قراءات

قراءة في كتاب «اليد الخفية».. للدكتور عبد الوهاب المسيري

كان التفكير «التآمري» و «النموذج الاختزالي» هو السائد في الدراسات التي تناولت اليهودية والصهيونية، إلى أن ظهر «النموذج التركيبي» في مؤلفات الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي اعتمد الأسلوب التفسيري والتحليل العلمي لدى مناقشته مجموعة الأفكار والانطباعات التي يوصف بها اليهود، وفي هذا المقال قراءة لكتابه (اليد الخفية) الذي يسير على هذا المنهج.

نبذة عن المؤلف:

عبد الوهاب محمد المسيري (١٩٣٨ – ٢٠٠٨م)، مفكر وعالم اجتماع مصري، له العديد من المؤلفات والمحاضرات الرائدة في الفكر، من أهمها: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، أحد أكبر الأعمال الموسوعية في القرن العشرين.

اسم الكتاب:

اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسِّرية.

وصف الكتاب:

يقع في ٣٢٥ صفحة من القطع الكبير، طبعة دار الشروق في القاهرة سنة ١٤٢٢هـ – ٢٠٠١م، الطبعة الثانية.

ناقش فيه المؤلف الأفكار والانطباعات التي يوصف بها اليهود وتنسب إليهم من خلال أسلوب تفسيري وتحليلي علمي.

مقدمة:

يصف الكاتب الخطاب التفسيري العربي للواقع الصهيوني بأنه تبنّى «عن وعي أو غير وعي» معظم المسلَّمات والمقولات التحليلية التي تتعامل بها الحضارة الغربية مع العقيدة اليهودية واليهود، وهي في معظمها ذات أصل إنجيلي، احتفظت ببنيتها الأساسية حتى بعد علمنتها وتفريغها من القداسة والأبعاد الدينية.

ويركز د. المسيري على ما يسمى بـ «التفكير التآمري» والاتجاه نحو التخصيص الذي ينسب لليهود قوى عجائبية، والزعم أن «يد اليهود الخفية» توجد في كل مكان تقريبًا، خاصة في المواقع المهمة (كمراكز صنع القرار)، وأن اليهود وراء كثير من الجمعيات السرية والحركات الهدامة، وأن ثمة مؤامرة يهودية كبرى تهدف إلى الهيمنة على العالم وتحقيق «المخطط الصهيوني اليهودي»!

يقف وراء هذه التصورات التآمرية ما يُسمى «النموذج الاختزالي»، الذي لا يُعد أداة كافية للدراسة والفهم، بل هي مضللة، وتضفي على العدو قوى لا يستحقها، وهالات من المجد ليس أهلاً لها. وبدلاً من ذلك يطرح المسيري «النموذج التركيبي» طريقةً لدراسة الظواهر اليهودية والصهيونية، باعتباره نموذجًا أكثر تفسيرية[1].

* الفصل الأول/ المؤامرة اليهودية عبر التاريخ

إن لم يجد العقل الإنساني نموذجًا تفسيريًا ملائمًا لواقعه، فإنه يميل إلى اختزاله وردِّه إلى أيادٍ خفية. فالأحداث –حسب هذا المنظور– ليست نتيجة تفاعل بين مركَّب من الظروف والمصالح والتطلعات والعناصر المعروفة والمجهولة من جهة وإرادة إنسانية من جهة أخرى، وإنما هي نتاج عقل واحد وضع مخططًا جبارًا وصاغ الواقع حسب هواه، وبقية البشر ما هم إلا أدوات.

المؤامرة اليهودية الكبرى:

من أهم تجليات النموذج الاختزالي ما يعرف بـ «المؤامرة اليهودية الكبرى» أو «المؤامرة اليهودية العالمية» التي تفترض أن أعضاء الجماعات اليهودية متكاملون ومتجانسون وطبيعتهم واحدة، وأن اليهودي شخصٌ فريدٌ لا يخضع للحركيات الاجتماعية التي يوجد فيها، ولا ينتمي إلى الأمة التي يعيش بين ظهرانيها.

ويتسم اليهود -حسب نموذج المؤامرة- بالشر والمكر والرغبة في التدمير، وسلوكهم هو تعبير عن المخطط الذي وضعه العقل اليهودي منذ بداية التاريخ لتخريب الأخلاق وإفساد النفوس حتى تزداد كل الشعوب ضعفًا بينما يزداد اليهود قوة، بهدف السيطرة على العالم، وإنشاء حكومة عالمية مركزها أورشليم القدس.

