دعوة

التنمية الدعوية .. نحو آفاق متجدِّدة

حريٌّ بمن أراد أن يرتقي بأي عملٍ أن يقتفي أثر أساتذته وأن يوسِّع جمهوره، وأن يُطوِّر من وسائله وأدواته. والدعوة إلى الله أولى ما يعتنى بتطويره وتنميته، خصوصًا في هذا العصر الذي تلاطمت فيه أمواج الباطل ودهمت كل بيت، فصار لزامًا على دعاة الإسلام أن يولوا هذا الجانب أهميةً كبرى.

مدخل:

الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء وورثتهم من العلماء والدعاة، فهي أم الأعمال؛ بها تحيا النفوس، وتسعد الأسر والمجتمعات، وتصلح البشرية، وتنمو الحضارة، وتجتمع الكلمة، ويرتقي الناس بإيمانهم وسلوكهم وأخلاقهم، وقد أوضح القرآن الكريم وبيَّنت السنة النبوية الشريفة منزلة الدعوة إلى الله، فقد جعل الله لأصحابها شرفًا عظيمًا، ومقامًا رفيعًا، وإمامة للناس في الدنيا، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].

وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أجر الدعاة ومثوبتهم مستمرة دائمة، فقال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)[1].

وبالرغم من كون الدعوة عملاً يمارسه كل فرد في المجتمع المسلم، كبيرًا كان أو صغيرًا أو رجلاً أو امرأة، لكن الطبيعة الحية للمجتمع المسلم طورت من الأداء الدعوي المجتمعي، وأضافت للدعوة مفاهيم متقدمة يمكن استحضارها والبناء عليها، وتحسين واقع الدعوة الإسلامية المعاصر، ومن هذه المفاهيم: مفهوم “التنمية الدعوية” التي كان لها دور بارز في الحضارة الإسلامية، فما حاجة الأمة لها اليوم؟ وكيف نصل بها إلى آفاق تطبيقية متقدمة؟

الطبيعة الحية للمجتمع المسلم طوَّرت من الأداء الدعوي المجتمعي، وأضافت للدعوة مفاهيمَ متقدِّمة يمكن استحضارها والبناء عليها، وتحسين واقع الدعوة الإسلامية المعاصر

مفهوم التنمية الدعوية:

يمكن القول إن التنمية الدعوية هي:

عملية تطويرية تهدف إلى الارتقاء بالعملية الدعوية إلى مستويات أعلى بما في ذلك الدعاة والمحتوى الدعوي والمدعوين، والوصول إلى مراتب أفضل في الكم والكيف من مختلف النواحي الإيمانية، والسلوكية، والأخلاقية، والفكرية؛ من أجل تحقيق الغايات العليا التي خلق من أجلها الإنسان، وهي عمارة الأرض وفق المنهج الرباني، وتتم هذه العملية من خلال التخطيط وفق أسس وأساليب متجددة ومستمرة، ضمن الأطر العامة للشريعة الإسلامية.

التنمية الدعوية في النصوص الشرعية:

السيرة النبوية حافلة بالتنمية الدعوية، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:

أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة”[2].

وجه الدلالة: ربط التنمية بالعلم؛ لأنه المفتاح الذي يساهم في الارتقاء، وهو المرتكز في الدعوة إلى الله، والكتابة والقراءة هي أولى أساسيات العلم كما هو معلوم، وهي متعدية الأثر فالمتعلم سيعمد إلى تعليم غيره خصوصًا مع توافر نصوص الحث على التعلم وأداء العلم؛ لذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أولاد الأنصار الكتابة حتى كثر المتعلمون بينهم، ووصل عدد كتاب الوحي إلى اثنين وأربعين رجـلاً، وبعدها انتشرت الكتابة بين فئات المجتمع حتى جاء النص على الكتابة في توثيق الدَّين في القرآن الكريم.

ثانيًا: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: (فمن تَبِعَ منكم اليوم جنازةً؟) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: (فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: (فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة)[3].

