تأصيل

هل نحن بحاجة للسنة النبوية؟

نزَّل الله القرآن الكريم وذكر أن فيه تبيانًا لكل شيء، فهل هذا يعني أنه لا حاجة للسنة النبوية وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، لأنَّ كل شيء موجود ومفصل في القرآن؟ وهل يمكن الاستغناء عن السنة النبوية؟ وما هي مآلات هذا التوجه؟

تمهيد:

تعرّضت السنّة النبوية إلى شبهات عديدة، تتعلّق بثبوتها عن النبي عليه الصلاة والسلام أو بحجيتها في الشرع، ومن الشبهات التي تتعلق بحجّية السنّة النبوية (مع الإقرار بثبوتها أو ثبوت بعضها): شبهة الاكتفاء بالقرآن الكريم وعدم الحاجة إلى السنّة النبوية، وأنّ القرآن الكريم يغني عنها.

ويستند أصحاب هذه الشبهة على آيات يفسّرونها على غير وجهها، وفي هذه المقالة بيان هذه الشبهة والآيات التي يستندون إليها، وتوجيه هذه الآيات بحسب التفسير الصحيح الذي تقتضيه قواعد العلم.

وابتداءً نقول: ليس في هذه الشبهات شبهةٌ قويةٌ أو خطيرةٌ؛ فالحقّ ظاهر والباطل زاهق، لكن قد يغترّ بعض الناس بالشبهات بسبب كثرة عرضها عليهم وتكرار طَرْقها لمسامعهم مع عدم اطّلاعهم على الردّ عليها ووجوه بطلانها، أو بسبب مكانة الذي يعرضها في أنفسهم؛ ككبير مقدَّم أو خطيب مفوَّه أو إعلامي مشتهر أو عالم متقدّم في فن مِن فنون العلم.

والغالبيةُ العظمى ممّن يطرحون هذه الشبهات ليسوا مِن المتخصصين أصلاً في دراسة العلوم الشرعية ولا لهم إسهامات معروفةٌ فيها، لكنّهم يستغلّون المنابر الإعلامية ويُضفى عليهم ألقابٌ كبيرة لصرف أنظار الناس إليهم وإلى ما يقولون.

وبعض المغترّين بهذه الشبهات يحملون شهادات شرعية أو درسوا في معاهد شرعية، لذلك فعَرْضُ هؤلاء للشبهات وتبنِّيهم لها ونشرُها بين الناس يغُرُّهم بها ويقرّبها مِن قلوبهم؛ إذ إن مَن يعرضها شيخ أو عالم أو متخصص في العلوم الشرعية!

وهذه المقالة موجّهة أساسًا للمؤمنين بالسنّة النبوية المقرّين بحجيتها؛ تثبيتًا لمكانتها في القلوب والعقول، وزيادة في اطمئنانهم لها وتعلقهم بها، وحماية مِن شرور هذه الشبهات كي لا تتسلل إلى عقولنا وقلوبنا.

ليس في شبهات منكري السنة شبهةٌ قويةٌ أو خطيرةٌ؛ فالحقّ ظاهر والباطل زاهق، لكن قد يغترّ بعض الناس بالشبهات بسبب كثرة عرضها عليهم، مع عدم اطّلاعهم على الردّ عليها ووجوه بطلانها، أو بسبب مكانة الذي يعرضها في أنفسهم لشهرته أو منصبه

أدلتهم على الاكتفاء بالقرآن الكريم:

يستند أصحاب هذه الشبهة على بعض الآيات مِن القرآن الكريم أشهرها آيتان:

  • الأولى: قول الله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38].
  • الثانية: قول الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89].

ولنعرض لأقوال المفسرين في هاتين الآيتين لنتبيّن هل فيهما حجة على ما يقولون؟

أقوال المفسرين في الآية الأولى:

للمفسرين فيها قولان:

القول الأول: المراد بالكتاب هنا هو (اللوح المحفوظ) أو (أمّ الكتاب).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: “ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أمّ الكتاب”([1])، وقال قتادة: “في الكتاب الذي عنده”([2]).

وهذا القول ذكره الطبري ولم يذكر غيره ثم قال: “وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ”. ثم رواه بالإسناد عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن عبد الرحمن بن زيد.

