تزكية

دلائل الوحي في إنزال المطر

في مختلف أحداث الكون دلائل على عظيم صنع الله تعالى، ودعوةٌ إلى التفكُّر والتأمُّل فيها بما يهدي إلى التعرُّف على وحدانية الله تعالى وعظمته، وانفراده بأحقَّية التوجُّه إليه بالعبادة، ومن أهم تلك الأحداث التي نراها ونرى آثارها في الكون والحياة: نزول المطر، فما علاقته بالوحي؟ وما أوجه التشابه بينهما؟ هذا ما سيوضحه المقال.

شوال 1441 هـ – يونيو/ حزيران 2020م

تصور -أيها النبيل- هذا المشهد!

سكونٌ مطبق يعمُّ الأرجاء، يشق صمته رياح تَهُب هبوبًا خفيفًا، ثم لا تلبث أن تشتد شيئًا فشيئًا حتى تجمع ما تفرق من سحاب ثم تثير الرياح ذلك السحاب، فتتلبَّدُ السماء بالغيوم ويشتد البرق والرعد وتظلم السماء، ثم لا يلبث المطر أن ينزل، فتُسقى به أرضٌ مواتٌ فتحيا بإذن الله.

ثم تسيل أودية الماء لتنتقل أجزاء من تلك المياه إلى أرض بعيدة لم يعلوها سحاب ولم تشهد نزول المطر، فتحيا هي الأُخرى بإذن الله.

مشهد معتاد يتكرر في الأرجاء، لا تتوقف عنده كثيرًا عين المتأمل في كتاب الكون المفتوح، ولا تجد فيه غرابة.. إنما الذي يستوقفنا تكرارٌ لافتٌ لذكر أجزاء مختلفة من ذلك المشهد في كتاب الله الذي أُنزِل هدى ورحمة للعالمين، فلم كان ذلك؟ وما هي الرسائل والإشارات القرآنية من تلك المشاهد؟

يقول تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِن آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ يَمُرّونَ عَلَيها وَهُم عَنها مُعرِضونَ﴾ [يوسف: ١٠٥].

قال الضحاك: »كم من آية في السماء، يعني شمسها وقمرها، ونجومها وسحابها، وفي الأرض ما فيها من الخلق والأنهار والجبال والمدائن والقصور ولكن أكثر الناس، (يمرون عليها) أي على هذه الآيات غير متأملين لها ولا متفكرين فيها ولا ملتفتين إلى ما تدل عليه من وجود خالقها، وأنه المتفرد بالألوهية مع كونهم مشاهدين لها«([1]).

إنَّ المتأمِّل في ظواهر الكون عمومًا وفي ظاهرة الدورة المائية خصوصًا، لن تُخطئ عينُهُ رسائلَ الهداية ودلالات الوحي وإشارات التذكير بالآخرة التي تتضمنها تلك الظواهر والمشاهد لو أعمل فيها عقله وقلبه

تأمَّل تلك الرياح المرسلة التي تثير السحاب حتى يجتمع ويتراكم ثم ينزل منه الماء فتحيا به الأرض الميتة، إنها تشير إلى قصة الوحي والحياة والهداية التي تحصل للقلوب بها.

فإرسال الرياح يُشير إلى إرسال الأنبياء الكرام يحملون معهم الوحي النازل من السماء، والماء الطهور المبارك النازل من السحاب يُشير إلى الوحي المطهَّر النازل على القلوب.

هذه هي قصة التشابه بين دورة نزول المطر والوحي مجملة، ولنبين تلك المشاهد بشيء من التفصيل ونشير إلى دلالات تلك المشاهد.

إن المتأمِّل في ظواهر الكون عمومًا وفي ظاهرة الدورة المائية خصوصًا، لن تُخطئ عينُهُ رسائلَ الهداية ودلالاتِ الوحي وإشارات التذكير بالآخرة التي تتضمَّنها تلك الظواهر والمشاهد لو أعمل فيها عقله وقلبه.

إرسال الرياح:

تكررت الآيات التي ذُكر فيها إرسال الرياح في كتاب الله، إلا أن ما يلفت النظر فيها أنها كثيرًا ما تَرٍد في معرِض ذِكر إرسال الرسل إلى أقوامهم، أو تسبق الحديث عن تفاصيل أحداث الأنبياء مع أقوامهم! وكأنها تُشير لهذا المعنى.

