للفِرَق الضالة -من الباطنية والرافضة- دور رئيس في تشويه حكم معاوية رضي الله عنه والدولة الأموية خصوصًا والتاريخ الإسلامي عمومًا؛ بإضافة الكذب والتدليس في المرويات التاريخية، ولا غرابة أن ينبري علماء الإسلام قديمًا وحديثًا بالكتابة المتخصصة عن هذه الفرق الباطنية، فضلاً عن معظم علماء الأمة باستبانة سبل المجرمين وخطرهم الظاهر والكامن، لكن اللافت دفاع أحد الباحثين الغربيين عن هذه الدولة ومؤسسها، كما يتضح ذلك من هذا المقال.
مدخل:
يرى بعض الباحثين من المعاصرين أن فئة من المؤرخين ممن كَتَبَ في تشويه حكم معاوية والدولة الأموية، كُتِبَت مؤلفاتهم في ظل الخلافة العباسية المناوئة لبني أمية، ولكي يُرضُوها فإنهم كتبوا يذمون الأمويين ويقسون عليهم؛ لأنهم كانوا الأعداء التقليديين للعباسيين! والحقيقة التي يؤكدها التاريخ أن تأثير الفِرَق الضالة من الفرق الباطنية الرافضة كان له دور رئيس، كما كان له الأثر السلبي في محاولات تشويه عقيدة الأمة بمنهج خير القرون، فهم كذلك كانوا من رواة التزوير للأحاديث النبوية وإضافة الكذب والتدليس في المرويات التاريخية، وكان لهم إسهام كبير في تشويه عموم التاريخ الإسلامي ودوله، ولم تسلم دولة بني العباس (العباسية) كذلك من التشويه في تاريخها، لا سيما مع ضَعف بعض خلفاء بني العباس وتسلط وزراء من الرافضة، كبني بُوَيه (334-454هـ) وغيرهم من أرباب العقائد المنحرفة. ومن يطلع على بعض المؤلفات التي تولَّت هذا التشويه أو تأثرت به، يجد ويدرك بصورة واضحة حقيقة مؤلفي معظم تلك الكتب([1]).
وقد تجاوزت أدوار الفرق الباطنية الرافضة التي تتستر بالتشيُّع ومسمى الشيعة إلى ما هو أكبر من تشويه التاريخ؛ حيث محاولات تشويه الدين وعقيدته، ومن بلَّغوه إلى الأمة، وهم صحابة رسول الله r وy أجمعين، وقد أثبت التاريخ أن لهم في معظم فتنه دورًا بارزًا، فهم وراء الفتن زمن الدولة الأموية والدولة العباسية، وقد كانوا سندًا كبيرًا للتتار المغول عند غزو بلاد الإسلام عام 656هـ، كما أنهم أعوان وأنصار للصليبيين في معظم حملاتهم على العالم الإسلامي (490-690هـ/1096-1291م) حوالي قرنين من الزمان، وقد علَّق شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على هذا بقوله: «فلينظر كل عاقل فيما يحدُث في زمانه، وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام، فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة..»([2]).
ويقول رشيد رضا -رحمه الله- عن هذا الداء العضال الذي بُليت به أمة الإسلام في ماضيها وحاضرها: «وإنني أعتقد منذ عَقَلتُ أن دسائس المجوس هي التي فرَّقت كلمة سلفنا، ودسائس الإفرنج هي التي فرقت كلمة مسلمي عصرنا»([3]).
بل إن المؤرخ المستشرق الأمريكي وِل ديورانت يقول عن هؤلاء الرافضة تعليقًا على مقتل الوزير السني (نظام الملك) في أصبهان عام 485هـ: «وكان هذا القاتل عضوًا في طائفة من أعجب الطوائف في التاريخ… وكان نظام الملك قد اتهم هذه الطائفة في كتابه (سياسة نامة) بأن زعماءها من نسل المزدكية الشيعية أهل فارس الساسانية»([4])، وعن هذه الفتن وأثرها في تشويه التاريخ الإسلامي يمكن الرجوع إلى مقالات متعددة كأنموذج([5]).
