قضايا معاصرة

المشروع الإيراني في المنطقة العربية كما تؤسسه نظرية أم القرى

إيران اليوم ليست دولة عظمى، لكنها ليست دولة هامشية أيضًا، وفي الوقت الذي يراها فيه معظم المسلمين دولة غريبة عنهم في العقيدة والفكر، تسعى هي لتكون ممثلة لشيعة العالم، بل للمسلمين جميعهم، ومن يفتش في خلفيات هذا السعي تطرق مسامعة نظرية تدعى (أم القرى)، فمن هو صاحب هذه النظرية؟ وما هي خلفياته الفكرية والسياسية؟ وما هي تفاصيل النظرية؟ وهل لهذه النظرية وجود على أرض الواقع؟ هذا ما تحاول هذه المقالة الإجابة عنه

مقدمة

هل تمتلك إيران مشروعًا حقيقيًا للسيطرة على منطقة المشرق العربي؟ أم أن ما يروج عن مشروع إيراني هو مجرد أوهام من المهووسين بالصراع الطائفي، ونوع من الاستدعاء للخلاف التاريخي بين الشيعة والسنة؟ باعتبار أن إيران تطرح نفسها اليوم ليس مجرد دولة شيعية جعفرية وإنما راعية لكل شيعة العالم ولشيعة الدول العربية بشكل أساسي، بل وممثلة للولاية العامة على جميع المسلمين في العالم وقائمة مقام الإمام الغائب بنيابة ولي الفقيه عنه حتى ظهوره.

في الحقيقة إن إيران تمتلك كل عناصر المشروع الاستراتيجي الذي يستهدف المشرق والخليج العربي، وخطة استراتيجية لتنفيذ المشروع، وأدوات حقيقية يتم توظيفها في سبيله.

في هذه المقالة محاولة لتشريح المكونات الأساسية لمشروع النظام الإيراني في منطقة الشرق العربي، وذلك من خلال تحليل أهم مصادر الفلسفة السياسية لهذا المشروع والنظريات الفكرية التي يستند إليها، من خلال نظرة تحليلية على نظرية “أم القرى” للمنظر والأكاديمي الإيراني محمد جواد لاريجاني، مع محاولة اكتشاف الخلفية الفكرية للكاتب مؤسس نظرية “أم القرى”، وتقييم موضوعي لهذا المشروع، والتنبيه لأهم ثغراته الاستراتيجية والإجابة عن الأسئلة البحثية التالية: ما الأهداف الاستراتيجية لإيران في المنطقة، وما هي الخطة التنفيذية لتحقيق هذه الأهداف؟ وما هي الأدوات التي تستخدمها؟

أولاً: تعريف بالمنظر والنظرية:

سنتحدث عن الخلفية السياسية والاجتماعية والفكرية لمؤسس النظرية، وتقاطعاتها مع عقيدة الولي الفقيه وكتاب أم القرى للكواكبي، وبيان أن النظرية هي مجرد مذهب سياسي إيديولوجي وليست نظرية بالمعنى العلمي.

 1- محمد جواد لاريجاني:

ولد محمد جواد لاريجاني عام 1951م، كان يدرس للحصول على درجة الدكتوراه في الولايات المتحدة في الفيزياء عندما اندلعت الثورة عام 1979م. فترك دراسته وعاد إلى إيران، ثم أصبح عضوًا في البرلمان الإيراني في الفترة من 1992 إلى 2000م، كما شغل أيضًا منصب مدير مركز الأبحاث. وحاليًا يشغل منصب أمين لجنة حقوق الإنسان، وهو منصب يندرج ضمن إطار السلطة القضائية التي يرأسها شقيقه صادق[1].

تهيمن عائلة لاريجاني على مناصب مهمة داخل النظام السياسي المعقد في إيران، فمن بين خمسة أشقاء يرأس الشقيقان علي وصادق اثنتين من المؤسسات الثلاث الكبرى في البلاد، البرلمان والسلطة القضائية، فيما يشغل الباقون مناصب رفيعة داخل مجلس حقوق الإنسان والسلك الدبلوماسي ووزارة الصحة[2].

