كتاب «مدارج السالكين» للإمام «ابن القيم» عليه رحمة الله من الكتب التي لقيت العناية والاهتمام من أهل العلم على مر السنين؛ لمحتواه الذي يركز على تزكية النفس وتطهيرها، وأحوال السلوك وطريق السير إلى الله تعالى، وهو شرح لكتاب «منازل السائرين» للإمام «الهروي» رحمه الله، وفي هذا المقال إشارات منهجية منتقاة، وتعليقات لطيفة على بعض ما في الكتاب.
القراءة المقاصدية المنهجية ضربٌ من ضروب قراءة الكتب والمصنفات، لا يُعنى فيها الشارح أو القارئ بتناول جميع ألفاظ الكتاب ومسائله، أو قراءة جميع فصوله وأبوابه، بل يقصد إلى بيان الأصول الكلية للكتاب مشيرًا إلى طريقة ومنهجية المؤلف في التصنيف، وقراءة أبرز فصول الكتاب بما يخدم هذه الفكرة[1].
التزكية والسلوك:
خلق الله السموات والأرض والثقلين، وبعث الأنبياء وأنزل الكتب من أجل غاية واحدة وهي عبادته سبحانه وتعالى إلهًا واحدًا لا شريك له، وقد كان سيدنا محمد ﷺ خير العابدين وسيد المحبين، وكان يُعلِّم أصحابه الإيمان قبل القرآن، فلما تعلَّموا القرآن ازدادوا به إيمانًا كما أخبر بذلك سيدنا جندب بن عبد الله رضي الله عنه [2]، مما يدل على مركزية التزكية وحضورها في تربية النبي ﷺ لأصحابه.
ولم يزل على ذلك حتى فاضت روحه إلى بارئها وقد ترك أمته على «المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك»، وسار على ذلك الصحابة الكرام من بعده، فكان هديه يَسُوسهم ويحفظ سيرهم عن الانحراف والزيغ، حتى خلف من بعدهم خلف فيهم المسدَّد المقارِب لخطى الأولين، والشاطط عن دربهم ومنهجهم، إما بذوقٍ فاسد أو رأيٍ دخيل أو بدعة مُضِلَّة، ليبقى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ الحجّة التي يُقاس إليها كلُّ رأيٍ وكلُّ منهج، وكتاب مدارج السالكين من الكتب المهمة في توضيح أسس علم السلوك والتزكية، وضبطه على المنهج القويم.
تناول ابن القيم كلام الهروي مؤلف «منازل السائرين» على أحسن معانيه على الرغم من الاختلاف معه في العديد من المسائل، وفي ذلك إشارات منهجية إلى الأثر المعرفي لحسن الظن زيادة على ما فيه من الأدب
«منازل السائرين» .. كتاب ومؤلف:
مؤلف الكتاب هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن الأنصاري الهروي (٣٩٦ه – ٤٨٤ه)، شيخ خراسان، إمامٌ في الحديث والتفسير، يدخل على الملوك والسلاطين فلا يهابهم، وكان له صولة وهيبة واستيلاء على النفوس ببلده، وكان عندهم أطوع وأرفع من السلطان[3].
قال في سبب تأليف كتاب «منازل السائرين»: «إنَّ جماعة من الراغبين في الوقوف على منازل السائرين إلى الحق عزَّ اسمه من الفقراء من أهل هراة والغرباء طال عليَّ مسألتهم إياي زمانًا أن أبين لهم في معرفتها بيانًا يكون على معالمها عنوانًا فأجبتهم بذلك بعد استخارتي اللهَ واستعانتي به، وسألوني أن أرتبها لهم ترتيبًا يُشير إلى تواليها ويدلُّ على الفروع التي تليها وأن أُخْلِيَه من كلام غيري وأختصره ليكون ألطف في اللفظ وأخف للحفظ»[4].
وقال مبينًا نهجه ومستنده في التأليف: «تصحيح البدايات هو إقامة الأمر على مشاهدة الإخلاص ومتابعة السنن»[5]. فبين بذلك أنه متابع لسنة النبي ﷺ مُعظِّم لحديثه.
لكن مع عِظَم منزلة الشيخ، وتمسُّكه بالكتاب والسنة، ووقوفه تلك المواقف العظيمة في نصرتها، إلا أنه كانت له بعض الزلّات مما كان ينبغي له الابتعاد عنه كما ذكر ذلك الإمام الذهبي في ترجمته له[6]، وكما استدرك عليه الإمام ابن القيم ذلك في كثير من المواضع من كتابه مدراج السالكين كما ستأتي الإشارة إليه.