وقد جاءت بعض الكُتب الجديدة والمعاصرة بالإسهام في تشويه التاريخ الإسلامي من أمثال كتابات فرهاد دفتري Farhad Daftary، ومصطفى غالب، وعارف تامر، ومحمود إسماعيل، وأسعد علي، وجورجي زيدان، وغيرهم كثير. ولا غرابة أن ينبري علماء الإسلام قديمًا وحديثًا بالكتابة المتخصصة عن هذه الفرق الباطنية، فضلاً عن معظم علماء الأمة باستبانة سبل المجرمين وخطرهم الظاهر والكامن([6]).
فئة من المؤرخين ممن كَتَبَ في تشويه حكم معاوية والدولة الأموية، كُتِبَت مؤلفاتهم في ظل الخلافة العباسية المناوئة لبني أمية، ولكي يُرضُوها فإنهم كتبوا يذمون الأمويين ويقسون عليهم؛ لأنهم كانوا الأعداء التقليديين للعباسيين! كما أن تأثير الفِرَق الضالة من الفرق الباطنية الرافضة كان له دور رئيس في الكذب والتدليس في المرويات التاريخية، وإسهام كبير في تشويه عموم التاريخ الإسلامي ودوله
مرافعة علمية:
من الواضح أن هذه الاعتبارات السابقة من محاولات التشويه ومن الشبهات المُثارة على الدولة الأموية وعلى معاوية بن أبي سفيان الأموي رضي الله عنهما مما استثار واستفز المؤرخ والباحث الأمريكي ستيفن همفريز فكَتَبَ عن الدولة الأموية وإيجابياتها وأفضالها على أمة الإسلام من خلال مؤسسها معاوية في كتابه (من الجزيرة العربية إلى تشكيل الإمبراطورية: معاوية بن أبي سفيان)([7])، وبالرغم من أن الكتاب ربما يُعدُّ مرافعة أو مدافعة علمية عن معاوية والدولة الأموية، إلا أن الكتاب لم يخلُ من هنات أو سقطات علمية متعددة، وهو الأمر المعتاد في كتابات المستشرقين والمؤرخين الغربيين المنصفين؛ نظرًا لعدم الإلمام باللغة العربية وأسرارها، ولعدم القدرة على استكمال أدوات البحث العلمي المعمول بها لدى المسلمين، ومع هذا فقد كتب عمَّا يَدحض كثيرًا من الشبهات المثارة على معاوية ودولته الأموية السُنِّية من هذه الفِرَق المنحرفة التي أساءت لتاريخ أمة الإسلام، وهي مرافعةٌ تستحق أن تُقرأ قراءة فاحصة، ومن ذلك قوله: “لولا معاوية لاستطاع ابن سبأ السيطرة على دولة المسلمين وتمزيق دينهم، مثلما فعل بولس مع النصرانية، ولولا معاوية لما استمرت دولة العرب ودينهم ولغتهم”، ومع صحة هذا القول بعمومه، إلا أن هناك مبالغة من ستيفن عن دور ابن سبأ فيما يتعلق بالدين! وقد نجح ابن سبأ -إلى حدٍّ كبير- في نشر الفتنة بين المسلمين، لكن دوره لا يمكن أن يتجاوز إلى القدرة على تمزيق الدين الذي تكفَّل الله بحفظه!
ومما ورد في كتاب ستيفن عن معاوية أنه أعاد لعموم الخلافة الإسلامية هيبتها، ووحَّد الدولة الإسلامية بعد أن كانت قد تعرضت لبعض الانشقاقات العديدة، وضَعُفَت هيبة وحدة أمة الإسلام بسبب بعض الفتن والانشقاقات، فانقسام الأمة كان فتنة لها مما يُشكِّل مخاطر عليها، وعلى وجودها المؤثر والقوي في الأقاليم والبلدان.
