دعوة

إذا كان الدين يسرا، فلماذا نشعر بالمشقة في الالتزام به؟

 

مِن علامات هذا الدين: اليُسر، ووصف اللهُ تعالى دينَه باليُسرى، وما خُيِّر رسول الله ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما، كما رفع الله عن هذه الأمة الإصر والأغلال التي كانت على مَن قبلها مِن الأمم، ومع ذلك فإنَّنا نشعر بمشقّة القيام بالتكاليف الشرعية، فكيف نجمع بين الأمرين؟

في هذه المقالة إجابة عن هذا السؤال.

مدخل:

 أظهر أوصاف هذا الدين: اليُسر، إذ تضافرت على ذلك آيات الكتاب الحكيم: ﴿‌يُرِيدُ ‌اللَّهُ ‌بِكُمُ ‌الْيُسْرَ ‌وَلَا ‌يُرِيدُ ‌بِكُمُ ‌الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، ﴿‌يُرِيدُ ‌اللَّهُ ‌أَنْ ‌يُخَفِّفَ ‌عَنْكُمْ ‌وَخُلِقَ ‌الْإِنْسَانُ ‌ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28]، ﴿‌فَاتَّقُوا ‌اللَّهَ ‌مَا ‌اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، ﴿لَا ‌يُكَلِّفُ ‌اللَّهُ ‌نَفْسًا ‌إِلَّا ‌وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ﴿‌لَا ‌يُكَلِّفُ ‌اللَّهُ ‌نَفْسًا ‌إِلَّا ‌مَا ‌آتَاهَا﴾ [الطلاق: 7]، ﴿‌هُوَ ‌اجْتَبَاكُمْ ‌وَمَا ‌جَعَلَ ‌عَلَيْكُمْ ‌فِي ‌الدِّينِ ‌مِنْ ‌حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ﴿‌مَا ‌يُرِيدُ ‌اللَّهُ ‌لِيَجْعَلَ ‌عَلَيْكُمْ ‌مِنْ ‌حَرَجٍ﴾ [المائدة: 6].

وقد أرسل الله بهذا الدين رسولاً ميسِّرًا، أثنى عليه بقوله: ﴿‌لَقَدْ ‌جَاءَكُمْ ‌رَسُولٌ ‌مِنْ ‌أَنْفُسِكُمْ ‌عَزِيزٌ ‌عَلَيْهِ ‌مَا ‌عَنِتُّمْ﴾ [التوبة: 128]، أي لا يُحب هذا النبي الكريم ﷺ لكم العنتَ والمشقةَ، بل يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنتكم.

ووصف اللهُ تعالى دينَه الذي أرسل به رسوله باليُسرى، فقال لنبيه: ﴿‌وَنُيَسِّرُكَ ‌لِلْيُسْرَى﴾ [الأعلى: 8]، فشريعته ﷺ أكمل الشرائع وأسهلها وأيسرها، وهو القائل ﷺ: (إني أُرسلت بحنيفية سمحة)[1]، حتى وصفته عائشة رضي الله عنها بقولها: «ما خُير رسول الله ﷺ بين أمرين أحدهما أيسرُ من الآخر ‌إلا ‌اختار ‌أيسرهما، ما لم يكن إثمًا»[2].

وكان ﷺ يقول: (‌إنَّ ‌الدين ‌يسر)[3].

ويقول: (إنَّ الله عزَّ وجلَّ ‌رضي ‌لهذه ‌الأمة ‌اليُسر ‌وكَرِه ‌لها ‌العُسر)[4]، ويقول: (إنكم أمة أُريدَ بكم اليسرُ)[5].

 وكان ﷺ إذا أرسل دعاته ورسله إلى البلدان أوصاهم بقوله كما فعل مع معاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما عندما أرسلهما إلى اليمن: (‌يَسِّرا ‌ولا ‌تُعَسِّرا، ‌وبَشِّرا ‌ولا ‌تُنَفِّرا)[6].