وجه الدلالة: نجد في هذا الحديث تنمية عمل الخير بتنوعه والترغيب به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة)، والأثر المتعدي لعمل الخير معلومٌ مشهود، فمن تلقى معروفًا يوشك أن يهديه لغيره، ومن واساه الرحماء في مصيبته سيجد في نفسه توقًا لتخفيف أحزان المكلومين، وهكذا حتى إنك تجد في المجتمع المسلم أشكالاً من الترابط والتراحم ما لا تجده في أي أمة من الأمم.

ثالثًا: عن ‌أبي هريرة رضي الله عنهع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قال: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)[4].

وجه الدلالة: تدرج العبد وارتقاؤه في مراتب الإيمان من خلال التقرب إلى الله تعالى بأداء فرائضه، واجتناب محارمه، ثم بفعل النوافل والمستحبات، وترك المكروهات؛ هو تنمية لشخص الداعية وصقل لنفسه حتى يصل لمرتبة الولاية الرفيعة؛ فالعبادة سبيل لمقاومة النزعات والشهوات، وتمنح النفس الطمأنينة والإرادة والعزيمة، فلا يبقى معوقات أمام الإنسان لينطلق بالدعوة إلى الله وتنميتها بنفس مطمئنة راضية بما سيصيبها.

والأمثلة كثيرة يصعب حصرها.

والسؤال من أين تبدأ هذه التنمية، وما هي مرتكزاتها؟

 تبدأ من تنمية الجانب الشخصي للداعية، وتمتد للمدعوين، وما يوجه لهم، والأدوات والوسائل المستخدمة في دعوتهم.

تبدأ التنمية الدعوية من شخصية الداعية؛ لأنَّ من لا يملك الشيء لا يستطيع أن يعطيه غيره، فتبدأ التنمية من الداخل خلال تنمية الإيمان، والأخلاق والمواهب والأفكار، فيصبح قوة علمية وعملية فتقوى دعوته، ويسير بها نحو النجاح

أولًا/ التنمية الشخصية للداعية:

نقطة البداية في التنمية الدعوية هي شخصية الداعية؛ لأن من لا يملك الشيء لا يستطيع أن يعطي غيره، فتبدأ التنمية بالداعية من الداخل من خلال تنمية إيمانه، وأخلاقه ومواهبه وأفكاره، فيصبح قوة علمية وعملية يستخدمها في الدعوة، ويسير بها نحو النجاح، وهذا داخل في إتقان العمل الذي يحبه الله.

 وتكون تنمية الجانب الشخصي للداعية بالآتي:

  • الإيمان طريق التنمية والارتقاء:

لا بد من استقرار العقيدة في نفس الداعية كي يبقى القلب ثابتًا مرابطًا على ثغور الدعوة إلى الله، وقد اعتنى القرآن الكريم بتنمية هذا الجانب في كل المناسبات، قال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].

  • القراءة والتعلم المستمر:

القراءة مفتاح المعرفة والعلم، وهي إحدى وسائله الذي لا يتحقق إلا بها، وسبيل لاكتساب المهارات وتطبيقها[5]، لذلك كان للعلم في الإسلام مكانة رفيعة، ومنزلة كريمة، فكانت أول كلمة نزلت، من أول آية تليت، قوله تعالى: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، حيث فتحت آفاق المعرفة، وأبواب العلم، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم على نشر العلم والمعرفة في مجتمعه، قال زيد بن ثابت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحسن السريانية؟ إنها تأتيني كتب) قال: قلت: لا. قال: (فتعلمها) فتعلمتها في سبعة عشر يومًا[6].