ومما قال ستيفن مندهشًا من ضعف الاهتمام بتاريخ معاوية، وذلك في مقدمة كتابه: «يُعدّ معاوية بن أبي سفيان شخصيّة ذات أهمية حاسمة في المرحلة التكوينية للخلافة والإمبراطورية العربية الإسلامية، لكن حتى في طوفان الدراسات التي تناولت القرن الإسلامي الأول؛ لم يحظ معاوية باهتمام يُذكر على نحو يدعو إلى الدهشة!»([8])، ومما قال عنه كذلك وعن كتابه: «آمل أن يساعد هذا الكتاب في تجديد الاهتمام بهذا الرجل الرائع، لكنه ليس كتابًا للمختصين الإسلاميين الأول، بل هو موجَّه للقراء الذين بدؤوا للتو في الانخراط في دراسة التاريخ الإسلامي، سواء أكانوا من المسلمين في المهجر الذين يرغبون في معرفة المزيد عن تراثهم التاريخي، أم من العلماء والمعلمين الذين يعملون في المجالات ذات الصلة»([9]).
ومما دوَّن هذا الباحث: ما نقله عن بعض المؤرخين المسلمين القدامى بعدم اعتبار الأمويين خلفاء ووصفِهم بالملوك، أي أخذوا الحكم عن طريق الغلبة أو القوة المحضة والوراثة فيما بعد، وأقول إذا كانت هذه مَثلبةً وقَدحًا فهي مما يضيع في بحر مناقب وحسنات دولة بني أمية، وذلك بالنظر إلى الكُليات الكبيرة دون الجزئيات، كيف وقد تمت البداية بتدوين السُنَّة النبوية زمن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله! كما كانت بداية نهضة علوم الإسلام المتنوعة، إضافةً إلى الفتوحات الإسلامية التي أكملت فتوحات الراشدين، وأبقت معظم البلاد المفتوحة دولاً إسلامية! وكفى أنها دولة سُنية تجاوزت بصورة كبيرة مكائد ودسائس فِرَق الضلال، ولم تقع بأيدي الرافضة، كما كان من نفوذ دولة بَني بُوَيه (334-454هـ) زمن الدولة العباسية، وكما حدث في قيام الدولة العُبيدية الفاطمية (296-567هـ) بصفةٍ مستقلة مُنشقة عن الدولة العباسية وفي زمنها.
ومما ذكره الباحث ستيفن: أن حكم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كان لمدة عشرين سنة تقريبًا، وقد كانت كافية لتأسيس كيان دولة بإصلاحات سياسية مُعزِّزةٍ للبقاء والقوة، مع ترسيخ عَصَبية العائلة الأموية في الحُكم لضمان القوة والبقاء، كما أن عهد معاوية كان إكمالاً للفتوحات الإسلامية والمحافظة على البلاد المفتوحة مثل مصر ومعظم مناطق إيران حسب تعبير الباحث ستيفن. وبالتالي فما بقي على معاوية بن أبي سفيان إلا أن يُقوِّي من سُلطته وإصلاحاته على هذه الدولة الواسعة المترامية الأطراف الموصوفة بالإمبراطورية. ولم يكن من السهل على معاوية ومن بعده أن يحكموها كلها بإدارة مركزية واحدة، ثم لتكون من ثمراتها اليانعة الكبرى ميلاد دولة أخرى للمسلمين في بلاد الأندلس وحضارتهم بأوروبا على مدى ثمانية قرون تقريبًا (131-897هـ).
ومما أورده الباحث ستيفن حول حضارية الدولة الأموية؛ وجود الصور الكثيرة من التحديث والتجديد في وسائل إدارة الدولة الأموية، حينما استفاد معاوية من أساليب البيزنطيين الذين حكموا بلاد الشام آنذاك في التنظيم الإداري، وجبي الضرائب، وتوزيع الأراضي، إلخ. وهنا تكمن عبقرية معاوية ومهارته في تنظيم شؤون الحكم، بل إن هذا الباحث الغربي يؤكد مجالات التحديث والتجديد في الإدارة السياسية والعسكرية والاقتصادية لدى معاوية، حينما استفاد من خبرة رجال الدولة البيزنطية، واستَخْدم بعضهم في تسيير شؤون الإدارة، على الرغم من أنهم ليسوا مسلمين، وبرهن بذلك على انفتاح عقلي وديني أيضًا مع الآخرين من الأقليات غير المسلمة كما هو قول ستيفن.