مثال ذلك ما جاء في سورة الأعراف وهي السورة التي ساقت كثيرًا من قصص الأنبياء، وقد سُبقت تلك القصص بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذي يُرسِلُ الرِّياحَ بُشرًا بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّت سَحابًا ثِقالًا سُقناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلنا بِهِ الماءَ فَأَخرَجنا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخرِجُ المَوتى لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ﴾ [الأعراف: ٥٧].

ثم تتابعت الآيات تتحدث عن تفاصيل قصص نوح ثم هود ثم صالح ثم لوط ثم شعيب ثم موسى عليهم السلام، بتفصيل لا تُشابهه سورة أخرى!

كذلك لو تأملت مطلع سورة الذاريات والتي تتناول قصص عدد من الأنبياء مع أقوامهم، مثل إبراهيم وقوم لوط وموسى وعاد وثمود ونوح … لقد سُميت تلك السورة بالذاريات واستُفتحت بقوله سبحانه: ﴿وَالذّارِياتِ ذَروًا﴾ [الذاريات:١] »والمراد بالذاريات: الرياح التي تذرو في هبوبها«([2]).

كذلك هو الحال مع سورة الحِجر والتي جاء فيها تفاصيل أخرى من ذِكْر قصة خلق آدم، ثم قصة إبراهيم مع أضيافه، ثم قصة لوط، ثم أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب، ثم أصحاب الحجر وهم قوم صالح، ثم ذكر نبينا محمد r، قال تعالى قبل ذكر ذلك كله: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ [الحجر:22].

وفي سورة الفرقان التي جاء فيها ذكر الأنبياء مجملًا، ورد بعدها بعدة آيات قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذي أَرسَلَ الرِّياحَ بُشرًا بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ وَأَنزَلنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهورًا (48) لِنُحيِيَ بِهِ بَلدَةً مَيتًا وَنُسقِيَهُ مِمّا خَلَقنا أَنعامًا وَأَناسِيَّ كَثيرًا﴾ [الفرقان: ٤٨-٤٩].

وقد يكون من أهداف ذكر إرسال الرياح مع إرسال الرسل (إحياء الموتى)، وهذا مما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، وانظر إلى هذه الصورة العجيبة في سورة الروم التي تجلي الموضوع وهنا لن ينقضي عجبك إن سألت عن سرِّ وُرود ذكر إرسال الرسل في سورة الروم بين آيتين جاء فيهما ذكر الرياح في سياق غريب عجيب!

حيث يقول سبحانه: ﴿وَمِن آياتِهِ أَن يُرسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذيقَكُم مِن رَحمَتِهِ وَلِتَجرِيَ الفُلكُ بِأَمرِهِ وَلِتَبتَغوا مِن فَضلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشكُرونَ (46) وَلَقَد أَرسَلنا مِن قَبلِكَ رُسُلًا إِلى قَومِهِم فَجاءوهُم بِالبَيِّناتِ فَانتَقَمنا مِنَ الَّذينَ أَجرَموا وَكانَ حَقًّا عَلَينا نَصرُ المُؤمِنينَ (47) اللَّهُ الَّذي يُرسِلُ الرِّياحَ فَتُثيرُ سَحابًا فَيَبسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيفَ يَشاءُ وَيَجعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدقَ يَخرُجُ مِن خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ إِذا هُم يَستَبشِرونَ﴾ [الروم: ٤٦-٤٨] إلى غيرها من المواطن التي لا تُخطئها العين في كتاب الله لمن تتبَّعها وتدبَّرها والتي تؤيِّد ما ذكرنا من إشارة إرسال الرياح على إرسال الرسل والله أعلم.

وهنا يحسُن بنا التذكير بنعمة الله على البشرية بإرسال هؤلاء الرسل الكرام، الذين هم سببٌ في نجاة من نجى من البشر، والذين لا يستقيم إيمان أحدٍ منّا إلا بالإيمان بهم ومحبَّتهم وتقديرهم، فما ظنُّك بنا لو كان ديدننا تذكُّر هؤلاء الرسل الكرام مع كل نسمة تهبُّ من الرياح وتحمل لنا غيثًا وخيرًا! ولك أن تتأمل الأثر البالغ لدوام مثل هذا الشعور وتفعيله فيمن حولنا من إخواننا وأبنائنا ومن نحب، كيف سيكون سببًا في زيادة الإيمان واليقين بالله ورسله وتذكِّر نعمة الله علينا بإرسالهم لشكرها والقيام بحقها كما لا يخفى.

