دعوة

تغوُّل الخطاب الإنشائي وأثرهُ في تسطيح المعرفة

الخطاب العاطفي الحماسي له مقامه المناسب، ودوره الذي يؤديه، وفوائده في التأثير والإقناع والحشد، وهو ضروري لا يمكن للكاتب أو المتكلم تجاهله، كما أنَّ المستمع أو القارئ يستفيد منه ولا يستغني عنه، لكنه حينما يكون طاغيًا على الأسلوب، مشوشًا على الحقائق والمعلومات، زائدًا عن الحد المقبول في الكلام، صار مُضرًّا مُضلِّلًا.

مدخل:

 إن الناقد البصير حين يتأملُ في المشهد الثقافي الراهن وفي عموم مخرجاته وتوجهاته يمكنه أن يرصد مظاهر كثيرةً للتجهيل والتسطيح، وأن يجد العديد من الشواهد التي تؤكد استفحال الضحالة والركاكة المعرفية، والركون إلى الجمود والتقليد والسطحية، والعجز عن توليد الجديد النافع من الرؤى والمفاهيم والأفكار.

 ويكفي المرء أن يلقي نظرةً على كثيرٍ مما يُقال ويُكتب هذه الأيام ليرى الحشو والتَّكرار والاجترار وفضول الكلام هو الغالب، وقد ذهب المهتمون بتشخيص واقع الحالة الثقافية والمعرفية مذاهب شتى في تحليل أسباب ذلك الضعف والوهن، وغاب عنهم أو كاد يغيب أثر تغول الخطاب الإنشائي فيما نعانيه اليوم من هشاشة علمية وضحالة فكرية.

ماذا نعني بالخطاب الإنشائي؟

 الإنشاء في أبسط معانيه هو الاقتدار على فن الكلام، ومن أحسن ما قيل في تعريفه اصطلاحًا أنه: “علمٌ يعرف به كيفية استنباط المعاني وتأليفها مع التعبير عنها بلفظٍ لائق بالمقام، وهو مستمدٌ من جميع العلوم؛ وذلك لأن الكاتب لا يستثني صنفًا من الكتابة؛ فيخوضُ في كل المباحث ويتعمد الإنشاءَ في كلِّ المعارف البشرية”[1].

 ومن هذا التعريف يتبين أن كاتب الإنشاء لا يقتصر على الكتابة في مجالٍ دون مجال، ولكنه يسخر إمكاناته الأدبية وقدراته اللغوية ومعارفه الثقافية للكتابة أو الحديث في شتى الموضوعات.

يتميز الخطاب العلمي بمخاطبة العقل، واستثارة التأمل والتفكير؛ والاعتماد على الحقائق الموضوعية، ويتسم بالدقة والمنهجية، ويهتم بتحرير المفاهيم والمصطلحات، ويفرق بين الحقائق اليقينية والمسلَّمات الوهمية، ويضيف جديدًا إلى المعرفة

معالم الخطابين: الإنشائي والعلمي:

إذا أردنا التأسيس لتكوينٍ علميٍ وفكريٍ متين، فلابد من التمييز بين الخطابين: العلمي والإنشائي؛ ويمكن التمييز بينهما من خلال المعالم والسمات المميزة لكل واحدٍ منهما، ولنبدأ بالخطاب الإنشائي الذي يتميز بالفنون البلاغية، ويعتني بحشد الألفاظ، وسبك العبارات، ويتجه نحو دغدغة العواطف، وإثارة الحماس، وقد يمزج الواقع بالخيال، والحقيقة بالمثال، ومن خلال ذلك يحاول التأثير على الآخرين وإقناعهم بوجهة نظرٍ ما. وهو حسنٌ في موضعه حين يؤدي دوره في الوعظ والحث، والترغيب والترهيب، وبث الحماسة في النفوس، شرط التزامه الصدق والموضوعية، وأما إن سُخِّرت أساليب الإنشاء لدغدغة المشاعر واللعب بالعواطف دون مراعاةٍ لقيم الصدق والموضوعية والمعقولية فحينها يخرج الكلام عن دائرة الخطاب الإنشائي المحمود إلى دائرة الخطاب الديماغوجي[2] المذموم القائم على التلاعب بعقول الناس وبيع الوهم لهم، وقد يوردهم المهالك.