  • تنمية العلم بالعمل والتزكية:

وردت التزكية في القرآن الكريم بمعان متعددة، وتعني بالمجمل التخلية والتحلية، التخلية تكون من الرذائل، والتحلية تتحقق من خلال العمل بالطاعات والقربات والفضائل، قال الله تعالى: ﴿‌رَبَّنَا ‌وَابْعَثْ ‌فِيهِمْ ‌رَسُولًا ‌مِنْهُمْ ‌يَتْلُو ‌عَلَيْهِمْ ‌آيَاتِكَ ‌وَيُعَلِّمُهُمُ ‌الْكِتَابَ ‌وَالْحِكْمَةَ ‌وَيُزَكِّيهِمْ ‌إِنَّكَ ‌أَنْتَ ‌الْعَزِيزُ ‌الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 129].

  • تنمية المهارات الشخصية:

وهي مهارات التعامل مع الآخرين، فهي من الصفات بالغة الأهمية بالنسبة للداعية ومن أهمها: التخطيط وإدارة الذات، وفن الإقناع، واتخاذ القرار، وحل المشكلات، وفن الحوار والاستماع، والتركيز والتوازن، والتغير، وفن الاتصال والتحفيز، وإدارة الأولويات، وفن القيادة الفعالة وغيرها.

 عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة داعيًا إلى الله تعالى استقبله أسعد بن زرارة، فأقبل إليهما أسيد بن حضير مغضبًا -قبل إسلامه وكان سيدًا في قومه- ومعه حربته، فقال أسعد لمصعب: هذا سيد قومه، فاصدق الله فيه، فوقف عليهما أسيد قائلاً: ما جاء بكما إلينا، تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كان لكما بأنفسكما حاجة! وقال أسيد لأسعد ابن عمه: أتيتنا في دارنا بهذا الغريب الطريد ليدعو ضعفاءنا إلى الباطل؟ فعندما انتهى من كلامه، وفرَّغ ما في جعبته من الغضب، قال له مصعب: أَوَتجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلتَه، وإن كرهتَه كففتُ عنك ما تكره. فكلمه مصعب وقرأ عليه القرآن. فقال أسيد: ما أحسن هذا وأجمله! فأسلم. فأقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه كذلك وهو سيد المدينة إلى مصعب مغضبًا أشد من غضب أسيد فشتمه ولم يرد عليه مصعب، فعندما انتهى من تفريغ غضبه، قرأ عليه مصعب القرآن فأسلم سعد، فما أمست المدينة إلا وقد أسلمت لإسلام سعد بن معاذ رضي الله عنه[7].     

التنمية القيادية لدى الداعية تكون بالتحمُّل الدائم للمسؤوليات التي تناط به ويشارك بها، وبحسن التعامل مع الأزمات، واستثمار الفرص المتاحة، وتنمية مهاراته وخاصة العلمية، وتشجيع المدعوين وتحفيزهم علميًا وعمليًا

  • التنمية الوجدانية مع الله:

 في الإنسان قوة غير ظاهرة للعيان، وهي الإرادة والمشاعر والعواطف، وقد توجه الإنسان إلى عمل الخيرات وترك المنكرات، أو العكس؛ لذلك نجد الاهتمام الكبير من النبي صلى الله عليه وسلم بتنمية الجانب الوجداني في قلوب ونفوس أصحابه وتهذيبها، وهم خير الدعاة إلى الله تعالى ومن الأمثلة على ذلك:

  1. الإخلاص:

بأن يقصد المسلم بأعماله جميعها وجه الله، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ [سورة الزمر: 2]، فالإنسان مجبول على حب الظهور، فأتى الإسلام ليوجه هذا الطبع نحو الله تبارك وتعالى، والتجرد له والاهتمام بقلبه، تأمل في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله لا ينظرُ إِلى أجسامِكُم، ولا إِلى صُوَرِكم، ولكن ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالكم)[8].

فالداعية أحوج ما يكون إلى تهيئة القلب للدعوة إلى الحق حتى يستقيم أمرها على أحسن حال[9].

  1. التوبة والاستغفار:

وهما جانبان مهمان في تنمية روح اللجوء لله تعالى والافتقار إليه، والشعور بالندم عند الخطأ في نفسية المسلم، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والله إني لأَستغفِرُ الله وأتوبُ إليه في اليومِ أكثرَ مِن سبعينَ مرةً)[10].

