قضايا معاصرة

هل في التصوُّر الشرعي للزواج امتهانٌ لكرامة المرأة؟

يسلك أصحاب الدعاوى الباطلة سبيل الانتقاص والإزراء بالشريعة الإسلامية وأحكامها؛ ليلبِّسوا على الناس ويخدعوهم، ويغطُّوا على تهافت دعاواهم، فبدلاً من أن يُثبتوا صحتها وسلامتها، تجدهم يكيلون التهم والنقائص، ولم يعلموا أنَّ الشريعة بنيانٌ قويٌّ راسخ، لا تهتزُّ برياح الباطل مهما عتت وطغت، وفي هذه المقالة تفنيدٌ وتعريةٌ لبعض دعاوى الحركة النسوية المعاصرة حول الزواج في الشريعة الإسلامية.

الزواج حكمٌ وغايات عظيمة:

شرع الله تعالى الزواج لغايات وحكم عظيمة، لا تقتصر على الرجل والمرأة فحسب، بل تمتدُّ إلى سائر المجتمع، فهو للزوجين إعفافٌ وسكنٌ ومودةٌ ورحمة، كما قال تعالى: ﴿‌وَمِنْ ‌آيَاتِهِ ‌أَنْ ‌خَلَقَ ‌لَكُمْ ‌مِنْ ‌أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].

وهو للمجتمع ضرورة لحفظ النوع الإنساني وإبقاء النسل، وإيجاد العلاقات الاجتماعية، وما ينتج عنها من تكافل وتعاون وتخفيف من أعباء الحياة، وتقوية المجتمع، ورفده بالقوى اللازمة للبناء والتعمير والدفاع.

وغير ذلك من الحكم الكثيرة التي يضيق بها هذا المقام.

قال السرخسي رحمه الله: “يتعلق بهذا العقد أنواع من المصالح الدينية والدنيوية، من ذلك ‌حفظ ‌النساء ‌والقيام ‌عليهن ‌والإنفاق، ومن ذلك صيانة النفس عن الزنا، ومن ذلك تكثير عباد الله تعالى وأمة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحقيق مباهاة الرسول صلى الله عليه وسلم بهم كما قال: (تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة) … وهذا التناسل عادة لا يكون إلا بين الذكور والإناث، ولا يحصل ذلك بينهما إلا بالوطء فجعل الشرع طريق ذلك الوطء النكاح”[1].

وقال ابن قدامة رحمه الله: ‌”مصالح ‌النكاح ‌أكثر، ‌فإنه ‌يشتمل ‌على ‌تحصين ‌الدين، وإحرازه، وتحصين المرأة وحفظها، والقيام بها، وإيجاد النسل، وتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من المصالح الراجح أحدها على نفل العبادة، فمجموعها أولى”[2].

تضيق النسوية ذرعًا بالتصوُّرات والنصوص الشرعية المتعلقة بالزواج.. وتنظر لها شزرًا بنظرة اتهام وعداوة، فيزعمون أن في التصور الشرعي للزواج هضمًا فادحًا وقادحًا للمرأة

لكن تضيق النسوية -وغيرها من الطاعنين في دين الإسلام- ذرعًا بالتصورات والنصوص الشرعية المتعلقة بالزواج.. وتنظر لها شزرًا بنظرة اتهام وعداوة، فيزعمون أن في التصور الشرعي للزواج هضمًا فادحًا وقادحًا للمرأة، من حيث المآخذ التالية:

·    المأخذ الأول: اختزال الزوجة في أداة متعة للزوج:

فيزعمون أن الشرع يختزل المرأة في أنها أداة للجنس والمتعة فحسب، لذا فإن عليها أن تجيبه إلى طلبه متى أراد، ولا يحق لها أن تمتنع عن ذلك.

ويستشهدون ببعض النقولات عن أهل العلم في الحديث عن الاستمتاع ومكانته في الحياة الزوجية.