يحسُن بنا التذكير بنعمة الله على البشرية بإرسال الرسل الكرام، مع كل نسمةٍ تهبٌّ من الرياح وتحمل لنا غيثًا وخيرًا! فما ظنُّك بنا لو كان هذا ديدننا؟ وكيف سيكون ذلك سببًا في زيادة إيماننا ويقيننا؟

البرق والرعد:

أمّا البرق والرعد في القرآن فقد جاء ذكرهما في سور البقرة والرعد والنور والروم، وتأمَّل هذه الآيات لنبحث في رابطٍ يربط بينها وبين قصة الوحي والهداية.

قال سبحانه:[3] ﴿أَو كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فيهِ ظُلُماتٌ وَرَعدٌ وَبَرقٌ يَجعَلونَ أَصابِعَهُم في آذانِهِم مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوتِ وَاللَّهُ مُحيطٌ بِالكافِرينَ (19) يَكادُ البَرقُ يَخطَفُ أَبصارَهُم كُلَّما أَضاءَ لَهُم مَشَوا فيهِ وَإِذا أَظلَمَ عَلَيهِم قاموا وَلَو شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمعِهِم وَأَبصارِهِم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾ [البقرة:١٩-٢٠].

وقال: ﴿هُوَ الَّذي يُريكُمُ البَرقَ خَوفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ﴾ [الرعد:١٢].

وقال: ﴿أَلَم تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزجي سَحابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَينَهُ ثُمَّ يَجعَلُهُ رُكامًا فَتَرَى الوَدقَ يَخرُجُ مِن خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِن جِبالٍ فيها مِن بَرَدٍ فَيُصيبُ بِهِ مَن يَشاءُ وَيَصرِفُهُ عَن مَن يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرقِهِ يَذهَبُ بِالأَبصارِ﴾ [النور:٤٣]().

إنَّ المتأمل في تلك المواطن ليلحظ أنَّ مما يجمع بينها هو ذكر الخوف والطمع الذي يحصل للعباد معهما، خوفٌ من صوت الرعد القاصف ومن نور البرق الخاطف، وطمع في المطر والغيث وفي الخير الذي يؤمل ويُرجى معهما، وكذلك هو الحال مع آيات القرآن وحُججه وبراهينه ودلائله التي تأتي بها رسل الله الكرام، وما يحصل بسببها من خوفٍ للمنافقين لما يتنزَّل في تلك الآيات والحُجج ما يَصفُ مرض قلوبهم بدقَّةٍ بالغةٍ ويكشف سوءاتهم وما يكتُمونه في صدورهم ويعرِّيهم أمام الخلق: ﴿يَحذَرُ المُنافِقونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيهِم سورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِما في قُلوبِهِم قُلِ استَهزِئوا إِنَّ اللَّهَ مُخرِجٌ ما تَحذَرونَ﴾ [التوبة:٦٤].

وفي المقابل من هذا ما يحصل من طمع ورجاء للمؤمنين، حيث يجدون في ذات الوحي بشارة خير لهم وانشراح في صدورهم واطمئنان في قلوبهم: ﴿إِنَّ هذَا القُرآنَ يَهدي لِلَّتي هِيَ أَقوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤمِنينَ الَّذينَ يَعمَلونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُم أَجرًا كَبيرًا﴾ [لإسراء: ٩].

قال السعدي في آية البقرة الآنف ذكرها: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أبصارهم﴾: »فهكذا حال المنافقين، إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده، جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده، فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده، فهم يُعرضون عنها غاية ما يُمكنهم، ويكرهونها كراهة صاحب الصيِّب الذي يسمعُ الرعد، ويجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت، فهذا تُمْكِن له السلامة، وأما المنافقون فأنّى لهم السلامة«([4]).