أما والده ميرزا هاشم آملي فهو من مراجع الدين الشيعة، وكان مرجعًا متنفذًا في حوزة النجف بالعراق. وهناك أنجب أربعةً من أصل ستة من أولاده؛ هم بنت وثلاثة أبناء ذكور؛ قبل أن يستقر في حوزة قُم في منتصف الستينات من القرن العشرين، وهناك رُزق بولدين آخرين. وتزامن استقرار المرجع الآملي في قُم مع بداية نشاط الخميني ضد النظام الملكي[3].

يُعرف محمد جواد لاريجاني بأنه من منظّري التيار المحافظ في مجال السياسة الخارجية، وتتسم شخصيته بمزجها بين الجوانب الثقافية القومية الفارسية والمذهبية الشيعية والبراغماتية السياسية، وهو صاحب كتاب “مقولات في الاستراتيجية الوطنية” الذي فصل فيه نظريته أم القرى وهي موضوع بحثنا في هذه المقالة.

2- الدلالة الاصطلاحية والسياسية لتسمية “أم القرى”:

نظرية “أم القرى” هي استعارة من الاسم الذي يطلق على مكة المكرمة، في قوله تعالى: ﴿‌وَلِتُنْذِرَ ‌أُمَّ ‌الْقُرَى ‌وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الأنعام: 92]، وقد قيل: إن مكة سميت (أمّ القُرى) لتقدُّمها أمامَ جميعِها، وجَمْعِها ما سواها[4].

أما المفهوم السياسي لنظرية “أم القرى” بحسب ما يفصل فيه لاريجاني فإنها فكرة بناء دولة إسلامية تحمل قيادة ولاية الفقيه، حيث يتم تحقيق الوحدة والقوة في إطار إسلامي شيعي. النظرية تركز على مفهوم أم القرى عاصمة للعالم الإسلامي، وتقدم رؤية لتوحيد المسلمين تحت قيادة إيران، مع التركيز على تحقيق الهيمنة الإيرانية في المشرق العربي.

وهنا يقول لاريجاني: “الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد الثورة في زمن قيادة الإمام الخميني… أو في الوقت الحاضر تحت سماحة آية الله الأمام خامنئي… هي بدون شك أم القرى دار الإسلام”[5]، وبذلك تتحقق المركزية الإيرانية في قيادة العالم الإسلامي بدلاً من مكة باعتبار أن المركزية تكتسب شرعيتها من قيام الحكومة الإسلامية وليس قدسية المكان، ويمكن أن تعود مكة لتكون أم القرى بعد سيطرة الحكومة الإسلامية عليها.

وتتلخص هذه النظرية في أنها محاولة لبناء نظرية دينية وفق رؤية شيعية خالصة تصوغ العلاقات المتبادلة بين الجمهورية الشيعية الإيرانية والعالم العربي خصوصًا والإسلامي عمومًا[6].

المفهوم السياسي لنظرية “أم القرى” بحسب لاريجاني: بناء دولة إسلامية تحمل قيادة ولاية الفقيه، حيث يتم تحقيق الوحدة والقوة في إطار إسلامي شيعي. النظرية تركز على مفهوم أم القرى عاصمة للعالم الإسلامي، وتقدم رؤية لتوحيد المسلمين تحت قيادة إيران، مع التركيز على تحقيق الهيمنة الإيرانية في المشرق العربي.

3- “أم القرى” لاريجاني و “أم القرى” الكواكبي:

يبدو أن لاريجاني يحاول أن يتقمص دور عبدالرحمن الكواكبي ويحاكي عنوان كتابه “أم القرى”، لكن مع اختلاف جذري في الجوهر رغم الاتفاق في العنوان؛ ففيما صور الكواكبي في كتابه “أم القرى” عقد اجتماع متخيل بين ممثلي العالم الإسلامي للتباحث في أسباب تخلف المسلمين، وتشخيص العلل التي تحول بين المسلمين ونهضتهم، حيث أحصى في كتابه “أم القرى” أكثر من 82 علة ليعيدها في كتاب “طبائع الاستبداد” إلى علة واحدة هي الاستبداد، كان لاريجاني يؤسس في نظريته “أم القرى” لإقامة حكم ثيوقراطي استبدادي ديني كما يصفه الكاتب الأمريكي كينيث ماغينيس[7] وهذا النظام لا يفرض سطوته على إيران فقط وإنما على العالم الإسلامي بكامله، على الشيعة وعلى السنة بعد تشييعهم.