أظهر أوصاف هذا الدين: اليُسر، ووصفه تعالى باليُسرى، وأرسل الله بهذا الدين رسولاً ميسِّرًا، ثم كانت شريعته ﷺ أكمل الشرائع وأسهلها وأيسرها؛ ورفع الله عن الأمة المحمدية الإصر والأغلال التي كانت على مَن قبلها مِن الأمم

ولقد رفع الله عن الأمة المحمدية الإصر والأغلال التي كانت على مَن قبلها مِن الأمم، قال القاضي أبو بكر بن العربي: «كان مَن قبلنا مِن الأمم صومهم الإمساك عن الكلام مع الطعام والشراب، فكانوا في حرج، فأرخص الله لهذه الأمة بحذف نصف زمانها وهو الليل، وحذف نصف صومها عن الفم، وهو الإمساك عن الكلام ورخص لها فيه»[7].

و(كان بنو إسرائيل إذا أصاب ثوبَ أحدهم البول، قرضه بالمقراض)[8]، بينما يكفي في شريعتنا أن نغسله بالماء حتى يزول أثره، و(اليهود كانوا إذا حاضتِ المرأةُ فيهم لم يؤاكلوها ولم يُجامِعوهُنَّ في البيوت)[9]، بينما الأمر في شريعتنا: (اصنعوا كل شيءٍ إلا النِّكاحَ)[10]، وكان في شريعة من قبلنا القصاص لا غير في القتل، أما في ديننا فقد شرعت الدِّية.

 وكان من قبلنا إذا أذنب ذنبًا يُكتَب ذنبه على باب داره، وتكتب معه كفارته[11]، أما نحنُ الأمةَ المحمدية فقد جعل الله كفارة ذنوبنا قولاً نقوله بألسنتنا.

وهذا الاختصاص لهذه الأمة ظاهر في كثير من الأحاديث، كقوله ﷺ: (وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا،… وأحلت لي الغنائم)[12]، وقوله: (إن الله ‌تجاوز ‌لأمتي ما حدثت به أنفُسَها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)[13]، وقوله: (إن الله وَضَعَ عن أُمَّتِي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه)[14].

ولقد علّم الله هذه الأمة أن تقول: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 286]، فقال رب العزَّة: (نعم) وفي رواية: (قد فعلتُ)[15].

ولو أردنا أن نستطرد في أمثلة التيسير في القرآن والسنة لطال بنا المقام، فالأمر أظهر من أن تحشد له الأدلة والشواهد.

 

وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل

 

لكن نضرب مثلاً مِن يُسرِ الإسلام في شأن واحد هو الصلاة، الركن الذي يلي الشهادتين، عمود الدين، والصلة بين العبد وربه، العهد الذي بين المسلم والكافر، هذه الصلاة -بهذه المكانة العظيمة- كم فيها من التيسير! كانت مفروضة خمسين صلاة فخففها الله إلى خمسٍ بأجر خمسين، وإذا كان المسلم في سفر شرع له قصرها، وإذا كان في حاجة شرع له جمع بعضها إلى بعض، وإذا فقد الماء أو شق عليه استخدامه شرع له التيمم، وإذا لم يستطع الصلاة قائمًا جاز له أن يصلي جالسًا، أو يصلي على جنبه بحسب حاله التي يستطيع، هذا في الصلاة التي هي ركن الإسلام، فكيف بما دونها؟ وهكذا تجد اليسر في كل أحكام الشريعة.

شرائع الإسلام فيها التيسير والتخفيف على المكلفين، ورفعُ الحرج عنهم في خطرات نفوسهم ما لم تخرج إلى الكلام أو العمل، ومن ذلك العفو في حال الخطأ والنسيان والاستكراه

لماذا يجد البعض العبادات ثقيلة على نفسه؟

فإن قيل: هذا كله حق، لكن الواقع يشهد أن كثيرًا من المسلمين يتثاقلون من الالتزام بأحكام الدين، فيفرطون في التمسك به، ومن يتمسك به يجد مشقة وصعوبة بالغتين، فالجواب: هذا حق أيضًا، فلنبحث من أين يأتي الشعور بالصعوبة والمشقة، وكيف نوفق بين هذا الشعور الصادق وبين النصوص المتضافرة في أن الدين يسر؟