وتأمَّل هنا مرة أخرى في أثر هذا التفاعل بين الإنسان والكون وأهمية تنميته في أنفسنا وأبنائنا مع كل رعد وبرق نشهده، وما يحدثه ذلك من أثر في زيادة الإيمان والتعلق بالله والطمع فيما عنده والخوف من عذابه ومقته، والحذر من النفاق وأهله وسوء عاقبتهم!

الماء والمطر:

أمّا تشبيه الماء والمطر في كونه أصًلا لحياة الأبدان بالقرآن الكريم في كونه أصًلا لحياة الأرواح فهو أمر ظاهر لا يخفى. فقد جاء في عدد من سياقات القرآن الكريم اقتران ذكر القرآن والمطر، من هذه الآيات قوله تعالى: ﴿أَلَم تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابيعَ فِي الأَرضِ ثُمَّ يُخرِجُ بِهِ زَرعًا مُختَلِفًا أَلوانُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصفَرًّا ثُمَّ يَجعَلُهُ حُطامًا إِنَّ في ذلِكَ لَذِكرى لِأُولِي الأَلبابِ (21) أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدرَهُ لِلإِسلامِ فَهُوَ عَلى نورٍ مِن رَبِّهِ فَوَيلٌ لِلقاسِيَةِ قُلوبُهُم مِن ذِكرِ اللَّهِ أُولئِكَ في ضَلالٍ مُبينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحسَنَ الحَديثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقشَعِرُّ مِنهُ جُلودُ الَّذينَ يَخشَونَ رَبَّهُم ثُمَّ تَلينُ جُلودُهُم وَقُلوبُهُم إِلى ذِكرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهدي بِهِ مَن يَشاءُ وَمَن يُضلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ [الزمر:٢١-٢٣].

وقوله تعالى: ﴿وَما أَنزَلنا عَلَيكَ الكِتابَ إِلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اختَلَفوا فيهِ وَهُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ 64 وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحيا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِها إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لِقَومٍ يَسمَعونَ﴾ [النحل:٦٤-٦٥].

تأمل هنا في اقتران ذكر تنزيل القرآن من السماء، وأنه هدىً ورحمة وحياةً للقلوب بذكر نزول الغيث من السماء رحمة للعباد، وحياة للأرض والنبات بالتفاتة عجيبة، قال ابن كثير: »وكما جعل تعالى القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها، كذلك يحيي الله الأرض بعد موتها بما ينزله عليها من السماء من ماء«([5]).

أوجه الشبه بين الماء والوحي:

وإذا تأمَّلنا أوجُه الشبه بين القرآن الكريم والمطر فسنلحظ بينهما تشابها كبيرًا، من ذلك نزولهما من عند الله تعالى واتصافهما بالطهارة، وحصول الإحياء بهما:

قال تعالى عن القرآن: ﴿تَبارَكَ الَّذي نَزَّلَ الفُرقانَ عَلى عَبدِهِ لِيَكونَ لِلعالَمينَ نَذيرًا﴾ [الفرقان:١].

وقال عن المطر في السورة ذاتها: ﴿وَهُوَ الَّذي أَرسَلَ الرِّياحَ بُشرًا بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ وَأَنزَلنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهورًا (48) لِنُحيِيَ بِهِ بَلدَةً مَيتًا وَنُسقِيَهُ مِمّا خَلَقنا أَنعامًا وَأَناسِيَّ كَثيرًا﴾ [الفرقان: ٤٨-٤٩].

وجاء الطهر في أوصاف القرآن: ﴿رَسولٌ مِنَ اللَّهِ يَتلو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ [البينة:٢].

كذلك اتصافهما بالبركة وهي كثرة النفع والخير، مع اتصافهما بالإحياء، قال الله تعالى عن المطر: ﴿وَنَزَّلنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكًا فَأَنبَتنا بِهِ جَنّاتٍ وَحَبَّ الحَصيدِ 9 وَالنَّخلَ باسِقاتٍ لَها طَلعٌ نَضيدٌ (10) رِزقًا لِلعِبادِ وَأَحيَينا بِهِ بَلدَةً مَيتًا كَذلِكَ الخُروجُ﴾ [ق: ٩-١١].

