«أهل السنة والجماعة» مصطلح اضطرب فيه الخائضون، واختلف فيه المتكلمون، ابتداء من أصل هذا المصطلح، وإطلاقه، وسعته أو ضيقه، وفي هذا المقال بيان لأهل معالمه، والتنبيه على الأخطاء في التعامل معه.
شعبان 1441 هـ – نيسان/أبريل 2020 م
د. عماد الدين خيتي[1]
«أهل السنة والجماعة» مصطلحٌ عرفهُ أهل العلم منذ القرون الثلاثة المفضّلة، وفي يومنا هذا تزايد الاهتمام به؛ فعُقدت له المؤتمرات والندوات، وتناولته مراكز الأبحاث والدراسات، وتدخَّلتْ فيه بعض الحكومات لتصفية الحسابات، وتغذية الخلافات، وزرع الفتنة بين المسلمين، بعيدًا عن الأسس العلمية المنضبطة، ومن ذلك [مؤتمر غروزني 2016] أنموذجًا، وانعكست نتائج هذا الحراك على الوسط السُّني بطبيعة الحال.
وقد انقسم الناس في هذا المصطلح إلى متشدِّدٍ يُخرج منه كلَّ مَن خالفه، ومُتساهلٍ يُدخل فيه كلَّ من انتسب إلى أهل السنة مهما خالف أصولَهم، وانشغل البعض بالخلافات والفروق «المدرسية» ممَّا أضاع عليهم حقيقة الانتماء لدائرة أهل السنة الواسعة المشتركة، واختلطت عليه الأوليات، فضيّع حقيقة الانتماء لأهل السنة بمجموعهم.
وجميعُ ذلك يؤكِّد الحاجة إلى مزيد تأكيدٍ وتوضيحٍ وضبطٍ لدائرة الانتماء لأهل السنة بطريقة علمية وهادئة، وسيكون ذلك من خلال المسائل التالية:
المسألة الأولى: تأصيل وتحرير مصطلح أهل السنة والجماعة:
أهل السنة والجماعة هم عامَّةُ الأمة الإسلامية، وسوادُها الأعظم، ليسوا حزبًا من الأحزاب، ولا فرقةً من الفرق، ولا طائفة من الطوائف؛ فهم أهل القرون الثلاثة المفضَّلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومَن سار على نهجهم من العلماء والأئمة المتبوعين، تمسَّكوا بالحق حين تفرَّقت بالناس السبل، وثبتوا على المنهج النبوي حين حادت عنه سائر الفرق.
أهل السنة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرفون به، لا جهمي، ولا قدَري، ولا رافضي
الإمام مالك رحمه الله
للإسلام ينتسبون، وبمحمد صلى الله عليه وسلم يقتدون، حفظ الله بهم الدين، وعلى أيديهم فُتحت البلدان، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وحُكمت الأرض بشرع الله، وبُسط العلم وانتشر.
سُئل الإمام مالك عن أهل السنة فقال: «أهل السنة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرفون به، لا جهمي، ولا قدَري، ولا رافضي»[2].
وسئل عن السنة مرة أخرى فقال: «هي ما لا اسم له غير السنة»، وتلا: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153][3].
تحرير المصطلح:
من المتفق عليه عند الباحثين أن مصطلح «أهل السنة والجماعة» يتكون من جزأين، وقد ورد كلاهما في النصوص الشرعية:
أهل السنة: والمقصود بها ما كان عليه صلى الله عليه وسلم مِن الهَدْي والاعتقاد والعلم والعمل، أخذًا من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (فعَلَيكُم بِسُنّتي وسنَّة الخُلفاء المَهديين الراشدين)[4].
الجماعة: المقصود بها جماعة المسلمين، فقد سُئل صلى الله عليه وسلم عن الناجين من الافتراق والابتداع فقال: (هم الجماعة)[5]، وقال صلى الله عليه وسلم: (وعليكُم بالجماعةِ، والعامَّة، والمسجد)[6].
ثم كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم وتابعوهم أوَّل من استخدم هذا المصطلح، تارة مفردًا وتارة مجموعًا:
فورد في لفظ السنة:
قول أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه: «عليكم بالسَّبيل والسُّنة» [7].
وقول الحسن البصري رحمه الله: «يا أهل السُّنة ترفَّقوا رحمكم الله»[8].
وقول ابن سيرين رحمه الله: «لم يكونوا يسألونَ عن الإسناد، فلمَّا وقعت الفتنة، قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنَّة فيُؤخذ حديثُهم، ويُنظر إلى أهلِ البِدع فلا يُؤخذ حديثُهم»[9].