 وأما الخطاب العلمي فهو يتميز بمخاطبة العقل، واستثارة التأمل والتفكير؛ والاعتماد على الحقائق الموضوعية، ويتسم بالدقة والمنهجية، ويهتم بتحرير المفاهيم والمصطلحات، ويفرق بين الحقائق اليقينية والمسلَّمات الوهمية، ويضيف جديدًا إلى المعرفة.

التأصيل الشرعي:

 جاء في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وكلام الصحابة والتابعين ما يفيد تفريقًا بين خطابين: أحدهما قائم على التزيد في الألفاظ وتنميق العبارات دون فائدة ترجى من وراء إطالة الكلام، والآخر يتوخى الحقيقة والدقة والفائدة والاختصار؛ فلقد كره النبي عليه الصلاة والسلام المبالغة في التفاصح وكل صور التكلف والتشدق، فقال: (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة)[3].

 وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أحبَّكم إليَّ وأقربكم مني منزلةً يوم القيامة أحاسِنُكم أخلاقًا، وإن أبغضَكم إِليَّ وأبعدكم مني منزلةً يوم القيامة الثَّرثارون المتَشدِّقون المُتَفَيْهِقُونَ)[4].

والثرثار: الذي يُكثر الكلامَ في تكلفٍ وخروجٍ عن الحد.

والمُتَشَدِّق: المتكلم بملء شدقيه تفاصحًا وتعظيمًا لكلامه.

والمُتَفَيْهِقُ: أصله من الفَهْقِ، وهو الامتلاءُ، من قولهم: فَهِقَ الإناءُ والحوضُ، إذا امتلأ حتى تصبَّب[5]، وأُطلق على من يتنطع في الكلام ويتوسع فيه، كأنه ملأ فمه بالكلام إظهارًا لفصاحته، وفضله، واستعلاءً على غيره، ولذلك جاء في بعض الروايات تفسيره بالمتكبر.

 وقال عليه الصلاة والسلام: (إن طولَ صلاةِ الرجلِ وقِصَرَ خُطبته، مَئِنَّةٌ من فقهه)[6].

ومَئِنَّةٌ من فقهه: أي علامةٌ دالةٌ على فقهه.

 إن الاقتدار على الخطابة، والاغترار بذلاقة اللسان، والافتتان بشهوة الكلام، غالبًا ما يحول بين الإنسان وبين الوقوف حيث يجب أن يقف، وقد جاء التحذير من هذا المسلك في عددٍ من الأحاديث النبوية، ومن ذلك ما رواه الإمام البخاري في الصحيح عن مسروق قال: “دخلت على عبد الله [يعني ابن مسعود] فقال: إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم، إن الله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)[ص: 86]”[7].  وجاء في الأثر الصحيح المروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إنكم في زمنٍ كثيرٌ فقهاؤه، قليلٌ خطباؤه، وسيأتي عليكم زمانٌ قليلٌ فقهاؤه، كثيرٌ خطباؤه”[8].

 وهذا الأثر يميز بين (الفقهاء) و(الخطباء)، وهو تمييز تدركه العقول الواعية؛ فالفقه علم، والخطابة كلام، وفرقٌ بين العلم والكلام!

 وقيل لأيوب السختياني[9]: “العلم اليوم أكثر أو فيما تقدم؟ فقال: الكلام اليوم كثيرٌ، والعلم فيما تقدم أكثر”[10]!

 ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “العلم نقطةٌ كثّرها الجُهَّال”[11]!

 وهذه الأحاديث والآثار وما جاء في معناها تقرر مسألةً هامةً في صلب المنهج، وهي أن العلم النافع يُستدل عليه بفائدته، وكشفه عن وجه الحق والصواب، لا بتنميق الكلام، وزخرفة القول، وإطالة الحديث، كما هو الشأن في الخطاب الإنشائي حين يتكلف الخوض فيما لا يحسنه، فيكون الكلام لأجل الكلام، أو لبيع الأوهام.

