حضارة وفكر

الحياة الثقافية والاجتماعية عند التابعين

عصر التابعين مِن العصور المباركة، شهد تحوّلاً مهمًّا وحاسمًا في تاريخ المجتمع المسلم، وللتابعين مزية متقدمة فهم الذين تلقَّوا علومهم على يد صحابة رسول الله ﷺ، ومثّلوا صلة الوصل بين حقبة الصحابة وجيل أئمة المذاهب الفقهية، فاشتمل عصرهم على العديد من المشاهد والعبر التي يقف الإنسان أمامها مذهولاً مشدودًا مِن عظمة أصحابها ونُبل أخلاقهم وسموّ مقامهم

التابعون ومكانتهم:

يعتبر عصر التابعين مرحلةً زمنيةً مباركةً من خير العصور وأفضلِها، حيث زكّاهُ النبي ﷺ وأثبت خيريته وفضله؛ فقال فيما رواه عنه عمران بن الحصين رضي الله عنهم: (خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)[1].

وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: (والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآى من رآني وصاحب من صاحبني)[2].

بل يرى بعض المفسرين أن الله تعالى زكَّى التابعين بقوله: ﴿‌وَالسَّابِقُونَ ‌الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100]، وذلك بأنَّ بالمقصود بقوله: ﴿‌وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ التابعون[3].

والتابعيُّ في مصطلح الحديث: كل من لقي الصحابة وهو مسلمٌ ومات مسلمًا، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “التابِعِيّ: هو مَن لَقِيَ الصحابِيَّ”[4]، قال الخطيب البغدادي: “التابعي: من صحب الصحابي”[5]، وقال ابن كثير: “وفي كلام الحاكم ما يقتضي إطلاق التابعي على من لقي الصحابي وروى عنه وإن لم يصحبه”[6]، وقال العراقي رحمه الله: “والتابعُ اللَّاقِي لِمَن قَد صَحِبَا”[7].

ولا يعدُّ من لقي الصحابة من التابعين إلا بشرط اتباعهم بإحسان، قال ابن الصلاح: “ومطلَقه مخصوص بالتابع بإحسان”[8]، قال أبو شهبة: “والذي يظهر لي أن مراد ابن الصلاح التابعي الذي وردت في فضله الأحاديث الصحاح والحسان والمستحق لهذا الفضل، أما من لم يستقم على الإسلام الكامل، وأساء إلى الإسلام والمسلمين، فهو بمعزل عن أن يكون من التابعين بإحسان، وذلك كالحجاج بن يوسف الثقفي، وعمرو بن سعيد الذي كان يرسل الجيوش إلى مكة لقتال عبدالله بن الزبير، فقد أساء إلى الحرم وإلى الكعبة وإلى أهل الحرم، فابن الصلاح على حق في هذا التعبير”[9].

وإنما بلغ التابعون هذه المكانة السامقة، ونالوا ما هنالك لأنهم تلقَّوا علومهم على يد صحابة رسول الله ﷺ، ونهلوا من علمهم، وحفظوا مروياتهم، وكتبوا أحاديثهم وبلّغوها الناس كافة، ومثّلوا صلة الوصل بين حقبة الصحابة وجيل أئمة المذاهب الفقهية، فاشتمل عصرهم على العديد من المواقف والعبر التي يقف الإنسان أمامها مذهولاً مشدودًا من عظمة أصحابها ونُبل أخلاقهم وسموّ مقامهم، ولا عجب في ذلك؛ فهم الجيل الذي تربّى على يد أصحاب محمد ﷺ.

ومع هذا الجيل بدأت تظهر بوادر المجتمع الجديد، حيث إنه أعاد تشكيل نفسه مستجيبًا للمعايير الإسلامية التي تلقفها أصحابه، ومتفاعلاً مع الانفتاح الحضاري الذي فرضته الفتوحات، وأملاه التوسع وامتزاج الثقافات وتداخل الحضارات إذ ذاك، فانتقل في جزء منه من مرحلة البداوة إلى مرحلة التحضر والتمدّن والتطور عبر مختلف الميادين والأصعدة.

ولم يكن الجانب العلمي الثقافي والاجتماعي أيضًا في منأىً عن هذا التطور والتقدم، بل كان من صميم ذلك.