وتنمية جانب التوبة والاستغفار في وجدان الداعية يفتح عليه بابًا من العلم، ويكرمه الله بأفضال ونعم عديدة، ويمنَحُه فوائد جليلة، ويُغدِق عليه بذلك ثمرات كثيرة، وسير الدعاة مليئة بهذا الجانب على مر العصور والأزمان[11].

  • تنمية الجانب الإبداعي للداعية:

ينبغي للداعية ألا يسير على وتيرة واحدة في دعوته وتعامله، بل وينمي جانب الإبداع باستمرار ويكون عن طريق الآتي:

أولاً: استنهاض مهارات التفكير العليا في الداعية، ومن أهمها مهارات العصف الذهني الذي يهدف إلى توليد قائمة من الأفكار التي يمكن أن تؤدي إلى حل المشكلات التي تواجه الداعية في طريقه.

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟) فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: (هي النخلة)[12]. وقد تجسدت الحكمة النبوية بتنمية طريقة العصف الذهني، وتوسيع مدارك أصحابه الدعاة الذين انطلقوا في أرجاء المعمورة؛ لأن الإنسان متى حصل على المعلومة بعد عناء وفكر وإعمال عقل رسخت في ذهنه.

ثانيًا: توليد الأفكار باستمرار، فأحيانًا بفكرة واحدة يعز الله دينه، بفكرة واحدة ربما يتحقق النصر[13]، قام سلمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إليه بحفر الخندق فنفع الله بفكرته واقتراحه الإسلام والمسلمين.

  • تنمية الجانب القيادي للداعية:

الداعية قائد مؤثر في الآخرين، يتبعه الناس، وهو أسوة يقتدى به[14].

وتنمية هذا الجانب يكون بالتحمُّل الدائم لكافة المسؤوليات التي يتولاها ويشارك بها[15]، وبحسن التعامل مع الأزمات، واستثمار الفرص المتاحة، وتنمية مهاراته وخاصة العلمية، وتشجيع المدعوين، وتحفيزهم على الالتزام بالدين عقيدة ومعاملة وأخلاقًا.

ومن أهم وسائل تنمية هذا الجانب المشاورة؛ لما لها من أثر في تنمية قدرات القائد على اتخاذ القرار؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على مشاورة أصحابه في جميع الأمور.

  • البعد عن التعصب

وهو التفكير دائمًا بصفة أحادية مع إلغاء الرأي الآخر، ورفض تقبله ونقاشه، والإسلام دين وسطية وتوازن في تناول الأمور وعند التعامل مع البشر، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].

فالتعصب يكون فقط للحق لا لهوى أو مصلحة.

حتى تلبي الأدوات والوسائل الدعوية الحاجات المتطورة في كل عصر تحتاج إلى قاعدة ثابتة من الموارد المالية والاقتصادية المتجدِّدة التي تنميها وتطورها، وأهم هذه الموارد: الأوقاف

ثانيًا/ تنمية الأدوات والوسائل الدعوية:

ما يستعين به الداعية على تبليغ الدعوة إلى الله تعالى على نحو نافع ومثمر يسمى وسيلة أو أداة، ومعلوم أن القضايا الدعوية متجددة، والوسائل كذلك متجددة تواكب مستجدات العصر بحسب الزمان والمكان وحال الناس، فمن لم يتقدم يتقادم، ومن لم يتجدد يتبدد.

وقد استخدم الدعاة على مر الزمان وسائل كثيرة وكل وسيلة لها دور مهم في نشر الدعوة ومنها:

وسائل قديمة:

كالخطبة والدروس والمحاضرات والندوات والحوار والكتابة والوعظ والتذكير، ثم تطورت هذه الوسائل، ولم تعد مقتصرة على السابقة.

