جعل الله لهذه الحياة نواميس وقوانين، وأمرنا باكتشافها والتعرُّف عليها، والاستفادة منها في تحقيق الغايات التي خُلقنا من أجلها، وللعلامة ابن خلدون سبقٌ في التعرُّف على جملةٍ من قوانين الاجتماع البشري وقيام الأمم والحضارات، من أشهرها نظريته في حاجة الدعوات والمبادئ إلى عصبة تقوم بها وتحملها، وهذه النظرية مما تعظُم الحاجة إليه في واقعنا اليوم، كما تبيِّنه هذه المقالة
في معنى العصبية:
قال الراغب الأصفهاني في مفرداته حول مصطلح (العصبية): «يُقال لكل شَدّ: عَصْب، وقوله تعالى ﴿يوم عصيب﴾[1]أي شديد، والعُصبة: جماعة متعصِّبة متعاضدة ﴿ونحن عُصْبَةٌ﴾[2]، قال تعالى: ﴿لتنوء بالعصبة﴾[3]، واعْصَوصَبَ القومُ: صاروا عَصَبًا وعصبوا به أمرًا»[4].
فهذا المصطلح يدور حول (الشّد والربط) فقد يكون هذا الشدُّ وهذا التعاضُد لأمرٍ حسنٍ وفيه الخير، وقد يكون لأمرٍ مِن أمور الجاهلية، فليست مُفردة (التعصُّب) هي في معرض الذم دائمًا، بل قد تكون محمودةً تارةً وقد تكون مذمومةً تارةً أخرى، وقد كان التعصُّب للقبيلة سواءٌ كانت على حقٍّ أو على باطل مِن أمور الجاهلية، فكما قال شاعرهم:
لا يسألون أخاهم حين يندُبُهم
في النـائبات على ما قال برهانا
وهذا من التعصُّب المذموم.
جاء في الحديث النبوي الردُّ على هذه العصبية الجاهلية قال ﷺ: (لينصر الرجلُ أخاه ظالمًا أو مظلومًا، إن كان ظالمًا فلينْهَهُ فإنه له نصر، وإن كان مظلومًا فلينصره)[5]. وقال ﷺ: (مَن قاتل تحت رايةٍ عِمِّيَّة يغضب لعصبةٍ أو يدعو إلى عصبةٍ أو يَنصر عَصَبةً فقُتل فقتْلة جاهلية)[6].
وتأتي العصبية بمعنى الحماية بسبب القرابة والنسب؛ كما في قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ [هود: ٩١].
الانتفاع بالروابط العصبية والنسبية لا يعني التجمُّع على أساسها، بل الأصل هو النداء برابطة الدين والتي من قُوّتها وفضلهاأنها تجعل المجتمع كله كأنه جسد واحد.
وذم العصبية هو «حين تكون على باطل كما كانت في الجاهلية»، ومتى استعين بها على إقامة حق فلا ذمَّ فيها
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسيره (أضواء البيان): «بيّن الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنَّ نبيَّه شعيبًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام منَعَهُ الله من الكفار، وأعزَّ جانِبَه بسبب العواطف العصبية والأواصر النَسَبية مِن قومه الذين هم كفار، وهو دليلٌ على أن المتمسِّك بدينه قد يُعينه الله ويُعزه بنُصرة قريبه الكافر، وكقوله تعالى في صالح عليه السلام وقومه: ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ [النمل: ٤٩] ففي الآية دليلٌ على أنَّهم لا قُدرة لهم على أن يفعلوا السوء بصالحٍ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلا في حال الخفاء، ويحلفون لأوليائه الذين هم عصبته أنهم ما فعلوا به سوءًا، ولا شهدوا ذلك خوفًا من عصبته، وقال تعالى لنبينا ﷺ ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ [الضحى: ٦] أي: آواك بأن ضمَّك إلى عمك أبي طالب، وذلك بسبب العواطف العصبية والأواصر النسبية، ولا صِلَة له بالدين البتّة، فكونه جَلَّ وعلا يَمنُ على رسوله ﷺ بإيواء أبي طالب له دليلٌ على أنَّ الله قد يُنعم على المتمسِّك بدينه بنصرة قريبه الكافر»[7].