القول الثاني: أنّ المراد هنا هو القرآن الكريم، قال أبو منصور الماتريدي: “وقوله عز وجل: ﴿‌مَا ‌فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ اختُلف فيه:

قال بعضهم: (ما فرطنا) أي: ما تركنا شيئًا إلا وقد ذكرنا أصلَه في القرآن.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أمّ الكتاب: وهو اللوح المحفوظ.

وقيل: (ما فرطنا): ما ضيعنا في الكتاب مما قد يقع لكم الحاجة إليه أو منفعة إلا قد بيّناه لكم في القرآن”([3]).

وأكثر الذين ذكروا القول الثاني ذكروه مع القول الأول؛ أي قولاً ثانيًا محتمِلاً ولم يرجحوه على القول الأول، وإن كان بعض مَن ذكره قد رجحه على قول ابن عباس رضي الله عنهما.

وخصّصوا عموم الآية ليتوافق معناها مع أنّ القرآن ليس فيه كل شيءٍ، فليس فيه تفاصيل علم الطب ولا الحساب ولا تفاصيل كثير من العلوم، ولا مذاهب الناس ولا دلائلهم، قال الرازي: “﴿‌مَا ‌فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍيجب أن يكون مخصوصًا ببيان الأشياء التي يجب معرفتها…” ثم قال: “جميع آيات القرآن أو الكثير منها دالّة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام([4]) على أنّ المقصودَ مِن إنزال هذا الكتاب بيانُ الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله”([5]).

وهذا التخصيص لا يُحتاج إليه على القول الأول؛ فقد كتب ربنا جل وعلا كلَّ شيء في أمّ الكتاب، كما قال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]، وغيرها من الآيات التي تدلّ دلالة واضحة بيّنة على ما ذكرنا.

عند وجود أكثر من وجه في تفسير آية من كتاب الله؛ ينبغي ترجيح القول الصحيح من خلال عدة أمور، منها: غرض الآية الذي سيقت لأجله، وكذلك سياقها ضمن الآيات التي قبلها والتي بعدها

فما الراجح في معنى (الكتاب) في هذه الآية؟

الراجح في معنى الكتاب في هذه الآية هو (اللوح المحفوظ)، وترجيح هذا القول يدلّ عليه غرض الآية الذي سيقت لأجله، وكذلك سياقها، وبيان ذلك كما يلي:

غَرَضُ الآية يرجح القولَ الأول:

رجّح الطاهر بن عاشور القولَ الأولَ واستبعد القولَ الثاني؛ لأنّ القول الثاني لا يناسب غَرَضَ الآية. قال رحمه الله: “وجملة: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ مُعْتَرِضَةٌ لبيان سَعَةِ علمِ الله تعالى وعظيمِ قدرته؛ فالكتابُ هنا بمعنى المكتوبِ، وهو المكنّى عنه بالقلمِ المرادِ به ما سبق في علم الله وإرادته الجارية على وَفقِه كما تقدم في قوله تعالى: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾. وقيل: الكتابُ القرآنُ، وهذا بعيدٌ؛ إذ لا مناسبةَ بالغرضِ على هذا التفسير، فقد أُوْرِدَ: كيف يشتمل القرآنُ على كل شيء؟ وقد بسط فخرُ الدين بيانَ ذلك لاختيارِ هذا القولِ، وكذلك أبو إسحاقَ الشاطبي في الموافقات”([6]).

سياق الآية يرجح القولَ الأول:

وفي سياق الآية ما يدلّ على أنّ المرادَ هنا اللوحُ المحفوظ لا القرآن الكريم، قال ابن تيمية رحمه الله: “وأما قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ فهو بَعْدَ قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ ولهذا قال أكثر العلماء: إنّ الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ”([7])، وذكر -رحمه الله- أنّه “أصحّ القولين”([8])، وقال أيضًا: “لأن الكتاب هنا في أشهر القولين هو اللوح المحفوظ كما يدل عليه السياق”([9]).