فبعد أن كانت دائرة العلوم محدودة متعارفًا عليها لا تُتجاوز إلى ما عداها إلا لمامًا، ظهرت بوادر الانفتاح على علوم أخرى وبرز التدوين وازداد نشاط الحركات العلمية، وتنوّع الإنتاج العلمي يومئذ تنوّعًا شمل مختلف العلوم والفنون، فاعتنوا بها وأعلنوا تأسيس عدد منها، ودقّقوا معانيها ونقّحوا مصطلحاتها وقعّدوا قواعدها وجمعوا أجزاءها وأركانها ضمن مجلدات وكتب كانت باكورة تلك العلوم والفنون.

بلَغ التابعون هذه المكانة السامقة، ونالوا ما هنالك لأنهم تلقَّوا علومهم على يد صحابة رسول الله ﷺ، ونهلوا مِن علمهم، وحفظوا مروياتهم، وكتبوا أحاديثهم وبلّغوها الناس كافة، ومثّلوا صلة الوصل بين حقبة الصحابة وجيل أئمة المذاهب الفقهية

حركة التدوين وتأسيس العلوم:

 كانت الكتابة في العصر النبوي على غير الصورة التي وُجدت بها فيما بعد مع التابعين ومَن بعدهم، وربما كان ذلك كذلك لقلّة الكاتبين، أو لاحتمال عدم حاجة الصحابة إلى الكتابة لأنهم في الجوار النبوي، فهم يتلقّون الفقه والحديث من منبعه غضًّا طريًّا عن رسول الله ﷺ ويعملون به، ولنهيه ﷺ أصحابه عن كتابة الحديث في بداية الأمر وقبل جمع القرآن، لكن في عصر التابعين بدأت الكتابة بجميع أنواعها -كـكتابة الحديث والفقه والسير والتاريخ وتدوينها- تزداد شيئًا فشيئًا، وتزدهر، وظهرت بوادر التأليف والتأسيس لبعض العلوم، نظرًا لبروز الحاجة إلى تقريب العلوم وشرحها.

وبعد أن كان التدوين في زمن النبي ﷺ والصحابة عبارة عن صحف صغيرة في مجمله، فإن عصر التابعين شهد أنماطًا أخرى، وبلغ بالمكتوب أن يسمّى طرسًا وكتابًا بعد أن كان صحفًا وسطورًا، وقد وصلنا بعض هذه المدوّنات عن طريق الروايات، وإن لم يصلنا نصّها بشكل مفرد؛ فقد ضاعت تلك المؤلفات ولم تصل إلينا، كما ضاع غيرها من كتب التفسير التي ألِّفت بعد عصر التابعين؛ فغُيبت تآليفهم وحجبت عنا مؤلفاتهم وتلك آفة كل مكتوب[10].

وقد روى أبو نعيم عن ابن أبي الزناد قال: “قال عروة بن الزبير: كنا نقول: لا نتخذ كتابًا مع كتاب الله، فمحوت كتبي، فوالله لوددت أن كتبي عندي”[11].

ولم يألُ الخلفاء والأمراء جهدًا في تشجيع هذه المسيرة الثقافية والحركة العلمية وتعزيزها والدفع بها قدمًا، فاهتموا بحسن خدمتها وقرّبوا العلماء والفقهاء الذين حظوا بصحبة كثير من علماء الصحابة ونخبة علماء التابعين، واستفادت الدولة منهم وأفادوا، وكانوا يكرمونهم ويؤيّدونهم في دفع نشاط الحركة العلمية، فتنوّع الإنتاج العلمي تنوّعًا واسعًا في مختلف العلوم.

ولا أدلَّ على ذلك من جمعهم قواعد العربية بعد اختلاط العجم بالعرب؛ فبدأ اللحن يظهر عند العرب بفعل احتكاكهم مع غيرهم، فاستنكر العرب هذه الظاهرة، لينبري أبو الأسود الدؤلي وتلامذته لوضع رسم إعراب القرآن عن طريق النَقْطِ والشكلِ أولاً، ووضع قواعد النحو بعدها، فكانت الخطوة الأولى لتأسيس علم اللغة العربية الذي له مقوماته التي يقوم عليها من منهج وقواعد، ثم أدّى ازدياد اختلاف العلماء فيما بينهم في أمور اللغة إلى إنشاء مدارس لغوية، لكلٍّ منها مناهجها وطريقتها، وهذا كلّه أدى في نهاية الأمر إلى ضرورة الاعتماد على التدوين.