وفي السيرة النبوية عندما حوصر النبي ﷺ والمؤمنون في شِعب أبي طالب تعاضَدَ معه بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنُهم وكافرُهم، وقال ﷺ: (إنَّهم لم يفارقوني في جاهليةٍ ولا إسلام)[8].
وهذا الانتفاع بالروابط العصبية والنسبية لا يعني التجمُّع على أساسها، بل الأصل هو النداء برابطة الدين والتي من قُوَّتها وفضلها أنَّها تجعل المجتمعَ كلَّه كأنَّه جسدٌ واحد. وذمُّ العصبية هو «حين تكون على باطل كما كانت في الجاهلية، ومتى استعين بها على إقامة حق فلا ذم فيها»[9].
وقد جاء في الحديث: (مَن نصر قومَه على غير الحق فهو كالبعير الذي رُدّي فهو يُنْزَعُ بذَنَبه)[10] وهذا يعني أنه إذا نصر قومه على الحق فهو شيء حسن.
خلاصة نظرية العصبية السياسية عند ابن خلدون: وجود كتلة كبيرة تستطيع جذب الكُتل الصغرى لتدور في فَلَكها أو تلتحم معها لتكون هذه الكتلة سياجًا للدولة، أو سببًا في نشوء دولةٍ جديدة، فالنفعُ الحقيقي مِن العصبية هو في اتفاق الأهواء على المطالبة بما يرونه حقًا لهم أو لهدفٍ معيَّنٍ متَّفقٍ عليه
مفهوم العصبية عند ابن خلدون:
ما هو تعريف العصبية عند ابن خلدون؟ وماذا يقصد بها حين أعاد الحديث عنها في مقدمته؟[11] وحين جعلها العمود الفقري لتأسيس الدُّول واستمرارها والدفاع عنها؟
لم يضع ابن خلدون تعريفًا جامعًا مانعًا كما يُقال، ولكن من خلال حديثه الطويل عن العصبية ومصادرها وأهميتها يمكن أن نقول: هي تكتّل كبير متآلف متعاطف متلاحم يسعى لغاية معيَّنة، أو هي القوةُ الجماعية التي تمنح القُدرة على تأسيس الدول وحمايتها، وإذا تتبَّعنا البابين الثاني والثالث من المقدمة فسوف نجد هذه العناوين: (فصل في أن المُلك والدولة العامة إنما يحصُلان بالقبيل والعصبية)، (فصل في أنَّ العصبية إنَّما تكون في الالتحام بالنسب أو ما في معناه)، (فصل في أنَّ الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم).
إنَّ الدولة عند ابن خلدون لها شأنٌ كبير؛ فهي رأس الاجتماع السياسي، وهي صورة العمران البشري كما يعبِّر، وبما أنَّ الإنسان مدنيٌّ بالطبع كما يقول الحكماء، ولا بدَّ من التعاون والعيش المشترك مع أبناء جنسه إلا أن هذا الإنسان فيه ظلم وجهل إذا ترك دون رادع ودون وازع يمنعه من الظلم والطيش، وهذا الوازع هو إما أن يكون داخليًا مِن دين وخلق أو يكون مِن الدولة والحكم، وللوصول إلى الدولة لا بد مِن القتال، لما في طبائع البشر من الاستعصاء، ولا بدَّ في القتال مِن العصبية[12].
ما هي مصادر هذه القوة الجماعية التي يريدُها ابن خلدون لتأسيس الدول؟ إنها عصبية القبائل والعشائر وخاصة القبيلة الكبيرة التي تستتبع القبائل الصغيرة بحيث تدور في فلكها، أي عصبية القرابة والدم، والسبب بنظره: «لما فيها من النعرةِ[13] والتذامرِ واستماتةِ كلِّ واحدٍ دون صاحبه»[14].