وقال الله تعالى عن القرآن الكريم: ﴿وَهذا كِتابٌ أَنزَلناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعوهُ وَاتَّقوا لَعَلَّكُم تُرحَمونَ﴾ [الأنعام: ١٥٥].

وقال: ﴿أَوَمَن كانَ مَيتًا فَأَحيَيناهُ وَجَعَلنا لَهُ نورًا يَمشي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيسَ بِخارِجٍ مِنها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلكافِرينَ ما كانوا يَعمَلونَ﴾ [الأنعام: ١٢٢].

ولَك أن تعجب كُلَّ العجب من الالتفاتة القرآنية المباشرة في سورة الحديد بعد دعوة القلوب الميتة إلى الخشوع من ذكر الله، كيف عقّب بذكر إحياء الأرض بعد موتها في سياق واحد فقال تعالى: ﴿أَلَم يَأنِ لِلَّذينَ آمَنوا أَن تَخشَعَ قُلوبُهُم لِذِكرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكونوا كَالَّذينَ أوتُوا الكِتابَ مِن قَبلُ فَطالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلوبُهُم وَكَثيرٌ مِنهُم فاسِقونَ (16) اعلَموا أَنَّ اللَّهَ يُحيِي الأَرضَ بَعدَ مَوتِها قَد بَيَّنّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُم تَعقِلونَ﴾ [الحديد: ١٦-١٧].

قال أبو حيان: »هو تمثيلٌ لتليين القلوب بعد قسوتها، ولتأثير ذكر الله فيها، كما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إجدابها مُخصبة، كذلك تعود القلوب النافرة مُقبلة، يظهر فيها أثر الطاعات والخشوع«([6]).

لَك أن تعجب كُلَّ العجب من الالتفاتة القرآنية المُباشرة في سورة الحديد بعد دعوة القلوب الميتة إلى الخشوع من ذكر الله، كيف عقّب بذكر إحياء الأرض بعد موتها في سياق واحد

وقال صاحب الظلال: »ولكن.. لا يأسَ من قلب خمدَ وجمدَ وقسا وتبلَّد، فإنه يمكن أن تدبَّ فيه الحياة، وأن يُشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله.. فالله يُحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار.. كذلك القلوب حين يشاء الله.. وفي هذا القرآن ما يُحيي القلوب كما تحيا الأرض؛ وما يمدُّها بالغذاء والري والدفء…«([7]).

كذلك من أوجه الشبه بينهما: اتصافهما بكونهما أصلَ الحياة، قال تعالى: ﴿وَجَعَلنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤمِنونَ﴾ [الأنبياء: ٣٠].

وكذلك القرآن الكريم هو أصل حياة الأرواح، ولا حياة للروح بغيره، ولذلك سمَّى الله المعرضين عنه أمواتًا، فقال: ﴿فَإِنَّكَ لا تُسمِعُ المَوتى وَلا تُسمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوا مُدبِرينَ 52 وَما أَنتَ بِهادِ العُميِ عَن ضَلالَتِهِم إِن تُسمِعُ إِلّا مَن يُؤمِنُ بِآياتِنا فَهُم مُسلِمونَ﴾ [الروم: ٥٢-٥٣].

ومن أوجه الشبه بين المطر والقرآن ما يحصل بسببهما من عقوبة..

فالمطر قد يكون عذابًا للمكذبين المعاندين الذين اغتروا بالدنيا حتى أمنوا مكر الله: ﴿فَلَمّا رَأَوهُ عارِضًا مُستَقبِلَ أَودِيَتِهِم قالوا هذا عارِضٌ مُمطِرُنا بَل هُوَ مَا استَعجَلتُم بِهِ ريحٌ فيها عَذابٌ أَليمٌ﴾ [الأحقاف: ٢٤].

كما أنّ القرآن يكون وبالًا على المنافقين الذين يجحدونه ولا يؤمنون به؛ فيكون بذلك سببًا في زيادة كفرهم، وعذابهم في الآخرة: ﴿وَإِذا ما أُنزِلَت سورَةٌ فَمِنهُم مَن يَقولُ أَيُّكُم زادَتهُ هذِهِ إيمانًا فَأَمَّا الَّذينَ آمَنوا فَزادَتهُم إيمانًا وَهُم يَستَبشِرونَ (124) وَأَمَّا الَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ فَزادَتهُم رِجسًا إِلى رِجسِهِم وَماتوا وَهُم كافِرونَ﴾ [التوبة: ١٢٤-١٢٥].