الطفرة الثقافية والحركة العلمية في عهد التابعين:

تأسست في هذا العصر مدارس للتفسير في عدد من الأقطار والجهات كالمدينة والعراق ومكة، والتي كان على رأس علمائها عبدالله بن عباس[12] رضي الله عنهما، قال ابن تيمية رحمه الله: “وأما التفسير فإنَّ أعلمَ الناس به أهلُ مكة لأنهم أصحاب ابن عباس”[13]، فكان الاهتمام منصبًّا على بيان معاني مفردات القرآن الكريم من خلال أقوال العرب وأشعارهم، وإبراز جوانب كثيرة من علوم القرآن كالقراءات والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، وفي المدينة وُجدَ المشتغلون بكتابة المصاحف وتفسير الآيات وشرح السور وبيان الأحكام والحكم، كابن المسيّب، ومعاذ بن الحارث المشهور بمعاذ القارئ، وعروة، وسالم، وغيرهم، والذين مثّلوا البذرة الأولى لظهور علم القراءات[14].

“ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم قد اختلف أخذُهم عن رسول الله ﷺ؛ فمنهم من أخذ القرآن عنه بحرفٍ واحد، ومنهم من أخذه عنه بحرفين، ومنهم من زاد، ثم تفرقوا في البلاد وهم على هذه الحال، فاختلف بسبب ذلك أخذُ التابعين عنهم، وأخذُ تابعِ التابعين عن التابعين، وهلمَّ جرًا حتى وصل الأمر على هذا النحو إلى الأئمة القراء المشهورين الذين تخصصوا وانقطعوا للقراءات يضبطونها ويعتنون بها وينشرونها”[15]، ويمثل كل واحد منهم مدرسة خاصة ومستقلة، أمثال نافع المدني، وأبي عمرو بن العلاء البصري، وعاصم وحمزة والكسائي الكوفيين، وابن عامر الشامي، وابن كثير المكي، وغيرهم من الرواة كورش وقالون وخلف والبزي وقنبل.

واهتمّ التابعون بالتاريخ والسير من خلال جمع سيرة النبي ﷺ ومغازيه وتاريخ المرحلة النبوية المطهّرة، وهو أمر لم يكن معهودًا، نعم كانت بعض الصحف التي تؤرخ لوقائع وصور محدودة مضمّنة مع بعض القضايا الأخرى، ولم تكن مستقلة ولا شاملة، لكنّ التأليف الشامل والمستقلّ في السيرة والتاريخ لم يعرف بتلك الصورة إلا في عصر التابعين مع موسى بن عقبة وعروة بن الزبير ومحمد بن إسحاق. يقول ابن سعد في الطبقات: “محمد بن إسحاق أول من جمع مغازي رسول الله ﷺ وألفها”[16].

وكذا اعتنى التابعون بجمع الحديث النبوي الشريف؛ حيث نشطت حركة جمع وتدوين الحديث بعناية الخليفة العادل والأمير المجاهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، فكتب إلى قاضي المدينة أبي بكر بن حزم: “انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ فاكتبه، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي ﷺ، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا”[17]، وكان محمد بن شهاب الزهري أحد أئمة العصر إذ ذاك، فكتب فرائد في علم الحديث، حتى عدّه بعضهم واضع مصطلح الحديث، وجامع الأحاديث والآثار بأمر من الخليفة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، وفي هذا المعنى يقول الحافظ السيوطي رحمه الله:

أول جامعِ الحديثِ والأثر        ابنُ شهابٍ آمرًا له عمر[18]

فجمع حديث المدينة وقدّمه إلى عمر بن عبدالعزيز الذي بعث إلى كل أرض دفترًا من دفاتره، وكان لفشوِّ الوضع في الحديث أثرٌ في تأكيدهم على التدوين حفظًا للسنة ومنعًا من التلاعب بها، فلما أضحى الأمر كذلك مارسوا الدفاتر وسايروا المحابر وذادوا عنها من الشبه المخاطر.