ولكن ابن خلدون شعر أنَّ هذه الدائرة مِن العصبية هي دائرةٌ ضيقة، ولا توجد إلا في قبائل البادية الذين تعوَّدوا على الخشونة وشظف العيش والقتال للدفاع عن أنفسهم، ولذلك حاول توسيع هذه الدائرة عندما ذكر أنَّها تكون في الالتحام بالنَسب وما في معناه، مثل: عقد التحالفات بين تجمُّعاتٍ صغيرةٍ، أو الروابط التي تنشأ بين الأفراد بسبب طول المعاشرة[15]، وهذا يشمل أيضًا في ظُروفٍ معيَّنةٍ أهل الأمصار (المدن) الذين يلتحمون بالقرابات والصِّهر ويُكوّنون عصبية للحماية عند حدوث الطوارئ.
إنَّ المحور الرئيسي في هذه النظرية التي اهتمَّ بها ابن خلدون اهتمامًا كبيرًا هو: كتلةٌ كبيرة تستطيع جذب الكُتل الصغرى لتدور في فَلَكها أو تلتحم معها لتكون هذه الكتلة سياجًا للدولة، أو سببًا في نشوء دولةٍ جديدة، فالنفعُ الحقيقي مِن العصبية هو في اتفاق الأهواء على المطالبة بما يرونه حقًا لهم أو لهدفٍ معيَّنٍ متَّفقٍ عليه.
«إذا اجتمعت مع الدعوة الدينية العصبية لم يقف لهم شيء؛ لأنَّ الصبغة الدينية تُذهب التنافس والتحاسد وتفرد الوجهة إلى الحق«
ابن خلدون
وفي الغالب فإنَّ ابن خلدون يوظِّف هذه العصبية في الجانب السياسي، أي: حول الدولة «لأنَّ أحوال الدُّول عادةً ما تكون راسخةً لا يُزحزحها إلا المطالبة القوية»[16] وهو ينتقد المؤرِّخين الذين يتحدَّثون عن الدول «ولا يتعرَّضون لبدايتها ولا يَذكُرون السبب الذي رفع من رايتها، ولا علة الوقوف عند غايتها»[17].
وهو يتكلَّم عن الدول بشكلٍ عام، وكذلك عن الدول الإسلامية التي قامت على أساس الدين وكانت العصبية القبلية مما تكتل حول دعوتها وساعد في نشوئها كدولة المرابطين في المغرب. وهذا الواقع هو الذي جعل ابن خلدون يؤكِّد أنَّ الدعوة الدينية لا بدَّ لها من عصبية، لأن تغير الأوضاع الفاسدة لا يتأتَّى مطلقًا بمجرَّد الدعوة إلى أوضاعٍ أفضل، لا بدَّ من قوّةٍ مادية تنصُر هذه الدعوة، فالدين الإسلامي بعد أن أوضح عقيدةَ التوحيد أتى بتشريعات ونُظُم يجب أن تنفُذ على الأرض. وهذا لا يكون إلا بوُجودِ دولة وهذا يحتاج إلى عصبية تُساعد على نُشوء هذه الدولة وحمايتها، وقد ندَّد ابن خلدون بدُعاة الإصلاح الثائرين على الواقع الموجود، هؤلاء الذين لا يُحققون نجاحًا بسبب جهلهم بطبائع العُمران البشري وأهمية العصبية «ويكلِّفون أنفُسهم وأتباعهم من العامة فوق طاقتهم، وإذا ذهب أحدٌ هذا المذهب (الثورة على الواقع) وكان مُحقًا قصَّر به الانفراد عن العصبية، وأما إذا كان من الملبِّسين بذلك طلبًا للرئاسة فأجدَرُ أن تعوقه العوائق، وتنقطع به المهالك، لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه والإخلاص له والنصيحة للمسلمين»[18].
ويتابع ابن خلدون حديثه عن اجتماع الدعوة الدينية والعصبية الحامية لها وأنَّ هذا من طبيعة العمران، وإذا اجتمعتا سيكون النصر غالبًا لهذه الدعوة، يقول: «فإذا اجتمعت مع الدعوة الدينية العصبية لم يقف لهم شيء؛ لأنَّ الصبغة الدينية تُذهب التنافس والتحاسد وتفرد الوجهة إلى الحق»[19].
