إليه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون﴾ [الأنعام: ٤٢].
  • دراسة السنن الربانية الكونية والشرعية الواردة في باب الرزق ومراعاتها، والوقوف على فقهها، وندرك من خلالها سعة رحمة الله وواسع فضله وأثر نعمه، ومن أمثلتها ما ذكره تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِير﴾ [الشورى: ٢٧]. وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: ١٦].

قال ابن كثير رحمه الله: «أي: ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم، وهو أعلم بذلك، فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر»[24]؛ فيُوسع تبارك وتعالى أو يُضيّق الرزق لمن يشاء من عباده فضلاً ورحمة وحماية أو امتحانًا واختبارًا أو استدراجًا وإمهالاً أو حرمانًا وعذابًا، فلا يجوز أن يتهم الإنسانُ ربَّه في عطائه ولا في منعه جلَّ في علاه، مع تقريره أن هذه الحياة الدنيا لهوٌ ومتاع وزينة وتفاخر وأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية، قال تعالى: ﴿اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاع﴾ [الرعد: ٢٦].

  • الإيمان بالقضاء والقدر، والعمل على الرضا به، بل شكر الله وحمده على أقداره المؤلمة كما نشكره على أقداره المفرحة، ومفتاح ذلك أن أمر المؤمن كله خير (إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيرًا له)[25] فمهما أصاب الإنسان من أنواع الابتلاءات والمصائب فهي خير له إذا صبر واتقى، وفي تدبر قصة موسى مع الخضر عليهما السلام ما يفتح آفاقًا بعيدة في فهم الكثير من الأقدار والأحوال.

‏اللهم إنا نسألك رزقًا حلالاً طيبًا مباركًا فيه، ونعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، والرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.

الإيمان بالقضاء والقدر مما يعين المرء على إدراك النعم بالمفهوم السلبي، فيرضى المؤمن بقضاء الله ويتلمس لطف الله ورحمته فيما يصيبه من بلايا ومصائب


[1] أخرجه مسلم (٢٧١٥).

[2] السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد، لعبد الكريم زيدان، ص (٢٦٤).

[3] تفسير ابن عطية (٣/٣٤٠).

[4] أخرجه البخاري (٦٤١٢).

[5] أخرجه الترمذي (٢٣٤٦).

[6] فيض القدير، للمناوي (٦/٦٨).

[7] أخرجه أحمد (١١١٣٣).

[8] أي تعويضه بأمر آخر لم يدع به لكن له فيه خير.

[9] فتح الباري، لابن حجر (١١/٩٥).

[10] حلية الأولياء، لأبي نعيم (٢/١٤٨).

[11] إحياء علوم الدين، للغزالي (٦/٦).

[12] أخرجه البخاري (٦٤١٢).

[13] أخرجه ابن ماجه (٣٨٥١).

[14] تطلق الرخصة على الأحكام التي فيها سهولة وتيسير على المكلف في مقابل العزيمة.

[15] أخرجه مسلم (٢٧٣٤).

[16] أخرجه الحاكم في المستدرك (٧٨٤٦).

[17] أخرجه مسلم (٢٧٣٩).

[18] صور وخواطر، للطنطاوي (٢٢-٢٣).

[19] أخرجه أحمد (٣٧٠)، والترمذي (٢٣٤٤)، وابن ماجه (٤١٦٤).

[20] أخرجه الحاكم (٧٩٢٦).

[21] الفوائد لابن القيم (٨٤).

[22] أخرجه الترمذي (٣٥٥٨).

[23] ينظر: سنن الترمذي (٣٥١٤).

[24] تفسير ابن كثير (٧/٢٠٦).

[25] أخرجه مسلم (٢٩٩٩).


د. حسان نقرش

دكتوراه في الدعوة والثقافة الإسلامية.

2 تعليقات

  • منير زهرا سبتمبر 12, 2021

    مقال رائع ومهم ، جزى الله الكاتب خيرا الجزاء …

    وارى ان من اهم صور الرزق والنعم (بالمفهوم السلبي ) السلامة من الكفر والضلال والفسق والانحراف ،،، فلو تدبر المسلم احوال الكفار والمنافقين والضالين وما هم عليه من ضنك العيش والخسران في الدنيا والاخرة لزاده ذلك شكرا وحمدا لله على الهداية هداية التوفيق لهذا الدين، ولزاده ذلك استقامة على نهجهه و التزاما باوامره

  • عبد القادر أبريل 14, 2022

    الله الله
    مقالة عظيمة النفع والأثر لمن تأملها
    جزى الله خيرا شيخنا د.حسان نقرش على ما كتب ونصح.
    وأجزل المثوبة لأحبتنا في مجلتنا رواء على حسن اختيارهم وإخراج المادة النافعة بأبهى حلة.
    أنصح بقراءته بتدبر وتأمل

التعليقات مغلقة

X