وفي المجال الفقهي ظهرت مدارس فقهية كان روّادها ومرجعها الفقهاء السبعة[19] بالمدينة المنورة، وغيرهم من التابعين الذين تعلّموا وتربّوا في مدرسة صحابة رسول الله ﷺ، كالحسن البصري، ونافع مولى عبدالله بن عمر، وشريح القاضي وغيرهم من فقهاء التابعين وعلمائهم ممن كانوا مرجعًا في القضاء والفتوى والرواية والإقراء في مختلف حواضر الإسلام. قال عبدالله بن المبارك رحمه الله متحدّثًا عن فضل المشتهرين من الأئمة والأعلام السبعة بالمدينة ومبرزًا مكانتهم: “كان فقهاء أهل المدينة سبعة… إذا جاءتهم المسألة دخلوا فيها جميعًا، فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم، فينظرون فيها، فيصدرون”[20].

وهذا ليس معناه أن الفقه انتهى إلى هؤلاء دون غيرهم، وإنما أقصى ما يعنيه أن هؤلاء اشتهروا بالفقه والدراية أكثر من غيرهم، فنسبة الفقه إليهم نسبة اشتهار لا نسبة اقتصار، وإلا فإن المجتمع بكلّ فئاته وأطيافه كان منخرطًا في هذه الطفرة الثقافية والعلمية: قُراء وقضاة ورواة وفقهاء وأمراء.

ولم يكن الأمر مقتصرًا على الرجال من التابعين، بل كان للمرأة دور ومشاركات كذلك، إما في جانب الرواية أو الدراية أو فيهما معًا، كما هو الشأن مع تلميذات أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كعمرة بنت عبدالرحمن، وعائشة بنت طلحة، وحفصة بنت سيرين -أخت محمد بن سيرين- التي كانت إحدى فقيهات زمانها وأعلمهنّ، حتى قيل: إن أخاها محمدًا كان إذا أشكل عليه شيء من القراءة قال: “اذهبوا فسلوا حفصة كيف تُقرأ؟”[21].

اهتمّ التابعون بالتاريخ والسير؛ مِن خلال جمع سيرة النبي r ومغازيه وتاريخ المرحلة النبوية المطهّرة، وهو أمرٌ لم يكن معهودًا، كما اعتنوا بجمع الحديث النبوي الشريف، وفي المجال الفقهي ظهرت مدارس فقهية كان روّادها ومرجعها الفقهاء السبعة

تحولات اجتماعية بارزة:

شهد العصر تحوّلاً مهمًّا وحاسمًا في تاريخ المجتمع والبيئة العربية بعد أن كان عصر صدر الإسلام ممهدًا له ومؤسسًا، فانتقل في جزء منه من مرحلة البداوة إلى مرحلة التحضّر، فوفدت إليهم وُفود حضارات عدّة وداخلتهم ثقافات متنوعة وعادات وتقاليد بلغتهم عن طريق التوسّع والفتوحات والامتداد الجغرافي.

فشملت الفتوحات الإسلامية التي شارك فيها التابعون صحابة رسول الله ﷺ بلاد الشام والعراق وفارس ومصر وقسمًا من شمال أفريقيا ومناطق متفرقة في الأناضول وصولاً إلى حصار القسطنطينية حيث دفن الصحابي أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وهكذا اختلطت دماء التابعين بدماء الصحابة رضي الله عنهما في كل صقع وصوب، وظهرت منهم بطولات تحاكي في روعتها بطولات أساتذتهم.

كما قاد عدد من التابعين الجيوش الإسلامية لفتح المغرب والأندلس وكان من أبرزهم عقبة بن نافع الفهري وموسى بن نصير، والسمح بن مالك الخولاني وعبدالرحمن الغافقي، وفي المشرق برز قتيبة بن مسلم الباهلي ومحمد بن القاسم الثقفي في فتوحات خراسان وبلاد ما وراء النهر وبلاد السند والهند، ومسلمة بن عبدالملك في الأناضول وحصار القسطنطينية.