لكن إذا نظرنا في صور العلاقات العاطفية بين النساء والرجال خارج إطار الزواج، سنجد أن الرضا المجتمعي والقانوني عنها يربطها بشرط واحد: رضا الطرفين (حتى السنّ ليس قيدًا مُجمَعًا عليه عالميًا)[3]، وذلك ضمن تصور يقوم على مبادئ حرية الفرد في بدنه وحقه في ممارسة الجنس ما دام راغبًا، وما دام ليس طرفًا في “صلة مُلزِمة قانونيًا Legally Binding Relationship” (وهي في هذا السياق الزواج أو أية علاقة عاطفية بين أطرافها عقد معتدّ به قانونيًّا Contract). والشكل الأشهر لتلك الصلات “الحرة” هي عُرف المخادنة Boyfriend/Girlfriend، يليه عرف الجنس العابر القائم على معاشرة عدة أطراف دون التزام معنوي بالوفاء لواحد فحسب Casual Sex، أو ذلك الذي يقوم على الاتصال الجنسي بهدف التعزية والسلوان Pity/Sympathy Sex. هذا فضلاً عن زنا المحارم Incest حيث يأتي الأخ أخته مثلاً، وهو ممارسة مباحة في كثير من الدول تتصدرها قارة أمريكا الجنوبية بكاملها، وفرنسا وأسبانيا وروسيا وغالب دول أوروبا[4].

بناء عليه، فالسؤال المطروح هو: ما غرض كل أشكال الصلات “الحرة” بين الرجال والنساء خارج إطار الزواج إذن؟! ألا تقوم كلها على الاستمتاع بالمرأة؟ إذ لا يدخل رجل في أية علاقة من أولئك إلا وهو طالب للمتعة فقط لا خلاف، تمامًا كما تطلبها صاحبتها لنفسها وترضى بذلها من نفسها. فإذا كان مكمن إكرام المرأة في تلك العلاقات “الحرة” هو أن تكون الصلة والممارسة برضا الطرفين وحريتهما الشخصية فحسب، فلماذا إذن تبتئس النسوية من تصور الزواج الشرعي طالما كان شكلاً من أشكال الصلة الجنسية التي رضيها أصحابها؟

ألأنه يتضمن إمهار المرأة والنفقة عليها وعلى الأولاد مدة الزواج، وتمتيعها والنفقة على الأولاد بعد الطلاق، وهذه قطعًا “صفقة” رابحة لكفة المرأة مقارنة بمن تدخل وتخرج بنفسها مجرّدة من ذلك كله كما في تلك العلاقات العابرة؟

أم لأن إدخال المال في المعاملة يُزري بأطرافها؟ كأن الدعم المالي ليس من أكبر هموم من يُعرفن بالأمهات العازبات Single Mothers اللواتي يَعِشن في “فقر نسبيًا” كما جاء في أحدث تقرير لصيحفة الجارديان البريطانية؟[5].

أم لأن الإشكال في تأطير الصلة بالتزامات قانونية وأخلاقية تكفل لطرفي العلاقة حقوقًا وتُملي واجبات تمنع التفلّت وتصونه من العبث، اللذين هما الوجه الآخر لما يسمونه الحرية البدنية والبحبحة الجنسية؟

ثم إنه حتى الصلات العابرة لا تخلو من مقابلٍ ماديٍّ ما، بل صارت في حد ذاتها مهنة وصنعة، ومع ذلك لا يُعد مالها أزرى وأحطّ في عرف النسوية، التي دعمت نساء تلك الصنعة وطالبت باحترام حقهن في الاختيار المهني أو حق التكسب بــ “الطرق القانونية” نظرًا لأن الاعتبارات الأخلاقية نسبية وغير مُلزمة جماعيًا. وطالبت كذلك بتغيير الاصطلاحات المستعملة في حقهنّ[6]: فمن “عاهرة Whore” إلى “مومس Prostitute” إلى “المشتغلة بصنعة الجنس أو العاملة في حقل الجنس Sex Worker”. وصارت لتلك الفئة الآن جمعيات ونقابات “محترمة”![7].

تقبل النسوية أشكالاً من العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة بحجة رضا الطرفين، والزواج بهذه الحسبة “صفقة” رابحة لكفة المرأة مقارنة بالعلاقات العابرة، فهو لا يحصل إلا برضا الطرفين، ويتضمَّن فوق ذلك: إمهار المرأة والنفقة عليها وعلى الأولاد مدة الزواج، وتمتيعها والنفقة على الأولاد بعد الطلاق!