والدليل على أهمية العصبية القوية لحماية الحقِّ أنه عندما جاءت رسلُ الله النبيَّ لوطًا عليه السلام، وخشي من أذى قومه، قال كما جاء على لسانه في القرآن الكريم: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود: ٨٠].
قال رسول الله ﷺ تعقيبًا على قول لوط عليه السلام: (رحم الله لوطًا كان يأوي إلى ركن شديد، وما بعث الله بعده نبيًا إلا في ثروةٍ من قومه)[20]، أي: في مَنَعةٍ مِن قومه، وكأنَّ الأصل في الانتصار والغلبة والتمكُّن هو التضامُن والتكتُّل الذي يُفضي إلى القوة. وإذا كانت العصبية بمفردها -سواء القبلية أو غيرها من التكتُّلات- تستطيع الوصول إلى أهدافها وخاصة الملك (الحكم) عند بعض الأمم؛ فإنَّ ابنَ خلدون يرى أنَّ جنس العرب خاصَّةً لا يحصُل لهم الملك إلا بصِبغةٍ دينية؛ والسببُ في ذلك: «لأنَّهم أصعبُ الأمم انقيادًا، للأنَفَة وبُعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلَّما تجتمع أهواؤُهم، فإذا كان الدين، ذهب خُلُق الكِبْر والمنافسة، فسَهُل انقيادهم واجتماعهم، وهم مع ذلك أسرع الناس قُبولاً للحق والهدى، لسلامة طِباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق»[21].
تقويم ونقد:
لا شكَّ أنَّ العصبية بمعنى التكتُّلِ والتضامُنِ والتعاوُنِ في سبيل مبدأٍ ما، أو لإحقاق حقٍّ وإبطال باطل هي من أهم القوانين الاجتماعية، فلا تقومُ الدُّول ولا تنجحُ الدعوات ولا تتأسَّس المشاريع الكبيرة إلا بالتعاون والتوحد على إنجاز الهدف المطلوب، وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية هذا المبدأ أو هذه السنّة مِن سُنن التمكين والنصر؛ قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: ٢]، ويَعتبر ابن خلدون أنَّ نظريته في العصبية محيطةٌ بكلِّ حركةِ تغيير أو كُل نجاح لدعوة؛ فالدعوة الدينية لا بُدَّ لها من عصبية -حسب رؤيته- تحميها وتُساندها، ويضرب مثالاً على ذلك بحركة الموحِّدين في المغرب وكيف ساندتها قبائل المصامدة حتى استقرَّ لهم الأمر وحكموا المغرب كُلَّه وجزءًا مِن الأندلس.
إنَّ العصبيةَ التي يتحدَّثُ عنها ابنُ خلدون أساسُها الذي تقوم عليه هو القبيلة الكبيرة التي تستتبع القبائلَ الصغيرةَ معها، وهي قبائل مُحاربة اعتادت على الدفاع عن نفسها، بعيدةٌ عن ترف المدن وقهر الحكَّام. هذه العصبية إذا التحمت مع دعوةٍ دينيةٍ فسوف يكون الأمر خيرًا على خير، وستكون عندئذ قُوَّة لا يقف أمامها شيء.
عندما أراد ابن خلدون تعميم نظريته على مدى التاريخ الإسلامي وغير الإسلامي، تبيَّن أنَّ هناك ثغراتٍ في هذه النظرية، فإذا كانت العصبية القَبَلية لها دورٌ حقيقيٌّ وفاعلٌ فيما لاحظه من قيام دول وسقوطها، وخاصة الدول التي عايشها إلا أنَّ هذه النظرية لا تصدُقُ على قيام دولة الخلافة الراشدة مثلاً التي قامت على عصبية الدين والأمة التي نشأت من خلال هذا الدين.
قامت الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، وقد تولّاها بعد الرسول ﷺ أبو بكرٍ رضي الله عنه وهو من بني تَيْم؛ وهي من القبائل الصغيرة في قريش ولم يتمَّ تولّيه من خلال عصبية قبلية.