والباحث المدقق سيكتشف أن الرؤية الاختزالية التآمرية لليهود لا تختلف في أساسياتها عن الرؤية الاختزالية الصهيونية[2] لليهود.

يُتداول في العالم العربي كمٌّ هائل من الكتابات تتبنى رؤية «بروتوكولية» تنسب إلى اليهود قوى عجائبية، ويساهم بعض أعضاء النخب الحاكمة في الترويج لها لتبرير العجز والتخاذل أمام العدو الصهيوني

بروتوكولات حكماء صهيون:

(بروتوكول) كلمة إنجليزية تعني اتفاقية، وهي وثيقة يقال إنها كتبت عام ۱۸۹۷م في بازل بسويسرا، في العام الذي عقد فيه المؤتمر الصهيوني الأول. ويزعم أن هرتزل تلاها على المؤتمر، وأن الهدف من المؤتمر هو وضع خطة محكمة بالتعاون مع الماسونيين والليبراليين والعلمانيين والملحدين لإقامة إمبراطورية عالمية تخضع لسلطان اليهود.

لكن الرأي السائد في الأوساط العلمية التي درست البروتوكولات دراسة متعمقة أن البروتوكولات وثيقة مزورة، استفاد كاتبها من كتيب كتبه صحفي فرنسي. وأن نشر البروتوكولات وإشاعتها كان بإيعاز من الشرطة السياسية الروسية للنيل من الحركات الثورية والليبرالية، ومن أجل زيادة التفاف الشعب حول القيصر والأرستقراطية والكنيسة بتخويفهم من المؤامرة اليهودية الخفية العالمية[3].

كما يُتداول في العالم العربي كمٌّ هائل من الكتابات تتبنى رؤية بروتوكولية تنسب إلى اليهود قوى عجائبية، ويساهم بعض أعضاء النخب الحاكمة في الترويج لها لتبرير العجز والتخاذل أمام العدو الصهيوني. بينما أثبتت الانتفاضة الفلسطينية أنه يمكن إلحاق الأذى باليهود وهزيمتهم.

تاريخ التلمود والموضوعات الأساسية الكامنة فيه:

يُعد التلمود من أهم كتب اليهود الدينية، وهو الثمرة الأساسية للشريعة الشفوية، وضعه الحاخامات تفسيرًا للشريعة المكتوبة (التوراة). ويخلع التلمود القداسة على نفسه باعتبار أن كلمات علماء التلمود وحي من الروح القدس، وهي بذلك مساوية في المنزلة للتوراة.

والتلمود ليس من الكتب الباطنية، ولا تحيط به هالة من السرية والغرابة كما يتوهّم البعض، ونسخه متوفرة في معظم المكتبات الجامعية والمتخصصة ومراكز الأبحاث في العالم، ولعل سبب هذه الشائعة: أنه معدود من الكتب الدينية الحاخامية، لأنه مكتوب بلغة لا تعرفها الجماهير التي كانت لا تعرف العبرية ولا الآرامية، فكانت حركات الاحتجاج الشعبي بين اليهود تعادي أيضًا التلمود وسلطته والمؤسسة التي تدرسه وتهيمن باسمه.

* الفصل الثاني/ الحركات اليهودية الهدامة حتى نهاية القرن الثامن

ظاهرة اليهود المتخفّين حقيقية، وكان بعضهم يحمل بالفعل فكرًا هدامًا يدعو للانحلال. ويناقش هذا الفصل عددًا من الأمثلة لليهود المتخفين، حتى نهاية القرن الثامن عشر.

١- عبد الله بن سبأ (القرن السابع الميلادي):

وهو يهودي من أهل صنعاء. ادعى أن الرسول ﷺ هو (الماشيح)[4] الذي سيرجع مرة أخرى في الدنيا كما سيرجع ابن مريم. وقال بالتناسخ، وزعم أن الرسول لم يمت مع محمد ﷺ بل استمر حيًا يتعاقب في ذريته، فروح الله التي تبعث الحياة في الرسل تنتقل بعد وفاة أحدهم إلى آخر، وأن روح النبوة بصفةٍ خاصة انتقلت إلى علي رضي الله عنه واستمرت في عائلته.

ومن مختلف أفكاره ظهرت الطائفة السبئية التي تقول بألوهية علي رضي الله عنه.