·    المأخذ الثاني: اختزال الزوجة في وعاء إنجاب:

وأما القول بأن الزواج يختزل المرأة في وعاء للإنجاب، فمجاراة ذلك المنطق تقتضي أن يُختزل الرجل كذلك بوصفه جيبًا أو بيضة الذهب التي ترقد عليها الزوجة! هذا فضلاً عن أن للرجل دوره كذلك في عملية الإنجاب سواء من حيث نجاح الإخصاب[8] أو تحديد جنس المولود[9]. فالإنجاب عملية مشتركة بين الزوجين ليست مختصة في حِمْلِها بأحدهما فحسب، وإن تفاوتت فيها طبيعة الأدوار ومقدارها تبعًا للاختلاف في التكوين الجسمي والدور في القيام والتربية.

اللافت أن ميزان النسوية متضارب في وزن قيمة المرأة بحسب دورها والمسؤولية المنوطة بها، فإنها إذا حُمِّلت الحِمْل الأكبر رأت ذلك افتئاتًا عليها، وإذا كُلِّفت بالأهون رأت ذلك تقليلاً من أهليتها، فلا هذا محمود ولا ذاك!

والأدهى أنها تسخط على الحمل الطبيعي وتلفق له تهم العداوة والظلم تجاه المرأة، ثم تنبري للدفاع عن الحمل غير الطبيعي (تأجير الأرحام Surrogacy أو الأم البديلة Surrogate Mother) باعتباره حريةً شخصيةً ودلالةً على ترقِّي المرأة في حقِّ التصرُّف في بدنها!

ثم هل الصلات المفتوحة أو العابرة خارج إطار الزواج تحرر المرأة من طبيعة خلقتها، بوصفها –حقيقة– حاضنة الإنجاب؟ بالعكس، ما تزال المرأة تعاني آثار تلك الصلات في الحمل العابر أو غير المقصود، حتى مع استخدام موانع الحمل. فكان الحل في أن تعود النسوية فتوهم المرأة أن الكرامة ستكون في كسب حق الإجهاض قانونيًا، وقد “كسبته” بالفعل معنويًا لكنها في الحقيقة من تدفع كلفة حمل النطفة ثم إجهاضها من عمر جسمها وصحتها البدنية والنفسية، فضلاً عن الكلفة المالية. وتزداد قتامة الموقف ووطأته إذا اضطرت للولادة ثم هجر وليدها لضعفها عن تحمل مؤنة رعايته وتربيته! ومن اللافت أن القوانين التي تكفل حق الإجهاض لا تتكفل بالعملية نفسها بل هي تبع لخطة التأمين الصحي للمريضة إذا كانت عندها[10]، فأين تكريم المرأة بتأييدها في قرار الإجهاض حتى النهاية، مقارنة مثلاً بالتأييد الذي يحظى به الشذوذ الجنسي، حتى تعهدت حكومات دول مثل كندا بدفع ما قيمته 75 ألف دولار مساهمة منها في تغطية تكاليف عمليات التحوير الجنسي لكل راغب[11]؟!

وفوق كل ذلك، تجد الاشمئزاز من دلالات اصطلاحات الحمل والإنجاب، والاستعلاء على اعتبار المرأة “حاضنة البويضات”، يختفيان من المشهد عندما يكون الكلام على اصطلاحات التحوُّر الجنسي والحمل البديل. ففي أحدث صيحة “علمية” نشرت صحيفة Times of London البريطانية في شهر فبراير من هذا العام (2023)[12] بيانًا عن “مشروع لغة البيئة وعلم الأحياء التطوري (EEB)” تقول فيه إنه بدلاً من مصطلحات “ذكر” و”أنثى” التي لا تخلو من دلالة تمييز جنسي عنصري لا يتفق واتساع النوع الجنسي المعاصر، تجب الإشارة إلى الذكر بوصفه “منتج الحيوانات المنويةSperm-producer ” والأنثى على أنها “منتجة البيضEgg-producer”، والأب والأم في المجال العلمي يُشار لهما باصطلاح “الوالد Parent”، والوالدة “المتبرعة بالبويضات Egg-donor” والوالد “المتبرع بالحيوانات المنويةSperm-donor “!