والمطر يُخرج ثمرات متفاوتة متنوعة مع أنَّ الماء واحد؛ قال تعالى: ﴿وَفِي الأَرضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنّاتٌ مِن أَعنابٍ وَزَرعٌ وَنَخيلٌ صِنوانٌ وَغَيرُ صِنوانٍ يُسقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعضَها عَلى بَعضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يَعقِلونَ﴾ [الرعد: ٤].

والقرآن كذلك يرِدُ على الناس ثمَّ يَصدُرون عنه مُتفاوتين في الإيمان والعلم والعمل مع أن الكتاب واحد، وجاءت الإشارة إلى هذين الأمرين في قوله تعالى: ﴿أَلَم تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجنا بِهِ ثَمَراتٍ مُختَلِفًا أَلوانُها وَمِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بيضٌ وَحُمرٌ مُختَلِفٌ أَلوانُها وَغَرابيبُ سودٌ (27) وَمِنَ النّاسِ وَالدَّوابِّ وَالأَنعامِ مُختَلِفٌ أَلوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخشَى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ غَفورٌ (28) إِنَّ الَّذينَ يَتلونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقوا مِمّا رَزَقناهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرجونَ تِجارَةً لَن تَبورَ (29) لِيُوَفِّيَهُم أُجورَهُم وَيَزيدَهُم مِن فَضلِهِ إِنَّهُ غَفورٌ شَكورٌ (30) وَالَّذي أَوحَينا إِلَيكَ مِنَ الكِتابِ هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما بَينَ يَدَيهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبيرٌ بَصيرٌ (31)  ثُمَّ أَورَثنَا الكِتابَ الَّذينَ اصطَفَينا مِن عِبادِنا فَمِنهُم ظالِمٌ لِنَفسِهِ وَمِنهُم مُقتَصِدٌ وَمِنهُم سابِقٌ بِالخَيراتِ بِإِذنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الفَضلُ الكَبيرُ﴾ [فاطر: ٢٧-٣٢].

ومن أوجه التشابه بينهما كذلك وجودُ بعض الموانع التي تحول دون الانتفاع بهما، فالماء قد تمنعه عوائق كثيرة من الوصول إلى بعض الأراضي، كالأوساخ، وانحراف المجرى، فلا تنتفع به كما هو مشاهد معلوم.

وكذلك القرآن الكريم قد تحول بعض الموانع دون الانتفاع به، كفساد القلب، وسوء النية، ونحوها، قال تعالى: ﴿وَجَعَلنا مِن بَينِ أَيديهِم سَدًّا وَمِن خَلفِهِم سَدًّا فَأَغشَيناهُم فَهُم لا يُبصِرونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيهِم أَأَنذَرتَهُم أَم لَم تُنذِرهُم لا يُؤمِنونَ (10) إِنَّما تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكرَ وَخَشِيَ الرَّحمنَ بِالغَيبِ فَبَشِّرهُ بِمَغفِرَةٍ وَأَجرٍ كَريمٍ﴾ [يس: ٩-١١].

تأمَّل عظيم نعمة الله على عباده في الماء وكيف جعل منه حياة كل شيء والتي لا تخفى على أحدٍ أبدًا ﴿وَجَعَلنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤمِنونَ﴾ [الأنبياء: ٣٠] وكيف تتعلق القلوب بالماء الذي بِه حياة الأبدان، وتقدِّر الكائنات كلها الماء قدره!

في المقابل تأمَّل كيف تاهت البشرية وضلتْ وغَرِقت في ظلمات الجهل وقست القلوب حينما لم تهتدِ بهدي الوحي ولم تستضئ بنوره ولم ترتوِ من معينه، وفيه خلاصها وسعادتها ونجاتها.

الأرض الطيبة والأرض الخبيثة:

قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذي يُرسِلُ الرِّياحَ بُشرًا بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّت سَحابًا ثِقالًا سُقناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلنا بِهِ الماءَ فَأَخرَجنا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخرِجُ المَوتى لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ (57) وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخرُجُ نَباتُهُ بِإِذنِ رَبِّهِ وَالَّذي خَبُثَ لا يَخرُجُ إِلّا نَكِدًا كَذلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَومٍ يَشكُرونَ﴾ [الأعراف: ٥٧-٥٨].