٢- يهود الدونمه:

«الدونمه» كلمة تركية تعني المرتدِّين، وقد أطلق هذا الاسم على جماعة يهودية تركية من اليهود المتخفين استقرت في مدينة «سالونيكا» أشهرت إسلامها تشبهًا بشبتاي تسفي[5] حيث اعتقد كثيرون من أتباعه أن ارتداده عن دينه واعتناقه الإسلام حصل تلبية لأمر الرب الخفي وتنفيذًا لإرادته، فحذوا حذوه، لكنهم ظلوا متمسكين سرًا باليهودية. وبهذا يختلفون عن يهود المارانو[6] في أنهم أظهروا اعتناق الإسلام طواعية دون قسر.

يحمل الدونمه عقيدة حلولية غنوصية متطرفة، كما يحمل كل منهم اسمين: تركي مسلم، وآخر عبري يعرف به بين أعضاء مجتمعه. وكانوا يعدون أنفسهم يهودًا، فيتدارسون التلمود مع بقية اليهود ويستفتون الحاخامات، كما كانوا يحتفلون بجميع الأعياد اليهودية ويقيمون شعائرهم فيما عدا شعيرة الكف عن العمل يوم السبت حتى لا يلفتوا النظر.

وقد اتهمت هذه الجماعة، أو على الأقل إحدى فرقها، بالاتجاهات الإباحية وبالانحلال الخلقي والانغماس في الجنس. ولعب الكثير من أعضائها دورًا قياديًا في الثورة التركية سنة ١٩٠٩م.

* الفصل الثالث/ الحركات اليهودية الهدامة في العصر الحديث

لم يتوقف اليهود -حسب الرؤية التآمرية- عن الانضمام للحركات الهدامة في العصر الحديث. ويتناول هذا الفصل أهم هذه الحركات.

لا يختلف (اللوبي) الماسوني كثيرًا عن مراكز الضغط الأخرى داخل الأنظمة السياسية والاقتصادية الغربية. وإن أخذ نشاط الماسونية شكلاً تآمريًا أو إجراميًا في بلدٍ ما، فلا يصحُّ تعميم مثل هذه الوقائع وافتراض وجود مثل هذا النشاط على مستوى العالم بأسره

الماسونية: تاريخ وعقائد:

كلمة (ماسونية) من الكلمة الإنجليزية (میسون Mason) التي تكتب في العربية خطأ (ماسون). وهي تعني البناء، ثم تضاف كلمة فري free، بمعنى حر وتعني (البنّاء الحر).

وتعرف الماسونية بأنها مجموعة من التعاليم الأخلاقية والمنظمات السرية التي تمارس هذه التعاليم، والتي تضم البنائين الأحرار والبنائين المقبولين أو المنتسبين، أي الأعضاء الذين لا يمارسون حرفة البناء[7].

وواقع الأمر أن الماسونية هي عدة أنساق فكرية وتنظيمية مختلفة.

ويمكن تلخيص فكر أولى الماسونيات التي يمكن أن تُسمى «الماسونية العقلانية» أو «الماسونية الربوبية»، بأنها كانت تنادي بتوحيد كل البشر من خلال العقل، وإسقاط الدين مع الاحتفاظ بالخالق خشية الفوضى الفلسفية الشاملة. لذا جاء في تعريف الماسوني أنه (ذکر بالغ يلتزم بالنسق الديني الذي يوافق عليه جميع البشر).

لاحقًا ظهرت الماسونية الثانية التي تتخذ موقفا إلحاديًا أكثر صراحة، وبدلاً من العقلانية الربوبية شبه المادية التي تستخدم ديباجات أخلاقية وروحية تُسقط الماسونية تدريجيًا كل هذه الديباجات وتدور تمامًا في إطار العقلانية المادية الكاملة.

ويمكن هنا طرح قضيتين هامتين هما: النفوذ السياسي والاقتصادي للماسونية، وسرية تنظيماتها، وهما عنصران مترابطان تمامًا.

فالحركات الماسونية تتركز في بلاد غربية متقدمة تحكمها حكومات قوية، وتخضع فيها الحركات السياسية والاجتماعية للمراقبة. ولا يمكن تصور وجود حرکات ضخمة لها قوة فعالة لا تخضع للإطار العام الذي تفرضه هذه الدول. لكن هذا لا يمنع من تسلل بعض العناصر المغامرة إلى بعض المحافل لتوظيفها بشكل أو بآخر في الاحتيال أو الأعمال الإجرامية. كما يمكن القول إن المحافل الماسونية بوسعها أن تمارس ضغوطًا ضخمة في العالم الثالث نظرًا لضعف جهاز الدولة المركزي.