لم يلق هذا التعريف الجديد للمرأة على أساس بويضاتها إلا الترحاب بوصفه صياغة “أكثر شمولية ودقة”، وفقًا لبيان صحفي صادر عن جامعة كولومبيا البريطانية التي تشارك بثلاثة باحثين في ذلك المشروع. فعجبًا أين النائحات البواكي على الاختزال والامتهان؟! والأدهى أن تُنسب هذه الشطحات “للدقة العلمية” في ظل تجارب لاستئصال مبايض النساء وتركيب أرحام صناعية للرجال، إذن إنها تجعل هذه التعريفات غير علمية وفق منطق تلك الفئات، إذا صح أن يسمّى منطقًا!

تهاجم النسوية حمل المرأة الطبيعي وتلصق به شتى التهم، ثم تدافع عن الحمل غير الطبيعي، وتعتبره حرية ورقيًا وتطورًا! وحتى تخرج من مأزق تبعات الحمل المحرم.. صورت أن الكرامة في كسب حق الإجهاض قانونيًا، لكن بقيت المرأة هي من تدفع كلفة حمل النطفة ثم إجهاضها من عمر جسمها وصحتها البدنية والنفسية، فضلاً عن الكلفة المالية التي تتحملها وحدها

·    المأخذ الثالث: إلزام الزوجة بتلبية زوجها فيه حجر على حرية المرأة في بدنها:

لا يُذكر مفهوم الحرية إلا ويلزم استحضار حقيقة أنه لا مخلوقَ حرٌّ حريةً كاملةً على الحقيقة، وأن كل إنسانٍ مقيّد لا ريب بأدبيات المرجعية التي ينتسب لها ولو كانت قانون دولة أو عرف مجتمع. وكذلك لا تتم لإنسان حرية في بدنه بإطلاق، فهو لا يتحكم مثلاً في العمليات الحيوية كالتنفس والإخراج، وقد يستعصي عليه النوم رغم طلب كلِّ أسبابه، ويمرض رغم التحصينات أو يشفى رغم ميؤوسية حالته في التقدير الطبي. وينطبق على المرأة كل هذا، ويُضاف له ما سبق بيانه من أنها قد تحمل وإن اتخذت موانع حمل، أو تصاب بمرض جنسي وإن اتخذت مضادات له، وهكذا.

فإذا جئنا لحرية البذل الجنسي، كان السؤال هو: ما وجه الكرامة فيها؟ أن تكون المرأة حرة في اتخاذ قرار الاتصال ببدنها متى شاءت كيف شاءت، أليس كذلك؟ فإلى أي مدى هذا المبدأ مُطبّق إذن بهذا التصور النموذجي؟ كم من امرأة بل شابة أو فتاة تبذل عِرضها طواعية وعن رضا وبمشيئتها؟ نعم، لكن بسبيل الخديعة والحيلة لنيل القرب من شخص تحبه وهو يُظهر لها رغبته فيها فتحسبه مبادلة لحبها، أو لنيل مصلحة ما لا سبيل لها إلا بالمساومة على العِرض، ثم إذا قضى منها وطرًا تركها للحسرة والأوجاع البدنية والنفسية، فلا عِرضُها صَيّن، ولا وُدّها مخطوب، ولا خاطرها مجبور، ولا عوض مبذولٌ لها، فما وجه الكرامة في مثل هذه الحرية، إن صح أن تسمى حرية؟!

بل كم تبذل نفسها لتحقيق مصلحة دراسية أو وظيفية لا تكاد تحصل عليها إلا بالمساومة على عِرضها مقابل ذلك؟ وهل في هذا حرية واختيار وكرامة أم إجبار مقنع وامتهان وإلجاء.

ثم مَن المستفيد حقيقة من تصور الحرية النسوي، المرأة أم الرجل؟ إن الرجل يمكنه في ظل هذا المبدأ وحده أن يتمتع بآلاف النساء دون أن يحمل أي همّ أو مسؤولية بعد مغادرته الفراش، فلماذا سيفكر في الزواج إذن؟! ولذلك صار على المرأة أن تكون هي الباذلة إذا شاءت أن “تحتفظ” برجل، بالإنفاق المالي والمعنوي والبدني في شتى أنواع التجمل، ومقاسمته مصاريف البيت أو الاستمرار في تحمل نفقاتها هي بنفسها أو الاستمرار في سكن مستقل حتى لا تصير “عالة” عليه … ومع ذلك لا ضمانة إذ لا ميثاق بينهما، فيمكنه أن ينهي العلاقة متى سئم، ويمكنها هي كذلك بالتأكيد لكنها الغارم الأكبر في الحالتين.