وسائل حديثة:

هذا النوع له تأثير عميق في حياة الناس على مختلف أجناسهم ومستوياتهم، كالصحيفة والمجلة والكتاب والمدرسة، والإذاعة والشاشة، ودور العرض العامة، والرسائل الكتابية أو المحادثات، والمسرح والحوار والمهرجان والشبكة ومواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب وغرف الحوار المباشر.

وهذه الأدوات والوسائل جسر هام للوصول إلى الناس بأسرع وقت وأقل تكلفة إذا أحسن الداعية استعمالها.

ولكي تلبي الأدوات والوسائل الدعوية الحاجات المتطورة في كل عصر تحتاج إلى قاعدة ثابتة من الموارد المالية والاقتصادية المتجددة التي تنميها وتطورها، وأهم هذه الموارد: الأوقاف، وتاريخ الحضارة الإسلامية اعتمد على الوقف لتنمية هذه الوسائل، وبداية الوقف كان من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتبعه الصحابة الكرام في ذلك، وكان للوقف نتائج جلية في النهوض بالدعوة واستمرارها والحفاظ على وسائلها، فقد استفاد الناس منذ القديم ومازالوا إلى الآن من الأوقاف، كالمساجد ودور العلم والمكتبات التي فتحت أبوابها في وجه طُلاب العلم، وكذلك المدارس والمشاريع الوقفية، وهذا ما يميز الوقف كمورد عن غيره من الموارد وهو الديمومة والاستمرار على مر العصور.

ثالثًا/ تنمية المدعوين:

ويكون بتنمية حالة قبول الخطاب الدعوي والتسليم للأوامر والنواهي الشرعية للمدعوين، وتتجلى هذه التنمية بالآتي:

  • المشاركة الوجدانية:

 مشاركة المدعوين أحوالهم كالتهنئة في الأفراح وعيادة المريض وإجابة الدعوة والسؤال عن أحوالهم ومواساتهم فيما يصيبهم، قال صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)[16]. بالمشاركة سترتفع سهام الداعية لدى المدعوين ويلتفون حوله ويقبلون دعوته.

  • إظهار المحبة لهم:

فبالحب يحصل الاتباع، فيصغي المدعو وتدخل المحبة إلى قلبه فيعظم كلام الداعية ويقبله وينمو في قلبه، وهذا كان حال الصحابة رضوان الله عليهم، ففي مفاوضات صلح الحديبية كان عروة بن مسعود أحد الموفدين من قبل قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع إليهم قال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد -صىلى الله عليه وسلم- محمدًا[17].

  • مخالطة الناس في مجتمعه والتعرف على أحوالهم:

 كلما كان الداعية قريبًا من الناس كانت استجابتهم لدعوته أكبر، واجتماعهم حوله أكثر، قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾ [الكهف: 28]، وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)[18].

  • المساعدة في قضاء الحاجات

بالمعونة أو بالشفاعة القولية أو الفعلية والتيسير عليهم، فيملك الداعية نفوس المدعوين ويأسر قلوبهم بمعروفه، قال تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ [النساء: 85].

  • تأمين خدمات المجتمع

من خلال التكافل الاجتماعي كمشاريع إقامة المدارس والتعليم، والمستوصفات ورعاية ضعفاء المسلمين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة أول ما بنى مسجدًا.

  • نشر الرحمة

بينهم والتعاطف والتعاون، فالداعية لا يكون إلا رحيمًا بعباد الله، شفوقًا عليهم، محبًّا لهم، يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه.

قال عز وجل: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].