لذلك، إذا تحولت الجماعات الماسونية إلى قوة ضغط (لوبي)، فإنها لا تختلف كثيرًا عن مراكز الضغط الأخرى داخل النظام السياسي والاقتصادي. وإن أخذ نشاطها شكلاً تآمريًا أو إجراميًا في بلدٍ ما، فلا يصحُّ تعميم مثل هذه الوقائع وافتراض وجود مثل هذا النشاط على مستوى العالم بأسره.

فالماسونية الآن (الثالثة) هي جزء من التشكيل الحضاري الغربي بعد الثورة العلمانية (الشاملة) وتعبيرٌ عن تلك الثورة، والماسونية الأولى (ماسونية عصر الملكيات المطلقة) هي تعبيرٌ عن المراحل الأولى للعلمانية، كما أنَّ الماسونية الثانية تعبيرٌ عن تصاعد معدّلات العلمنة.

ويمكن القول إنه مع تحقيق أهداف الثورة العلمانية في معظم بلاد العالم الغربي، فقدت الماسونية دورها الثوري بوصفها إحدى مؤسسات العلمنة واكتسبت مضمونًا آخر. وبدأت المحافل الماسونية تتحول إلى ما يشبه النوادي التي تضم أعضاء لهم مصلحة مشتركة وصارت تشكل إطارًا يتبادل الأعضاء خدماته، كشأن كثير من مؤسسات المجتمعات الغربية.

تركت الثورة العلمانية في أوربا أعمق الأثر على بعض اليهود الذين ضاقوا ذرعًا باليهودية وأخذوا يبحثون عن مخرج منها، ولم يكن الانتقال للنصرانية هو الحل، لكن حلّت الماسونية مشكلة هؤلاء الذين اغتربوا عن يهوديتهم، وكانوا يريدون الاندماج في مجتمع الأغيار دون تنصُّر

الماسونية واليهود واليهودية:

ظهرت الماسونية في وقت بداية دخول اليهودية الحاخامية في مرحلة أزمتها التي أودت بها في نهاية الأمر؛ فقد شنت الحركات الإصلاحية هجومًا شرسًا على اليهودية في منتصف القرن السابع عشر، جعل الثورة العلمانية تترك أعمق الأثر على بعض اليهود الذين ضاقوا ذرعًا باليهودية وأخذوا يبحثون عن مخرج منها، ولم يكن الانتقال للنصرانية هو الحل من الناحية المضمونية والتعبيرية، فعقيدة كالتثليث، أو رمز كالصليب، من الصعب على اليهود تقبله، لكن حلّت الماسونية مشكلة هؤلاء الذين اغتربوا عن يهوديتهم، وكانوا يريدون الاندماج في مجتمع الأغيار دون تنصُّر.

فكانت الماسونية علامةً على أنَّ مجتمع الأغيار قد بدأ يفتح ذراعيه لهم، وأصبحت المحافل الماسونية هي الأرضية الروحية والفعلية التي يمكن لأعضاء الجماعات اليهودية اللقاء فيها مع قطاعات مجتمع الأغلبية. وقد كانت هذه الأرضية تتَّسم بقسطٍ معقولٍ من الحيادية، دون أن يُطلب منهم اعتناق دين جديد أو رفض دينهم القديم. لذا انخرط اليهود بأعداد متزايدة في صفوف الماسونية. وقد مثل هذا الانخراط لبعضهم صياغةً دينيةً مخفَّفة تُساعدهم على التخلص من هويتهم الدينية دون إحساسٍ بالحرج من عدم وجود إيمانٍ دينيٍّ على الإطلاق.

تقوم بعض أدبیات معاداة اليهود بالربط بين اليهود والماسونيين وتذهب إلى أن ثمة تعاونًا سريًا بين الفريقين للسيطرة على العالم، وتخريب المجتمعات. وغني عن القول أن مثل هذه العلاقة التآمرية المباشرة لا وجود لها. وبحسب ما توفر من وثائق فليس هناك هيئة مركزية عالمية تضم كل المحافل الماسونية. كما أن هناك یهودًا معادين للماسونية وماسونيين معادين لليهود واليهودية.

* الفصل الرابع/ الثورة الاشتراكية واليهودية

«الثورة اليهودية» مصطلح أطلقه البعض على الثورة البلشفية، وهو يفترض أن الثورة البلشفية نظمها اليهود وخططوا لها وعملوا على نجاحها واستفادوا منها. بل يذهب البعض إلى أنها إحدى تطبيقات بروتوكولات حكماء صهيون أو المؤامرة اليهودية العالمية الكبرى ضد الجنس البشري. والمدافعون عن هذا التصور يشيرون إلى أن أصول بعض زعماء الثورة يهود وهو أمر منافٍ للواقع، كما يشيرون إلى وجود عدد كبير من اليهود في صفوف البلاشفة.

