قضايا معاصرة

مشكلة الشرّ: صخرة الإلحاد تحت المجهر

الحديث في «مشكلة الشر» مسألة قديمة، لكنها في الوقت الحالي أصبحت شبهة مركزية في دعم الإلحاد، وتناولها في هذا المقال سيكون استنادًا إلى قطعيّات الكتاب والسنة، من خلال منطلقها الرئيس فيما يتعلق بالكمال الإلهي، ودرء التعارض المطروح بين كمال صفات الخالق سبحانه ووجود الشر، مع الإجابة عن العديد من التساؤلات المتفرعة من هذه الشبهة

مقدمة:

في خضمِّ ما يقع على المسلمين اليوم في شتى بقاع الأرض، مِن قتل وتعذيب وتشريد، واضطهاد وظلم واستعباد، يعود من وفَّقهم الله إلى توجيهات الوحي للتَّثبيث والتطمين، وبيان الموقف الذي يجب أن يتَّخذوه من هذه المصائب، وكيفية التعامل معها، فتسكن قلوبهم، ويكونوا من الذين قال الله فيهم: ﴿أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٥٧].

لكن الشيطان قد ينزغ في قلوب آخرين، فيوقع في قلوبهم الحيرة والشكَّ قائلًا لهم: «ترون كلَّ هذه الشرور والمصائب والكوارث تقع، وكيف يعيث الظَّلَمة في الأرض فسادًا وتخريبًا، فهل يستوي عقلًا أن يقع كل ذلك مع وجود الله؟! أما كان له أن يمنع كل ذلك، ويجنب المسلمين بل والبشرية جمعاء هذا الظلم والقهر؟!». ثم إذا نجح في إيقاعهم في شباكه وبث الشك فيهم أجابهم: «لا يمكن ذلك إلا باحتمالين، إما أن تكون صفات الكمال ناقصة أو منعدمة في هذا الرب، أو أن يكون وجوده معدومًا بالكلية!»، ويزيد قائلًا: «وجود الشر في هذا العالم يتنافى مع أن يكون هذا الربّ عليمًا؛ لأنّ علمه يقتضي أن يمنع هذا الشر من الوجود، ويتنافى مع أنه قدير؛ لأن قدرته تقتضي أن يمنع هذا الشر من الوجود، ويتنافى مع أنه رحيم؛ لأن رحمته تقتضي أن يمنع هذا الشر من الوجود. ولذلك فإنّ وجود الشر ينفي وجود هذا الإله الذي لا يمكن أن يفتقد الصفات الثلاث السابقة جملة»[1].

تُعرَف هذه المشكلة بـ «مشكلة الشر»، وهي من أشهر المشكلات القديمة المتجدِّدة التي يطرحُها الخطاب التشكيكي الإلحادي، حتى إنَّه يُطلق عليها عند البعض «صخرة الإلحاد» كونها واحدةً من أقوى الشبهات المركزية التي «تدعم» فكرة الإلحاد بزعمهم. وفي المقابل طُرحت الكثير من محاولات الإجابة عن هذه الإشكالية من الكثير من الشخصيات على مختلف مذاهبهم ومعتقداتهم، وتباينت مسالكهم في ذلك.

وهذا المقال إسهام في تقديم إجابة مختصرة، بالاستناد إلى قطعيات الدين من الكتاب والسنة.

لا تعارُض بين وجود الله ووجود الشر:

ينطلق منكرو وجود الله بناء على «مشكلة وجود الشر» من ما يعرف بـ(مشكلة الشر المنطقية)، والتي تُطرح بالتسلسل التالي: «لا يستقيم منطقيًا أن يسمح الإله الكامل بوجود الشر، فبما أنَّ الشر موجود، فإذن: الإله غير موجود».