وفي عهد التابعين زادت أعداد المشاريع الإحسانية عن طريق الأوقاف والتبرعات التي توسعت مجالاتها وتنوعت بسبب كثرة الفتوحات الإسلامية وما أغدقت عليهم، فتوفرت لديهم الحوائط والمزارع والحدائق والدور وشتى أنواع الأموال والعقار، حتى صارت للأحباس هيئات خاصة تقوم على شؤونها وترعاها وتدبر أمرها بعد أن كثرت واتسعت[22].

وأقيمت المؤسسات الاجتماعية لإصلاح الطرقات والجسور، والمؤسسات الخيرية لكفالة اليتامى وشيدت الجوامع والمساجد والمراكز الطبية وعم الرخاء، حتى قيل إنه لم يبقَ فقير زمن الخليفة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، لدرجة أن الأغنياء كانوا يخرجون زكاة أموالهم فلا يجدون يد فقير تنال هذا المال.

ولا يكاد ينصرم عصر التابعين دون أن يفتح أمام القارئ نافذتين واتجاهين متضادين: أحدهما العادات والتقاليد الاجتماعية والعصبية الموروثة عن الحقب الزمنية السابقة، والآخر الثقافات والأفكار الدخيلة والمستوردة، وجزء غير يسير من تلك الأفكار والعادات بعيد كلَّ البعد عن الإسلام وتعاليمه، لذلك نجده لم يلبث طويلاً حتى بدأت تطرأ عليه تغييرات جعلته فيما بعد يتخلّص منها ويعيد تشكيل نفسه مستجيبًا للمعايير الإسلامية التي بُثت فيه، ومتفاعلاً مع الانفتاح الحضاري الذي باغته بعامل الفتوحات الممتدة.

وقد عرف عن عصر التابعين تعدد السجالات والنزالات مع الحكام والأمراء، ومن ذلك بعض حركات آل البيت وثورة قراء الكوفة مع ابن الأشعث، وغيرها، الأمر الذي كان له أثر في تشكل ملامح السياسة الشرعية وفقه التعامل بين الحاكم والمحكوم.

ومثلها الجهود البارزة في الحسبة على الأمراء والحكام، وأطرهم على الحق، من ذلك إنكار عامر بن عبدالله التميمي على الحجاج بن يوسف الثقفي، ومواقف الحسن البصري معه، ومواقف سعيد بن المسيب مع خلفاء بني أمية وغيرها.

كما لا يمكن أن تمرّ هذه الحقبة دون ذكر نسائها ومكانتهن السياسية والاجتماعية والثقافية، وفعاليتهن وتأثيرهن الاجتماعي في المجتمع الجديد.

فقد سايرت المرأة العربية في هذا العصر -خاصة- مجتمعها بكلّ ما كان فيه وما دخل إليه من حضارات وتأثيرات ثقافية، مما أتاح لها أن تطوّر فعليًا من شخصية المرأة التابعية وتطبعها بطابع خاص، فتراها تشارك في الحياة الاجتماعية والثقافية، فكانت حاضرة في ميادين التضحية والبطولة فأبلت البلاء الحسن، فمارست النشاط السياسي بفعل فصاحتها وبلاغتها[23]، وصحبت الجيوش في حروبها، فكانت مساندة للجيش ومقاتلة.

وفي مجال الأدب تقربت إلى الشعراء مستمعة وراوية وناقدة، فكانت سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب أعلم النساء وأظرفهن[24]، وأحسنهن أخلاقًا وسيدة زمنها، وكان الشعراء يتوافدون عليها ينشدون بين يديها الشعر بغية نقده والتفضيل بينهم. وكذا أميرات البيت الأموي كأم البنين زوج الوليد بن عبدالملك التي اشتهرت بالفصاحة والبلاغة وقوة الحجّة وبعد النظر، فكانت لها مكانة كبيرة وحظوة عند زوجها، فكانت تُستشار في كثير من أمور الدولة، وقد سجّل التاريخ معارضتها لسياسة الحجاج بن يوسف الثقفي وتصريحها بعدم رضاها[25].