إنَّ الاقتدار على الخطابة، والاغترار بذلاقة اللسان، والافتتان بشهوة الكلام، غالبًا ما يحول بين الإنسان وبين الوقوف حيث يجب أن يقف

الخطاب الإنشائي حسنٌ في موضعه سيءٌ في تغوله:

 ربما تبادر إلى ذهن البعض أننا نتحامل على الخطاب الإنشائي، أو ندعو إلى إلغاء وجوده! وهذا الفهم غير صحيح؛ فالخطاب الإنشائي له دور يؤديه في حياة الأمة، وهو حسنٌ في موضعه حين يؤدي دوره في الوعظ والحث والتهذيب، والترغيب والترهيب، وبث الحماسة في النفوس، كما أسلفنا، وإذن فنقدنا ليس موجهًا لذات الخطاب الإنشائي، وإنما لتغوله وإحلاله في غير موضعه، ولما ينتج عن ذلك الإحلال من الآثار، ويمكن أن نُجمل المآخذ في ثلاثةِ أمور:

الأول: تناول خطباء وكتّاب الإنشاء للمسائل العلمية وقضايا الفكر العميقة الشائكة بلغة خطابية لا عمق فيها، ولا أثر للتحقيق في ثناياها، وقد أدى هذا المسلك إلى شيوع ظاهرة الثقافة الهشة بما تعنيه من ترسيخ للسطحية والضحالة المعرفية.

الثاني: الخلط الموجود في مجتمعاتنا بين الخطاب العلمي والخطاب الإنشائي، وبين الخطباء والكُتّاب الإنشائيين وبين أهل العلم والنظر والتحقيق، وما أدى إليه هذا الخلط من عزوف عن التكوين العلمي الراسخ المتين.

الثالث: توهم بعض خطباء وكُتّاب الإنشاء في أنفسهم العلم، وفقدانهم الإحساس بحاجتهم إلى الاستزادة من المعرفة، اغترارًا منهم بقدرتهم على البيان وفنون الكلام.

 ومن خلال هذه المآخذ يتبين أن الإشكالية ليست في ذات الخطاب الإنشائي، وإنما في إساءة استخدامه وتوظيفه، وفي ذلك الخلط القائم في مجتمعاتنا بين الخطاب الإنشائي والخطاب العلمي؛ بحيث لم يعد الناس يفرقون بين الخطيب والعالم، وبين الفقيه والواعظ، وبين الباحث المتخصص والكاتب الهاوي، بل كل من امتلك ناصية البيان وأجاد تزويق الكلام فهو في نظرهم أهلٌ لأن يُؤخذ عنه ويُصدر عن رأيه!

 ونتيجة لسيطرة الخطاب الإنشائي وتجاوزه لمجاله وحدوده أصبحنا “ندفع اليوم أثمانًا باهظة، ونخلي الكثير من المواقع، الواحد تلو الآخر لخصومنا، لعدم تملكنا الأدوات المناسبة والمقنعة في معركة المدافعة الحضارية، حيث تمتد فينا مرحلة الخطباء، وتتجاوز مساحتها المؤثرة والمطلوبة، فنخطب إذا كتبنا، ونخطب إذا دعونا، ونخطب إذا تحدثنا، ونخطب إذا درّسنا، وإذا حاضرنا، وإذا شاركنا (الآخر) في الندوات والحوارات والمقابلات، ونظن الحل برفع الصوت، وسماكة الحنجرة، والاستزادة من دفقات الحماس… ولا يضيرنا أن نعترف بأن التحول أو النقلة من الأسلوب الحماسي الوصفي الرغائبي إلى الأسلوب الهادئ العلمي الموضوعي التحليلي ليس بالأمر الهين، خاصة في مناخ ثقافي يضطرم بالخطابيات، ويتمحور حول استدعاء مواصفات أسلوب الخطبة، وزعامة الخطبة، مهما كان المجال المطلوب”[12].

الخطاب الإنشائي له دورٌ يؤدِّيه في حياة الأمة، وهو حسنٌ في موضعه حين يؤدِّي دوره في الوعظ والحثِّ والتهذيب، والترغيب والترهيب، وبثِّ الحماسة في النفوس، والنقد ليس موجهًا لذات الخطاب الإنشائي، وإنما لتغوُّله وإحلاله في غير موضعه

الخطاب الإنشائي والإعاقة المعرفية:

 من أسوأ الآثار لتغوُّل الخطاب الإنشائي المبني على العاطفة المجردة وتنميق العبارات وتسطيحها، فضلاً عن مصداقيتها، وسيطرته على المنابر الدينية والإعلامية والثقافية، أنه أوجد حالةً عامة من الركود المعرفي والاطمئنان إلى الثقافة الهشة، والركون إلى ما يقدمه الخطاب الإنشائي من تناولٍ سطحي لأعقد القضايا الفكرية والمسائل العلمية!