وهو تسلسلٌ هشٌّ مُضطرب، أقرَّ باضطرابه الملاحدة أنفسهم. كما ذكر الفيلسوف الأسترالي جي. إل. ماكي: «فالاحتجاج بوجود الشر لنفي وجود الخالق يعد قفزة غير منطقية واستنتاج خائب»[2]. ويعود ضعف هذا الاستدلال للأسباب الآتية:

  1. إثباث وجود الخالق ينبني على أدلة عقلية وفطرية، منها: خلق الكون وإنشاؤه من العدم، واتساقُه وانتظامُه على هيئةٍ يستحيل أن تنشأ صدفةً دون خالق، وغيرها من الأدلة. وفي المقابل فإن نفي وجود الخالق يستوجب إثبات إمكانية نشوء هذا الكون دون تدخل الخالق، من خلال نظرية المصادفة وغيرها. فمناقشة مسألة وجود الخالق من عدمه مبنية على هذا النوع من الأدلة، ولا يؤثر فيها ولا يتعلق بها وجود الشرِّ من عدمه، بل هي مسألةٌ طارئةٌ منفصلةٌ عن إثبات الوجود، وغايةُ ما يمكن أن تُحدثه مشكلة الشر هو طرح استشكالات حول كمال هذا الخالق، لا حول وجوده.
  2. الخلل الحقيقي في تسلسل هذا الاستدلال يكمن في التصوُّر الخاطئ للكمال الإلهي المطلق، وهي المقدمة التي بنى عليها أصحاب هذا التسلسل استنتاجهم الإنكاري. فالملاحدة يختزلون تصوُّرهم للكمال الإلهي في عددٍ من الصفات كالرحمة والقُدرة والعلم، ويفهمونها بتصوُّرهم هم، ثم يستنتجون وجوب منع وقوع الشر بالكلية.
يختزل الملاحدة تصوُّرهم للكمال الإلهي في عددٍ من الصفات، ويفهمونها وفق تصورٍ فاسد، ثم يستنتجون وجوب منع وقوع الشر بالكلية، مغفلين وجود حِكم وجوده وأسبابها

والرد على ذلك: أنَّ الكمال الإلهي يشمل اتصاف الإله بهذه الصفات وغيرها، كالحكمة والخبرة والعدل، وكل صفة منها لها آثارها ومقتضياتها، وهي متكاملة فيما بينها. بالإضافة إلى صحة فهم معاني تلك الصفات على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، وبناء على هذا التصور الصحيح الكامل تكون النتيجة: أنَّ وجود الشر ليس قادحًا في الكمال الإلهي، بل قد يقدّر الإله وجود الشر لحِكم وأسباب هو أعلم بمدى صلاحيتها وخيريتها، وهذا من كمال حكمته وعلمه، وفي المحور القادم مناقشة أكثر تفصيلًا لإثبات عدم تعارض كمال صفات الله مع وجود الشر.

لا تعارُض بين كمال صفات الله من علم ورحمة وقدرة، ووجود الشر:

وبيان ذلك كما يلي:

١- لا تعارُض بين علم الله وعدم منعه للشر:

فالقول بالتعارض بين علم الله ووجود الشر ناشئٌ عن قصورٍ في معرفة حِكَم الله سبحانه والغاية من خلق الحياة. فالحكمة الأساسية هي ابتلاء الناس واختبارُهم، وذلك لا يكون إلا بوجود الشر، ليحصل الصراع بينه وبين الخير، ويتدافع الحق والباطل. وأظهرُ الأدلة على ذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: ٢]، وقوله: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥]، والأدلة على ذلك كثيرةٌ منثورةٌ في القرآن والسنة.

فالغاية من خلق الحياة كما أخبر الله سبحانه ليست التنعّم الأبدي، ولا الخلود والركون للدنيا، ولا السعي وراء الملذّات والشهوات، بل العمل للآخرة، فكون الابتلاء هو الحكمة من الحياة يقتضي عدم دوام النعيم في الدنيا، ويقتضي أيضًا عدم خلوِّها من المنغّصات والشرور، كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: ١٥٥].

ادّعاء التعارُض بين علم الله ووجود الشر؛ مبنيٌّ على مقدمةٍ خاطئةٍ بأنَّ الله خلق الحياة للنعيم الأبدي، والصواب أنَّ الله خلق الحياة للابتلاء الذي لا يمكن أن يقع إلا بوجود الشر.

وهنا يتبيَّن مكمن الخلل في ادّعاء التعارُض بين علم الله ووجود الشر؛ إذ هو مبنيٌّ على مقدمةٍ خاطئةٍ بأنَّ الله خلق الحياة للنعيم الأبدي، وبالتالي فعلى الإله أن يمنع وجود أي شرٍّ ينغّص على هذا النعيم الذي خلق الحياة لأجله، فإن لم يفعل فإما أنه غير موجود، أو غير كامل الصفات!