يمكن الجواب على هذا من ثلاثة أوجه:

  • الوجه الأول: أن اليسر صفة لموصوف هو الدين، فالحديث عن دين صفته اليسر، لكن البعض يريد يسرًا بلا دين! فالدين من معانيه التكليف، وهو إلزام ما فيه كلفة، والله خلقنا لعبادته، وجعل الدنيا دار اختبار ﴿‌لِيَبْلُوَكُمْ ‌أَيُّكُمْ ‌أَحْسَنُ ‌عَمَلًا﴾ [الملك: 2]، فلا بد من التكليف، إلا أن هذا التكليف الذي كلف الله به عباده تكليف ميسر، هو في قدرتهم: ﴿‌لَا ‌يُكَلِّفُ ‌اللَّهُ ‌نَفْسًا ‌إِلَّا ‌وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286].

فالذين لا يستحضرون الغاية من الخلق، ولا يَعُونَ معنى التكليف في الدين، يرون في كل أمر من أوامر الإسلام عنتًا.

ولنمثل لذلك بالمثال التالي، حين نقول: الأستاذ أحمد امتحاناته سهلة ميسرة، فماذا يعني هذا؟ يعني أنها واضحة في صياغتها، وأنها متصلة بموضوع المادة، وأن الوقت المتاح للجواب عنها كاف، وأنه ربما يعطي الطلاب الاختيار بين عدة أسئلة ليختار منها ما يجيب عليه. هذا في مقابل أسئلة الأستاذ كمال الذي يُلغِز في الأسئلة، أو يأتي بأسئلة لم ترد في المنهاج، أو لا يعطى الطلاب الوقت الكافي للجواب عليها، فامتحاناته معقدة بعيدة عن التيسير. أما من يرى في مبدأ السؤال لتمييز الطالب الجاد المعد للامتحان من غيره مشقة وعنتًا، فهو لم يفقه معنى الامتحان أصلاً!

فالإسلام دين فيه تكليفات، لكنها تكليفات ميسرة، وقد رأينا شأن التيسير في الصلاة، وقل مثل ذلك في الزكاة، فإنما أوجب ربع العشر فقط، وفي المال المعد للنماء دون غيره، وبعد ملك النصاب، وبعد أن يحول عليه الحول، أي أن المزكي ادخر مالاً عامًا كاملاً لم يحتج إليه، فهو زائد عن نفقاته ومعاشه، فيخرج منه ربع العشر لإعانة إخوانه الفقراء والمساكين، أليس هذا يسرًا؟

والحج، لما كانت فيه مشقة كبيرة جعله الله مرة في العمر لمن استطاع إليه سبيلاً، لا يلزمه أن يستدين لأجله، وكان النبي ﷺ لا يُسأل عن شيء في الحج قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلا قال: (افعل ولا حرج)[16]، فهو دين فيه تكاليف، ولكنها تكاليف ميسرة.

ولا تحسب أن أولئك الذين تحللوا من التكاليف أنهم في هناءة، لا والله، قال تعالى: ﴿‌وَمَنْ ‌أَعْرَضَ ‌عَنْ ‌ذِكْرِي ‌فَإِنَّ ‌لَهُ ‌مَعِيشَةً ‌ضَنْكًا ‌وَنَحْشُرُهُ ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ ‌أَعْمَى﴾ [طه: 124]، فهو في ضيق وضنك.

الإسلام دين فيه تكليفات، لكنها تكليفات ميسرة، والذين لا يستحضرون الغاية من الخلق، ولا يَعُونَ معنى التكليف في الدين، يرون في كلِّ أمرٍ من أوامر الإسلام عنتًا ومشقة

  • الوجه الثاني: يعود إلى الطريقة التي نتعلم بها الإسلام ونتلقى بها أحكامه، فالإسلام ما نزلت أحكامه أوامر ونواهي جافة مجردة (افعل) و(لا تفعل)، وما نزل على صورة “قائمة” بالمأمورات (صلِّ، صم، زكِّ، حج..) ولا قائمة بالمنهيات (لا تسرق، لا تزن، لا تقتل)، بل جاءت الأوامر والنواهي في سياق يخاطب الإنسان كل الإنسان عقله وروحه وقلبه، نصحًا ووعظًا، فتبيِّن محاسن الأمر الذي يأمر به وثمرته وثوابه، وقبائح الأمر الذي ينهى عنه وعاقبته ووعيده، والحكمة في هذا وذاك.

