دعوة

حديث بعض الأرقام عن إبداع العزيز العلَّام

العقل هبةٌ وهبها الله تعالى للإنسان، وميَّزه بها عن سائر المخلوقات، وزوَّده بإمكاناتٍ متقدِّمةٍ للتفكُّر والتدبُّر، ثم أودع أسرار خلقه وصنعه البديع في كل ما تراه العين وتدركه الحواس من المخلوقات، وجعل استخدام هذا العقل في الاستدلال على الخالق العظيم جزءاً من ابتلاء الإنسان واختباره، وهذه المقالة تأخذنا في جولة ماتعة في عجائب صنع الله في جسم الإنسان.

رحم الله الشاعر المبدع أبا العتاهية، قائل بيتين من الشعر، تمنى بعض الشعراء لو يبادله عليهما بكل شعره، وهذان البيتان هما قوله:

فيا عجبًا كيف يعصى الإله ** أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

قد قال أبو العتاهية هذين البيتين قبل أكثر من ألف سنة، يوم لم يكن هناك تلسكوبات ترى الفضاء الفسيح والمجرات الشاسعة، ولم يكن هناك مجاهر إلكترونية ترى تفاصيل الخلايا الحية وما يحدث فيها من تفاعلات وأعمال تذهل الألباب، قد اكتفى شاعرنا بما يرى حوله من الخلق والكائنات، وتعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، والبحار والأنهار والمحيطات، وغير ذلك مما يراه حوله بعينه المجردة، ليوقن أنَّ وراء الكون إلهًا قديرًا حكيمًا، بل ليعجب -وحق له أن يعجب- من الذين يجحدون الله تعالى ويعصونه.

أفلا يحق لنا أن ندهش ونستغرب، عندما نرى اليوم علماء ملحدين، وقد كشف لهم العلم من عجائب الكون والخلق، ما لا يسع من يدركه إلا أن يقر صاغرًا بعظمته سبحانه؟

نحن نعيش في عصر العلم والتقدم العلمي، عصر التلسكوبات التي نقلت لنا صورًا من أعماق الفضاء، فكشفت لنا من أبعاد الكون ما لا تكاد عقولنا تتصور أبعاده من حيث الضخامة، ونحن أيضًا في عصر المجاهر الإلكترونية، التي كشفت لنا من دقائق الذرة، ومما يجري من تفاعلات في داخل الخلايا الحية، ما يصعب على خيالنا أن يتصور دقته وإحكامه، مع الضآلة الشديدة في حجمه، وأصبح العلم يقدم لنا كل يوم، بهذه الوسائل وغيرها، أدلة وبراهين جديدة على بديع صنع الله في خلق الكون والكائنات، ورغم ذلك ينكر المنكرون وجوده سبحانه، رغم ما تنطق به الأدلة والبراهين العلمية عن عظيم خلقه ودقيق صنعه وروعة حكمته.

 وأعجب وأكبر الآيات التي كشف عنها العلم الحديث، هي آيات موجودة في جسم الإنسان نفسه، وكأن العلم الحديث يفسر قوله تعالى: ﴿‌وَفِي ‌أَنْفُسِكُمْ ‌أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]، ومع ذلك نرى ممن يحمل تلك الآيات البينات بين جنبيه بل ومن بعض العلماء الذين اكتشفوها ووثَّـقوا وجودها من ينكر وجود من وضعها فيه وسخرها له، وسنستعرض في السطور التالية نقطة صغيرة من بحار ما توصل إليه العلم من حقائق قاطعة مدهشة مذهلة، وبلغة الأرقام، لا يملك من يطالعها بعقل متفتح وفطرة سليمة، إلا أن يوقن أنها من صنع وتقدير خالق عليم حكيم قدير، ﴿‌أَحْسَنَ ‌كُلَّ ‌شَيْءٍ ‌خَلَقَهُ﴾ [السجدة: 7].