والصواب أن الله الذي خلق الحياة للابتلاء لا يخفى عليه وجود الشر الذي لا يُمكن الابتلاء إلا به.

٢- لا تعارُض بين رحمة الله ووجود الشر:

من القواعد المستقرة عند أهل العلم أنه لا يوجد شرٌ محضٌ في هذه الدنيا، ففي طيّات الشر الكثيرُ من الرحمات للخلق، فإما أن تكون الرحمة المترتبة على هذا الشر في الآخرة كمغفرة الذنوب ورفع الدرجات، وإما أن تكون عاجلة في الدنيا، كدفعٍ لشرٍّ أكبر، أو فتحٍ لأبواب أخرى من الخير. ألا ترى أن الأب على شديد حبه لولده قد يأذن بعمل عملية جراحية له على ما فيها من الألم، ولكن في هذه العملية إزالة لشر أعظم ومنع لألم أكبر مستقبلًا، ولله المثل الأعلى وهو أرحم الراحمين، ولا يحيطون به وبحكمته علمًا سبحانه.

في طيّات الشر الكثيرُ من الرحمات للخلق، فإما أن تكون الرحمة في الآخرة كمغفرة الذنوب ورفع الدرجات، وإما أن تكون عاجلة في الدنيا، كدفعٍ لشرٍّ أكبر، أو فتحٍ لأبواب أخرى من الخير.

بل حتى ما يظنه البعض شرًا محضًا مثل الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين، ففيها من الفوائد التي تساهم في استقرار الناس على الأرض واستفادتهم من ثرواتها. فالزلزال «صمام يحرر الطاقة المتجمعة والمختزنة في القشرة الأرضية، بدفعات يُقدرها الخالق ـ عز وجل ـ كتنفيس لحالات الحراك الباطني للقشرة الأرضية، ولولا الزلازل لانفجرت القشرة الأرضية وتهشمت»[3]. والمواد البركانية غنية بعدد من المعادن الهامة التي تستخدم في الصناعة والزراعة، والينابيع الحارة المتكونة من البركان تستخدم في علاج الأمراض الجلدية، وتعد التربة الغنية بالرماد البركاني واحدة من أخصب أنواع التربة. بالإضافة للفوائد الاقتصادية من تحريك عجلة الاقتصاد والإنتاج لتعويض الأضرار، وحركة العلم لتفادي الأضرار المستقبلية والتعامل مع الأضرار الحالية، والفوائد الاجتماعية من استخراج ما في النفوس مِن تراحم وتعاون وتعاضد، بالإضافة لنشوء علاقات التعارف وتقوية الموجود منها، وغير ذلك كثير.

إذا قُيّم ما حدث في سورية بناء على الغايات الكبرى والمعايير الشرعية الحقيقية، لوُجِد في طيّاته الخير الكثير وأنواع الرحمة العاجلة والآجلة، رغمًا عن الشر العظيم الذي وقع.

ومما يُذكر في هذا المقام ما حدث في سورية خلال العقد الماضي، فكما أنه حدث من الشرِّ العظيم من قتلٍ وتعذيبٍ واضطهادٍ وتهجير، فيمكن تلمُّس ما حدث من الخير الكثير، ومن ذلك:

  • رجوع الناس إلى دينهم بعد تغييب متعمد ممنهج، وإصلاح نفوس الناس التي فسدت خلال مدة حكم هذا النظام المجرم، فإصلاح النفوس وقربها من الله غاية من غايات الوجود في هذا الكون.
  • تحرر أعداد كبيرة من الناس من تحت حكم هذا النظام الخبيث الذي جثم على صدور الناس عقودًا من الزمن، وما ترتب على ذلك من فوائد علمية وفكرية كبيرة على الجيل الحالي أو القادم.
  • اتخاذ الشهداء، فرغم ألم القتل فإنَّ الشهيد يتمنى أن يرجع للدنيا لما يرى من الرحمة التي ينالها في الآخرة. ومع الأعداد الكبيرة للشهداء –تقبلهم الله- وشفاعة كل منهم لسبعين من أهل بيته، فلعل في ذلك شفاعة لأعداد غفيرة من أهل سورية بإذن الله.
  • إنهاك هذا النظام المجرم وإذلاله وفضحه، وازدياد انكشاف المخطط الصفوي الذي كان يُراد لبلاد المسلمين والذي طالما انخدع به عدد كبير من الناس.