4- النظرية تعمل على بعث الشيعة من عقيدة الانتظار إلى الاستقبال:

إن نظرية أم القرى التي تستند إلى نظرية الولي الفقيه بحسب ما بينها الخميني في كتابه “الحكومة الإسلامية” تنقل الشيعة من عقيدة الانتظار للإمام في حالة غيبته الكبرى حتى الإذن الإلهي بالفرج، إلى عقيدة الاستعداد لاستقبال خروجه، وبحسب هذا التصور ترشح الجمهورية الإيرانية الشيعية دولة جمعت الشروط اللازمة كي تصبح “أم القری” العالم الإسلامي، وهي تعتبر نفسها بمثابة القلب المذهبي والدولة المركزية للعالم الشيعي “الإسلام الصحيح”، ومن يمتلك القلب المذهبي الشيعي وفق الإمكانات والموارد المتوفرة والمتاحة لإيران حاليًا ينبغي عليه السعي لتحقيق هدفه المذهبي النهائي، وهو التوسع لبناء الإمبراطورية الشيعية الموعودة؛ لتكون النواة هنا هي دولة المهدي الشيعي المنتظر الذي سينقذ العالم.

لا شك بأن إيران الدولة، والثورة الخمينية تسعى للانتقال من فكرة “أم القرى” من إطارها النظري إلى بعدها الإجرائي، فمشروع “أم القرى” لن يتحقق إلا إذا تمت السيطرة على المجال الحيوي المطلوب، وبدونه لن تقوم دولة إيرانية مذهبية عظمى إقليميًا، وقادة “أم القرى” في إيران يريدون توظيف الظروف والمتغيرات الإقليمية الحالية لتصبح من خلالها إيران قائدة للإقليم كله الذي يحتوي على مصادر القوة الكامنة.

وقد مهدت إيران لجمع عُقد “أم القرى”، بهدف إيجاد مجالات داعمة لهذه القوة، ونظم عِقد حباتها مذهبيًا وجغرافيًا، ومن هنا فإن العالم الشيعي -بحكم هذه التطورات- يتجه لأن يصبح وحدة مذهبية شيعية وسياسية، بعد أن يتحقق هدفه النهائي بتكوين الإمبراطورية الشيعية الموعودة[8].

5- نظرية الولي الفقيه السند الديني لنظرية “أم القرى”:

بينما تشكل نظرية “أم القرى” الأس النظري السياسي للمشروع الإيراني تشكل نظرية الولي الفقيه المستند الديني للمشروع؛ فقد جاء في كتاب الحكومة الإسلامية للخميني: “وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي r منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا.

ويملك هذا الحاكم من أمر الادارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول r وأمير المؤمنين t، على ما يمتاز به الرسول والامام من فضائل ومناقب خاصة”[9].

هذه الفقرة من كتاب “الحكومة الإسلامية” للخميني تدخل بنا مباشرة إلى ولاية الفقيه كما نظر إليها النراقي[10]، وقد استدل الخميني بأدلة النراقي واعتمد على قواعده الفكرية واجتهاداته، والتي أرساها الخميني بعد نفيه إلى العراق من قبل الشاه محمد رضا بهلوي سنة 1963م. وذهب إلى أن الأدلة التي تدل على وجوب الإمامة هي الأدلة التي تدل على وجوب ولاية الفقيه نفسها، وأنها من الأمور الاعتبارية العقلانية التي توجد بالجعل والتبني والوضع الإنساني أيضًا، وذلك كجعل القيِّم للصغار، وأن القيِّم على الأمة لا يختلف عن القيِّم على الصغار من ناحية الوظيفة[11].