وعندما ارتدَّت العرب وعَزَمَ أبو بكرٍ رضي الله عنه على قتالهم، كان الأنصار والمهاجرون والمسلمون الذين ثبتوا على دينهم؛ كانوا عصبيةً لدولة الخلافة الراشدة ولم تكن عصبية قبلية، بل عصبية دينية.
أراد ابن خلدون أن يسُدَّ هذه الثغرة، فوصف الخلافة الراشدة بأنَّها من قبيل (خرق العادة) أي: هي أشبه بالمعجزات، وأنها فترةٌ مثالية من الصعب الاستمرار عليها، ولذلك عادت الأمور -كما يرى- إلى مجراها الطبيعي، أي إلى الملك.
وهكذا إذا قيل له: إن دولة الأدارسة في المغرب لم تقم على عصبية القبائل، قال: هذه حالةٌ خاصة بسبب قرابة إدريس من البيت النبوي، وحُبِّ الناس لهذه القرابة.
والحقيقة أنَّ ابن خلدون باعتذاراته وردوده إنَّما أراد أن يسدَّ ثغرةً في نظريته أو يرمِّم فكرته عن العصبية، فإنَّ تحول الخلافة إلى مُلك له أسبابٌ كثيرة.
ليس هنا موضعُ تفصيلها، والملك ليس أمرًا طبيعيًا لا غنى عنه كما يقول ابن خلدون، فالرسول ﷺ يقول: (عليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)[22]، فهذا أمرٌ باتباع سنة الخلفاء الراشدين ما أمكن ذلك.
هذا هو الواجب، ولكن ابنَ خلدون شديدُ الواقعية لا يحلُمُ بأشياء يعتبرُها مثاليةُ صعبة التحقيق، والصورة الفُضلى عنده أن تُحاط الدعوة الدينية بعصبيةٍ قبليةٍ أو (حاضنةٍ شعبيةٍ) كما نقول اليوم، أو تجمُّع كبير، وهذا الذي وقَعَ، فالدولة السلجوقية قامت على عصبية القبائل التركية والالتزام الديني، وكذلك الدولة العثمانية، ودولة المماليك في مصر والشام والتي عاصرها ابن خلدون قامت على عصبيةٍ عسكرية مع الالتزام بالدين. هذه هي الصورة المأمولة عند ابن خلدون، يقول: «السياسة إنما هي أحكامُ الله في خلقه ومراعاة المصالح، فإذا كان أهل العصبية يتنافسون في الخير، مثل العفو والوفاء بالعهد، وصون الأعراض وتعظيم الشريعة، وإجلال العلماء وإنصاف المستضعفين، والتدين بالشرائع والعبادات، عُلم أن خُلُق السياسة قد حصل لهم»[23].
«إنَّ كلَّ دولةٍ تسعى لكي تُقيم كيانها على عنصر خارجي لا بدَّ أن تصبح مرتزقة لهذا العنصر الذي أرادته عبدًا فأصبح سيدًا»
زاهية قدورة
قال ابن تيمية رحمه الله: «فمَن ولي ولايةً قصد بها طاعة الله، وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يُمكنه من الواجبات، واجتنب ما يُمكنه من المحرَّمات لم يؤاخذ بما يعجز عنه»[24].
وكلام ابن تيمية وإن كان فيه شَبَهٌ بكلام ابن خلدون إلا أن ابنَ تيمية يدعو للعودة إلى الخلافة الراشدة حسب القدرة والاستطاعة.
لا شكَّ أنَّ العصبية القائمة على الدين هي الأصل وهي الأقوى، وهي القابلة للاستمرار، أما العصبية التي تعتمد على القبائل والعشائر فقط؛ فإنها ستكون ذات فائدة في البداية، ولكن ما إن يتمكَّنَ صاحبها من السلطة حتى يُبادر بإبعاد أهل هذه العصبية الذين كانوا معه في طلب الملك وذلك لينفردَ في الأمر، ولا يكون لأحدٍ دالَّةٌ عليه أو فضل، وقد يأتي بعصبية مجلوبةٍ من الخارج، وهذه في العادة لا يُهمُّها أمر الدولة، وستكون من أسباب الضعف والانهيار، وعندئذ ستأتي عصبيةٌ أخرى لتُزيل هذه الدولة، إنَّها سنة من سنن التاريخ «إنَّ كلَّ دولةٍ تسعى لكي تُقيم كيانها على عنصر خارجي لا بدَّ أن تصبح مرتزقة لهذا العنصر الذي أرادته عبدًا فأصبح سيدًا»[25].