لكن الدارس لسير هؤلاء البلاشفة اليهود، سيجد أنهم كلهم رفضوا اليهودية بل ساهموا في صياغة السياسة البلشفية تجاه الجماعات اليهودية وفي تطبيق هذه السياسة التي أدَّت في نهاية الأمر إلى تصفية التجمعات السكانية اليهودية في روسيا وأوكرانيا، وإلى تصاعد معدلات الاندماج والعلمنة بينهم. ومن المعروف أن صعود وهبوط القيادات البلشفية اليهودية في ميزان القوى، داخل الحزب وخارجه، لم يكن نتيجة يهوديتهم، وإنما كان بسبب الظروف العامة للصراع داخل الحزب الشيوعي والمجتمع السوفيتي. وقد تحالف كامينيف وزينوفييف مع ستالين ضد تروتسكي، ومن ثم نجح ستالين في إقصائه ونفيه رغم أنه كان ثاني أهم شخص في الحزب. ثم تحالفا معًا ضد ستالين الذي نجح في نهاية الأمر، في القبض عليهما وإعدامهما، وهي أمور تحدث في كل الثورات[8].

* الفصل الخامس/ الإباحية الجنسية اليهودية

الجنس:

ترى اليهودية الحاخامية أن الجنس غريزة طبيعية، وأن على الإنسان أن يشبعها من خلال العلاقات الزوجية، وأخذت موقفًا متشددًا من الإباحية الجنسية. ونجح هذا الإطار الحاخامي التلمودي في ضبط سلوك الجماعات اليهودية، لكن مع اندماج اليهود في مجتمعاتهم، وتزايُد معدَّلات العلمنة، أصبح من الملاحظ أن درجة الانحلال وعدم التماسك بينهم لا تختلف عن درجة الانحلال وعدم التماسك في المجتمع ككل.

البغاء وتجارة الرقيق الأبيض:

لا يمكن إنكار ما يقوله أعداء اليهود عن بروزهم في تجارة الرقيق الأبيض في العصر الحالي، فهذه حقيقة واقعية يمكن تسميتها «واقعة جزئية»، في مقابل «الحقيقة الشاملة». ولكن تقرير الواقعية الجزئية دون ذكر الحقيقة الشاملة هو جوهر العنصرية.

وفي محاولة تفسير هذه الواقعة تجب الإشارة إلى أن نهايات القرن التاسع عشر كانت مرحلة تعثر التحديث في شرق أوروبا حيث طُرد اليهود من أعمالهم التقليدية. لكن الفقرَ في حدِّ ذاته لا يؤدِّي إلى انتشار البغاء، إذ لا بدّ أن تصاحب ذلك تحولات اقتصادية وأخلاقية ونفسية للمجتمع، تطبّع إلى حدٍّ ما مثل هذه المهن وتعطيها قسطًا من القبول الاجتماعي.

فمع تزايد حركة التصنيع تركّز أعضاء الجماعات اليهودية في المدن الكبرى، وكانت الفترة التي انتشر فيها الرقيق الأبيض فترة انفجار سكاني بين يهود شرق أوروبا، وفترة هجرة أوروبية إلى الولايات المتحدة، والهجرة تؤدي عادة إلى خلخلة الأخلاق. وقد صاحب ذلك تزايد معدلات العلمنة في المجتمعات الغربية، وهو ما كان يعني زيادة الرغبة في الاستهلاك ونقصان المقدرة على احتمال الفاقة (مع تآكل قيم مثل الزهد والقناعة). وقد أدى كل ذلك إلى تفكك الأسرة، وفقدان الأب السيطرة والهيبة التقليدية، كما فقدت المؤسسة الدينية اليهودية ذاتها معظم شرعيتها وسيطرتها بسبب هجمة الدولة القومية العلمانية عليها، فزاد البغاء بين اليهود.

كما أن تشدّد العائلات اليهودية ساعد على انتشار البغاء بين اليهوديات، فإذا أخطأت الفتاة مرّةً رفضتها الأسرة، كما كان التعليم الديني مقصورًا على الذكور، ولذا كانت الفتيات يتلقَّين تعليمًا علمانيًا خارج المدارس التلمودية العليا، مما زاد من معدَّل علمنتهن.