كما ذهب إلى أن الفقهاء هم ورثة الأنبياء وأمناء الرسل، ولم يورثوا العلم والحديث فقط كما هو ظاهر الروايات، فالولاية قابلة للانتقال والتوريث أيضًا [12].

وتعتقد الشيعة الاثنا عشرية بأنّ الولاية المطلقة للفقيه تجعل الفقيه ينتقل عن الحكم الأولي إلى الحكم الثانوي لفترة معينة بسبب إحاطته بالفقه والمصالح الإسلامية، ويعتقدون أيضًا أنّ الحكم الثانوي قد يكون من الأحكام الإلهية نتيجةً للتنصيب الإلهي العام لولي الفقيه[13].

وهكذا يجعل الخميني لنفسه الولاية على الأمة باعتباره ممثلاً للنيابة عن الإمام المطلق في فترة غيبته الكبرى، ما يعني أنه من حقه وواجبه التدخل في كل شؤون الدول الإسلامية لما يمثله من الولاية العامة على المسلمين.

وقد واجهت نظرية “الولي الفقيه” اعتراضات من عدد من مراجع الشيعة خصوصًا من محمد حسين النائيني الذي بلور فكرة ولاية الأمة على نفسها، وسار على نهجه محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله، وبعدهما محمد حسين الأمين وهاني فحص وغيرهما، وهذا فقط على المستوى اللبناني أو ما يطلق عليه مدرسة جبل عامل[14].

بينما تشكل نظرية “أم القرى” الأس النظري السياسي للمشروع الإيراني تشكل نظرية الولي الفقيه المستند الديني للمشروع؛ حيث تعتقد الشيعة الاثنا عشرية بأنّ الولاية المطلقة للفقيه تجعل الفقيه ينتقل عن الحكم الأولي إلى الحكم الثانوي لفترة معينة بسبب إحاطته بالفقه والمصالح الإسلامية، ويعتقدون أيضًا أنّ الحكم الثانوي قد يكون من الأحكام الإلهية نتيجةً للتنصيب الإلهي العام لولي الفقيه

6- نظرية سياسية أم مذهب سياسي (إيديولوجي)؟

يعترف لاريجاني أن ما قدمه من مشروع سياسي هو في حقيقته مذهب سياسي “إيديولوجي” وليس نظرية سياسية، ويفرق بين النظرية والمذهب على الشكل التالي:

“إن ما قمنا ببيانه في باب أم القرى هو في الواقع “مذهب” وفي فن السياسة ليس نظرية علمية”[15].

ثم يكمل: “طبعًا نحن من باب المسامحة استخدمنا في اللفظ مصطلح نظرية لأم القرى، والآن السؤال الأساسي: ما هو الصحيح النظرية أم المذهب؟ في أي موقع يمكننا أن نقول عن نظرية ما إنها صحيحة، ومتى نقول إنها مذهب؟

بالنسبة للنظرية فإن معيار الحقيقة هو بعدها أو قربها من الواقع، وهذا معيار تفضيل نظرية على أخرى.

أما بالنسبة للمذهب فالبحث يختلف اختلافًا كاملاً: المذهب السياسي في الحقيقة له ركنان: ركنه الأول مجموعة من الأهداف والمقاصد، وركنه الثاني القواعد التي تستخدم في المسير نحو هذه المقاصد”[16]، وبما أن لاريجاني قد حدد أهدافه في نظرية أم القرى في بعث إيران كقطب دولي وعالمي وحدد أدواته ووسائله لتحقيق هذا الهدف فهذا يعني أن ما يكتبه هو نظرية سياسية وليس نظرية علمية.