إنَّ فكرة أن يكون هناك كتلة هي الأكبر في المجتمع، هي عصبية وهي حاضنة شعبية للدعوة أو للدولة، لحمايتها وتأييدها وحفظها هي فكرةٌ صحيحة، وهو ما يسميه ابن تيمية: أهل الشوكة أي الذين لهم قوة ومنعة يستطيعون بها تنفيذ اختيار الحاكم وعزله.
وهذا مُشاهَدٌ في بعض الدول العريقة في الديمقراطية؛ حيث يكون الحزب الحاكم هو عصبية للدولة. وكما يقال: «فحتى الامبراطوريات الكبيرة كان في داخلها امبراطورية تعتبر نفسها أنَّها هي المركز» وفي أمريكا كان هناك عصبيةٌ غير ظاهرة وهي أنَّ الحكم يجب أن يكون بيد العرق السكسوني الأبيض الذي يعتقد البروتستانتية، ولم يقع خلافَ ذلك إلا في السنوات الأخيرة.
وفي الحقيقة إنَّ من أهم مُساهمات ابن خلدون في هذا المجال هو حديثه عن العصبية الجامعة التي ينضوي تحتها العصبيات الصغيرة، يقول: «لأنَّ الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قَلَّ إن تستحكم فيها دولة»[26].
وهذا ما نُلاحظه في دُولٍ تكثر فيها الأحزاب السياسية والقوميات الصغيرة والعقائد المختلفة؛ وهذا كلُّه مما لا يُساعد على الاستقرار، بينما نرى أنَّ دولاً كبيرة في عدد سكانها مثل أمريكا وبريطانيا يتناوب على الحكم فيها حزبان كبيران، وليس فيها أحزابٌ صغيرةٌ إلا في النادر، وهو شيءٌ مقصودٌ عندهم ومن تدبير السياسة. لأنَّ كثرة الأحزاب ينتُج عنها كثرة الاختلافات وعدم استقرار الحكم لمدةٍ يستطيع فيها الحزب الحاكم تنفيذ برنامجه الانتخابيِّ المُعلَن.
أهل السنّة هم العصبية الذين يمثلون الأكثرية في البلاد المسلمة، فبهم تنعمُ البلاد وينعمُ العباد بالأمن، والعدل، والرحمة وإبعادهم عن أحوالنا السياسية والاجتماعية هو الذي جَرَّ علينا كثيرًا من المصائب والمتاعب، وعندما يكون الأمر للسُّنة فإنَّهم هم الأعدَل والأرحَم في التعامل مع جميع فئات المجتمع
خلاصة:
إذا كانت العصبية بالمعنى الذي سلف بهذه الأهمية في عالم السياسة، وهي أيضًا ظاهرة موجودة وإن اختلفت صُوَرُها وأشكالها، فما هي العصبية المطلوبة في واقعنا اليوم؟
يذكُر القرآن الكريم مصطلح (الأمة) وهو مصطلح عقدي – سياسي، يتخطَّى مفهوم القبيلة ويرقى إلى رابطةٍ إيمانية أخلاقية، وأصلُ المصطلح من ناحية اللغة العربية يعني: القصد، فكلمة الأمة تعني أنَّ مقصدهم واحد، وهذا مما يجعلُ لهم التأثير والقوة في عملية التغيير إلى الأصلح والأفضل، وقد جاء في بندٍ من بنود (صحيفة المدينة) التي نظمت حقوق وواجبات من يسكن فيها: «هذا كتاب محمدٍ النبي بين المؤمنين والمسلمين مِن قريشٍ وأهل يثربَ ومَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنَّهم أمة واحدة مِن دون الناس»[27].