وقل مثل ذلك عن قانون الطلاق عندما تدخلت فيه النسويات فجعلن للمرأة الحق في نصف ثروة الرجل، إذ تفنَّن الرجال في التهرُّب من ذلك إما بالامتناع عن الزواج وإن اقتصر في علاقته على واحدة وأنجب منها، أو بتسمية ممتلكاته باسم أمه أو أبعد أقاربه حتى يضمن ألا يُصادَر نصفها عند الطلاق. فهل أنصفت المساعي النسوية المرأة فعلاً بانتزاع حقوق لها من الرجال عنوة (كما ترى) أم جنت عليها بتحويلها إلى عدو في نظر الرجل، يتحايل في تحصيل حاجاته منه دون مغرم أو بأقل قدر ممكن منه (كما هو واقع)؟

فإذا جئنا للزواج في التصور الشرعي[13]، وجدنا كل الأحكام والحقوق والمسؤوليات متقررة ظاهرة، فكلا الطرفين يأتيانه برضاهما وعن علم مسبق بما سيُسْتَحق لهما أو منهما. ثم من حيث حدود الواجب البحت، وعند موازنة كفوف المكاسب المفروضة، نجد أنه تترتب للزوجة منافع عديدة (كالمهر والسكنى والنفقة والحضانة والمكانة المحترمة أمًا وزوجة) في مقابل منافع معلومة منها (الإمتاع) للزوج، والتي لها فيها نصيب، إذ مما يندر الالتفات له في مسألة المتعة أن المرأة تستمتع بزوجها كما يستمتع بها –مع اختلاف طبيعة الاستمتاع وقدره– وتُؤجَر معنويًا على المعاشرة مثلما يؤجر هو، ما احتسباها: (وفي بُضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرًا)[14]؛ ثم تؤجر هي فوق هذا وذاك بصفة مخصوصة من حيث طاعتها لزوجها واستجابتها له. ثم تمتاز عليه بأنها تؤجر وتعوّض ماليًا كذلك، بالنفقة عليها طوال مدة الزواج ولو كانت غنية ولها ذمة مالية مستقلة، وبمقدار مالي مخصوص هي حرة التصرف فيه (المهر). ثم إذا أراد الرجل أن يطلقها بدون نشوز أو سوء عشرة منها يمتعها بمبلغ جبرًا لخاطرها عما أسماه الفقهاء “إيحاشها بالفراق”، والوَحشة هي الخلوةُ والهَمُّ. بل وتستحق الزوجة كذلك الأجرة عوضًا عن الرضاع، ولا يحق للزوج استرجاع هذه الأجرة عند حصول الخلع أو الطلاق. وعند الحنابلة والشافعية أن الزوجة إذا طلبت أجرًا على إرضاع ولدها أو ولد زوجها من غيرها وجبت على الزوج، وعند الحنفية أن الأجرة للمطلقة، أما التي في عصمة زوجها فهو ينفق عليها. وفوق كل ذلك، جعلت آداب الشرع وفنون العشرة الزوجية مخرجًا للزوجة إذا حصل ودعاها زوجها للفراش وهي غير قادرة على إجابته.

مَن المستفيد حقيقة من تصور الحرية النسوي، المرأة أم الرجل؟ إن الرجل يمكنه في ظل هذا المبدأ وحده أن يتمتع بآلاف النساء دون أن يحمل أي همّ أو مسؤولية بعد مغادرته الفراش، فلماذا سيفكر في الزواج إذن؟! ولذلك صار على المرأة أن تكون هي الباذلة إذا شاءت أن “تحتفظ” برجل، بالإنفاق المالي والمعنوي والبدني في شتى أنواع التجمل، وبلا ضمانات!!