من أجل قبول المدعوين لخطاب الداعية لا بد من اختيار الخطاب الدعوي المناسب لهم، وذلك لاختلاف مستوياتهم، فمنهم المتعلم والجاهل والكبير والصغير، وقد يحتاج الداعي إلى أسلوب الرد على الشبهات، أو أسلوب التربية والإعداد، أو أسلوب الترغيب والترهيب، وغير ذلك

رابعًا/ تنمية الخطاب الدعوي:

 وهو البيان الذي یوجِّه للناس كافة لدعوتهم إلى الإسلام، والتأثير فيهم تأثيرًا يحملهم على الالتزام به؛ ومن أجل وصول الخطاب إلى القبول في نفوس المدعوين لا بد من اختيار الخطاب الدعوي المناسب لهم، وذلك لاختلاف مستوياتهم، فمنهم الأطباء وأصحاب العلم والمحامون والمهندسون والعوام، فأحيانًا يحتاج الداعي إلى أسلوب الرد على الشبهات والمفتريات، وأسلوب التربية والإعداد، وأسلوب الترغيب والترهيب، وغير ذلك، وهذا يسهل على الداعي إذا حدد له طبقة من المدعوين قبل أن يبدأ العمل الدعوي، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]، والبصيرة بمعناها العام هي العلم والفهم.

وتنمية الخطاب الدعوي ترتكز على الآتي:

  • تنمية خطاب الانتماء والولاء:

ليشعر الجميع بالانتماء والولاء عملاً بقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92].

  • تنمية خطاب أدب الاختلاف:

 انطلاقًا من مبدأ إقرار حقِّ كلِّ صاحب مذهبٍ، أو رأيٍ معتبرٍ، في تبنِّيه والدعوة إليه –وفق الأصول العلمية والعملية- مع رعاية رحم الأخوّة، وحفظ الحرمات، ومراعاة أن الحق يُقبل من كل من تكلم به، ولا يحل التشنيع على المخالف، بسبب مسائل تحتمل وجوهًا في الفهم[19].

  • تقديم الإسلام منهجًا مرتبطًا بالزمان والمكان والإنسان:

 موصولاً بالواقع، مشروحًا بلغة العصر، جامعًا بين النقل الصحيح والعقل الصـريح، ثابتًا في الكليات والأصول، مَرِنًا في الجزئيات والفروع، محافظًا في الأهداف، متطورًا في الوسائل، منتفعًا بكل قديم صالح، مرحبًا بكل جديد نافع[20].

  • تنمية الخطاب المتضمن للقيم العليا:

التي تدفع للعمل والحركة، والتجرّد، والتضحية، والإخلاص، وإبعادهم عن السلبية والكسل والخمول والفتور، وبإمكان هذا الخطاب بعث قيم الإسلام وغاياته ومقاصده بعد غلبة الجانب المادي في مفاصل حياة الفرد والمجتمع، وذلك عن طريق طرح وسائل وأساليب وطرق تزكية النفس؛ من الدعاء وصلاة التهجد والأذكار وتلاوة القرآن وصوم النوافل، والاطّلاع على أمراض القلوب، وكيفية معالجتها، والتخلص منها.

  • تنمية قضية الثواب والعقاب:

وتعريف الناس بربهم، وما أعده لهم من ثواب وعقاب في اليوم الآخر.

  • تنمية خطاب الشورى:

 وتعزيز المشاركة الواسعة للجميع في صناعة القرار، عملاً بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [الشورى: 38].

  • تنمية خطاب توحيد الكلمة:

 وحشد طاقاتهم، وتوجيهها باتجاه خدمة القضايا الكبرى والغايات المشتركة، فالإسلام مبنيٌّ على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، واجتناب أدوات الشقاق وأسباب الخلاف والتنافر، وأهمها الهوى والعصبيات والمناصب والنفوذ، فالأصل في الدين أنه دعوى للتوحد لا للفرقة.

  • وأخيرًا الصبر على تحمل الأذى:

فطريق الدعوة إلى الله ليس مفروشًا بالرياحين، ولابد فيه من الابتلاء، لذلك كان من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالصبر مقرونًا بالدعوة إلى الله، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنذِرْ 2 وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ 3 وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ 4 وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ 5 وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ 6 وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ [المدثر: 1-7]، فلا بد للداعي إلى الله من التحلي بالصبر، فالرسل دعوا وصبروا فكانت العاقبة لهم وللمؤمنين، سئل صلى الله عليه وسلم: من أشد الناس بلاءً؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)[21].