تأمل كم جاء في القرآن من الثناء على الذين يقيمون الصلاة، واستحضر كم جاء من الأجر عليها في حديث رسول الله، مثل قوله: (‌صلاة ‌الرجل ‌في ‌جماعة ‌تزيد ‌على ‌صلاته ‌في ‌بيته ‌وصلاته ‌في ‌سوقه بضعًا وعشرين درجة؛ وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة، لا يريد إلا الصلاة، فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)[17].

وتدبر وصفه لآثارها بقوله: (أرأيتم لو أن ‌نهرًا ‌بباب ‌أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟) قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)[18]، وقل مثل ذلك في الزكاة والصدقة، سماها الله قرضًا له سبحانه: ﴿‌مَنْ ‌ذَا ‌الَّذِي ‌يُقْرِضُ ‌اللَّهَ ‌قَرْضًا ‌حَسَنًا ‌فَيُضَاعِفَهُ ‌لَهُ﴾ [البقرة: 245]، وبيّن آثارها على معطيها: ﴿‌خُذْ ‌مِنْ ‌أَمْوَالِهِمْ ‌صَدَقَةً ‌تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: 103]، وعلى ماله: (‌ما ‌نقصت ‌صدقة من مال)[19]، ونتيجة لذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يسارعون في الإنفاق في سبيل الله، فعندما أراد النبي ﷺ تجهيز جيش العسرة: تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كلّه، وتصدّق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ماله، وتصدق عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه بألفي درهم، وجاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي ﷺ بألف دينار حين جهز جيش العسرة، فنثرها في حجره، قال عبدالرحمن بن سمرة: فرأيت النبي ﷺ يقلبها في حجره ويقول: ‌(ما ‌ضر ‌عثمان ‌ما ‌عمل ‌بعد ‌اليوم) مرتين[20].

وفي الصوم قال الله تعالى: ﴿‌كُتِبَ ‌عَلَيْكُمُ ‌الصِّيَامُ ‌كَمَا ‌كُتِبَ ‌عَلَى ‌الَّذِينَ ‌مِنْ ‌قَبْلِكُمْ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَتَّقُونَ ١٨٣ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 183-184]، وقال رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به)[21].

حتى الجهاد الذي هو أشق أحكام الشريعة لما فيه من إزهاق للنفس، لما قال الله فيه: ﴿‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌اشْتَرَى ‌مِنَ ‌الْمُؤْمِنِينَ ‌أَنْفُسَهُمْ ‌وَأَمْوَالَهُمْ ‌بِأَنَّ ‌لَهُمُ ‌الْجَنَّةَ﴾ [التوبة: 111]، وقال: ﴿‌وَلَا ‌تَحْسَبَنَّ ‌الَّذِينَ ‌قُتِلُوا ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ‌أَمْوَاتًا ‌بَلْ ‌أَحْيَاءٌ ‌عِنْدَ ‌رَبِّهِمْ ‌يُرْزَقُونَ ١٦٩ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: 169-170]؛ سارع إليه أهل الإيمان، فلما قال النبي ﷺ للصحابة وهو يُعِدُّهُم في غزوة بدر: (والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا، مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة). فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن: بخْ بخْ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ‌ثم ‌قذف ‌التمرات ‌من ‌يده ‌وأخذ ‌سيفه، فقاتل القوم حتى قتل[22].