كل هذه الامتيازات يتم هضمها بل التعتيم عليها لصالح التركيز على استحقاقات الرجل من المرأة بعقد الزواج، فمن المنتفع الأكبر في هذه الصلة بهذا التصور وهذه الضوابط؟ وأين التصور الشرعي للزواج من غيره من التصورات لا سيما الغربي النسوي الذي يجعل الزوجة –في أكرم الأحوال– لا تشارك في النفقة المنزلية؟! وأي منطق ذاك الذي يرى أن من الامتهان للمرأة أن يُخصّص لها عِوَض على الاستمتاع بها مع حصول الاستمتاع لها، في ظل منظومة تصونها منذ بدء الصلة بطلب خطبتها حتى آخر الصلة سواء بالوفاة أو الطلاق، وما بينهما من خدمة ورعاية وإنجاب؛ وذلك في مقابل تحميلها تبعات ذلك الاستمتاع وحدها وفق منظور التحرر النسوي؟!

  • ختامًا:

إن التصور الشرعي لصلة الزواج –لا أي تصور آخر- هو الوحيد الذي يستعلي على ما عداه، ويعلو بكرامة أطرافه كلهم دون استثناء. فهو وإن اعتمد مبدأي الاستمتاع ورضا الأطراف (المعتمدين في أشكال الصلات الأخرى) إلا أنه ينفرد بجدّية المقاصد والمآلات، ويؤصّل لمنظومة متكاملة بيّنة الحدود والحقوق لتصون الأطراف قبل الزواج وأثناءه وبعده، وفي حال وجود الأولاد أو عدمه، وعند التعدد أو الإفراد. ولا تجد دستورًا ولا تشريعًا حفَّ الصلة بين الرجل والمرأة من كل وجه، أجنبيين كانا أو محارم، زوجين كانا أو غير ذلك، وأحاط بكل مسائلهم وعواقبها من أطرافها، كما أحاط تشريع الله تعالى تبارك وتعالى؛ ولا عجب؛ فهو من مشكاة الله تعالى الذي خلق ابتداء ويحاسب انتهاء.

ولا يمكن تقدير تصور الزواج الشرعي حق قَدْرِه حتى يُعلَم بتفاصيله كاملاً، فهو لا يقوم على تكريم أطرافه فحسب بل هو بحد ذاته كرامة، حتى سماه الله تعالى ميثاقًا غليظًا: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ٢٠ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ ‌مِيثَاقًا ‌غَلِيظًا﴾ [النساء: 20-21]، وذكر القرطبي الأقوال الثلاثة في تفسير “الميثاق الغليظ”:

– الأول: قوله عليه السلام في خطبة الوداع: (فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، ‌واستحللتم ‌فروجهن بكلمة الله)[15].

– الثاني: قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.

– الثالث: عقدةُ النكاح: قول الرجل: نَكَحتُ وملكتُ عقدةَ النكاحِ؛ وقال قوم: “الميثاقُ الغليظُ: الولد”[16].

التصور الشرعي لصلة الزواج هو الوحيد الذي يستعلي على ما عداه، ويعلو بكرامة أطرافه كلهم دون استثناء. فهو وإن اعتمد مبدأي الاستمتاع ورضا الأطراف (المعتمدين في أشكال الصلات الأخرى) إلا أنه ينفرد بجدّية المقاصد والمآلات، ويؤصّل لمنظومة متكاملة بيّنة الحدود والحقوق لتصون الأطراف في كل الحالات والاحتمالات.

فأين تجد مثل غلظة هذا الميثاق الجليل في أي تصور آخر للزواج، ناهيك عن الصلة العابرة بين رجل وامرأة؟! لذلك فمن المثير للعجب بعد كل هذه التفاصيل والتدقيقات والضوابط أن يقال إن الزواج يحطّ من قدر المرأة فيجعلها أداة متعة للرجل! وإنما التشريع الرباني للزواج هو الذي يصون تحصيل المتعة عن أن يكون لعبة، ويصون أطراف العلاقة عن العبث الذي تترتب عليه الأمراض واختلاط الأنساب وحالات الاكتئاب والانتحار وغيرها من آفات النزوات الهائمة! وتأمل ما جاء في تفسير الألوسي عن ختم الآية بالتفكر في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]: “وذكر الطيبي أنه ‌لما ‌كان ‌القصد ‌من ‌خلق ‌الأزواج ‌والسكون ‌إليها ‌وإلقاء المحبة بين الزوجين ليس مجرد قضاء الشهوة التي يشترك بها البهائم، بل تكثير النسل وبقاء نوع المتفكرين الذين يؤديهم الفكر إلى المعرفة والعبادة التي ما خلقت السماوات والأرض إلا لها، ناسب كون المتفكرين فاصلة هنا”[17].