كتاب «مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين»:
ابتدأ الإمام ابن القيم الكلام في كتابه عن سورة الفاتحة وما اشتملت عليه من معارفَ ولطائف، وما تضمّنته من الردِّ على الفرق والطوائف من أهل البدع والضلال، «وما تضمنته من منازل السائرين ومقامات العارفين والفرق بين وسائلها وغاياتها ومواهبها وكسبياتها».
ثم عقد فصولًا طويلة في الحديث عن أصول الدين التي حوتها سورة الفاتحة، والردِّ على كثير من المقولات والأفكار، وولج في الكلام عن المنازل والمقامات، مبينًا أنَّ الأصل في الكلام فيها «أن نذكر منازل العبودية الواردة في القرآن والسنة»، وأنَّ الترتيب فيها والتصنيف الذي اعتاد عليه أرباب السلوك واقع تحت تحكُّمهم وسيرهم ولهم فيه اختلاف كبير، ثم عاد وبيَّن أنَّ تناوله لهذه المنازل التي ذكرها الهروي هو من باب «مخاطبة أهل الزمان باصطلاحهم» وأنه من باب ضرب الأمثال.
وقد تناول الإمام ابن القيم كتاب «منازل السائرين» بالشرح والتعليق على الرغم من الاختلاف معه في العديد من المسائل، وتناول كلامه أثناء ذلك على أحسن معانيه، وفي ذلك إشارات منهجية مهمة قبل كل شيء إلى الأثر المعرفي الكبير لحسن الظن زيادة على ما فيه من الأدب[7]، فلو أنَّ ابن القيم أعرض عن كتاب «منازل السائرين» بحجّة ما فيه من أغلاط أو زلات، أو أهمله تحت تأثر مخالفته للإمام الهروي لما خرج إلينا كتاب «مدارج السالكين» الذي أصبح عمدة في باب التزكية والسلوك.
لو أنَّ ابن القيم أعرض عن كتاب «منازل السائرين» بحجّة ما فيه من أغلاط أو زلات، أو أهمله تحت تأثر مخالفته للإمام الهروي لما خرج إلينا كتاب «مدارج السالكين» الذي أصبح عمدة في باب التزكية والسلوك
أهم التعليقات المنهجية المستفادة من قراءة كتاب «مدارج السالكين»:
أولًا: الاستشهاد بأقوال أهل السلوك الأوائل في معرض الرد على الانحرافات التي طالت متأخريهم:
سبقت الإشارة إلى أن علم السلوك والتزكية شابته شوائب فابتعد عن الجادة الأولى التي أرسى بيارقها أصحاب السلوك الأوائل، لذلك فإن ابن القيم استدلَّ على أصحاب هذه الانحرافات بكلام رؤوس «القوم» أو «الطائفة» كما يطلق عليهم، وهؤلاء السادة الأكارم محل إجماع وإكبار عند عامة المسلمين وعلمائهم، وهم ممن شهد لهم علمهم وسلوكهم على حسن إيمانهم، فيُلزم أصحاب هذه الانحرافات بأقوال هؤلاء الفضلاء، ويبيِّن لهم فساد أقوالهم من أقوال من يُجلُّونهم ويُعظِّمونهم وذلك من أجل الفقه والفهم، وإلزام المخالف انطلاقًا مما يؤمن به.
والشواهد من الكتاب على هذا كثيرة جدًا، ومن ذلك:
- استشهاده على أنَّ الأَولى في ذكر منازل العبودية ومقاماتها اتِّباع نهج السادة الأوائل، الذين تكلَّموا عنها من غير ترتيب ولا حصر للمقامات حيث قال: «فكلام أئمة الطرق هو على هذا المنهاج لمن تأمله، كسهل بن عبد الله التستري وأبي طالب المكي والجنيد بن محمد وأبي عثمان النيسابوري ويحيى بن معاذ الرازي، وأرفع من هؤلاء طبقة مثل أبي سليمان الداراني وعون بن عبد الله الذي كان يقال له: حكيم الأمة وأضرابهما، فإنهم تكلموا على أعمال القلوب وعلى الأحوال كلامًا مفصلًا جامعًا مبينًا مطلقًا من غير ترتيب ولا حصر للمقامات بعدد معلوم».