عناصر المشروع الاستراتيجي في نظرية “أم القرى”:

سنفصل في هذا المبحث أهم عناصر خطة النظام الإيراني الاستراتيجية كما هي واردة في نظرية أم القرى:

1- رؤية مشروع النظام الإيراني والفكرة المركزية:

ترى النخبة الثورية الشيعية في طهران أن إيران بما تمتلكه من موقع جغرافي وثقل سكاني وثروات وإيديولوجية دينية قومية، وما تتمتع به من تراث فلسفي وإمبراطوري من الدولة الساسانية حتى اليوم؛ مؤهلة أن تكون قطبًا سياسيًا دوليًا يلعب دورًا في إدارة العالم وليس مجرد فلك أو قمر صغير تابع للدول العظمى.

وهنا يقسم محمد لاريجاني الدول إلى صنفين: دول أقطاب مثل الولايات المتحدة وروسيا، ودول عبارة عن فلك أو قمر صغير يقع في نطاق نفوذ الدولة القطب، وبناء عليه فإن الاستقلال السياسي لدولة وتحررها من هيمنة الدول الأقطاب يعني أن تكون الدولة قطبًا وألا تكون فلكًا في قطب آخر.

لأن الأقطاب -فقط- تعترف باستقلال بعضها عن بعض،‍ وتعتقد بالنسبة لسائر الدول أنها يجب أن تكون فلكًا في واحد من هذه الأقطاب، وإذا خالفت أية دولة هذه المنظومة العالمية وحاولت الخروج من ربقتها فإنها ستجد نفسها في مواجهة أمام جميع الأقطاب المهيمنة على الأفلاك[17].

وهنا يعتبر لاريجاني انتصار “الثورة الإسلامية الإيرانية” في العام ١٩٧٩م في أوج السيطرة الفلسفية لقطبي العالم. ومنذ انتصارها تم الإعلان عن سياسة (لا شرقية ولا غربية) أي أنها حالة مستقلة في قطبيتها لا تتبع لأي من الأقطاب، وفي البداية وبحسب لاريجاني: “لم تأخذ‍ أميركا وروسيا هذه القضية بجدية؛ لأن عملاءهما في إيران كانوا‍ يعملون وكانت الدولتان لا تزالان يراودهما الأمل في احتواء الثورة، لكن حكمة الإمام الخميني حالت دون ذلك وأفشلت مخططاتهما”[18].

ولكن لاريجاني يقدم مفهومه الخاص عن معنى القطبية “هذا المفهوم الجديد يقوم على مفهوم أساسي: قوة العمل والنشاط في خارج الحدود. أي أن دولة تستطيع أن تعمل في دولة أو دول أخرى. ويمكن لهذا العمل أن يكون له آثار اقتصادية وسياسية أو عسكرية”[19] وبهذا تكون هذه الدولة قطبًا.

من هذا الكلام تتضح رؤية النظام الإيراني لدور إيران في السياسة الدولية وطموحها لتكون دولة عظمى خارج سيطرة الأقطاب العالمية التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، وهذا يعني ضرورة أن تهيمن إيران على محيطها الحيوي حتى تكون شريكًا أساسيًا ومهمًا يحسب لها الحساب في تقرير السياسات الدولية تكون ندًا للولايات المتحدة وليست تابعة[20].

ترى النخبة الثورية الشيعية في طهران أن إيران بما تمتلكه من موقع جغرافي وثقل سكاني وثروات وإيديولوجية دينية قومية، وما تتمتع به من تراث فلسفي وإمبراطوري من الدولة الساسانية حتى اليوم؛ مؤهلة أن تكون قطبًا سياسيًا دوليًا يلعب دورًا في إدارة العالم وليس مجرد فلك أو قمر صغير تابع للدول العظمى.

2- رسالة مشروع النظام الإيراني والفكرة المحفزة:  

إن الرسالة الموجزة التي تقدمها إيران في مشروعها هي: أنَّ إيران دولة مقاومة لمشروع الاستكبار الأمريكي “الشيطان الأكبر” في المنطقة، وهي الفكرة الملهمة لكل حركات المقاومة المناهضة للمشروع الأمريكي التي يمكن أن تدفع بها للوقوع في فلك النفوذ الإيراني ثم تحولها لأدوات ورافعة للمشروع الإيراني.