وقال القرطبي عن القول الثاني: “قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي في اللوح المحفوظ؛ فإنّه أثبتَ فيه ما يقع مِن الحوادث. وقيل: أي في القرآن، أي ما تركنا شيئًا مِن أمر الدين إلا وقد دَلَلْنا عليه في القرآن، إمّا دلالة مبيَّنةً مشروحة، وإما مُجْمَلة يُتلقى بيانُها مِن الرسول عليه الصلاة والسلام، أو مِن الإجماع، أو مِن القياس الذي ثبت بنصّ الكتاب”([10])، فها هو القرطبي يبيّن أنّ المراد مِن الكتاب لو كان “القرآن الكريم” فالذي فيه لا يدلّ وحده مباشرةً على الأحكام الشرعية التي يحتاجها الناس، بل لا بدّ مِن توسيع مصادر الدلالة عليها لتشمل السنّة والإجماع والقياس مما ثبتت مصدريته للتشريع في أمّ المصادر كلها “القرآن الكريم”.

مِن كلّ ما سبق نخلص إلى نتيجة واضحة فيما يخص استدلال أصحاب شبهة الاكتفاء بالقرآن عن السنّة بآية: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ، وهي:

أنّه على القول بتفسير الكتاب بأنّه اللوح المحفوظ: لا دليل لهم في الآية.

وعلى القول بتفسيره بأنّه القرآن الكريم: لا دليل لهم في الآية أيضًا؛ لأنّ دلالة الآية مخصوصة بما يجب معرفته، ودلالتها عليه إمّا مباشرة أو بالإحالة إلى أدلّة أخرى ومنها السنّة النبوية([11])؛ فبطل استدلالهم بهذه الآية.

أقوال المفسرين في الآية الثانية:

وهي قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89].

قال الطبري رحمه الله: “وقوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ يقول: نزل عليك يا محمد هذا القرآن بيانًا لكل ما بالناس إليه الحاجة مِن معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب”، ثم روى بالإسناد عن مجاهد: “مما أَحلّ لهم وحرّم عليهم” وعن ابن جريج: “ما أُمروا به ونُهوا عنه”([12]).

وقال الواحدي: “قال مجاهد: يعني لِمَا أَمَر به وما نهى عنه. وقال أهل المعاني: يعني لكلّ شيء مِن أمور الدين؛ بالنصّ عليه أو الإحالة على ما يوجب العلم به مِن بيان النبي صلى الله عليه وسلم أو إجماع، فهو الأصل والمفتاح لعلوم الدين”([13]).

وقال البغوي: “﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ يُحتاج إليه مِن الأمر والنهي، والحلال والحرام، والحدود والأحكام”([14])، وبنحو هذا قال عامّة المفسرين، قال ابن عطية: “وقوله: ﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ أي مما يُحتاج في الشرع ولا بدّ منه في الملّة؛ كالحلال والحرام والدعاء إلى الله والتخويف مِن عذابه، وهذا حَصْرُ ما اقتضته عباراتُ المفسرين([15]).

القرآن الكريم لا يحوي كلّ أمور الدين والدنيا، بل لا يحوي كلّ أمور الدين؛ فأين في القرآن عدد الصلوات ومدّة المسح على الخفين ونصاب الزكاة وغير ذلك مما لا نجد له ذكرًا في القرآن وهو مِن أمور الدين؟

والعموم الوارد في هذه الآية غير مراد، بل هي مِن العام المخصوص، قال الباقلاني: “‌مخصوصٌ فيما أُلزِمَ الناسُ معرفتَه”، وقال: “وكلُّ ذلك على الخصوصِ وإن كان واردًا بلفظ العموم”([16])، فالقرآن الكريم كما هو ظاهر لا يحوي كلّ أمور الدين والدنيا، بل لا يحوي كلّ أمور الدين؛ فأين في القرآن عدد الصلوات ومدّة المسح على الخفين ونصاب الزكاة وغير ذلك مما لا نجد له ذكرًا في القرآن وهو مِن أمور الدين؟

وذكروا أنّ بيان القرآن ليس صريحًا في كلّ الأمور التي بيّنها، فقد بيَّنَ بعضَ الأحكام صراحةً وأحال في بيان بعضها إلى السنّة كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ‌لِتُبَيِّنَ ‌لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]([17])، قال الرازي رحمه الله: “وأمّا الفقهاء فإنّهم قالوا: القرآن إنّما كان تبيانًا لكلّ شيء لأنّه يدلّ على أنّ الإجماعَ وخبرَ الواحد والقياسَ حجةٌ، فإذا ثبت حُكمٌ مِن الأحكام بأحد هذه الأصول كان ذلك الحكم ثابتًا بالقرآن”([18]).