- استشهاده بسادات القوم وكُبرائهم ليدلَّ على أن السير إلى الله وطرائق عبوديته يجب أن تكون منضبطة بضابط الكتاب والسنة، فنقل عن أبي سليمان الداراني قوله: «تُعرض علي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدَي عدلٍ: الكتاب والسنة».
ونقله عن الجنيد قوله: «مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في طريقنا».
يمتاز الإمام ابن القيم رحمه الله بسعة الاطلاع على مصادر الكتاب والسنة، مع علوّ الكعب في الفهم والشرح، فلا يكاد يذكر «منزلة من منازل السائرين» حتى يسوق لها جملة من الآيات والأحاديث
ثانيًا: العدل والإنصاف مع الإمام الهروي عند بيان الأخطاء، والأدب في التعامل معها:
شيخ الإسلام الهروي عالم من العلماء الأجلّاء الذين تكلَّمت عنهم مواقفهم قبل ألسنتهم في نصرة الدين وبذل العمر في سبيل العلم والتعليم، ومع ذلك فإنَّ كتابه «المنازل» لم يخلُ من بعض «شطحات القوم» وفرائدهم التي تفرَّدوا بها عن غيرهم، لكن الإمام ابن القيم يسطِّر أروع مشاهد أدبِ الخلاف وحمل الكلام على أفضل معانيه في معرض الرد عليه وبيان فساد بعض أقواله، وذاك خلق عزّ اليوم وجود مثيله في ساحات الخلاف بين أهل العلم.
ومن أمثلة ذلك:
- افتتح كلامه في التعليق على كلام الهروي في منزلة «الرجاء» (الرجاء أضعف منازل المريدين) بقوله: «شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه، وكل مَن عدا المعصوم فمأخوذ مِن قوله ومتروك ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه».
- قال في منزلة التوبة بعد أن رد على الهروي: «لا توجِب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدارَ محاسنه وإساءة الظن به، فمحله من الإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل».
- قوله بعد استدراكه على كلام الهروي عن منزلة الشكر بأنه من «سبل العامة»: «يا ليت الشيخ صان كتابه عن هذا التعليل، إذ جعل نصف الإسلام والإيمان من أضعف السبل»، ثم قال بعد أن قرر بعض الردود عليه: «هذا غاية تقرير كلامهم، وكسوته أحسن عبارة، لئلا يتعدى أحد عليهم بسوء التعبير الموجب للتنفير».
ثالثًا: جمعه للنظائر من القرآن والسنة في تحرير معاني المقامات التي تناولها:
يمتاز الإمام ابن القيم رحمه الله بسعة الاطلاع على مصادر الكتاب والسنة، مع علو الكعب في الفهم والشرح، فلا يكاد يذكر «منزلة من منازل السائرين» حتى يسوق لها جملة من الآيات والأحاديث، ومن خلال هذا الجمع يحرر المعنى بأدق عبارة، مبينًا بذلك الضوابط والحدود التي ترسمها وتميزها عن غيرها، وجمعُ النظائر من القرآن والسنة والتفكر في معانيها وأسباب نزولها ومكان ورودها ومناسبة موضوعها وسياقها هو من أجلِّ سُبُل الفهم والإحاطة بالعلم.
والشواهد في هذا الباب أكثر من أن تُعرض، إذ لا تخطئ العين هذا النهج لابن القيم في افتتاح كل منزلة من المنازل، ومن الأمثلة على ذلك:
- قول ابن القيم: «فصل: ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصبر»، ثم قال: «وهو مذكور في القرآن على ستة عشر وجهًا» ثم سردها.
- وقال: «فصل: ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الاعتصام»، ثم قال بعد ذلك: «وهو نوعان: اعتصام بالله واعتصام بحبل الله» ثم سرد الآيات التي ورد فيها ذكر الاعتصام.
- وقال أيضًا: «فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة اليقين»، ثم تتبع ورود هذه المنزلة في القرآن وتزاوجها مع الصبر، وانتفاع أهلها بالآيات، واختصاصهم بالهدي والفلاح، إلى غير ذلك من المعاني التي تحدثت فيها الآيات عن منزلة اليقين.
رابعًا: تفتيقه للمعاني في المنازل الخُلقية وبيان بعض وجوه معانيها حال كونها بين العبد وربه:
تناول ابن القيم بعض المنازل الخُلقية بطريقة جمع النظائر والبحث فيها، لكن اللافت في تناوله لهذه المنازل هو التنقيب في معانيها ليُبين بعض وجوهها التي ينبغي على العبد التحلي بها تجاه ربه، وبذلك يخرج الخُلُق من مساحة التخلق به مع الناس إلى مساحة التخلق به مع الله سبحانه وتعالى.