قال ابن القيم في عبارات موجزة جميلة تعبِّر عما نروم لفت النظر إليه من سياق هاتين الآيتين: »أخبر سبحانه أنهما إحياءان، وأنَّ أحدَهما مُعتبر بالآخر َمقيسٌ عليه، ثم ذكر قياسًا آخر أنَّ مِن الأرض ما يكون أرضًا طيبة فإذا أنزلنا عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها، ومنها ما تكون أرضًا خبيثة لا تخرج نباتها إلا نكدًا -أي قليلا غير منتَفَع به- فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تُخرج ما أخرجت الأرض الطيبة، فشبَّه سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض بحصول الحياة بهذا وهذا، وشبَّه القلوب بالأرض إذ هي محل الأعمال كما أن الأرض محل النبات، وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي ولا يزكو عليه ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر ولا تخرج نباتها به إلا قليلًا لا ينفع، وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر، فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله وتدبره بان أثره عليه فشُبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب ويحسن أثر المطر عليه فينبت من كل زوج كريم والمعرض عن الوحي عكسه والله الموفق«([8]).

ورد في هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)([9]).

الأودية:

وختام تلك المشاهد: تلك المياه التي تسيل في الأودية التي تحملها إلى أماكن بعيدة نائية لم تشهد المطر ولا السحاب فتلك الأودية مثلها مثل العلماء وحملة العلم ينقلون الوحي في الناس فينشرون الهدى والنور وينفع الله بهم عباده([10])، ومِن الناس مَن يحملُ العِلم إلى غيرِهِ دون أنْ ينتفع به، وربَّ حاملِ فقهٍ ليسَ بفقيه، عن جبير بن مطعم قال: قامَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالخيفِ من منًى، فقالَ: (نضَّرَ اللَّهُ امرًا سمِعَ مقالتي، فبلَّغَها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ، غيرُ فَقيهٍ، وربَّ حاملِ فِقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ)([11]).

وختامًا:

إنَّ الدنيا حينما تتزيَّن للناس وتُظهرُ مباهجها ومفاتنها فإن أهل الغفلة ينخدعون بها، وتغرُّهم زينتُها، ويركَنون إليها حتى تَشغلهم عن آخرتهم ومصيرهم، بينما يقف أهل الإيمان متأملين فيها ثابتين على مبادئهم لا تغرهم الفتن، ولا تهزهم زخارف الدنيا، بل هم على الضد من ذلك، يجعلون من هذه الزخارفِ والمفاتنِ عوامل تثبيت وهداية وإشارات هدى وإيمان، تذكِّرهم المصير الأخير، وترغبهم في نعيم الجنة المقيم، فالمَشاهد واحدة، والصور هي هي! لكنها فتنةٌ للغافلين الجاهلين، وتثبيتٌ وهدىً للمتقين المؤمنين.

هذه أمثلةٌ عملية للتفكُّر في الكون من حولنا وما حواه، لننظر إلى كل مشاهد وملموس حولنا بنظرة مختلفة، لنوجد بيننا وبين الكون روحًا تفاعلية، ونسمو بمشاعرنا وأحاسيسنا فلا تنتهي عند الحدود المادية الأرضية.. بل تتجاوزها لنعبر بها إلى معانٍ أخروية سامية، معاني الوحي والهداية والنور.


([1]) ينظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي (4/593).

([2]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي (1/808).

([3]) معنى: {يُزْجِي}: يسوق، و{الْوَدْقَ} أي: الوابل والمطر، و{سَنَا بَرْقِهِ} ضوء برق ذلك السحاب. ينظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/570).

([4]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/44).

([5]) تفسير القرآن العظيم (4/580).

([6]) البحر المحيط في التفسير (10/108).

([7]) في ظلال القرآن، لسيد قطب (63489).

([8]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/108).

([9]) أخرجه البخاري (79)، ومسلم (2282).

([10]) وقد تقدمت الإشارة إليه عن الحديث عن أنواع الأراضي التي ينزل عليها الماء.

([11]) أخرجه ابن ماجه (230).

X