هذه الأمة مِن أهل الإيمان والإسلام هي العصبية التي مِن خلالها تنعمُ البلاد وينعمُ العباد بالأمن، والأمان، والعدل، والرحمة. وهذه الأمة هم (السنّة) الذين هم الأكثرية في البلاد، وإنَّ إبعادَ هذه العصبية عن أحوالنا السياسية والاجتماعية هو الذي جَرَّ علينا كثيرًا من المصائب والمتاعب، وإنَّ تجربة التاريخ والواقع تؤيِّد أنَّه عندما يكون الأمر للسُّنة فإنَّهم هم الأعدَل والأرحَم في التعامل مع جميع فئات المجتمع، يقول محمد كرد علي: «إنَّ الأقلِّيَّات التي كانت تصرِفُها أوروبا حسب مُيولها السياسية لا تعيش إلا بالاندماج مع الأكثريات وتوحيد المقاصد، وإنَّ كلَّ أمّةٍ لا تُحكم إلا برأي السواد الأعظم من أبنائها»[28].
إنَّ الدين هو الذي يجمع شتات القلوب رغم اختلاف الأعراق واللغات والعادات، والدين هو الذي يُحدث تغييرًا جذريًا لدى البشر حين يستبدلون تركيزَهم على أهدافهم الأنانية بتوجُّهٍ نحو مبادئ ساميةٍ سماوية.
د. محمد العبدة
مفكر وداعية، دكتوراه في التاريخ الإسلامي، عضو المجلس الإسلامي السوري، رئيس رابطة علماء المسلمين.
[1] في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ [هود: ٧٧].
[2] في قوله تعالى على لسان إخوة يوسف عليه السلام: ﴿قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ [يوسف: ١٤].
[3] قوله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ [القصص: ٧٦].
[4] المفردات في غريب القرآن، للأصفهاني، ص (٥٦٨).
[5] أخرجه أحمد (١٤٤٦٧)، وأخرجه البخاري (٦٩٥٢) بلفظ: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: (تحجُزُهُ أو تَمْنَعُه مِن الظلم فإن ذلك نصرُه).
[6] أخرجه مسلم (١٨٤٨)، ومعنى عمية: الأمر الأعمى لا يستبين وجهه.
[7] أضواء البيان (٣/٥٥-٥٦).
[8] أخرجه أحمد (١٦٧٤١).
[9] بدائع السلك في طبائع الملك، لابن الأزرق (١/٩٤).
[10] أخرجه أبو داود (٥١١٨).
[11] اشتهرت بمقدمة ابن خلدون التي تبحث في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
[12] المقدمة (٢/٤٨٣) هذا هو الواقع الذي عايشه أو اطلع عليه من التاريخ، ولكن هذه الحتمية في القتال ليست قاعدة ثابتة، ففي العصر الحديث وفي بعض الدول يتم تداول السلطة سلميًا، وإن كان استقرار الغرب الموجود وفيه تداول السلطة إنما جاء بعد حروب كثيرة فيما بينهم.
[13] النعرة: الصياح في الحرب والمقصود هنا: التعصُّب للأرحام.
[14] المقدمة، ص (١٩٣).
[15] مثل عمل عدد كبير من الناس في مهنة معينة، أو مثل تجمع النقابات المهنية في العصر الحديث.
[16] المقدمة، ص (٢٠٠).
[17] المقدمة، ص (٨).
[18] المقدمة (٢/٥٣٠).
[19] المصدر السابق (٢/٥٣٠).
[20] أخرجه الحاكم في المستدرك (٤٠٥٤).
[21] المقدمة (٢/٥١٦).
[22] أخرجه أحمد (١٧١٤٤).
[23] المقدمة (٢/٥٠٥).
[24] السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص (٢٢٣).
[25] الشعوبية، لزاهية قدورة، ص (١٦).
[26] المقدمة (٢/٥٣٦).
[27] ينظر: السيرة النبوية الصحيحة، لأكرم العمري (١/٢٨٢).
[28] خطط الشام، لمحمد كرد علي (٤/ ٨٢).