كلُّ هذه المكاسب ينبغي أن تقيّم بناء على الغاية مِن خلق هذا الكون والمعايير الشرعية الصحيحة لمعرفة حجمها الحقيقي.

٣- لا تعارُض بين قدرة الله وعدم منعه لوقوع الشَّر:

فلحكمة الابتلاء والاختبار في هذا الدنيا أوجد الله إمكان وقوع الشَّر، فمنعُ وقوعِ الشرِّ تمامًا بعد أن أوجَدهُ للابتلاء يحوِّله إلى موجود معدوم في آن واحد، وهذا ليس بشيء على الحقيقة، بل محال، فلا تتعلق به قدرة الله، ولا يمكن منطقيًا أن يمتحن الله عباده بالشر دون وجوده. ولتأكيد هذا المعنى يقول ابن القيم: «لأن المحال ليس بشيء، فلا تتعلق به قدرة، والله على كل شيء قدير، فلا يخرج ممكن عن قدرته البتة»[4].

وفي شرح العقيدة الطحاوية يقول ابن جبرين: «يعتقد المسلمون ما أخبر الله به عن نفسه من عموم قدرته أنه على كل شيء قدير، وكلمة (شيء) يدخل فيها ما هو موجود وما هو معلوم مما يقدره الله تعالى، وتدخل فيها أعمال العباد، فيدخل فيها عمل العبد مثل عباداته وطاعاته وحسناته، وكذا سيئاته وخطاياه كلها داخلة في عموم (كل) في قوله تعالى: ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة:٢٠]، فيدخل في ذلك كل الممكنات. أما غيرُ الممكن المستحيلُ فإنه لا يدخل في هذا العموم، مثل كون الشيء معدومًا موجودًا في آن واحد، فهذا من المستحيل أن يوجد ويعدم في آن واحد، أو يكون الشخص حيًا ميتًا في آن واحد، ومثل ما يورده بعض المتعنتين فيقولون: هل يقدر الله أن يخلق مثل نفسه؟ نقول: هذا محال، ولا ينبغي الخوض فيه، فهو من المحال؛ حيث إنه تعالى هو المنفرد الذي ليس له شريك وليس له شبيه ولا معين»[5].

التصور الصحيح لمعنى الكمال الإلهي يكون بجمع الصفات وتضافرها لا الفصل بينها:

فمن الانحراف في فهم معاني ودلالات أسماء الله وصفاته أخذُ بعض الصفات وتركُ بعضها، لأن كل صفة لها آثار ومقتضيات تتعلق بصفة أو صفات أخرى، فالتعامل مع بعضها دون الآخر يجعلها ناقصة المعنى. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما ورد في الآية: ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنعام: ١٦٥]، فلا يصحُّ النظر فقط إلى عقاب الله فيقنط الإنسان، ولا إلى رحمة الله فيتمادى.

وفي معنىً قريب من هذا مقولةٌ تُروى عن السلف بأنَّ الخوف والرجاء للمؤمن كالجناحين بالنسبة للطائر، فللاعتدال والمسير الصحيح يجبُ الموازنة بينهما وعدم الأخذ بواحدٍ وترك الآخر. ينطبق ذات الأمر على صفة الرحمة مثلًا وتكاملها مع الصفات الأخرى في ضوء مشكلة الشر، «وعندما يدرك المعترض أنَّ الله متَّصفٌ بالحكمة والجبروت والملكوت مع اتصافه بالرحمة، لعَلِمَ أنَّ فعلَ الشرِّ لا يتعارضُ مع الكمال أبدًا، فالنظر الواقعي والدقيق في مجموع صفات الله الكمالية يُثبت أنه لا تلازُم بين وجود الشر وبين عدم الرحمة، فالرحيم قد يفعل ما هو شر في ظاهره لما يترتب عليه من المصلحة في الآن أو الآجل، فصفة الرحمة الإلهية إذن مرتبطةٌ بشكل أساسي بصفة الحكمة وغيرها من الصفات»[6].

عالم بلا شر عالمٌ ميت بلا حركة عاطفة ولا حركة إرادة، عالمٌ بلا أمل، وبلا شوق، وبلا هدف، لأنه عالم بلا فشل ولا طموح

وجود الشر ضروري لوجود الخير!