جاءت الأوامر والنواهي في سياقٍ يخاطب الإنسان؛ كلَّ الإنسان، عقلَه وروحَه وقلبَه، نصحًا ووعظًا، فتبين محاسن الأمر الذي يأمر به وثمرته وثوابه، وقبائح الأمر الذي ينهى عنه وعاقبته ووعيده، والحكمة في هذا وذاك

وكذلك الأمر في المنهيات، بين الشرع قبحها وآثارها السيئة، فقال في الخمر والميسر: ﴿‌إِنَّمَا ‌يُرِيدُ ‌الشَّيْطَانُ ‌أَنْ ‌يُوقِعَ ‌بَيْنَكُمُ ‌الْعَدَاوَةَ ‌وَالْبَغْضَاءَ ‌فِي ‌الْخَمْرِ ‌وَالْمَيْسِرِ ‌وَيَصُدَّكُمْ ‌عَنْ ‌ذِكْرِ ‌اللَّهِ ‌وَعَنِ ‌الصَّلَاةِ ‌فَهَلْ ‌أَنْتُمْ ‌مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 91].

ولما جاء الشاب إلى النبي ﷺ فقال له: يا رسول الله ائذن لي بالزنى، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مَهْ مَهْ، فقال: (ادْنُه) فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: (أتُحبه لأمك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم)، قال: (أفتحبه لابنتك؟) قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لبناتهم)، قال: (أفتحبه لأختك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لأخواتهم)، قال: (‌أفتحبه ‌لعمتك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لعماتهم)، قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لخالاتهم)، قال: فوضع يده عليه، وقال: (اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فرجه) قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء[23].  

فلو أقبلنا على الإسلام نتعلمه كما أنزل لهانت المشقة ولما وجدنا إلا اليسر.

وذلك من جهتين:

من جهة إدراك حكمة الأوامر والنواهي، وجلّ أحكام الشريعة مذيل بالعلل والحكم، وكما قيل: من عرف ما قصد، هان عليه ما وجد.

ومن جهة العلم بما فيها من الأجر العظيم عند الله عز وجل، إذ العلم بالأجر يهون المشقة.

فإدراك الحكمة من العمل، والعلم بأجره في الدنيا والآخرة يهون المشقة، ويجعل الأمر يسيرًا على النفوس، بل يجعلها تجد في العمل لذة بدل المشقة.

إدراك الحكمة من التكاليف الشرعية، والعلم بأجرها في الدنيا والآخرة يهون المشقة، ويجعل الأمر يسيرًا على النفوس، بل يجعلها تجد في العمل لذة بدل المشقة.

  • الوجه الثالث: كثيرًا ما تكون المشقة التي نشعر بها ليست من ذات التكليف، ولكنها من الظروف التي صاحبته، فحين تحاول أن تحافظ على نظافتك وطهارتك في بيئة ملوثة قذرة تشعر بالعنت الشديد، وحين تريد أن تعيش مستقيمًا في بيئة منحرفة تشعر بالمشقة، وحين تريد أن تكون صالحًا في بيئة تكثر فيها الفتن والموبقات تضيق عليك الأرض بما رحبت.

 فكثير من المشقة التي نشعر بها ليست من ذات التكليف، ولكنها بسبب بُعد مجتمعاتنا عن التدين، بل ومحاربتها له أحيانًا، ليس على مستوى سلوك الناس فقط، بل على مستوى الأنظمة والقوانين الرسمية، فيشعر المسلم الملتزم بدينه بالغربة وتتولد المشقة والعنت من “السباحة ضد التيار”.

وأثر المحيط على المرء أمر ظاهر مسلّم، فلو كنت في محفل ودخل وقت الصلاة فقام جلّ من في المحفل إلى مكان أعد للصلاة، فما أهون أن تقوم معهم، بل ستشعر بالحرج من عدم مشاركتهم، بينما لو كان أهل المحفل لا يكترثون للصلاة، ولم يراعوا مواقيتها في برنامجهم، فقد تجد المشقة في الانسحاب والبحث عن مكان للصلاة، مع أن الصلاة هي الصلاة، ولكن قد يحتف بها من الأحوال ما يجعل أداءها سهلاً ميسرًا، وقد يحتف بها أحوال أخرى يجعل أداءها شاقًا عسيرًا.