 لقد أوجد الخلط بين الخطاب العلمي والخطاب الإنشائي أوهامًا في التصور؛ إذ تصور خطباء وكتاب الإنشاء في أنفسهم أنهم من أهل العلم وإن لم يكونوا كذلك، وبالتالي اكتفوا بما عندهم ولم يشمروا عن ساق الجد في طلب العلم والاستزادة من المعرفة، بل استمرؤوا تناول مسائل العلم بلغة الإنشاء وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا! فتصدروا لتناول المسائل العلمية والمعضلات الفكرية بخطاب سطحي مكرر لا جديد فيه ولا تجديد، فصاروا بصنيعهم هذا فتنةً تصدُّ عن سبيل التمكُّن المعرفي والرسوخ العلمي؛ لأنَّهم خلقوا في نفوس المتلقين لخطابهم أنَّ العلم هو القدرة على تطويل الكلام، وزخرفة القول، والتزيد في الألفاظ، فسمع الناس منهم كثيرًا ولم يستفيدوا إلا قليلاً، ثم ملوا التَّكرار، واعتقدوا أن لا جديد يرجى، فأعرضوا عن أصالة الطلب، وزهدوا في عمق المعرفة!

ثم بلغ السَّيلُ الزُّبَى حين رمى أربابُ الصنعة الإنشائية السالكين بها غير مواردها من خالف سبيلهم، وسعى في أصالة الطلب وعمق التكوين بالتكلف المذموم والتعمق المرذول، فصاروا بهذا الزعم فتنة تصد عن سبيل الرسوخ العلمي والتمكن المعرفي.

من نتائج الخلط بين الخطابين العلمي والإنشائي: أن ظنَّ خطباء وكتاب الإنشاء أنَّهم من أهل العلم وإن لم يكونوا كذلك، فاكتفوا بما عندهم ولم يشمِّروا عن ساق الجد في طلب العلم، بل استمرؤوا تناول مسائل العلم بلغة الإنشاء! وصاروا بصنيعهم هذا فتنةً تصدُّ عن سبيل التمكُّن المعرفي والرسوخ العلمي

الخطاب الإنشائي والتوسع في استخدام الترادف اللغوي:

 يتميز الخطاب العلمي بإدراكه لأهمية اللغة باعتبارها الوسيلة الأساسية للتواصل ونقل المفاهيم والأفكار، وبالتالي فهو يحرص على الدقة في فهم دلالة الألفاظ والمصطلحات، ولا يدخر وسعًا في تحرير المفاهيم، وأما الخطاب الإنشائي فهو يعتمد على وجود الترادف في اللغة ويتوسع في استخدامه توسعًا ينافي في أحيانٍ كثيرة الدقة العلمية، بل يؤسس للسطحية والضحالة المعرفية، وهذا أبرز ما يمكن ملاحظته على خطباء وكتاب الإنشاء؛ إذ تسمع أو تقرأ لأحدهم كلامًا طويلاً، يعمد فيه إلى استحضار المفردات المتقاربة في المعنى، ويظل يصول ويجول بينها، مستكثرًا من حشو الألفاظ، دون أن يحرر مفهومًا، أو يضبط مصطلحًا، أو يضيف جديدًا، أو يحل إشكالاً، أو يقدم رؤيةً واضحةً محددة المعالم للمسألة التي يتحدث عنها.

 ولسنا ممن ينكر وجود الترادف في اللغة، وإنما الذي ننكره التوسع في استخدامه إلى درجة تلغي الحدود والتمايز بين المفاهيم والدلالات المختلفة، كما يفعل المتحدث أو الكاتب الإنشائي حين يقفز على التحديد الدقيق للمفهوم الدلالي ويلجأ إلى تفسيره بالترادف، وهي عملية لا تقدم تفسيرًا بقدر ما تتجاوز على خصوصية المعنى.