ومن أمثلة ذلك في الكتاب:
- قوله في منزلة الأدب: «والأدب ثلاثة أنواع، أدب مع الله سبحانه وتعالى، وأدب مع رسوله، وأدب مع خلقه».
- وقال في منزلة الفتوة بعد أن ذكر درجاتها: «هذا في حق نفسه، أما في حق ربه، فالفتوة أن يخاصم بالله وفي الله ويحاكم إلى الله كما كان يقول ﷺ: (وبك خاصمت وإليك حاكمت)، وهذه درجة فتوة العلماء الدعاة إلى الله تعالى.
- وقال في منزلة المروءة: «الدرجة الثالثة: المروءة مع الحق سبحانه: بالاستحياء من نظره إليك واطلاعه عليك في كل لحظة ونفس …».
لا تخطئ العين تأثر الإمام ابن القيم بشيخه ومُعلمه، فالنَّفَس «التيمي» حاضرٌ بقوة في كتابات ابن القيم، وكلٌّ منهما له أسلوبه وعِلمُه الذي لا يغني عن الآخر
خامسًا: حفاوته بشيخه ومعلمه تقي الدين شيخ الإسلام ابن تيمية:
الإمام ابن القيم تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله، رافقه في حله وترحاله وسجن معه ولاقى معه ما لاقى من صنوف العذاب والإساءة، ولا تخطئ العين تأثر الإمام ابن القيم بشيخه ومعلمه، فالنَّفَس «التيمي» حاضرٌ بقوة في كتابات ابن القيم، ولا يعني هذا أنه لم يأت بجديد بعد شيخه، بل كل منهما له أسلوبه وعلمه الذي لا يغني عن الآخر.
وهذه الحفاوة تتمثل في أمور كثيرة، منها ألفاظ التبجيل والاحترام التي يتحدث فيها عن شيخ الإسلام، والاستشهاد بأقواله في التفسير والقضايا الإيمانية أو ببعض القصص والمواقف التي خصَّ بها ابن تيمية تلميذه، وأخذه بالكثير من اختيارات شيخه العلمية، ولعل ما سبق من منهجيات اتبعها «ابن القيم» في كتاب «مدارج السالكين» خير دليل على تأثره بشيخه وتتبعه طريقته.
تناول ابن القيم بعض المنازل الخُلقية بطريقة جمع النظائر والبحث فيها، لكن اللافت في تناوله لهذه المنازل هو التنقيب في معانيها ليُبين بعض وجوهها التي ينبغي على العبد التحلي بها تجاه ربه، وبذلك يخرج الخُلُق من مساحة التخلق به مع الناس إلى مساحة التخلق به مع الله سبحانه وتعالى.
وفي الختام:
هذه زهرات منتقيات، وقطوف مختارة من الإشارات المنهجية التي يزخر بها كتاب «مدارج السالكين» لابن القيم رحمه الله، تعطي فكرة عن قيمة الكتاب في مجال التصفية والتزكية، على أساس علمي راسخ، وقاعدة منهجية متينة، حري بمن رام سلوك الطريق وولوج منازل إياك نعبد وإياك نستعين أن يضع نصب عينيه اصطحابَ مدارج السالكين والنهلَ من معينه.
[1] المقال صياغة ذاتية لبعض الفوائد والإشارات المنهجية التي خرج بها الكاتب من مجالس قراءة كتاب «مدارج السالكين» الذي أقامها الشيخ «أحمد السيد» في رمضان عام ١٤٤١ هجري، وهي مسجلة مرفوعة على موقع اليوتيوب، ينظر: «مقاصد مدارج السالكين».
[2] أخرجه ابن ماجه (٦١).
[3] ينظر: سير أعلام النبلاء (١٨/٥٠٩).
[4] منازل السائرين (١/٤).
[5] المرجع نفسه (١/٦).
[6] ينظر: سير أعلام النبلاء (١٨/٥١٠).
[7] ينظر مقال: عُجمة الفهم، لبدر الثوعي، المنشور على صفحته على الفيس بوك.
أ. أحمد سامر إيبش
كاتب مهتم بالقضايا التربوية والفكرية.
كاتب مهتم بالقضايا التربوية والفكرية.