 والإسلام ما نزل ليكون حالة منفردة، أو علاقة بين الفرد وربه فقط، بل نزل ليحكم مجتمعات البشر، وتسود أحكامه وتشريعاته، وحين يكون الأمر كذلك يستنشق الناس –كل الناس– الهواء النقي، ولا يبقى من مشقة العمل إلا ما كان من طبيعة التكليف، بل حتى هذه المشقة يخففها صلاح المجتمعات، وأن المرء يجد على الخير أعوانًا.

ومن هنا فقد نهى الإسلام أتباعه أن يقيموا بين أظهر المشركين فلا يتمكنوا من ممارسة دينهم وإظهار شعائره، وأمر بالجهاد حتى لا تكون فتنة بظهور الكافرين فيتسلطون على المؤمنين ويخضعونهم لثقافتهم فيشقون عليهم ﴿‌وَدُّوا ‌مَا ‌عَنِتُّمْ﴾ [آل عمران: 118].

ومع ذلك، فإن الإسلام دين عملي واقعي، يعْلم أن أتباعه لن يعيشوا دائمًا ظروف الظهور والتمكن، وأنه سيأتي عليهم زمان صعب يكون المتمسك بدينه كالقابض على الجمر، فكيف عالج هذا الأمر؟

لم يعالجه أبدًا بأن أباح لهم التملص من التكاليف، وتمييع الدين بحجة صعوبة الزمان أو المكان، ولكنه عالجه بأمرين:

الأمر الأول: بتعظيم الأجر، فوعدهم أن الأجر على قدر المشقة، فكلما زاد الأمر صعوبة لا يد لكم فيها زدتكم في الأجر، يقول النبي ﷺ: (‌يأتي ‌على ‌الناس ‌زمان ‌الصابر ‌فيهم ‌على ‌دينه ‌كالقابض ‌على ‌الجمر)[24] وقال: (إن من ورائكم ‌زمان ‌صبر، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدًا)، فقال عمر: يا رسول الله، منا أو منهم؟ قال: (منكم)[25].

فزاده في الأجر حتى يشجعه ويرغبه في الصبر على أحكام الإسلام والتمسك به في الزمان الصعب.

والأمر الثاني: شرع لأتباعه رخصًا يترخصون بها عند الحاجة إليها، وأخبرهم أنهم حين يأخذون بها بضوابطها فإنه لا حرج عليهم البتة، بل (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)[26].

جاء في الدرر السنية في شرح هذا الحديث:

الدين يسر لا عسر، وقد أقر الله سبحانه وتعالى أحكامًا مؤكدة، وأحب من عباده أن يفعلوها، كما أنه سبحانه خفف عنهم، ورفع الحرج في أوقات الضيق والضرورة، والله سبحانه يـحب من عباده المؤمنين أن يأخذوا بتخفيفه ورخصه، وهذا الحديث يوضح ذلك، حيث يقول النبي ﷺ: (إن الله يـحب أن تؤتى رخصه)، والرخص هي التخفيفات في الأحكام والعبادات، والتسهيل فيها على الـمكلف لعذر، ومحبة الله لها؛ لما فيها من دفع التكبر والترفع عن استباحة ما أباحه الشرع؛ فإن مَن استكبر وأنف مما أباحه الشرع وترفع عنه، فسد دينُه، (كما يحب أن تؤتى عزائمه) والعزائم هي الأمور واجبة الفعل؛ لأن أمر الله في الرخص والعزائم واحد، وهذا للتحذير من التنطع في الدين، والأخذ بالتشديد في جميع الأمور؛ فإن دين الله يسر.

وفي هذا تطييب لقلوب الضعفاء الذين يأخذون بالرخص لعلة عندهم؛ حتى لا ينتهي بهم ضعفهم إلى اليأس والقنوط من القدرة على فعل العزائم، فيتركوا الـميسور من الخير عليهم؛ لعجزهم عن الوصول لـمنتهى درجات العزائم، وهذا الحديث يوافق قوله تعالى: ﴿‌يُرِيدُ ‌اللَّهُ ‌بِكُمُ ‌الْيُسْرَ ‌وَلَا ‌يُرِيدُ ‌بِكُمُ ‌الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وهذا في عامة أمور الدين[27].