استدلَّ الأوَّلون على وجود الخالق وعرفوا عظيم قدرته بدون المخترعات الحديثة من التلسكوبات والمجاهر الإلكترونية، بل بما تراه العين المجردة، أفلا يحقُّ لنا أن ندهش ونستغرب، عندما نرى اليوم علماءَ مُلحدين، وقد كشف لهم العلم من عجائب الكون والخلق، ما لا يسع من يدركه إلا أن يقر صاغرًا بعظمته سبحانه؟

أرقام من عجائب القلب:

إن القلب الذي لا يزيد حجمه عن حجم قبضة اليد إلا قليلاً، هو آلة مدهشة تتفوق بشكل هائل على أي آلة صنعها الإنسان، فهو يمر في كل ثانية من الزمن بدورة من التمدُّد والانكماش، فينبض في داخل كلِّ إنسان منذ كان جنينًا في بطن أمه، إلى أن تنتهي حياته، ويصل عدد نبضات قلب إنسان عاش خمسًا وسبعين سنة إلى مليارين ونصف مليار نبضة بلا توقف، لا يحتاج معها محركًا ولا بطارية ولا كهرباء ولا وقود، وقودُه الغذاء من لحومٍ وخضار، وطاقته يستمدُّها من أوكسيجين الهواء، يعمل دون إرادة الإنسان الذي يحمله، تزداد نبضاته تلقائيًا إذا بذل الإنسان جهدًا يحتاج لمزيد طاقة، وتهدأ إذا نام أو استراح، يتألَّف من مليارات من الألياف العضلية، المصمَّمة خصيصًا لمقاومة التمدُّد والانكماش، ولتتقلَّص وتنبسط باستمرار دون توقُّف مادام الإنسان حيًا، ونبضها ذاتي دون أي تأثير خارجي عليها.
وكل واحد من الألياف العضلية التي تشكل عضلة القلب، يحتوي على تريليونات من الجزيئات المتراصة المصفوفة بإحكام ودقة شديدين، لتشكل شعيرات عضلية دقيقة جدًا، قادرة على التمدد والتقلص، يؤدي تمددها وتقلصها المنتظم إلى حدوث نبض القلب والدورة الدموية الناتجة عنه.

أرقام من عجائب الدم:

مع كل تقلص للقلب أثناء نبضه، يضخُّ مئات المليارات من خلايا الدم الحمراء لتسير عبر مئات الكيلومترات من العروق الدموية الدقيقة التي تسمَّى الشعيرات الدموية، وكلُّ شعيرةٍ دمويةٍ مَهمَّتُها إيصال مليار جزيء أوكسيجين O2  من الرئتين إلى الأنسجة مع كل نبضة، والكريات الحمراء نفسها هي بحدِّ ذاتها معجزةٌ من معجزات الهندسة الحيوية، فكلُّ كرية دموية حمراء تقوم خلال عمرها القصير الذي لا يزيد عن 120 يومًا، بالجريان مئات الآلاف من المرات، ما بين القلب والأنسجة، تقطع خلالها مئات الأميال عبر الأوعية الشعرية، والأمر المدهش المذهل، أنَّ قُطر الكرية الحمراء لا يزيد عن 10 ميكرون (الميكرون يعادل جزء من ألف من المليمتر)، ولها غلاف عجيب، طري جدًا وقوي جدًا، أكثر طراوة بألف مرة من المطاط السائل، وأقوى على مقاومة الشد من الحديد، وهذا ما يمكِّنها من تحمُّل التغير في شكلها أثناء مُرورها في بعض الشعيرات الدموية، التي يبلغ قطرها في أغلب الأحيان 5 ميكرون، أي  نصف قطر الكرية الحمراء الواحدة، وآخر ما نذكره من عجائب كريات الدم الحمراء، أنَّ نقيَّ العظام في الإنسان ينتج في كل 60 ثانية 180 مليون كرية دم حمراء.

أرقام من عجائب الرئتين:

هل تعلم عزيزي القارئ كيف يتوزع الهواء الذي تتنفَّسه في الرئتين؟ نحن نأخذ الهواء بالشهيق، ونخرجه بالزفير، وبين الشهيق والزفير أعاجيب وغرائب ومعجزات، فالهواء الذي نأخذه في الشهيق يتوزَّع على نصف مليون كيس هوائي، نعم، نصف مليون، 500.000 كيس هوائي موجودة كلُّها في الرئتين، وهو رقمٌ يصعُب تخيُّله، والذي يصعب تخيله أكثر هو رِقة الغشاء الذي تتكوَّن منه تلك الأكياس (وتسمى في المراجع الطبية الحويصلات الرئوية)، فسماكة جدار الكيس هي 0.2 ميكرون، والميكرون هو جزء من ألف من المليميتر، أي لو أمكن تقسيم المليمتر الواحد إلى عشرة آلاف جزء، فإن سماكة تلك الأغشية تعادل جزئين فقط من الآلاف العشرة، وحتى نقرِّب للقارئ الكريم الأمر، يكفي أن نقول: إن سماكة ورقة من كتاب أكبر من سماكة الغشاء الذي تتألف منه تلك الأكياس الهوائية بمائتين وخمسين ضعفًا!! وهذه الأكياس كلُّها مصفوفة بتنسيق وترتيب مذهل مدهش داخل رئتين لا يزيد حجمُهما عن 5 ليترات، رغم أن مجموع مساحة الأغشية كلها في الرئتين تعادل تقريبًا مساحة ملعب تنس.