الشذوذ الجنسي:

يحرم العهد القديم الشذوذ الجنسي بين الذكور، وتبلغ عقوبته حد الإعدام. أما التلمود، فهو يحرم العلاقة الشاذة بين كل من الذكور والإناث. ويبدو أن سلوك اليهود عبر التاريخ البشري اتسم بالإحجام عن الشذوذ، لكن تغيَّر الوضعُ في العصر الحديث مع تصاعُد معدلات العلمنة بين اليهود، فكان رئيس أول جماعة عالمية للشواذ ألمانيًا يهوديًا، وهو أول من طالب باعتبار الشواذ أقلية لها حقوقها. كما يلاحظ اهتمام علماء النفس اليهود بموضوع الشذوذ الجنسي.

ويلحظ أن التقبُّل المتزايد للشذوذ وتطبيعه هو إحدى سمات المجتمعات العلمانية المتقدمة، كما أنه نتيجة حتمية لغياب اليقين المعرفي والمطلقية الأخلاقية، وغياب المركز وتعاظم أهمية الهامش، وإنكار أي مفهوم للطبيعة البشرية ومن ثم أي معيارية، وإذا كان هناك وجود ملحوظ لليهود في الحركات الداعية لتطبيع الشذوذ، فهو نابع من أن أعضاء الأقليات المهمشين، وخصوصًا الذين يتحوَّلون إلى جماعات وظيفية، لهم استعداد أكبر من استعداد أعضاء الأغلبية لارتياد آفاق جديدة سواء في عالم الاستثمار أو في عالم الأفكار والسلوك.

هناك تباينٌ واضحٌ بين معدَّل الجريمة بين اليهود ومعدَّلها في مجتمع الأغلبية الذي يعيشون فيه، والسبب أنه كلما زاد انعتاق اليهود من يهوديتهم إلى العلمانية واندماجهم في المجتمع الذي يعيشون فيه زاد معدل الجريمة بينهم، كما تقوم المؤسسة الصهيونية بتشجيع المجرمين على الهجرة إلى خارج «إسرائيل» للتخلص منهم

* الفصل السادس/ الجرائم اليهودية

ثمة تباينٌ واضحٌ بين معدَّل الجريمة بين اليهود ومعدَّلها في مجتمع الأغلبية الذي يعيشون فيه، فمعدَّلات الجريمة بين اليهود كان منخفضًا قبل منتصف القرن التاسع عشر، ثم أخذت في التزايد إلى أن وصلت إلى معدلات ضخمة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

ويبدو أن تزايد انعتاق اليهود واندماجهم يؤدي إلى تزايد معدل الجريمة بينهم، وهذه مفارقة لاحظها أيضًا دارسو وضع المرأة. فكلما ازدادت مساواة المرأة بالرجل زاد معدل الإجرام بين النساء، فكأن تحرير المرأة يعني أن تصبح مثل الرجل في الخير والشر، وأن تتاح أمامها فرص متساوية للخير والشر على حد سواء.

كما يبدو أن المؤسسة الصهيونية تقوم حاليًا بتصدير الجريمة إلى أنحاء العالم. فالشرطة الإسرائيلية تشجِّع المجرمين على الهجرة إلى خارج «إسرائيل» كوسيلة للتخلص منهم.

يلاحظ أن نسبة المتعلِّمين والمخترعين بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي مرتفعة، وهذا أمرٌ طبيعي في الأقليات في أي مكان حين تتاح أمامهم الفرصة

* الفصل السابع/ العبقرية اليهودية

عبارة (العبقرية اليهودية) تفترض وجود عبقرية يهودية مستقلة، والحاصل أن مثل هذه السمات المشتركة غيرُ موجودة. وإن اكتشف أحدٌ عناصرَ يهودية مشتركة بين هؤلاء العباقرة، فإن تصنيفهم على أنَّهم يهود بالدرجة الأولى لا يُفيد كثيرًا في فهم فكرهم أو طبيعة مساهمتهم في التراث الإنساني. فيهوديتهم ليست ذات مقدرةٍ تفسيرية أو تصنيفية عالية، ولا بد لنا أن نعود إلى التقاليد الحضارية والظروف التاريخية التي شكلت فكر ووجدان كلٍّ منهم حتى يتسنى لنا الإحاطة بها. ويلاحظ أن نسبة المتعلِّمين والمخترعين بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي مرتفعة، وهذا أمرٌ طبيعي في الأقليات في أي مكان حين تتاح أمامهم الفرصة.