أ. هدى عبد الرحمن النمر
كاتبة ومؤلّفة ومتحدِّثة في الفكر والأدب وعُمران الذات.


[1] المبسوط، للسرخسي (4/192-193).

[2] (المغني، لابن قدامة (9/343).

[3] تصنيف الدول من حيث سن الرضا Age of Consent لعام 2023م المنشور على موقع worldpopulationreview.com

[4] ينظر مادة: قانونية سفاح القربى (Legality of incest)، المنشورة على موسوعة ويكبيديا باللغة الإنجليزية.

[5] ينظر مادة: “من الصعب تنمية المال”: تقول الأمهات العازبات: إنهن بحاجة إلى الدعم It’s Hard Getting Money to Stretch’: Single Mothers Say They Need Support: على موقع صحيفة الغارديان.

[6] دلالة الألفاظ العربية غير الأجنبية فلا يقاس على العربية لتصور ترقي الدلالة بل يُراجع التفسير الدقيق لكل مصطلح في إحدى القواميس الإنجليزية المعتمدة، مثل: أكسفوردOxford ، كامبريدجCambridge ، كولينزCollins .

[7] ينظر مادة: العاملون بالجنس أم المومسات؟ لماذا الكلمات مهمة؟ Sex workers or prostitutes? Why words matter، على موقع: inews.co.uk، ومادة: العنف ضد العاملين بالجنس Violence against sex workers على موقع BBC، ومادة: قادني عملي مومسًا إلى معارضة إلغاء التجريم، My work as a prostitute led me to oppose decriminalization، على موقع: BBC.

[8] ينظر مادة: دراسة وجدت أن “الساعة البيولوجية” للذكور يمكن أن تؤثر على فرص الولادة أكثر مما كان يعتقد،Male ‘biological clock’ can affect chances of birth more than was thought, study finds، على موقع صحيفة الغارديان.

[9] ينظر مادة: صبي أو فتاة؟ إنه في جينات الأب، Boy or girl? It’s in the father’s genes، على موقع: sciencedaily.com، ومادة: ما الذي يؤثر على جنس الطفل؟ What Influences a Baby’s Sex?، على موقع health.com

[10] تقرير بعنوان: بكم التكلفة؟ الدفع مقابل رعاية الإجهاض من قبل النساء الأمريكيات، At What Cost? Payment for Abortion Care by U.S. Women، المنشور في نشرة قضايا صحة المرأة، women`s health issues، الصادرة بداية شهر مارس 2013م، موقع: guttmacher.org

[11] ينظر مادة: الكنديون لديهم أفكار مختلطة حول التمويل الحكومي الذي يصل إلى 75 ألف دولار في إجراءات تأكيد النوع الاجتماعي (الجندر) للموظفين الفيدراليين، Canadians Have Mixed Thoughts about Government Funding up to $75K In Gender-Affirming Procedures for Federal Employees، على موقع: nowtoronto.com

[12] لندن تايمز: يقول العلماء إنه يجب حظر “المصطلحات الثنائية” للذكور والإناث، The London Times: “Binary terms’ male and female should be banned, say scientists”. وأيضًا: نيويورك بوست: “العلم بحاجة إلى التوقف عن استخدام مصطلحات مثل ذكر وأنثى وأم وأب، كما يقول الباحثون”: The New York Post: “Science needs to stop using terms like male, female, mother and father, researchers say”:

[13] الأحكام المذكورة في هذه الفقرة هي على وجه العموم السطحي، بغرض التمثيل فحسب، فلا يؤخذ بها على ظاهرها.

[14] أخرجه مسلم (1006).

[15] (أخرجه مسلم (1218).

[16] (ينظر: تفسير القرطبي (5/103).

[17] (تفسير الألوسي (11/32).

X