ويؤكد الطاهر بن عاشور -رحمه الله- على هذا المعنى فيقول: “ولقد جمع القرآنُ جميعَ الأحكام جمعًا كُليًا في الغالب وجزئيًا في المهمّ، فقوله: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ وقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: 3] المراد بهما: إكمال الكلّيات التي منها الأمر بالاستنباط والقياس. قال الشاطبي: لأنّه على اختصاره جامعٌ، والشريعة تمّت بتمامه، ولا يكون جامعًا لتمام الدين إلّا والمجموعُ فيه أمورٌ كُلية”([19]).

وإلى هذا المعنى أشار الإمام الشافعي -رحمه الله- قبلهم فقال:

“فليست تَنزِل في أحد مِن أهل دين الله نازلةٌ إلّا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها”، ثم فصَّل رحمه الله فقال: “فجِمَاع ما أبان الله لخَلقه في كتابه مما تَعَبَّدَهم به لما مضى مِن حُكمِه جل ثناؤه مِن وجوه:

فمنها ما أبانه لخَلْقِه نصًا: مثلُ جُمَلِ فرائضِه في أنّ عليهم صلاةً وزكاةً وحجًا وصومًا، وأنّه حرَّم الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن، ونصّ الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير([20])، وبيَّن لهم كيف فَرْضُ الوضوء مع غير ذلك مما بيّن نصًا.

ومنه ما أَحكم فرضَه بكتابه وبيَّن كيف هو على لسان نبيّه: مثل عَددِ الصلاةِ والزكاةِ ووقتِها وغيرِ ذلك مِن فرائضه التي أنزل مِن كتابه.

ومنه ما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نصُّ حُكمٍ، وقد فرض الله في كتابه طاعةَ رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاءَ إلى حكمه؛ فمَن قَبِلَ عن رسول الله فبِفَرْضِ الله قَبِلَ.

ومنه ما فرض الله على خَلقه الاجتهادَ في طلبه وابتلى طاعتَهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيرِه مما فرضَ عليهم”([21]).

من كلّ ما سبق نخلص إلى نتيجة واضحة:

أنّ القرآن الكريم بيَّن أصولَ الدين وأصولَ الفرائض، وبيّن تفصيلاتٍ في بعضها.

وأنّ القرآن الكريم أحال فيما لم يبيّنه إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم.

“أَمَرَ تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلامًا بأنّ ‌طاعة ‌الرسول ‌تجب ‌استقلالاً مِن غير عَرْضِ ما أَمَرَ به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعتُه مطلقًا، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه”
أعلام الموقعين لابن القيم


لماذا أحال القرآن على السنة؟

قبل أن نبدأ بالجواب لا بد أن نبيّن حقائق اتفق علماء المسلمين عليها، منها:

  • القرآن يأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم:

تكرّر الأمر في القرآن الكريم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقرونًا بطاعة الله تعالى أو أمرًا بطاعته مفردة.

فمِن الأول قول الله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 32]، وغيرها من الآيات([22]).

ومِن الثاني قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ ‌تُحِبُّونَ ‌اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]، وغيرها من الآيات الدالة بوضوح على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم([23]).

فإن قيل: يأمر الله تعالى بطاعة رسوله فيما بلغه من القرآن الكريم، فالجواب:

تكرار فعل الأمر بالطاعة (أطيعوا) مع الله ومع الرسول يدلّ على أنّ الطاعة المأمور بها مع الرسول عليه الصلاة والسلام طاعة مستقلة عن أوامر القرآن، قال ابن القيم رحمه الله: “فأَمَرَ تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلامًا بأنّ ‌طاعة ‌الرسول ‌تجب ‌استقلالاً مِن غير عَرْضِ ما أَمَرَ به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعتُه مطلقًا، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه”([24]).

  • طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مِن طاعة الله تعالى:

لا يعني قولُ العلماء: إنّ للرسول عليه الصلاة والسلام طاعةً مستقلةً أنّه يطاع فيما يخالف أمر الله تعالى أو في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، فهذا لا يخطر ببال عاقل، بل معناها أن يطاع الرسول عليه الصلاة والسلام فيما أمر به أو نهى عنه مما سكت عنه القرآن ولم يأمر به أو ينهى عنه.

وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام فرع عن طاعة الله، وعن الإيمان به رسولاً لله، فالله تعالى أمرنا بطاعته، ولا يمكن أن يأمر الرسولُ صلى الله عليه وسلم بما يخالف أمرَ الله تعالى الذي أرسله.

قال الطبري في قوله تعالى ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ‌وَالْحِكْمَةَ﴾: “‌ويعني ‌بالحكمةِ: ما أُوحي إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أحكامِ دينِ اللهِ ولم يَنزلْ به قرآنٌ، وذلك السنةُ، وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ”

  • السنّة وحي مِن الله:

بيَّنَ القرآن الكريم في عدة آيات أنّ الله أنزل على الرسول عليه الصلاة والسلام القرآنَ والحكمةَ، قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ‌وَالْحِكْمَةَ﴾ [آل عمران: 164]، وقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ‌وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]، وغيرها من الآيات الدالة على هذا، فما هي الحكمة؟

قال الإمام الشافعي رحمه الله: “كلُّ ما سنَّ رسول الله مما ليس فيه كتابٌ، وفيما كتبنا في كتابنا مِن ذِكرِ ما مَنَّ الله به على العباد مِن تَعَلُّم الكتاب والحكمة دليلٌ على أنّ ‌الحكمةَ ‌سنّةُ ‌رسول ‌الله”([25])، وقال أيضًا: “فذَكرَ اللهُ الكتابَ وهو القرآنُ، وذَكرَ الحِكْمَةَ؛ فسَمِعْتُ مَنْ أرْضى مِن أهل العلمِ بالقرآن يقول: ‌الحكمةُ ‌سنّةُ ‌رسولِ ‌الله، …، لأنّ القرآن ذُكر وأُتْبِعَتْه الحكمةُ، وذَكرَ الله مَنَّهُ على خَلْقه بتعليمهم الكتاب والحكمة؛ فلم يَجُزْ -والله أعلم- أن يقال الحكمة ها هنا إلا سنّةُ رسول الله”([26]).

وقال الطبري رحمه الله: “‌ويعني ‌بالحكمةِ السُّنَّةَ التي سنَّها اللهُ عز وجل للمؤمنين على لسانِ رسولِه، وبيانَه لهم”([27])، وقال: “‌ويعني ‌بالحكمةِ: ما أُوحي إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أحكامِ دينِ اللهِ ولم يَنزلْ به قرآنٌ، وذلك السنةُ، وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ”([28]).

ونعود إلى الإجابة على سؤال (لماذا أحال القرآن على السنة النبوية؟)

والجواب: لأنه لا يمكن العمل بكل ما في القرآن الكريم إلا من خلال السنة النبوية، وبيان ذلك باختصار كما يلي:

  • أمر الله تعالى بأوامر عديدة في القرآن الكريم، كالعبادات (الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج) ولم يفصل فيها:

فإذا أردنا طاعة أمر القرآن بإقامة الصلاة فكم صلاةً سنصلي في اليوم؟ وكم ركعة في كل صلاة؟ ومتى وقت كل صلاة؟ وما هي الأفعال التي يجب أن نأتي بها لتصح الصلاة؟ وما الأشياء التي تُبطل الصلاة؟ وما هي شروط الصلاة؟ وسننها وآدابها؟

وقل مثل ذلك في الصوم: ما هي شروط وجوبه وأركانه ومبطلاته وسننه وآدابه؟

وفي الزكاة نقول: ما الأموال التي تجب فيها الزكاة؟ وما القدر الواجب في الزكاة؟ وكم مرة يزكي المكلف في العام؟

وفي الحج نقول: كم مرةً نحج؟ وما الأفعال التي يجب علينا أداؤها فيه؟ وكم شوطًا نطوف ونسعى؟ وما مبطلات الحج؟ وماذا يفعل مَن أتى محظورًا في الحج؟