وقد أشاد هذا الباحث بدور معاوية في تأسيس ركيزة أساسية في الانتماء الثقافي للدولة، وهي اللغة العربية التي أصبحت لأول مرة لغة الإدارة الرسمية للدولة، واضطر بعض الموظفين من غير العرب إلى تعلمها وإتقانها، بل ابتدأت الترجمات العلمية والطبية والفلسفية من اللغات الأخرى منذ عهد الأمويين، وإن لم تكن حركة الترجمة قد بلغت أَوْجَها إلا في عهد العباسيين الذين جاءوا من بعدهم في الحكم([10]).
ويشير ستيفن إلى شيء من دوافعه في تأليف كتابه، وهو ما يراه ثغرات في الكتابة عن تاريخ معاوية قائلاً: «يجب أن أعترف بأن عرضي لمعاوية يَفتَرض مستوى من الوضوح والبساطة لا تبرّره المصادر؛ لأنها مصادر -أثرية كانت أم مكتوبة- مليئة بالثّغرات والغموض والتناقضات، ويمكن أن تكون كل فقرة في هذا الكتاب تقريبًا موضوعًا لمقالة مهمة أو حتى دراسة مفردة»([11]).
ويؤكد ستيفن حقيقة هذا التشويه وأنه كان من دوافع الكتابة عن معاوية بقوله: «صوَّرَتِ المصادرُ حول سيرة حياة معاوية مع التخيلات اللاحقة، والتشويهات الأيديولوجيّة والثّغرات، حالات من سوء الفهم التي كان ينبغي التعامل معها على نحو نقدي لتكون مفيدة»([12])، مضيفًا أن معاوية يستحق إلى حدٍّ كبير عناء معرفته، وَوَصَفه في الفصل الأول بالشخصية الحاسمة، كما وصفه بأنه كان عبقريًا سياسيًا في وقت لم يكن باستطاعة أحد -وفق المنظور- أن يُنقذ الإمبراطورية الإسلامية من التفكك([13]).
ومما لفت انتباه ستيفن بوضوح سماحة الإسلام وأهله، وكيف يتم تجاهل هذه القِيَم عن الإسلام والمسلمين لدى بعض المؤرخين والمستشرقين: «كان معاوية معروفًا بين الكتَّاب السريان بالاستقرار والعدالة والتسامح، لكنهم قدَّموا القليل من الحقائق -إن وُجدت- لدعم هذا الحكم»([14]).
وهذه الغيْرة العلمية عند ستيفن تؤكد حجم محاولات التشويه في التاريخ، لدرجة جعلت هذا المؤرخ يكتب الحقيقة التاريخية حول معاوية ، والحقيقة أن حركة معاوية في وحدة الأمة لا تختلف كثيرًا عن جهود الصِّديق أبي بكر في توحيد الأمة بعد حروب الردة.
«يُعدّ معاوية بن أبي سفيان شخصيّة ذات أهمية حاسمة في المرحلة التكوينية للخلافة والإمبراطورية العربية الإسلامية، لكن حتى في طوفان الدراسات التي تناولت القرن الإسلامي الأول؛ لم يحظ معاوية باهتمام يُذكر على نحو يدعو إلى الدهشة!»