* الفصل الثامن/ هيمنة اليهود على السياسة والاعلام

من الأوهام البروتوكولية الإيمان العميق بأن اليهود يسيطرون سيطرة كاملة على السياسة والإعلام الأمريكيين.

السر الحقيقي للنجاح الصهيوني في الغرب، لا يعود إلى سيطرة اليهود على الإعلام، أو لباقة المتحدثين الصهاينة، أو إلى مقدرتهم العالية على الإقناع والإتيان بالحجج والبراهين، وإنما يعود إلى أن صهيون الجديدة جزء من التشكيل الاستعماري الغربي، وإلى أنه لا يمكن الحديث عن مصالح يهودية وصهيونية مقابل مصالح غربية

اللوبي اليهودي والصهيوني (أو جماعات الضغط الصهيونية):

(لوبي lobby) كلمة إنجليزية تعني الردهة الكبرى في مجالس البرلمانات، حيث يقابل الأعضاء الناس ويعقدون فيها الصفقات، وتدور المناورات وتتبادل المصالح، ثم أُطلقت على جماعات الضغط التي يُحاول ممثلوها التأثير على أعضاء هيئةٍ تشريعيةٍ ما؛ كمجلس الشيوخ أو النواب عن طريق مفاوضتهم بوعدهم بالأصوات أو الدعم المالي لحملاتهم، أو بالذيوع الإعلامي إن هم ساندوا مطالبه، ويُهدِّدهم بالحملات ضدهم وبحجب الأصوات عنهم إن هم أحجموا عن ذلك، ويوجد في أمريكا أكثر من جماعة ضغط تمارس معظم نشاطاتها في العلن بشكل مشروع، وإن كان هذا لا يستبعد بعض الأساليب الخفية غير الشرعية (مثل الرشاوي أو التهديد بنشر الفضائح… إلخ).

وأصبحت جماعات الضغط على درجة من الأهمية جعلت النظام السياسي الأمريكي يسمَّى ديموقراطية جماعات الضغط، أي أنه لم يعد هناك نظامٌ ديموقراطيٌّ تقليدي يعبِّر عن مصالح الناخبين مباشرة حسب أصواتهم، بل أصبح معبرًا عن مقادير الضغوط التي تستطيع جماعات الضغط أن تمارسها على المشرِّعين الأمريكيين لتحديد قرارهم بشأن قضيةٍ ما.

وحسب الشائع: فإنَّ اللوبي الصهيوني ينسِّق العمل مع الحركة الصهيونية، لكن ثمة طرح آخر غير شائع يذهب إلى أن اللوبي الصهيوني لا يتكون من عناصر يهودية وحسب، وإنما يضم عناصر غير يهودية من أصحاب المصالح الاقتصادية الذين يرون أن تفتيت العالم العربي والإسلامي يخدم مصالحهم، ومن أعضاء النخبة السياسية والعسكرية ممن يتبنَّون وجهة نظرهم. كما يضم اللوبي الصهيوني كثيرًا من الليبراليين الداعين إلى اتخاذ سياسة ردع نشيطة ضد الاتحاد السوفيتي (سابقًا)، وكثيرًا من المحافظين الذين يرون في «إسرائيل» قاعدة متقدمة للحضارة الغربية ولمصالحها، كما يضم جماعات الأصوليين الذين يرون في «إسرائيل» إحدى بشائر الخلاص.

وثمة افتراض كامن أن اللوبي اليهودي الصهيوني هو الذي يؤثر في صناع القرار الأمريكي، بل يرى البعض أنه يسيطر سيطرة تامة على مراكز صنع السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وينسب البعض له مقدرات بروتوكولية رهيبة. وأن اليهود يشكلون قوة سياسية وكتلة اقتصادية موحدة خاضعة بشكل شبه كامل للسيطرة الصهيونية ويتحركون وفق توجيهاتها، وأن بإمكان أقلية قوامها ٢.٤٪ من السكان أن تتحكم في سياسة إمبراطورية عظمى مثل الولايات المتحدة.

لكن الغرب عرّف مصلحته الإستراتيجية منذ بداية القرن التاسع عشر بطريقة تجعله ينظر للمنطقة العربية باعتبارها مصدرًا هائلاً للمواد الخام، ومجالاً خصبًا للاستثمارات الهائلة، وسوقًا عظيمًا لسلعه، أو قاعدةً إستراتيجيةً شديدة الخطورة والأهمية (بالنسبة لأمنه هو) إن لم يتحكم فيها قامت قوى معادية (مثل الاتحاد السوفييتي في الماضي) باستخدامها ضده.