فالأوامر التي أمر بها الله تعالى في القرآن أحال في بيانها إلى سنّة النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن القيام بها إلا ببيانٍ من النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عبدالله المروزي: “وجدتُ أصولَ الفرائض كلها لا يُعرف تفسيرُها ولا تنكر([29]) تأديتُها ولا العملُ بها إلا بترجمةٍ مِن النبي صلى الله عليه وسلم وتفسيرٍ منه، مِن ذلك ‌الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، قال الله عز وجل: ﴿‌إِنَّ ‌الصَّلَاةَ ‌كَانَتْ ‌عَلَى ‌الْمُؤْمِنِينَ ‌كِتَابًا ‌مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103]؛ فأجمَلَ فرضَها في كتابه ولم يفسرها ولم يخبِر بعددها وأوقاتها، فجَعَلَ رسولَه هو المفسِّرَ لها والمبيِّنَ عن خصوصها وعمومها، وعددها وأوقاتها، وحدودها”([30]).

  • ونهى الله تعالى في القرآن الكريم عن أشياء عديدة، ولم يفصل فيها؛ فإذا أردنا امتثال هذا النهي فلا بد من بيان السنّة النبوية لها:

نهى الله تعالى عن الخمر: فما هي الخمر؟ وما أنواعها؟ وهل يحرم علينا فقط تناولها أم يحرم بيعها وشراؤها وعصرها والترويج لها؟

ونهى الله تعالى عن الربا: فما هو الربا؟ وما أنواعه؟ وما الأموال التي يجري فيها الربا والتي لا يجري فيها؟

وحرّم الله السرقة وجعل فيها حدًّا هو قطع اليد: فما المال المسروق حتى يجب القطع؟ وما شروط وجوب القطع؛ هل يقطع من سرق أي مالٍ أم لا بدّ أن يبلغ المسروق مقدارًا معينًا؟ وكم يدًا ستقطع؟ ومن أي مكان في اليد: أمِن الإبط أم مِن المرفق أم مِن الرسغ؟ وأي يدٍ ستقطع: اليمنى أم اليسرى؟ قال النسفي رحمه الله: “وقوله تعالى: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ أضافَ الأيدي إليهما؛ فيكون عن كلِّ واحدٍ منهما يدٌ واحدةٌ، … وتقديرُه: فاقطعوا يدَ كلِّ واحدٍ منهما، ثمَّ لم يُعرَف تعيينُ اليدِ التي تُقطع فيها، ولا موضعُ القطعِ منها بإطلاقه، فتوقَّفَ على بيان النبيِّ صلى الله عليه وسلم”([31]).

وقُلْ مثل هذا في كلّ الأوامر المجملة في القرآن وفي كلّ النواهي المجملة: لا نستطيع فعل المأمور به ولا اجتناب المنهي عنه إلا ببيانٍ من السنّة النبوية.

أحال الله تعالى في بيان الأوامر التي أمر بها في القرآن إلى سنّة النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن القيام بها إلا ببيانٍ من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو شأن كلّ الأوامر والنواهي المجملة في القرآن؛ لا نستطيع فعل المأمور به ولا اجتناب المنهي عنه إلا ببيانٍ من السنّة النبوية

ختامًا:

لعلّك لاحظت أيها القارئ الكريم أنّ المقالة لم يُذكر فيها حديث في الاستدلال على عدم جواز الاكتفاء بالقرآن الكريم، وعلى وجوب العمل بالسنّة النبوية، وهذا ليس لقلّة الأحاديث الدالّة عليه؛ ففي الأحاديث النبوية أكثر مما في الآيات مما يدل على وجوب العمل بالسنّة النبوية، ولكن طلبًا للاختصار واكتفاءً بما يدل عليه القرآن الكريم، وإلزامًا لمن يدّعون الاكتفاء بالقرآن عن السنّة؛ فها نحن لم نستدل إلّا بالقرآن الكريم في ردّ دعواهم.

والسنّة النبوية تدلّ على ما يدلّ عليه القرآن الكريم مِن أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي القرآن الكريم وأوتي السنّة معه، فبيّن النبيّ عليه الصلاة والسلام ما احتجنا إلى بيانه مِن القرآن الكريم، وبيّن لنا ما أحال الله تعالى فيه إلى بيان الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا جرى عمل الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام مِن بعدهم إلى يومنا هذا، وسيبقى المسلمون إن شاء الله يعملون بسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام جنبًا إلى جنب مع كتاب الله تعالى طاعة لأمر الله، والحمد لله رب العالمين.