 وإنّ من يُمعن النظر والتأمل في هذه المسألة سيرى أن الثراء اللغوي الذي تمتاز به لغتنا العربية لم يحسن كثيرون الاستفادة منه في إنتاج وبلورة خطاب علميٍ ومعرفيٍ متين، بل سخروا ذلك الثراء في إنتاج خطابٍ يجيد التزيُّد في الألفاظ وإطالة وتَكرار الكلام في غير تحقيقٍ وفائدة، ومن هنا شاع في ثقافتنا التساهل في تحديد المعاني الدقيقة للألفاظ، وأصبحنا نقرأ تفسيرات للألفاظ هي في الغالب مما يحتمله المعنى، فشاعت لدينا المعاني الاحتمالية على حساب المعاني الدقيقة[13].

 وإذا كان جمهور علماء اللغة والأصول يقولون: إن الترادف في اللغة موجود ولكنه قليل، وهو في القرآن بين الندرة والعدم، وهذا ما قرره الإمام ابن تيمية (ت728ه) بقوله: “الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم، وقَلَّ أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدِّي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه وهذا من أسباب إعجاز القرآن، فإذا قال القائل: ﴿يَوْمَ ‌تَمُورُ ‌السَّمَاءُ مَوْرًا﴾ [الطور: 9] إن المور الحركة كان تقريبًا؛ إذ المور حركة خفيفة سريعة. وكذلك إذا قال: الوحي الإعلام، أو قيل: ﴿‌أَوْحَيْنَا ‌إِلَيْكَ﴾ [النساء: 163]: أنزلنا إليك. أو قيل: ﴿‌وَقَضَيْنَا ‌إِلَى ‌بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الإسراء: 4] أي أعلمنا. وأمثال ذلك فهذا كله تقريب لا تحقيق”[14].

 والسؤال هنا: إذا كان الترادف في القرآن نادرًا أو معدومًا فلماذا يعمد كثير من المفسرين إلى تفسير القرآن بالترادف ولغة الترادف هي لغة تقريب لا لغة تحقيق؟

 والجواب: إن لغة (التحقيق) لابد فيها من الحفر العميق، والنظر والتأمل الدقيق، وليس كل أحدٍ يحسن ذلك، أو يصبر عليه، أو يسعفه الوقت للقيام به. فإذا أضفنا إلى ذلك عدم وجود التصور التام لأهمية ذلك الحفر والتنقيب وراء دلالة الألفاظ والمصطلحات؛ فهمنا لماذا مال الأكثرون إلى لغة (التقريب) الإنشائية وأعرضوا عن لغة (التحقيق) العلمية.

 وسأضرب هنا مثالاً على ذلك: لدينا كلمة (شك) وكلمة (ريب) والخطاب الإنشائي يتعامل مع هاتين الكلمتين على أنهما مترادفتان، وبالتالي فالشك هو الريب، والريب هو الشك!

 وقوله سبحانه: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] يكاد يجمع المفسرون أن معناه: لا شك فيه. لكن الإمام ابن تيمية (ت728ه) له رأي مختلف فهو يرى أن تفسير الريب بالشك مما تحتمله الآية، ولكنه ليس المعنى الدقيق للآية، يقول رحمه الله: “ومن قال: لا ريب: لا شك، فهذا تقريب، وإلا فالريب فيه اضطراب وحركة كما قال: (دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ)[15] وفى الحديث: (أنه مَرَّ بظَبيٍ حاقِفٍ فقال: لا يَرِيبُهُ أحدٌ)[16]. فكما أن اليقين ضُمِّن السكون والطمأنينة، فالريب ضده ضُمِّن الاضطراب والحركة، ولفظ الشك وإن قيل إنه يستلزم هذا المعنى لكن لفظه لا يدل عليه”[17].