ويسوق لاريجاني العداء مع أمريكا باعتبارها قوة إمبريالية تهدف إلى منع قيام قطب إيراني في المنطقة: “في منطقة “الخليج الفارسي”، أول حركة لأمريكا تشكيل جبهة عربية ضد إيران. بنظر أميركا يجب إخضاع إيران الإسلامية وتعديلها”[21].

وهنا يقع السؤال الجدلي: هل موقف النظام الإيراني من القضية الفلسطينية هو مجرد استخدامها أداة للسيطرة واختراق الحيز العربي السني أم هو موقف استراتيجي حقيقي؟ يبدو أن الرأي الأول هو الراجح.

فالقضية الفلسطينية بالنسبة لإيران ما هي إلا جسر للعبور إلى عاطفة الشعوب العربية ولإخفاء الوجه القومي والطائفي للنظام الإيراني، وبالرغم من المناكفة بين الولايات المتحدة وإيران فقد كانت الاستراتيجية الأمريكية والإيرانية متفقة في احتلال العراق وأفغانستان وتدمير سورية[22].

القضية الفلسطينية بالنسبة لإيران ما هي إلا جسر للعبور إلى عاطفة الشعوب العربية ولإخفاء الوجه القومي والطائفي للنظام الإيراني، وبالرغم من المناكفة بين الولايات المتحدة وإيران فقد كانت الاستراتيجية الأمريكية والإيرانية متفقة في احتلال العراق وأفغانستان وتدمير سورية.

3- أهداف المشروع الإيراني:

تكمن الأهداف السياسية للنظام الإيراني في:

  • السيطرة على المجال الحيوي في الخليج العربي وبلاد الشام.
  • تصدير نموذج غير مسبوق في شكل النظام السياسي ثنائي التركيب من الحكومة المدنية المنتخبة ومن الميليشيات العسكرية المتحكمة بالدولة من الخلف.
  • كما يهدف النظام الإيراني مرحليًا للسيطرة على مكة لتأسيس زعامتها للعالم الإسلامي وتمثيلها لكل المسلمين، وهو الأمر الذي سيسمح لها بالتقدم للعب دور دولي وإقليمي يثبت قطبية إيران.
  • نشر التشيع أداة من أدوات السيطرة والنفوذ: حيث يقول لاريجاني: “والواقع أن إيران هي “أم القرى/ دار الإسلام”، انتصار أو هزيمة إيران هما انتصار وهزيمة للإسلام. ومن ناحية أخری: إيران هي مهد الإسلام الحقيقي والخالص”[23].

أما من حيث الأدوات فهي تقوم بـ:

  • تعزيز القوة العسكرية، لكي تكون غطاء حاميًا لنفوذها في تلك الدول.
  • بناء مليشيات عسكرية لكي تكون أذرعة لنفوذها في المنطقة، كحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، وفيلق بدر ونحوه من المليشيات في العراق.
  • الدعم المالي للجمعيات والمؤسسات والشخصيات الشيعية في المناطق السنية.

4- القيادة:

يذكر لاريجاني في المسوغ لمشروعية حق إيران في قيادة العالم الإسلامي “أن أساس وحدة الأمة (قيادتها).‍ وقيادة العالم الإسلامي تقوم على أساس ولاية الفقيه… وعندما تقوم حكومة في إحدى بلاد الإسلام ويكون‍ لدى قيادتها الأهلية لقيادة الأمة تصبح أم القرى دار الإسلام.‍ وإذا قامت دولة أم القرى ففي هذه الحالة من واجب القيادة أن تلاحظ مصالح كل الأمة، ومن ناحية أخرى فإن المحافظة على كل الأمة هو فريضة ولها أولوية على أي أمر آخر[24].

وهنا يقول لاريجاني: “يجب أن يطرح الدفاع عن العالم الإسلامي في استراتيجيتنا الوطنية كركن أساسي، ويجب أن يكون مد نظرنا قيادة العالم الإسلامي”[25]، وبذلك يتضح أن تبني إيران للقضية الفلسطينية باعثها الشعور بأحقية القيادة وليس مجرد القيام بالواجب الإسلامي في مناصرة المسلمين.