وفي ظل هذا التنوع الثقافي والاستقلال العلمي والإنتاج الفكري المتنوّع والنشاط الاجتماعي؛ قرّر الخليفة عبدالملك بن مروان تعزيز هذا التفوق الثقافي والاجتماعي ودعم هذه القوة من خلال إيصائه بسحب العملة الأجنبية البيزنطية والفارسية المستعملة، وسكَّ عوضًا عنها عملة جديدة مصنوعة من الذهب والفضة نقشت عليها بعض الآيات القرآنية[26] لتتوالى بعدها معالم الحضارة والمؤسسات الإسلامية الفذّة في الظهور والتأسيس، كالبريد ونظام الشرطة، إذ أصبحت مؤسسة رسمية متعددة المهام[27]، وتشييد السجون لأهل الجرائم وأصحاب الجنايات. هذه الصور وغيرها تبرز أن زمن التابعين مثل المجتمع الناضج فكريًا والمتمتع بكل مظاهر الأبهة.

شهد عصر التابعين تحوّلاً مهمًّا وحاسمًا في تاريخ المجتمع والبيئة العربية بعد أن كان عصر صدر الإسلام ممهدًا له ومؤسسًا، فانتقل في جزء منه مِن مرحلة البداوة إلى مرحلة التحضّر، فوفدت إليهم وُفود حضاراتٍ عدّة وداخلتهم ثقافاتٌ متنوعة وعادات وتقاليد بلغتهم عن طريق التوسّع والفتوحات والامتداد الجغرافي

وفي الختام:

إن التاريخ الإسلامي تاريخ حافل بالعصور المزدهرة التي تبوأت فيها الحضارة الإسلامية قمّة الحضارات الإنسانية، فكانت منارة علم وتقدّم للبشرية جميعًا، وكان عهد التابعين -وهم المشهود لهم بالفضل والخيرية بعد صحابة رسول الله ﷺ- أحد تلك العصور المزدهرة في الإسلام، حيث تميّز بالحراك الاجتماعي والنشاط العلمي والثقافي في الميادين التعليمية المتنوعة التي زخر بها هذا العصر وأفاد من فضلهم وغزارة علومهم، وهي حركة لم يتوقف أثرها على تميز الحركة العلمية والاجتماعية في عصرهم فقط، بل كانت منطلقًا للنهضة العلمية والحضارية في جلّ العصور التي تلته.

 



يوسف العزوزي
باحث في الدراسات الفقهية والقضايا الشرعية – المغرب

 


[1] أخرجه البخاري (2651) ومسلم (2535).

[2] أخرجه ابن أبي شيبة (32417).

[3] ينظر تفسير القرطبي وابن كثير وغيرهما.

[4] ينظر: نخبة الفكر، ص (63).

[5] الكفاية في علم الرواية، ص (22).

[6] الباعث الحثيث، ص (161).

[7] ألفية العراقي، البيت (817).

[8] مقدمة ابن الصلاح، ص (302).

[9] الوسيط في علوم ومصطلح الحديث، ص (541-542).

[10] كتفسير سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وغيرهم، وخلاصة العلم بها حاصلة ما دام أنها قد نقلت إلينا أقوالهم متناثرة ومدونة في الكتب.

[11] حلية الأولياء (2/176).

[12] مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان، ص (348).

[13] مجموع الفتاوى (13/347).

[14] ينظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، للزرقاني (1/286).

[15] المصدر نفسه (1/286).

[16] الطبقات الكبرى، لابن سعد (5/117).

[17] القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، لابن العربي (1/9).

[18] ألفية السيوطي في علم الحديث، البيت (41).

[19] ينظر: تاريخ التشريع الإسلامي، لمناع القطان، ص (344).

[20] تهذيب التهذيب، لابن حجر (3/437).

[21] صفة الصفوة، لابن الجوزي (2/242).

[22] الوقف في الإسلام تاريخ وحضارة، للطاهر زياني، ص (23).

[23] ينظر: بلاغات النساء، لابن أبي طاهر، ص (37).

[24] الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي، لعبد الشافي محمد عبداللطيف وغيره، ص (683).

[25] مروج الذهب، للمسعودي (2/153).

[26] عبدالملك بن مروان والدولة الأموية، لمحمد ضياء الدين، ص (251).

[27] نشأة وتطور جهاز الشرطة، لإسماعيل النقرش، ص (33).

X