أ. عبد الملك الصالح

إجازة في الشريعة من جامعة دمشق، ماجستير في الحديث وعلومه.


([1]) تفسير الطبري (9/234)، وتفسير ابن أبي حاتم (4/1286).

([2]) تفسير عبد الرزاق (2/47).

([3]) تفسير الماتريدي (4/80).

([4]) هذه من دلالات الألفاظ على معانيها، فالمطابقة: دلالة اللفظ على تمام المعنى الذي وُضع له؛ كدلالة لفظ (الإنسان) على الحيوان الناطق، ودلالة التضمن: دلالة اللفظ على جزء المعنى الذي وضع له؛ كدلالة لفظ الإنسان على النطق فقط، ودلالة الالتزام: وهي دلالة اللفظ على معنى لازم له في الذهن لا ينفك عنه؛ كدلالة لفظ الأسد على الشجاعة ولفظ السكَّر على الحلاوة. ينظر: الوجيز في علم الأصول، للدكتور محمد الزحيلي (2/137).

([5]) تفسير الرازي (12/526).

([6]) التحرير والتنوير (7/217).

([7]) بيان تلبيس الجهمية (8/221).

([8]) بغية المرتاد، ص (326-327).

([9]) درء تعارض العقل والنقل (9/39).

([10]) تفسير القرطبي (6/420).

([11]) المقصود بالسنّة هو ما ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

([12]) تفسير الطبري (14/333).

([13]) التفسير البسيط (13/171).

([14]) تفسير البغوي (5/38).

([15]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/415).

([16]) الانتصار للقرآن، للباقلاني (2/776). وينظر: تأويلات أهل السنة، لأبي منصور الماتريدي (6/555)، والتذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل، لأبي حيان الأندلسي (3/193)، وشرح مختصر الروضة، للطوفي (3/272).

([17]) العدول عن لفظ (الكتاب) أو (القرآن) في هذه الآية إلى لفظ (الذكر) يفيد دخول السنة النبوية في الذكر المحفوظ، قال ابن حزم (الإحكام: 1/98): “فأخبر تعالى كما قدمنا أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم كله وحي، والوحي بلا خلافٍ ذكرٌ، ‌والذكر ‌محفوظ ‌بنصّ ‌القرآن، فصحّ بذلك أنّ كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله عز وجل مضمونٌ لنا أنّه لا يضيع منه شيء؛ إِذْ ما حَفِظَ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيءٌ؛ فهو منقول إلينا كله، فلله الحجة علينا أبدًا”.

([18]) تفسير الرازي (20/258).

([19]) التحرير والتنوير (1/ 40)، وقول الشاطبي الذي نقله: “فالقرآنُ على اختصاره جامعٌ، ولا يكون جامعًا إلا والمجموع فيه أمور كُليّات؛ لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى: ﴿‌الْيَوْمَ ‌أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: 3]”، الموافقات (4/181).

([20]) يعني أنّ تحريم هذه المذكورات ثبت بالنصّ عليها صراحةً (الزنا والخمر وأكل الميتة والدم والخنزير)، فهي مما أبانه الله تعالى لخَلقِه نصًا.

([21]) الرسالة، ص (21-22).

([22]) ينظر مثلاً الآيات: [النساء: 59]، [المائدة: 92]، [النور: 54]، [محمد: 33]، [التغابن: 12].

([23]) ينظر مثلاً الآيات: [النور: 56]، [النساء: 64-65]، [النساء: 80]، [الحشر: 7].

([24]) إعلام الموقعين (2/89).

([25]) الرسالة، ص (32).

([26]) المرجع السابق، ص (78).

([27]) تفسير الطبري (6/212).

([28]) المرجع السابق (19/108).

([29]) كذا في المطبوع، ولعلها: يمكن.

([30]) السنة، للمروزي، ص (117).

([31]) التيسير في التفسير، لأبي حفص النسفي (5/383-384).

X