5- الخطة التنفيذية:

من أجل وصول النظام الإيراني لأهدافه تم رسم الخطة الخمسينية التي سربت في تسعينيات القرن الماضي والمكتوبة من اللجنة الثقافية في مجلس الشورى الإيراني، وبموجبها يسعى النظام لتصدير الثورة الإيرانية بالسيطرة على جميع الدول العربية خلال 5 مراحل، كل مرحلة من عشر سنوات. وحسب هذه الخطة، فإن أركان الدولة تعتمد على ثلاث ركائز، وهي: السلطة التي بيد الدولة، والعلم والمعرفة عند العلماء، والاقتصاد والثروة عند التجار والرأسماليين.

وخطط النظام لاستهداف الأركان الثلاث في الدول العربية من خلال الوقيعة والفتنة بين تلك الجهات، والتوغل في الحكومات عبر العملاء، وتحريك العلماء ورجال الدين ضد حكوماتهم، وبناء الحسينيات وشراء البيوت والأملاك، وتأسيس أحزاب وخلايا تجسسية وميلشيات عسكرية.

وإذا أسقطنا تحركات النظام في المنطقة العربية، نرى بوضوح أن أدوات وأساليب تلك الخطة التي قسمتها طهران إلى خمس مراحل قد نفذت بشكل كامل في بعض الدول العربية مثل العراق واليمن، ونفذت بشكل جزئي في بعض الدول العربية الأخرى خاصة في سوريا ولبنان، ويحاول تنفيذها في البحرين والسعودية والكويت والسودان وجزر القمر، والأحداث التي حصلت في الدول العربية في الآونة الأخيرة بعد الربيع العربي تثبت التطابق التام بين الوثيقة وبين سلوك النظام الإيراني في سورية واليمن بشكل أساسي[26].

خطط النظام الإيراني لاستهداف الأركان الثلاث في الدول العربية من خلال الوقيعة والفتنة بين تلك الجهات، والتوغل بالحكومات عبر العملاء، وتحريك العلماء ورجال الدين ضد حكوماتهم، وبناء الحسينيات وشراء البيوت والأملاك، وتأسيس أحزاب وخلايا تجسسية وميلشيات عسكرية.

الخاتمة والنتائج:

من الواضح أن مشروع النظام الإيراني كما بينا بعض تفاصيله في تحليل نظرية أم القرى لم يجعل من إيران قطبًا استراتيجيًا في العلاقات الدولية والتسيد على المنطقة، وإنما هو مجرد مشروع طائفي قومي يقوم بدور وظيفي ويتحرك في الهوامش التي تسمح بها الإدارة الأمريكية، ويتخادم معها في تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية “الفوضى الخلاقة” وتفجير الصراع الطائفي واقتلاع المكون السني الذي يشكل الرافعة الأساس لقيام أي قطب إسلامي، وتهشيم البيئة الاستراتيجية العربية المحيطة بإسرائيل من أجل هندسة المنطقة على أساس حلف الأقليات.

بالمنظور الاستراتيجي لا يمكن لإيران أن تكون قطبًا إقليميًا فضلاً عن أن تكون قطبًا دوليًا يقود العالم الإسلامي، فالنظام الإيراني عليه أن ينفق الطاقات والموارد البشرية لتحويل مليار ونصف سني هم مادة الإسلام وعموم الأمة إلى التشيع حتى ينجح مشروعه وأنى له بذلك، إضافة إلى أنواع الأزمات الداخلية في إيران من النزعات القومية الانفصالية وغياب الحامل الاجتماعي للمشروع واعتماده على الشيعة العرب أدوات لتنفيذ المشروع، وبالتالي فإن المستفيد الوحيد من المشروع الإيراني هو الكيان الصهيوني الذي يشعر بالخطر من المحيط السني والولايات المتحدة التي تتخوف من تولد قطب إسلامي.