ستيفن همفريز
منجزات في وحدة المسلمين:
لعل من عدالة القول أنه مهما قيل عن تضخيم سَلبيات ومَثَالب الدولة الأموية التي كانت بالفعل موجودة فهم ليسوا بملائكة أو معصومين، بل مهما روَّج أتباع تلك الفرق من الرافضة الباطنية ومن تأثر بهم من بعض المؤرخين والمستشرقين، فإن وحدة الإسلام والمسلمين كانت قيمة كبرى، فمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما استطاع أن يحافظ على دولة الإسلام كبيرة موحَّدة مترامية الأطراف، وقد وصلت إلى حجم الدول العظمى، وقد كان معاوية سياسيًا حكيمًا ومحنكًا لا يُشق له غبار، ولا ينبغي أن يستهان بقدراته وإمكانياته التي خدمت الإسلام ووحَّدت أتباعه بوحدةٍ فريدة، فهو رجلُ دولة. والواقع أنه لولا حكمته وصرامته لاستمرت حرب الفتنة الأهلية بين المسلمين، ولربما انتهت الدولة الإسلامية أو انفَرَطَ عِقْدُها؛ لدرجة أن سُمي العام الذي تولى فيه معاوية خلافة المسلمين أو الحكم بعد تنازل الحسن بن علي جميعًا عام 41هـ (عام الجماعة)؛ وذلك تعبيرًا عن وحدة المسلمين، لتستمر الخلافة الأموية أكثر من (واحد وتسعين) عامًا بحوالي (أربعة عشر) خليفة.
والحقيقة التاريخية تقول: لا غرابة أن تكره الفِرق المنحرفة من الرافضة الباطنية وغيرهم من النصارى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما؛ لأن الأمويين واصلوا الفتوحات غربًا حتى وصلوا إلى شمال إفريقيا وإسبانيا، ووصلوا شرقًا إلى الهند والسند([15])، ولأن معاوية كذلك كان يغزو الروم بصفةٍ مستمرة؛ حيث كان يغزو الروم كل ستة أشهر حسب ما أورده ابن كثير رحمه الله([16])، وهي الغزوات المسمَّاة الصوائف والشواتي، كما أن هذه الفِرَق الباطنية مع النصارى كذلك يُبغضون معاوية؛ لأنه حَكَمَ أمة الإسلام حوالي عشرين سنة معظمها كان في جهادٍ مع الروم، ويكرهون معاوية لأنه استكمل فتوحات الشرق الإسلامي بفارس وما وراءه، وبلاد السند، وبلاد ما وراء النهر، وبقية الشمال الأفريقي إلى حدود المحيط الأطلسي، وأعداء الإسلام لا يُحبون معاوية لأنه أسس دولةً وصلت جيوشها إلى حدود الصين، وتخوم روسيا وأطراف أوروبا، ومن أبرزها الأندلس.
وأرباب الفِرق المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة كما النصارى يُبغضون معاوية لأن جيش الدولة الأموية من أوائل الجيوش التي حاصرت القسطنطينية عاصمة الروم الشرقية، التي كانت من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ آنذاك، بل كانت مركز الكنيسة الشرقية حينذاك، وقد كان حصارها الطويل من تاريخ 54هــ إلى 60هــ، وما كان لهذا من أثر إيجابي كبير في تاريخ المسلمين حول إمكانية فتح هذه العاصمة الأرثوذكسية المعادية لسيادة دولة الإسلام وأهلها.
ومن منجزات الدولة الأموية: إضافة عواصم حضارية للمسلمين، وعلى رأسها دمشق الشام بمواردها الغذائية والإنمائية التي تتوافق مع توسع الإسلام وقوته وانتشاره، ومع ازدياد أعداد المسلمين كذلك، كما أن من المنجزات ما ورد في كثير من الكُتب التاريخية، أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما جعل من البحر المتوسط بحرًا إسلاميًا تصول فيه وتجول سفن الإسلام والمسلمين، دون ترخيص عبور أو جواز مرور، وقد كان المسلم زمن بني أمية يُعامل في عموم بلاد الرومان ودولهم بأنهم سادة البر والبحر، وكان معاوية قد أسس دولةً مترامية الأطراف بدون حدود، وقد شيَّدت أسطولاً بحريًا واسعًا كبيرًا خاصًا بالمسلمين بعد ما صنعه عثمان بن عفان ، وكذلك هم يكرهون معاوية لأنه أول من بنى ترسانة بناء سفن بحرية في جزيرة الروضة بمصر سنة 54هــ وفتح جزيرة قبرص في البحر المتوسط.