طريق الدعوة إلى الله ليس مفروشًا بالرياحين، ولا بد فيه من الابتلاء، لذلك كان من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالصبر مقرونًا بالدعوة إلى الله

تطبيقات واقعية للتنمية الدعوية في واقعنا اليوم

 التطبيقات الواقعية للتنمية الدعوية كثيرة، ولكن بين يديك عدة نماذج منها:

  • مدارس تعليم القرآن الكريم:

ووجه التنمية فيها تربية جيل من الأبناء على هدي القرآن الكريم، وهم بدورهم سينقلون هذا الهدي إلى الأجيال التالية التي ستتابع نفس المهمة فيمن بعدهم.

  • الأوقاف التي توقف على النفقات الدعوية:

فالوقف هبة يهبها المتبرع مرة واحدة، لكنها تمد العمل الدعوي إلى يوم القيامة مادام الوقف قائمًا.

  • معاهد ومراكز تخريج الدعاة والمصلحين:

فكل داعية منهم قد يفتح الله على يديه في دعوة ملايين الناس، وقد يتخرج على يد كل منهم دعاة آخرون.

ختامًا:

لكل عمل آثار، ومن الآثار المرجوة إذا أخذ الدعاة بالتنمية الدعوية:

  • أ‌- الحفاظ على المكتسبات والنتائج عبر الزمن.
  • ب‌- سبيل لاستمرار الدين وثباته في المجتمعات في مواجهة العدوان المستمر على كيانه.
  • ت‌- التأثير الدائم على المدعوين بما يصلحهم في الحال، ويسعدهم في المآل، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162].
  • ث‌- البركة والنجاح المستمر؛ لأن فيه إتقانًا للعمل الذي يحبه الله، وإذا أحب الله عمل عبدٍ بارك فيه.

أ. عبد الرزاق ميزة نازي

ماجستير في الفقه وأصوله، مدير مركز تاج لتعليم القرآن الكريم في الريحانية


[1] أخرجه مسلم (2674).

[2] أخرجه أحمد (2216)، وابن سعد في “الطبقات” (٢/٢٢).

[3] أخرجه مسلم (1028).

[4] أخرجه البخاري (6502).

[5] أهمية القراءة وفوائدها، لعبد الله آل جار الله، ص (5-6) بتصرف.

[6] أخرجه أحمد ( 21587)، وابن حبان (٧١٣٦).

[7] أخرجه البيهقي في الدلائل (2/438)، الرحيق المختوم، للمباركفوري، ص (130).

[8] أخرجه مسلم (٢٥٦٤).

[9] ينظر: التنمية البشرية في السنة النبوية، لرائد أبو رية، مجلة كلية الدراسات الإسلامية للبنات بكفر الشيخ، العدد الثاني، المجلد الرابع لعام 2018م، ص (232).

[10] أخرجه البخاري (٦٣٠٧).

[11] ينظر: التنمية البشرية في السنة النبوية، ص (238).

[12] أخرجه البخاري (61)، ومسلم (2811).

[13] ينظر: التنمية البشرية في السنة النبوية، ص (254).

[14] ينظر: التنمية البشرية في السنة النبوية، ص (260).

[15] ينظر: الرسول القائد، لمحمود شيت خطاب، ص (438-439) بتصرف.

[16] أخرجه البخاري (1240) ومسلم (2162).

[17] أخرجه البخاري (2732).

[18] أخرجه الترمذي (2507)، وابن ماجه (4032).

[19] ينظر: نحو خطاب إسلامي مرتبط بالأصل ومتصل بالعصر، لعصام أحمد البشير، ص (28– 29).

[20] ينظر: المرجع السابق، ص (67– 69).

[21] أخرجه ابن حبان (2900).

ماجستير في الفقه وأصوله، مدير مركز تاج لتعليم القرآن الكريم في الريحانية.
X