ولم تنقض عجائب تلك الأكياس بعد، فهي رغم رقتها الشديدة، قويةٌ بما فيه الكفاية لتتحمَّل التمدُّد والتقلُّص الناتجين عن دخول الهواء إليها وخروجه منها أثناء الشهيق والزفير، فهي تتمدد وتتقلص كل يوم 20,000 مرة (عشرين ألف مرة)، هو الرقم المتوسط لعدد مرات الشهيق والزفير اليومي، ومن خلال هذه الأغشية تحدث عملية تبادل للغازات بين هواء الشهيق، وبين الدم الموجود في الشعيرات الدموية المحيطة بتلك الأغشية، فيأخذ الدم الأوكسيجين من الهواء الذي يدخل الأكياس أثناء الشهيق، ويطرح فيها غاز الكربون ليحمله الزفير إلى خارج الجسم، أي إننا فعليًا أمام نظام يستطيع تزويد خمسمائة مليون محطة لتبادل الغاز بين الهواء المشبع بالأوكسيجين، وبين الدم الذي سيأخذ الأوكسيجين ويطرح غاز الكربون، وكل ذلك في تجويف لا يزيد حجمه عن 5 ليترات.

أرقام من عجائب الدماغ:

إن دماغ الإنسان هو أكثر الأعضاء أو الأدوات تعقيدًا على وجه الأرض، وهذا أمر مجمعٌ عليه بين كل علماء الدنيا، وفيه من العجائب والغرائب ما لم يكتشفه العلم، رغم التقدُّم الكبير في علوم الطب والأحياء، إلا النزر اليسير منه، وهاكم لمحةً بسيطةً جدًا من بعض الأرقام التي يعرفها العلم اليوم.

تخيَّل عزيزي القارئ أن مليمترًا مكعبًا واحدًا من القشرة الدماغية للإنسان (مركز التفكير والإرادة)، يحتوي على 15.000 خلية عصبية، و15.000 خلية داعمة للخلايا العصبية، وأربعة كيلومترات من النهايات العصبية، وأربعمائة مليون، نعم 400.000.000 وصلة عصبية بين النهايات العصبية؟ وهل تعلم أنَّ الدماغ البشري يجري فيه ستة ملايين تفاعل كيميائي كل ستين ثانية؟

دماغُ الإنسان هو أكثر الأعضاء أو الأدوات تعقيدًا على وجه الأرض، وهذا أمر مجمعٌ عليه بين كل علماء الدنيا، وفيه من العجائب والغرائب ما لم يكتشفه العلم، رغم التقدُّم الكبير في علوم الطب والأحياء، إلا النزر اليسير منه

أرقام من عجائب العين:

تحتوي شبكية العين على أكثر من مائة مليون خلية بصرية، وهذه الخلايا على أنواع مختلفة، منها ما يختص بتمييز الألوان وتصفية الرؤية وتوضيحها في الإضاءة العادية، ومنها ما يختص بالرؤيا في الإضاءة الخافتة، وهناك نوع ثالث اكتشفه العلماء حديثًا، وتسمى الخلايا العقدية الحساسة للضوء، وهذه لا علاقة لها بعملية الإبصار، ولكنها تتحسس ضوء الشمس وتتفاعل مع شروقها وغروبها وسطوعها، وتتواصل مباشرة مع مراكز معينة في الدماغ البشري، لتتحكم بما يعرف بالساعة البيولوجية للإنسان، وبنمط ونظام نومه، ولا زالت الأبحاث قائمة حول هذه الخلايا لأنها اكتشفت حديثًا جدًا.

ومنها ما تتحسس ضوء الشمس وتتفاعل مع شروقها وغروبها وسطوعها، وتتواصل مباشرةً مع مراكز معينة في الدماغ البشري، لتتحكَّم بما يُعرف بالساعة البيولوجية للإنسان، وبنمط ونظام نومه، ولا زالت الأبحاث قائمةً حول هذه الخلايا لأنها اكتشفت حديثًا جدًا.