وهنا يمكن أن نعزو بعض نجاحات النظام الإيراني في تنفيذ مشروعه في المحيط العربي إلى غياب المشروع العربي المقاوم، والدعم الاستراتيجي الغربي والإسرائيلي للتحركات الإيرانية للاستثمار فيها والاتجار بها، لكن بدون السماح لإيران بقطف ثمارها والتصرف كقطب في السياسة الدولية.


أ. عباس شريفة
باحث في الصراعات والفكر الإسلامي.



[1]
تقرير على موقع الجزيرة نت بعنوان: نفوذ عائلة لاريجاني، تاريخ النشر 6حزيران يونيو 2013م.

[2] يراجع في موقع العربية على الويب تقرير: متهم بالفساد وحليف رجال الدين، لاريجاني مرشح الرئاسة، نشر في تاريخ نشر في: 15 مايو، 2021م.

[3] مقال على جريدة الشرق الأوسط للكاتب عادل السالمي، بعنوان: الإخوة لاريجاني… أرخبيل السلطة والنفوذ، تاريخ النشر: 23 مارس 2018م.

[4] تفسير الطبري (1/108).

[5] مقولات في الاستراتيجية الوطنية (شرح نظرية أم القرى الشيعية) المؤلف: محمد جواد لاريجاني، ترجمة د. نبيل عتوم، مركز العصر للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، لندن، ص (113).

[6] ينظر: “إيران والإمبراطورية الشيعية الموعودة” د. لبيب المنور، صادر عن مركز الدراسات العلمية في مكة المكرمة عام (1429ه-2008م).

[7] يراجع في موقع الجزيرة نت: مقال: أميركا ضللت شعبها والعالم بشأن إيران، تاريخ النشر: 23 مايو 2015م.

[8] مقولات في الاستراتيجية الوطنية (شرح نظرية أم القرى الشيعية)، مقدمة المحرر نبيل العتوم، ص (9-10).

[9] الحكومة الإسلامية، للخميني، ص (49).

[10] أحمد النراقي (1771-1829م)، فقيه شيعي، من مدينة نراق التابعة لمحافظة مركزي في إيران، وهو واضع أسس نظرية “ولاية الفقيه”، ودون كتابًا في ذلك بالاسم نفسه.

[11] ينظر: كتاب الحكومة الإسلامية للخميني، صادر عن مركز بقية الله، الطبعة الثالثة، ص (109).

[12] ينظر: كتاب البيع، للخميني، ص (92)، والحكومة الإسلامية، ص (150–151).

[13] موقع آية الله مصباح اليزدي، نسخة محفوظة بتاريخ 5 مارس 2016م، على موقع واي باك مشين.

[14] القوة الناعمة في المنطقة العربية (السعودية، تركيا، إيران) مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، الطبعة الأولى 2018، ص (205).

[15] ينظر: كتاب مقولات في الاستراتيجية الوطنية، ص (122).

[16] المصدر السابق.

[17] المصدر السابق، ص (147-148).

[18] المصدر السابق، بتصرف لتجنب سوء الترجمة ص (153).

[19] يراجع كتاب مقولات في الاستراتيجية الوطنية، ص (160).

[20]  للمزيد من الشرح يراجع اللقاء مع محمد جواد لاريجاني على قناة euronews (عــربي) على يوتيوب.

[21] يراجع كتاب مقولات في الاستراتيجية الوطنية، ص (165).

[22] مركز الرافدين للدراسات الإستراتيجية، مقال بعنوان: التخادم الأمريكي – الإيراني، للباحث: حسين صالح السبعاوي، تاريخ النشر: 4 مايو 2020م.

[23] يراجع كتاب مقولات في الاستراتيجية الوطنية، ص (76).

[24] يراجع كتاب مقولات في الاستراتيجية الوطنية، ص (108-112).

[25] المرجع السابق، ص (77).

[26] مقال: حول الآثار المترتبة على التوسعات الإيرانية في الوطن العربي، يحيى أبو حاتم، المنشور على موقع المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية، المنشور بتاريخ 27 يناير 2020م.

باحث في الصراعات والفكر الإسلامي.
X