 وإذن فالمعنى الدقيق لقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ هو: لا اضطراب فيه، وتفسير الريب بالاضطراب هو الذي ينسجم مع بقية الآيات القرآنية التي وصفت القرآن بالإحكام ونفت عنه التناقض والاختلاف كقوله سبحانه: ﴿‌كِتَابٌ ‌أُحْكِمَتْ ‌آيَاتُهُ ‌ثُمَّ ‌فُصِّلَتْ ‌مِنْ ‌لَدُنْ ‌حَكِيمٍ ‌خَبِيرٍ﴾ [هود: 1] وقوله: ﴿‌أَفَلَا ‌يَتَدَبَّرُونَ ‌الْقُرْآنَ ‌وَلَوْ ‌كَانَ ‌مِنْ ‌عِنْدِ ‌غَيْرِ ‌اللَّهِ ‌لَوَجَدُوا ‌فِيهِ ‌اخْتِلَافًا ‌كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].

 وأَما نفي الشك في القرآن، فنعم هو لا شك فيه عند المؤمنين به، ولكن من لا يؤمن به هو يشك فيه كما قال تعالى: ﴿‌أَأُنْزِلَ ‌عَلَيْهِ ‌الذِّكْرُ ‌مِنْ ‌بَيْنِنَا ‌بَلْ ‌هُمْ ‌فِي ‌شَكٍّ ‌مِنْ ‌ذِكْرِي﴾ [ص: 8]. والآية تقول: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، وكلمة (ريب) جاءت هنا نكرة في سياق النفي، وهو ما يقتضي العموم؛ أي نفي كل أنواع الريب، وتفسير الريب بالاضطراب فضلاً عن كونه المعنى الدقيق للكلمة هو المناسب لعموم الآية كما لا يخفى.

 وهذا نذكره من باب التمثيل فقط، وتبقى ظاهرة غياب التدقيق في المعاني وفي تحرير المفاهيم بسبب سيطرة الخطاب الإنشائي القائم على التوسع في استخدام الترادف واحدة من الظواهر المعرفية التي يمكن للباحث المتأمل أن يرصدها، وأن يجمع عليها الكثير من الدلائل والشواهد، وحسبنا هنا أن نفتح الباب لمثل هذا التأمل.

ينبغي لذوي المَلَكَة الإنشائية ألا يركنوا إِلى صَنعة الإنشاء، فيخوضوا فيما لا يحسنون من دقيق العلم وقضايا الفكر معتمدين على قدراتهم الإِنشائية فحسب؛ ذلك أنَّ عالم الأفكار والمفاهيم وضعًا وحملاً ونقلاً واستعمالاً يحتاج إلى فقهٍ مكين، وبصيرةٍ نافذة، وعنايةٍ بالتحقيق، وصبرٍ على التدقيق

خاتمة:

وفي الختام نُؤكد أن لكلِّ مقامٍ مقالاً، وأن لغة الإنشاء لا يُنكر ما لها من أهميةٍ وفائدةٍ؛ إذ هي لغةُ الأدب والفنون، وسلاحُ الخطيب المفوّه، ووسيلةُ الواعظ المؤثر، وذخيرةُ الكاتب المتألق في حسن البيان والتعبير، ومع ذلك لا ينبغي لذوي المَلَكَة الإنشائية أن يركنوا إِلى صَنعة الإنشاء فيخوضوا فيما لا يحسنون من دقيق العلم وقضايا الفكر معتمدين على قدراتهم الإِنشائية فحسب؛ ذلك أن عالم الأفكار والمفاهيم وضعًا وحملاً ونقلاً واستعمالاً يحتاج إلى فقهٍ مكين، وبصيرةٍ نافذة، وعنايةٍ بالتحقيق، وصبرٍ على التدقيق؛ وبعبارةٍ أخرى يحتاج إلى لغة العلم الدقيقة لا إلى لغة الخطابة المؤثرة؛ ولكلٍ ميدانه ومجاله، وإعمال كل شيءٍ في موضعه يقود إلى التكامل بين القدرات والخبرات ﴿‌وَلِكُلٍّ ‌وِجْهَةٌ ‌هُوَ ‌مُوَلِّيهَا ‌فَاسْتَبِقُوا ‌الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148].


د. أمين نعمان الصلاحي
أستاذ مادة العقيدة والأديان والفرق في المعهد العالي للمعلمين بمحافظة تعز- اليمن.


[1] جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب، للسيد أحمد الهاشمي (1/16).

