الورقة الأخيرة

تأمرني؟

العدد الثاني

شعبان 1441 هـ – نيسان/أبريل 2020 م

مشهدٌ مفعم بالعاطفة يحكيه ابن عباس في قصة مُغيث مع زوجته بَريرة رضي الله عنهم أجمعين، في الحادثة المعروفة عند طلبها الانفصالَ عنه، يقول: كأني أنظرُ إليه يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباس، ألا تَعجبُ من شِدة حُب مُغيثٍ بَريرة، ومن   شِدة بُغض بَريرةَ مُغيثًا؟)! ثم شفع النبيُ الشفوق صلى الله عليه وسلم قائلاً لبريرة: (لو راجعتِه)، قالت: يا رسولَ الله، تأمرني؟ قال: (إنما أنا أَشفع)، قالت: لا حاجةَ لي فيه![1].

كلُّ الحبّ لدى مغيث، وكلُّ الشفقة لدى نبيِّ الرحمة، لم تحمل النبي صلى الله عليه وسلم على أمر بريرةَ بالعودة إلى زوجها، رغم استعدادها للطاعة، كما يدل سؤالها (تأمرني؟).

تُرى ما الذي غَلَب كل ذلك، حتى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وجَّهها ولم يأمرها؟ إنَّه حاجتُها ومصلحتُها التي عبَّرت عنها دون خجل: «لا حاجة لي فيه». وإذا لم يكن الشافع والناصح مراعيًا لحاجة المنصوح، فما حاجة المنصوح في طاعته؟

إنَّها منهجيةٌ نبويةٌ للمربين والمعلمين والخطباء والدعاة والساعين بإصلاح ذات البين، بيّنة غاية البيان بأنكم أيها الناس (أعلمُ بأمور دنياكم)، و (إنما أنا أشفع)، وشفاعتي لا تعني أني أعرَفُ بحالكم وحاجاتكم، فأنتم أعلم بما يصلُحُ لكم في نهاية المطاف. إنها الحكمة وفهم أحوال الناس ومعرفة ما يصلح لهم.

هذه المنهجية تختلف عن طريقة النصح التي يتبعها بعض من له الولاية على المنصوحين، الذين يُلزمون منصوحيهم باتباع إرشاداتهم، أو يُحاولون فرضها عليهم، وقد يكونون صادقين في تحقيق مصلحة المنصوح، لكن طريقتهم ليست على المنهج النبوي الذي يحترم كيان الإنسان، ويمنحُهُ الأمان من الاستبداد به، فيبني شخصيته القوية المهيَّأة لتحمُّل أمانة التكليف الشرعي ومسؤوليات الحياة (لا تُنكَحُ الأيِّمُ حتى تُستَأمَر، ولا تُنكَحُ البِكرُ حتى تُستَأذَن)[2].

الاستعدادُ النفسي للداعية ألّا يُلزم الناسَ باستشارته أو نصيحته، وألّا ينزعج من رفضهم: دليلُ حكمته وعقله، وبرهان معرفتِهِ بالمنهج النبوي الكريم، وسيجعله أقدَرَ على بذل النصيحة بأريحية، يُلقي كلمته عند من يطلبُها أو في الموقف الذي يتطلَّبها، مجتنِبًا إيجاب ما لم يوجبه الله، حذِرًا من التعامل باندفاع ينسف نفسية المتلقي، متباعدًا عن الأهواء الشخصية التي قد تنشأ له في علاقاته مع الناس، يقظًا من حيل الوصاية والاستبداد الناعم الذي قد يفطن له المنصوح بعد حين، فينقلب على من فرض عليه الرأي، ولو كان أحبَّ الناسِ إليه.

تزداد الحاجة إلى أسلوب (عرض النصيحة واجتناب فرضها) في زمنٍ تطلَّع الناسُ فيه إلى الحرية وتسلّمِ زمام المسؤولية، بعد أن رفضوا الأوامر من أعلى هرم السلطة البشرية، وشعروا بضعف دور المرجعيات الشرعية والمجتمعية، فزادت حساسيتهم من النصيحة، وسعوا إلى تقرير كل ما يخصُّهم بأنفسهم بعيدًا عن أي توجيه .. الأمر الذي يستدعي من حَملة العلم والفكر ومسؤولي الدعوة والتربية أن يكونوا أكثر انتباهًا لأسلوب نصيحتهم، ولعلَّهم لن يجدوا طريقًا لقبولها أسرع من تحسين طريقة عرضها على النهج النبوي الذي لا يلزمها قبول الشفاعة حتى وإن كان الشفيع نبيًا، أو سلطانًا أو عالِمًا أو شريفًا.

ومن النصائح المهمة هنا عدم تقديم المقترحات لصاحب المشكلة، وإنما الاكتفاء بأسئلة ممنهجة تساعده على استخراج الحلول العميقة في نفسه[3].

نحتاج إلى توعية من نُحب، والرقي بهم ليكونوا أهلاً لاختيار ما يصلح لهم، وإن اختاروا ما ليس في صالحهم بادي الأمر، وتحمُّل تبعات تلك الاختيارات والقرارات، وذلك خيرٌ من الوصاية عليهم والاختيار نيابةً عنهم؛ لأنَّ ذلك قد يُثمر نفورهم عمَّا يصلح لهم، وإن فعلوه.

وإذا ظننَّا أنَّ المتربي لا يعرف مصلحةَ نفسه، فعلينا تنميةُ عقله، وتزويده بالأدوات اللازمة لذلك. وإذا خشينا تفلَّته من الأوامر الشرعية بحجَّة الحرية، فعلينا تربيته على تعظيمِ الله عز وجل ومراقبتِهِ ومحاسبةِ نفسه.

فالإنسانُ أكثر قابليةً للنصيحة عندما تُعرض ولا تُفرض. والأقدر على تحمل المسؤولية هو من يتخذ القرار، فلا تتخذ قرارًا عن غيرك، بل ساعده على رؤية الخيارات وعواقبها.


[1] أخرجه البخاري (5283).

[2] أخرجه البخاري (5136)، ومسلم (1419).

[3] ضمن ما يصطلح عليه في مهارات التمكين الذاتي بـ الكوتشينج coaching.

X