وهم حينما يكرهون معاوية؛ فلأنه أسس دولةً صَنَعت للمسلمين عملةً اقتصاديةً خاصةً بهم زمن عبدالملك بن مروان عام 74ه، حيث كان أول دينار إسلامي مستقل عن الاقتصاد البيزنطي([17])، والنصارى يُبغضون معاوية لأنه قال: «شُدُّوا خِنَاق الروم؛ فإنكم تضبطون بذلك غيرهم من الأمم»([18])، إضافةً إلى ما سبق من هزيمة البيزنطيين النصارى في معركة ذات الصواري البحرية بتفوق بحري إسلامي جديد على النصارى، وذلك عام 35هـ أواخر خلافة عثمان .
إن الفِرق المنحرفة -من الرافضة الباطنية وغيرهم من النصارى- يُبغضون معاوية؛ لأنه حَكَمَ أمة الإسلام حوالي عشرين سنة معظمها كان في جهادٍ مع الروم، واستكمل فتوحات الشرق الإسلامي بفارس وما وراءه، وبلاد السند، وبلاد ما وراء النهر، وبقية الشمال الأفريقي إلى حدود المحيط الأطلسي، وأسس دولةً وصلت جيوشها إلى حدود الصين، وتخوم روسيا وأطراف أوروبا
وتتأكد أهمية وقيمة إمامة معاوية وحُكمه أنها جاءت بسبب سياقات الأحداث التاريخية والظروف المحيطة من الفتن والمحن، التي كان يتطلب الأمر وأدها في مهدها، وتجاوزها بأي صورة مشروعة، تُحقق حقن الدماء ووحدة الإسلام والمسلمين، وحُقَّ لمعاوية أن يُوصف وقد تجاوز بأمة الإسلام أحداث الفُرقة والفتن بأن يُقال عنه ما قاله عمرو بن العاص عن بعض خصال الروم: «إنهم لأَحْلَمُ الناسِ عند فِتنَةٍ، وأسرعُهُم إفاقَةً بعد مُصِيبَةٍ»([19])، وربما كانت هذه الفتن والمحن من الدوافع الرئيسة لإعلانه الحُكم في الشام، وحسم هذا الأمر الكبير -حسب رأي ستيفن- كما سبق إيراده، والأمر لله من قبل ومن بعد.
وحول وصول معاوية للحكم: وَصَفَ خصومُهُ حكمَه والدولةَ الأمويةَ بالاستبداد والمُلك العضوض([20])، متناسين أن (الواقعية) حسب الحوادث والظروف التاريخية المحيطة بالأمة، كانت مُلزِمة إلى حدٍّ كبير بأهمية وجود وحدة الأمة والدولة قبل كل شيء، وهو ما اقتضى الحسم ولو بالملك وعصبة القبيلة لمواجهة الفُرقة والاختلاف؛ لتحقيق مصلحة أكبر رآها معاوية وعمل بها، كما رآها معظم المسلمين آنذاك، وبالأخص أن حُكْمَه جاء بعد فتنة معركة الجمل عام 36هـ، وبعد فتنة معركة صفين عام 37هـ، رضي الله عن الصحابة أجمعين، وبعد معركة النهروان بين الخوارج وعلي عام 38هـ، وما ترتب على هذه المعارك من استمرار الفُرقة والخِلاف الخطير على أمة الإسلام، مما استوجب إصلاح حال الأمة الإسلامية ووحدتها آنذاك، من خلال سياسة الإجهاض والحسم للفتن ولخطط ابن سبأ اليهودي وأتباعه من الرافضة وغيرهم، والحمد لله القائل: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 134].