[2]الديماغوجية أو الدوغمائية “Demagoguism”: الغوغائية، ويقصد بها أساليب التحريض وتهييج الغوغاء، أي الانفعاليين والعاطفيين من الناس الذين يمكن التأثير فيهم بالشعارات والخطب الحماسية وأساليب الإثارة واستغلال أسباب الاستياء الاجتماعي. والديماغوجي “Demagogic” هو الشخص الذي يعمد إلى إثارة العواطف لدى الجماهير على حساب العقل، والخطيب السياسي الذي يلعب بعواطف العامة. ينظر: قاموس المصطلحات الإعلامية، للدكتور محمد فريد محمود عزت، ص (107). ومعجم المصطلحات الإعلامية، للدكتور أكرم شلبي، ص (161).

[3] أخرجه أبو داود (5005) والترمذي (2853).

[4] أخرجه أحمد في مسنده (17743) والبخاري في الأدب المفرد (1308) والترمذي (2018) وابن حبان (482) والطبراني في المعجم الكبير (588) والبيهقي في السنن الكبرى (20588).

[5] ينظر: تاج العروس، للزبيدي (26/332).

[6] أخرجه مسلم (2046).

[7] أخرجه البخاري (4545).

[8] هذا الأثر رواه موقوفًا على ابن مسعود: البخاري في الأدب المفرد (789)، وبمعناه: الحاكم في المستدرك (8487)، وعبد الرزاق الصنعاني في المصنف (3787)، والطبراني في المعجم الكبير (8566) و(9496).

[9] أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني البصري، ولد سنة 66ه، من سادات فقهاء التابعين وأهل النسك والزهد والورع فيهم، ومن حفاظ الحديث النبوي، رُوي عنه نحو 800 حديث، توفي سنة 131ه ينظر: مشاهير علماء الأمصار، لأبي حاتم البستي، ص (150)، والطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد الزهري (7/ 246- 251).

[10]المعرفة والتاريخ، للفسوي (2/232).

[11] سبل السلام شرح بلوغ المرام، للإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، (4/ 343).

[12] من تقديم الأستاذ عمر عبيد حسنة لكتاب: التفكك الأسري.. الأسباب والحلول، د. أمينة الجابر وآخرون. ضمن سلسلة كتاب الأمة، ص ( 16- 17).

[13] تنبه لهذا الخلل العالم الأزهري الشيخ كامل الجزار رحمه الله فألف كتاب: “المعجم الفريد لمعاني كلمات القرآن المجيد” وعن سبب تأليفه للمعجم يقول: “سألني أحد الزملاء عن معنى آية، فأجبته، فقال: هذه إجابة عامة، لقد أجبتني بالمعنى، إنني أريد معنى كل لفظ، المعنى الذي يعرفه العربي، ووضِع له هذا اللفظ.. فكان التعقيب مفاجأة لي، وقلت في نفسي: إننا نلجأ إلى المعنى العام، ونحسب أننا قد فسّرنا، وما هذا من التفسير في شيء! إن كثيرًا من الكتب المختصة بالتفسير، بخاصة الكتب المعاصرة، تنهج هذا النهج، فتلجأ إلى المعنى العام، وما هكذا يكون التفسير، وبعض الناس ولا أقول العلماء يتجرؤون فيفتون بغير علم في كتاب الله.. وتذكرت قول أبي بكر الصديق t حينما سئل عن معنى الأبّ بتشديد الباء في قوله تعالى: ﴿وفاكهةً وأبًا﴾ [عبس: 31] فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم… وهنا أطلت الفكرة: المعجم الفريد لمعاني كلمات القرآن المجيد”. المعجم الفريد لمعاني كلمات القرآن المجيد، للشيخ كامل الجزار . (1/ 7). وما قدمه الشيخ الجزار في هذا الكتاب محاولة تحتاج إلى مزيد إثراء.

[14] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 341).

[15] أخرجه أحمد (1723) ، (1727)، والنسائي (5398 )، (5711 )، والترمذي (2518) وقال: وهذا حديث صحيح.

[16] أخرجه مالك في الموطأ (781) والنسائي (2818) وابن حبان (5111) وإسناده صحيح. وقال ابن الأثير في غريب الحديث (1/ 1014): “ظَبْيٌ حاقِف أي نائم قد انْحَنَى في نَوْمه”.

[17] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 342).

X