الشر ليس حقيقة ذاتية لها وجود استقلالي، بمعنى أن الشيء لا يكون شرًا بذاته، لكنه في حقيقته غيابٌ للخير، فهو أمر نسبي جزئي.

مثلًا، الظلم غيابٌ للعدل، والجوع غيابٌ للشبع، والموت غيابٌ للحياة، وهكذا. والسؤال الذي يجب أن يُطرح هنا، هل هناك معنىً حقيقي لشيء مع انعدام ضده؟ هل يكون للحياة معنى إذا كانت خالية من الألم والمنغصات؟ هل يمكن استشعار قيمة العدل مع انعدام الظلم؟ وهل يمكن استشعار لذة الشبع مع غياب الجوع؟ «إن (مدينة الملحد الفاضلة) هي عالم بلا فرح، لأنها بلا حزن، وهي عالم بلا نجاح، لأنها عالم بلا فشل، إذ يدرك الإنسان منذ بداية فعله أنه سائر إلى الفوز دون ريب، فيفقد ذلك لذة الفرح بانتصاره على فرصة الفشل، وهو عالم لا يستشعر فيه الإنسان معنى الصحة والعافية لأنه لا يعلم أن هناك مرضًا وأذى. هو ببساطة، عالمٌ ميت بلا حركة عاطفة ولا حركة إرادة، عالمٌ بلا أمل، وبلا شوق، وبلا هدف، لأنه عالم بلا فشل وبلا طموح، فكل ما يريده الإنسان يحصده في حينه.

ومن العجب أن مثل هذا العالم (بصورة مادية مصغرة) قد قاد أصحابه إلى الانتحار بعد أن شعروا أن حياتهم بلا أمل، سواء في عالم الأثرياء الذين جربوا كل المتع واللذات، حتى الشاذَّ منها، وكذلك كبار السن الذين يتقاعدون عن العمل، ويأتيهم رزقهم رغدًا، إذ يستشعرون أنَّ حياتهم بلا معنى؛ لأنها بلا كدّ وبلا خوف ولا شوق»[7].

«إنَّ الألم إذن عنصر أصيل في حياةٍ سليمةٍ وقلبٍ معافى من البرود القاتل، فبه يجد الإنسان حوافز في داخله للاستمتاع بلحظات الوجود أو الإحساس بها ومغالبتها، ففي غيبة الإحساس باللحظة، أو الرغبة في تحقيق نصر على شرٍّ فيها، تهمد رغبتنا في البقاء وتتهاوى قدرتنا على الصمود. إن هذه الحياة الدنيا بلا ألم غير قابلة لأن تعاش؛ لأنها بلا دلالة تتجاوز الأنفاس الصاعدة الهابطة، وبعبارة (س.إس.لويس): «حاول أن تستبعد إمكانية الألم المتضمن في نظام الطبيعة ووجود الإرادات الحرة، وستجد أن قد استبعدت الحياة نفسها»[8].

فإذا كان الله قد خلق الحياة للابتلاء والاختبار، وأن ذلك لا يكون إلا بتدافع الخير والشر، فإن الحكمة من وجود الشر اختبار النفوس لاستخراج الخير منها، وحثها على مدافعة الشر، بل إن الشارع الحكيم يريد رفع درجات المؤمنين وزيادة حسناتهم وتكفير سيئاتهم، فيبتليهم ثم يلهمهم الصبر فينالون ذلك. يقول النبي ﷺ: (إن العبد إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ لم يبلغهَا بعملهِ ابتلاهُ اللهُ في جسدهِ أو في مالهِ أو في ولدهِ ثم صبَّرهُ على ذلكَ حتى يبلغهُ المنزلة التي سبقتْ لهُ من اللهِ تعالى)[9]. ويقول ﷺ: (ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه وولده ومالِه حتَّى يلقَى اللهَ تعالَى وما عليه خطيئةٌ)[10]. وقد يصيب الإنسانَ ما يبدو في ظاهره شرًا، لكن يتبين بعد حين أنه دفع لشر أكبر، أو سبيل إلى مصلحة، كما تم ذكره سابقًا.