وقد أوضح ابن كثير رحمه الله مخاطر انحسار الجهاد الإسلامي بضعف الدولة الأموية عن ساحات الفتوحات والوحدة فيما بعد، وأثر هذا على ميلاد طوائف الضلال والانحراف واستقوائها، مثل دولة القرامطة (286-470هـ/899-1077م) والدولة العُبيدية (الفاطمية) كذلك، وانعكاس قيام هذه الدول الباطنية الرافضية على وحدة المسلمين وقوتهم، وجرأة الأعداء من النصارى على بلاد المسلمين، وذلك بقوله: «ولما دخل طائفة ممن هرب من بني أمية إلى بلاد المغرب وتملَّكوها أقاموا سوق الجهاد في الفرنج بها، ثم لما بَطَلَ الجهاد من هذه المواضع رجع العدو إليها فأخذ منها بلادًا كثيرة، وضَعُفَ الإسلام فيها، ثم لما استولت دولة الفاطميين على الديار المصرية والشامية، وضَعُف الإسلام وقلّ ناصروه، وجاء الفرنج فأخذوا غالب بلاد الشام، حتى أخذوا بيت المقدس وغيره من البلاد الشامية، فأقام الله سبحانه بني أيوب مع نور الدين، فاستلبوها من أيديهم وطردوهم عنه، فلله الحمد والمنة»([21]).
وكفى في التشويه التاريخي من الرافضة الباطنية أنهم كفَّروا معظم صحابة رسول الله r، بمزاعم أنهم أخفوا وصية الرسول r لعلي بن أبي طالب t الذي بايع أبا بكر وعمر، ثم عثمان y أجمعين، فالرافضة الباطنية أمة التكفير والقتل بحق لدى علماء الأمة وحسب التاريخ بماضيه وحاضره([22]).
لدولة بني أمية منجزات حضارية وفضل على الإسلام ووحدة المسلمين، وقد أصبحت الدولة الأموية بوابةً لتأسيس الدول الإسلامية المتعاقبة عبر التاريخ بعواصمها الحضارية المتعددة، ولم تكن هذه الدولة أو غيرها مُبَرَّأة من الأخطاء والنقائص والعيوب كما هي جميع الدول بسابق التاريخ ولاحقه
وخلاصة القول عن وحدة المسلمين: أن دولة بني أمية بمنجزاتها الحضارية وفضلها على الإسلام ووحدة أتباعه من المسلمين، جعلت كثيرًا من المؤرخين والباحثين يكتب عنها بما يفوق كتابات أصحاب الأهواء والتشويه ويُميِّزها، وقد أصبحت الدولة الأموية بوابةً لتأسيس الدول الإسلامية المتعاقبة عبر التاريخ بعواصمها الحضارية المتعددة، بالرغم من وصف بعض هذه الدول بالملك العَضُوض، ولم تكن هذه الدولة أو غيرها مُبَرَّأة من الأخطاء والنقائص والعيوب كما هي جميع الدول بسابق التاريخ ولاحقه كما سبق إيضاحه، وصدق الله القائل: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرعد: 17].
د. محمد بن عبد الله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
([1]) ينظر: مقال (أدوار الفرق المنحرفة في تشويه التاريخ الإسلامي) في العدد الثالث والعشرين.
([2]) منهاج السنة، لابن تيمية (3/243).
([3]) رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة، لشكيب أرسلان، ص (316).
([4]) قصة الحضارة، لوِل ديورانت (13/316-317).
([5]) ينظر المقالات: محمد العبدة، مقال بعنوان: (فتن الباطنية وأثرها في التاريخ الإسلامي – مقتل عمر)، موقع المسلم، بتاريخ 26 شعبان 1433هـ: محمد أمحزون، مقال بعنوان: (الفرق الباطنية: المنهاج والتاريخ)، مجلة البيان، العدد277، بتاريخ 1 ذي الحجة 1431هـ.
([6]) ينظر على سبيل المثال من قدماء المؤرخين محمد الشهرستاني: الملل والنحل، وابن حزم: الفِصَل في الملل والأهواء والنحل، ومن المتأخرين محمد أحمد الخطيب: الحركات الباطنية في العالم الإسلام، وينظر: رسائل الدكتور سليمان السلومي الماجستير (القرامطة وآراؤهم الاعتقادية) والدكتوراه (أصول الإسماعيلية – دراسة وتحليل ونقد).