والسر الحقيقي للنجاح الصهيوني في الغرب، لا يعود إلى سيطرة اليهود على الإعلام، أو لباقة المتحدثين الصهاينة، أو إلى مقدرتهم العالية على الإقناع والإتيان بالحجج والبراهين، أو إلى ثراء اليهود وسيطرتهم المزعومة على التجارة والصناعة، وإنما يعود إلى أن صهيون الجديدة جزء من التشكيل الاستعماري الغربي، وإلى أنه لا يمكن الحديث عن مصالح يهودية وصهيونية مقابل مصالح غربية، وإلى أن الإعلام واللوبي الصهيونيين يمثلان أداة الغرب الرخيصة: دولة وظيفية عميلة للولايات المتحدة تؤدي كل ما يوكل إليها من مهام بنجاح وتنصاع تمامًا للأوامر، ولا توجد سوى مناطق اختلاف صغيرة بينها وبين الولايات المتحدة، وتنصرف هذه الاختلافات أساسًا إلى الأسلوب والإجراءات لا إلى الأهداف النهائية.

ويجب ألا يثير هذا الوضع دهشتنا؛ فتاريخ الحركة الصهيونية ليس جزءًا من تاريخ يهودي عالمي وإنما هو جزء من تاريخ الإمبريالية الغربية، ولذا فالصهيونية لم تظهر بين يهود اليمن أو الهند أو المغرب، وإنما ظهرت بين يهود العالم الغربي، وهي لم تظهر في العصور الوسطى، وإنما في أواخر القرن السابع عشر مع ظهور التشكيل الاستعماري الغربي وبدايات الاستيطان في العالم الجديد.

ويدرك الساسة الإسرائيليون هذه الحقائق؛ فهم لا يكفُّون عن الحديث عن أهمية «إسرائيل» كقاعدة عسكرية وحضارية وأمنية للغرب، ورخيصة علاوة على ذلك!


[1] فصّل المسيري تعريفه للنموذج الاختزالي والنموذج التركيبي التحليلي، مع فوائد وعيوب كل نموذج في الفصل التاسع من كتابه هذا.

[2] الصهيونية: فكر وحركة أيديولوجية سياسية، ظهرت في القرن التاسع عشر بحجة تزايد العداء لليهود في أوروبا، تدعو إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بدعوى أنها أرض الآباء والأجداد، ويعدّ اليهودي النمساوي ثيودور هرتزل مؤسس الصهيونية.

[3] درس المسيري عناصر خطاب البروتوكولات وخرج بعدد من الدلائل التي تدعم وجهة النظر القائلة بأنها وثيقة مزيفة ذكرها في كتابه هذا في الصفحة (١٥).

[4] أي (المسيح) الذي يأتي في نهاية العالم.

[5] ادعى شبتاي أنه الماشيح وآمن به كثير رغم تكذيب الحاخامات له، وعندما أرادت الدولة العثمانية محاكمته -بدعم من اليهود المحافظين والحاخامات- بتهمة بث الفتنة وادعاء النبوة: أعلن إسلامه أمام المحكمة لينجو بنفسه، فعفت عنه.

[6] هم اليهود الذين اضطروا لإخفاء يهوديتهم وإعلان اعتناقهم الكاثوليكية في إسبانيا والبرتغال بعد تراجع الحكم الإسلامي وانتشار محاكم التفتيش.

[7] شرح المسيري في كتابه مطولاً جذور الماسونية وكيف تحولت من جماعات نقابية حرفية في العصور الوسطى الإقطاعية في الغرب إلى جماعات خيرية أو جماعات تضامن أو نوادي خاصة بأعضائها بعد عصر النهضة في القرن السادس عشر.

[8] تناول المسيري في كتابه مطولاً الحديث عن العلاقة بين اليهود والثورة البلشفية والصهيونية، وأهم رجالاتهم فيها مشيرًا إلى تصحيح التصور نحو هذه العلاقة، وواضعًا لها في إطارها الطبيعي، وقد اختصرنا الحديث عنها لإفساح المجال للحديث عما هو أهم؛ نظرًا لانتهاء العهد الشيوعي والمعسكر الشرقي.


أ. أحمد أرسلان

مدوِّن، ومتخصص في صناعة المحتوى والإنتاج الإعلامي.

مدوِّن، ومتخصص في صناعة المحتوى والإنتاج الإعلامي.
X