وأصبح من القواعد الكلية للشريعة “الضرورات تبيح المحظورات” و”المشقة تجلب التيسير” و”الأمر إذا ضاق اتسع” وأمثالها.

الدين يسر لا عسر، وقد أقرَّ الله سبحانه وتعالى أحكامًا مؤكدة، وأحبَّ من عباده أن يفعلوها، كما أنَّه سبحانه خفف عنهم، ورفع الحرج في أوقات الضيق والضرورة، والله سبحانه يـحب من عباده المؤمنين أن يأخذوا بتخفيفه ورخصه

وخلاصة القول: صدق الله، وصدق رسول الله، الدين يسر بلا شك ولا ريب، ومن استحضر الغاية من خلقه، وعلم أن الدنيا دار بلاء، هان عليه ما يجد من المشقة، أما من غابت عنه هذه الحقائق فسيجد نفسه متكاسلاً متثاقلاً من كل تكليف وإن دق. ثم إن معرفة الحكمة من التشريع وأجر الأعمال يخفف مشقتها على النفوس، بل ربما استعذبتها في سبيل الله، والمرء إذا جعل نفسه في صحبة صالحة وبيئة كريمة سهل عليه فعل الخيرات وترك المنكرات ﴿‌وَاصْبِرْ ‌نَفْسَكَ ‌مَعَ ‌الَّذِينَ ‌يَدْعُونَ ‌رَبَّهُمْ ‌بِالْغَدَاةِ ‌وَالْعَشِيِّ ‌يُرِيدُونَ ‌وَجْهَهُ﴾ [الكهف: 28]، ومن ابتلاه الله بأمر يشق عليه فليصبر وليبشر بأجر الله للصابرين، ﴿‌إِنَّمَا ‌يُوَفَّى ‌الصَّابِرُونَ ‌أَجْرَهُمْ ‌بِغَيْرِ ‌حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].

 


د. معن عبد القادر
أكاديمي وكاتب في قضايا التربية والحوار والفكر.



[1]
أخرجه أحمد (24855).

[2] أخرجه البخاري (6786) ومسلم (2327) واللفظ له.

[3] أخرجه البخاري (39).

[4] أخرجه الحارث في مسنده (237).

[5] أخرجه أحمد (20347).

[6] أخرجه البخاري (3038) ومسلم (1733).

[7] عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (3/183).

[8] ينظر: مسند أحمد (17760) وأبو داود (22) والنسائي (33) وابن ماجه (346).

[9] أخرجه مسلم (302)، (ولم ‌يجامعوهن في البيوت): أي لم يخالطوهن ولم يساكنوهن في بيت واحد.

[10] أخرجه مسلم (302).

[11] أخرجه ابن المنذر عن ابن مسعود t موقوفًا (934).

[12] أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521).

[13] أخرجه البخاري (6664)، ومسلم (127).

[14] أخرجه ابن ماجه (2045) وابن حبان (7219).

[15] أخرجه مسلم (125) و (126).

[16] أخرجه البخاري (83) ومسلم (1306).

[17] أخرجه البخاري (477) ومسلم (649) واللفظ له.

[18] أخرجه البخاري (528) ومسلم (667) واللفظ له.

[19] أخرجه مسلم (2588).

[20] أخرجه الترمذي (3701).

[21] أخرجه البخاري (5927) ومسلم (1151).

[22] سيرة ابن هشام (1/627)، بَخ (بكسر الخاء وإسكانها) كلمة تقال في موضع الإعجاب.

[23] أخرجه أحمد (22211).

[24] أخرجه الترمذي (2260).

[25] أخرجه الطبراني في الكبير (10394).

[26] أخرجه ابن حبان (354).

[27] الدرر السنية، شرح حديث: إن الله يحب أن تؤتى رخصه.

X