([7]) ينظر كتاب: (معاوية بن أبي سفيان: من الجزيرة العربية إلى تشكيل الإمبراطورية)، من تأليف: ستيفن همفريز، الناشر: وان وورلد بوبليكيشين بنيويورك عام 2006م، بعدد صفحات 145 صفحة من القطع الكبير، وتُرجم الكتاب إلى العربية في المركز الأكاديمي للأبحاث ببغداد عام 2022م، ترجمة هشام شامية، بعدد صفحات 208 صفحة، وقد تم سحب الكتاب من معرض العراق الدولي للكتاب عام 2022م حسب تغريدة لمترجم الكتاب،
([8]) ينظر: معاوية بن أبي سفيان: من الجزيرة العربية إلى تشكيل الإمبراطورية، ص (7).
([9]) ينظر: المرجع السابق، ص (8). ويلحظ أن ستيفن قال: إن معاوية لم يحظ باهتمام يذكر في الكتابة عنه في القرن الإسلامي الأول! فربما أنه أراد الكتابات المنفردة عنه آنذاك، علمًا أن كتب التاريخ ومصادره القديمة لم تكن تنتهج هذا المنهج بإفراد الخلفاء بكتب مستقلة، بل كانت السرديات للتاريخ الحولي وما فيها من الروايات المتداخلة عن الأحداث والأشخاص، وربما أن ستيفن لم يجد في الكتب المترجمة للغة الإنجليزية من كُتب العصور الأولى من أفرده بترجمة خاصة، والله أعلم.
([10]) ينظر: معاوية بن أبي سفيان: من الجزيرة العربية إلى تشكيل الإمبراطورية.
([11]) ينظر: المرجع السابق، ص (9).
([12]) ينظر: المرجع السابق، ص (10).
([13]) ينظر: المرجع السابق، ص (13).
([14]) ينظر: المرجع السابق، ص (15).
([15]) كثير مما ورد حول الباحث ستيفن تم اقتباسه مما ورد في كتابه، وكذلك من مقال تعريفي عن كتاب معاوية بن أبي سفيان المنشور في صحيفة البيان الإمارتية، مقال بعنوان (من الجزيرة العربية إلى تشكيل الإمبراطورية: معاوية بن أبي سفيان)، بتاريخ 19 فبراير 2007م.
([16])البداية والنهاية، لابن كثير (8/135).
([17]) ينظر: الدولة الأموية المفترى عليها: دراسة الشبهات ورد المفتريات، لحمدي شاهين.
([18]) تاريخ خليفة بن خياط، ص (230).
([20]) ورد في الأحاديث النبوية وصف المرحلة التي تلي الخلافة الراشدة بوصفين مختلفين:
ففي حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًّا، فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) أخرجه أحمد (18406).
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكًا ورحمة، ثم يتكادمون عليها تكادم الحُمُر) أخرجه الطبراني في الكبير (11138).
وبهذا يتبين أن هذه المرحلة ليست على سويَّة واحدة، بل هي على مراتب متفاوتة بعضها أَخْيَرُ من بعض، وبالجمع بين النصوص الشرعية وحقيقة أوضاع تلك الحكومات ومنها حديث: (لا يزال هذا الدين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة) وفي رواية: (كلهم مِن قريش) أخرجه أبو داود (4279)، وأصله في الصحيحين دون قوله (كلهم تجتمع عليه الأمة)، يتبين أنه لا يصح وصف حكم معاوية رضي الله عنه خصوصًا، والدولة الأموية عمومًا بأنها حكم عضوض، بل هي ملك رحمة.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/478): “واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة؛ فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك؛ كان ملكه ملكًا ورحمة كما جاء في الحديث: (يكون الملك نبوة ورحمة ثم تكون خلافة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض)، وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يعلم أنه كان خيرًا من ملك غيره”.
([21]) البداية والنهاية (9/88).
([22]) ينظر: الشيعة هم العدو فاحذرهم، لشحاتة صقر، ص (32-35).