إنكار وجود الله لا ينهي مشكلة الشر، بل يعقّدها ويزيدها حيرةً:

يجهَدُ المشكِّك في البحث عن حلٍّ لمعضلة الشر، وإيجاد تفسيرٍ شافٍ لتفاصيلها الشائكة، فيُفكّر ويستدلُّ ويتأمل ويستنتج، ومع أنه يقع في تناقضاتٍ ويُقر بلوازم فاسدة ليصل إلى هذه النتيجة، فإنَّ الأمر ينتهي به إلى الوصول إلى نتيجةٍ تُفاقم مشكلةَ الشرِّ وتزيدها حيرةً وغموضًا، وتُنتج أسئلةً أخرى بالإضافة إلى الأسئلة الشكِّية الأولى. فيصلُ المشكك إلى أن وجود الشر في هذا العالم ينافي وجود الله، فما هي مآلات هذه الاستنتاج؟

إنَّ إنكار وجود الله هو إيذانٌ ببداية التخبُّط والضياع، فإنكار وجود الله يقتضي عدم وجود بعثٍ، فلا حسابَ ولا جزاء، ولا محكمة ربانية تُحاكم المجرمين محاكمة عادلة. تخيَّل أن المجرمين الذين قتلوا عشرات الملايين من الأبرياء عبر التاريخ، وشرّدوا مثلهم، وطغوا وتجبروا، واستعبدوا الناس، بحسب هذه النتيجة التشكيكية في وجود الله، سيُفلتون من العقاب والمحاكمة العادلة بمجرد مواراتهم في التراب، كغيرهم من المحسنين! فهل وجد الملحد حلَّ هذه المشكلة عندما ألحد وأنكر وجود الله؟!

أما المؤمن الموحّد، فلديه الجواب الشافي المنطقي لمشكلة الشر، يزيده إيمانًا، ويحثه على العمل والإحسان، ويردعه عن الظلم والإساءة.

«ثم ماذا عن العدل النهائي المطلق! لقد اغتيل أربعة من الأبرياء: أب وأم وطفلان، وليس بمستبعد أن يفلت القتلة من طائلة القصاص [في حادثة معينة]. وما قيمة الحياة … وما قيمة الإنسان نفسه لو تُرك مصيره هكذا معلقًا على عدل أرضي لا يملك – في معظم الأحيان – الأداة المضمونة لتحققه ونفاذه؟!

إن الإسلام، ذلك الدين القيم يمنحنا الجواب في كلتا الحالتين.. ولو لم يكن «الدين» سوى هذا «الجواب» لكان في ذلك وحده الدافع الأكبر لالتزامه، ومعايشته، وتعشّقه، والتشبث به حتى آخر لحظة من حياتنا، التي يعلمنا «الإيمان» أنها لن تنقطع، ولن تزول، ولن يضيع «حقٌ» من حقوقها بالصدفة أو العبث أو الفوضى..

جربوا بأنفسكم ذلك.. اختبروا صِدقه .. ليس في بيوتكم ونواديكم .. ولكن في المقابر .. لحظة مواراة جثة صديق أو قريب.. التفتوا إليها بعد دقائق من مغادرتكم المكان .. وحيدة .. مهملة .. منقطعة في الصحراء .. أمن الممكن أن تكون هذه هي نهاية الإنسان؟!»[11].


م. عبد القادر معن

ماجستير في الإدارة الهندسية، خرّيج برنامج صناعة المُحاور. مهتم بالمجال الفكري.


[1]  مشكلة الشر ووجود الله، د.سامي عامري، ص (٢٢).

[2]  كتاب «evil and omnipotence» ص (٢٠١).

[3]  صحيفة تواصل، تغريدات د.عبد الله المسند.

[4]  شفاء العليل، لابن القيم ص (٣٧٤).

[5]  شرح العقيدة الطحاوية، للجبرين، دروس مفرغة (١٢/٦).

[6]  موقع المحاور، almohawer.com.

[7]  مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري ص (٢٠٨).

[8]  المرجع السابق ص (٢٠١).

[9]  أخرجه أبو داوود (٣٠٩٠).

[10]  أخرجه الترمذي (٢٣٩٩).

[11]  آفاق قرآنية، د.عماد الدين خليل ص (٢٩٤-٢٩٥).

ماجستير في الإدارة الهندسية، خرّيج برنامج صناعة المُحاور. مهتم بالمجال الفكري.
X