وعن زكريا بن يحيى قال: سمعت أبا بكر بن عياش[10] ، وقال له رجل: يا أبا بكر، مَنْ السني؟ فقال: «السنيُّ الذي إذا ذُكرت الأهواء لم يغضب (وفي رواية: لم يتعصَّب) لشيء منها»[11].
وورد في لفظ الجماعة:
قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا إسلامَ إلا بجماعة»[12].
وقول ابن مسعود رضي الله عنه: «يا أيها الناس، عليكم بالطَّاعة والجماعة، فإنَّها حبل الله الذي أَمر به، وما تكرهون في الجماعة خيرٌ مما تُحبون في الفُرقة» [13].
وقال الأوزاعيُّ رحمه الله: «خمسٌ كان عليه أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم: لزومُ الجماعة، واتباعُ السنة، وعِمارةُ المسجد، وتلاوةُ القرآن، وجهادٌ في سبيل الله»[14].
كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم وتابعوهم أوَّل من استخدم هذا المصطلح، تارة مفردًا وتارة مجموعًا
وجاء في اجتماع لفظ السنة مع الجماعة:
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: 106]: «حين تَبيَضُّ وُجوه أهلِ السنة والجماعة، وتَسوَد وجوه أهل البدعة والفُرقة»[15].
وعن قتادة، وسعيد بن جبير رحمهم الله في قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ قالوا: «لزومُ السُّنة والجماعة»[16].
ومما تقدم يمكن استنتاج أن السلف رحمهم الله قد استخدموا هذا المصطلح لأمرين:
1- بيان من تُقبل روايته للأحاديث، ويؤخذ العلم الشرعي عنه؛ لكونه ثابتًا على الدين، لم ينحرف ولم يبتدع.
2- توضيح معالم الدين الصحيح؛ تمييزًا له عن الانحرافات التي شذَّ بها بعض الأفراد، ثم تطوَّرت إلى فرق.
ويلحظ أن اهتمامهم بهذا المصطلح زاد بعد ظهور بوادر الانحراف في الأمة؛ لذلك فقد ورد تعريف السنة والجماعة بعدة تعريفات بحسب الافتراق الحاصل، والبدعة المردود عليها، مع أن مرجعها واحد:
ففي تعظيم الشرع والانقياد له:
– قال سعيد بن المسيب لرجلٍ صلّى بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يُكثر فيهما الركوع والسجود فنهاه، فقال: يا أبا محمد! يعذبني الله على الصلاة؟! فقال: «لا، ولكن يعذِّبك على خلاف السنة»[17].
وفي عدم تفريق جماعة المسلمين والخروج عنها:
– قال حذيفة رضي الله عنه: «من فارق الجماعة شبرًا، فارق الإسلام»[18].
– عن علي رضي الله عنه قال: «الأئمةُ من قريش، ومن فارق الجماعة شبرًا، فقد نـزع رَبَقة الإسلام من عنقه»[19].
– عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: 103] قال: «الجماعة»[20].
ومجمل ذلك يوضحه قولُ الألوسي رحمه الله: «السنة في الأصل تقع على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سَنَّهُ أو أَمَرَ به من أصول الدين وفروعه، حتى الهَدْيَ والسَّمت، ثم خُصّت في بعض الإطلاقات بما كان عليه أهل السنة من إثبات الأسماء والصفات، خلافًا للجهمية المعطلة النُّفاة، وخُصّت بإثبات القدَر ونفي الجبر خلافًا للقدرية النُّفاة، وللقدرية الجبرية العصاة، وتطلق أيضًا على ما كان عليه السلف الصالح في مسائل الإمامة والتَّفضيل، والكفِّ عما شَجَر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من إطلاق الاسم على بعض مسمَّياته؛ لأنَّهم يُريدون بمثل هذا الإطلاق التنبيه على أنَّ المسمّى ركن أعظم وشرط أكبر، كقوله: «الحج عرفة»، أو لأنه الوصف الفارق بينهم وبين غيرهم»[21].
وقال ابن كثير في قوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 30]: «وهذه الأمَّة أيضًا اختلفوا فيما بينهم على نِحَلٍ كلُّها ضلالةٌ إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة المتمسِّكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه»[22].
ومن ذلك يتبيَّن:
1- أنَّ مصطلح أهل السنة مصطلحٌ جاءت به النصوص الشرعية، ثم قررَّه الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أهل العلم، وليس بمصطلح حادث، أو ذا نشأة سياسية كما يزعم البعض[23].
2- اهتمام السلف بتوضيح هذا المصطلح ومعالمه في وقت مبكر ابتداءً منهم، ثم وُجِّه للرد على المنحرفين.