فور وقوع الضوء على الشبكية، تقوم الفوتونات التي يحملها شعاع الضوء بالتفاعل مع نوع من الجزيئات يسمى الواحد منها “ريدوبيسن”، فيتغير تركيب هذه الجزيئات، لتقوم بسلسلةٍ من التفاعلات الكيميائية المعقدة، ينتج عنها أن يتم إرسال نبضات كهربائية عبر العصب البصري إلى مقر الإبصار في مؤخرة الدماغ؟ ثم تعود تلك الجزيئات إلى حالتها قبل تفاعلها مع الفوتونات لتستقبل شعاعًا ضوئيًا جديدًا وفوتونات جديدة؟ ثم تقوم بتفاعلات جديدة وترسل نبضات جديدة؟ وأن هذه الدورة من التفاعلات لا تستغرق أكثر من “بيكو ثانية”، وهي وحدة لقياس الزمن تعادل جزءًا من تريليون جزء من الثانية.

وآخر أرقام العين المذهلة التي نذكرها هنا، تتعلق بالعصب البصري، فهذا العصب العجيب الذي ينقل الإبصار من العين لمركز الإبصار في الدماغ، لا يتجاوز قطره 1.8 مليمتر فقط، ومع ذلك فهو يتألف من حزمة تضم أكثر من مليون ومائتي ألف من الألياف العصبية البصرية؟ (ولنا أن نتخيل ما قطر كل ليف منها؟!).

إن من يُلحدون ويَجحدون، لا يفعلون ذلك لانعدام الدليل، ولكن لأسباب تتعلَّقُ بهم، هي غشاوات غطَّت قلوبهم وألبابهم فحالت بينهم وبين التفكُّر في خلق الله، منها الكِبْر، ومنها حُبُّ الجاه، ومنها حُبُّ الشهوات، وأمور أخرى

عود على بدء:

إن أي رقمٍ مما مرَّ معنا في الأسطر السابقة[1] يكفي التفكُّر فيه ليقول المرء: سبحان الخلاق العليم، هذا وإنَّ ما ذكرناه ليس أكثر من نقطة في بحر، أو ذرة رمل في صحراء، فالبحر ينفد قبل أن تنفد كلمات الله، ويكفي أن نعلم أن أي خلية حية مفردة في جسم الإنسان، هي أكثر تعقيدًا من أعظم سفينة فضائية، أو أحدث حاسوب اخترعه الإنسان، ويكفي أن نعلم أنَّ نواة الخلية، التي لا يزيد قُطرها عن 3 ميكرون، تحتوي على معلومات وبرمجيات مخزنة في الحمض النووي، مقدارها ثلاثة مليارات ومائتي حرف، أي إن هذه النواة التي لا تراها العين، تحتوي على معلومات وبرمجيات تملأ ألف مجلد، وكل مجلد يتألف من ألف صفحة، ﴿‌صُنْعَ ‌اللَّهِ ‌الَّذِي ‌أَتْقَنَ ‌كُلَّ ‌شَيْءٍ﴾ [النمل: 88].

وما أصدق قول الشاعر مخاطبًا من يعقل من الناس:

يا آية الخلق التي ** تُذْهِلُ لُبَّ الراشدِ

تقول كل ذرةٍ ** فيك لكلّ جاحدِ

سبحان من صوّرني ** ربِّ العباد الماجدِ

إن من يلحدون ويجحدون، لا يفعلون ذلك لانعدام الدليل، ولكن لأسباب تتعلَّقُ بهم، هي غشاوات غطَّت قلوبهم وألبابهم فحالت بينهم وبين التفكُّر في خلق الله، منها الكِبْر، ومنها حُبُّ الجاه، ومنها حُبُّ الشهوات، وأمور أخرى ليس هذا مجال تفصيلها، يقول الله تعالى واصفًا هؤلاء: ﴿‌كَلَّا ‌بَلْ ‌رَانَ ‌عَلَى ‌قُلُوبِهِمْ ‌مَا ‌كَانُوا ‌يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]، ويقول سبحانه: ﴿‌سَأَصْرِفُ ‌عَنْ ‌آيَاتِيَ ‌الَّذِينَ ‌يَتَكَبَّرُونَ ‌فِي ‌الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 146].


م. فداء ياسر الجندي

كاتب من سورية


[1] الأرقام التي وردت في المقال مصدرها الكتابان التاليان: – (معجزة الإنسان) للكاتب (مايكل دينتون) The Miracle of Man by Micheal Denton. – (التوقيع في الخلية) للكاتب (ستيفن ماير) Signature in the Cell by Stephen Meyer.

X