المسألة الثانية: ما الذي يشتمل عليه منهج أهل السنة من أمور الدين؟
منهج أهل السنة والجماعة هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وبيَّنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وسار عليه السلف الصالح من أهل القرون المفضلة الأولى، والأئمة المتَّبعون، وهو بذلك يشمل مسائل الدين الكبرى في العقيدة، والفقه، والسلوك، وما يحتاجه الناس لتصحَّ به عقائدهم، وعباداتهم، ومعاملاتهم، وما تقوم عليه حياتهم الأسرية، والدنيوية، وما يَعمُرون به دُولهم وبلدانهم، وتفصيل ذلك والاستدلال عليه في هذا المقام طويل.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة: من يشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأقرَّ بجميع ما أتت به الأنبياء والرسل، وعقد قلبَه على ما أظهر من لسانه، ولم يشكَّ فِي إيمانه… ولم يُنزل أحدًا من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجنةَ بالإحسان، ولا النار بالذنب اكتسبه، حتى يكون اللَّهُ تعالى هو الذي يُنزل خلقه حيث يشاء، وعرفَ حقَّ السلف الذين اختارهم الله عزَّ وجلَّ لصحبة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم… وصلاة العيدين وعرفات والجمعة والجماعات مع كل برٍّ وفاجر… هذا ما اجتمع عليه العلماء فِي الآفاق»[24].
فالسنة والجماعة بهذا التعريف العام ليست مدرسةً بعينها، أو اختياراتٍ عقديةً أو فقهيةً محددة، بل هي دينُ الإسلام، ويشمل ذلك أصول الدين ومسائله العظام وكلياته الكبرى، وأهل السنة والجماعة هم عموم الأمة المتمايزة عن الفرق الضالة.
من هو السني؟
فالسني هو المسلم، لا يُعرف بهذا الإطلاق إلا هو، ومن عداه فإنْ نُسب إلى الإسلام فإنَّه يُنسب معرّفًا ببدعته وانتمائه.
قال ابن حزم: «وأهلُ السنة الذين نذكرهم أهلُ الحقّ، ومن عداهم فأهلُ البدعة»، ثم قال في أهل السنة: «فإنَّهم الصحابة رضي الله عنهم، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمة الله عليهم، ثم أصحاب الحديث، ومن اتبعهم من الفقهاء، جيلًا فجيلًا إلى يومنا هذ، أو من اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها رحمة الله عليهم» [25].
ما يعدُّ خارجًا عن مفهوم عموم أهل السنة والجماعة:
من خلال ما سبق تتبيَّن مناهج الفرق الأخرى ومعالمها:
– فاتّباع السنة: يخرج به من أنكر السنة، أو لم يأخذ بها، أو لم يُسلم للنصوص الشرعية، أو فارق في معلومٍ من الدين بالضرورة إنكارًا أو انحرافًا، أو خرج عن طريقة الصحابة رضي الله عنهم في العلم والعمل، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق المشهور: (ما أنا عليه وأصحابي)[26].
قال الشاطبي في مصطلح أهل السنة: «أهلُ السُّنة: إنما يُطلق على نَاصريها، وعلى من استنبَطَ على وُفقها، والحامين لِذِمارِها»[27].
– والتزام جماعة المسلمين يُخالفه من خرج عن جماعة المسلمين وخالفها في أمٍر من أمور الدين الكبرى، أو شقَّ عصاها اعتقادًا وعملاً، أو عادى جمهورَها، أو تحزَّب على طائفته دونَها وعقد الولاء والبراء عليها.
وبالرجوع إلى ما قرَّره أهل العلم نجد أنَّ رؤوس الفرق (الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة) قد خالفوا في هذين الأصلين الكبيرين، وتبعهم على ذلك من تفرع عنهم كالمعتزلة ومن هو أشد منهم انحرافًا كالباطنية، ومن لحق بهم من المعاصرين من ذوي الأهواء.
قال الشاطبي: «أصولُ البدع أربعة، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا، وهم: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة»[28].
المسألة الثالثة: أهل السنة والجماعة بالمعنى الخاص:
بعد التقرير السابق فإنَّه ثمة أسئلة وجيهة تطرح:
هل يتجزأ الاتباع؟ وهل تتبعَّض السنة؟ وهل يجتمع في الشخص سنةٌ وبدعة؟
والجواب باختصار: إنَّ الاتباع للدين يتجزأ، والأخذ بالسنة يتبعَّض، فقد يكون لدى الشخص اتِّباعٌ في جانبٍ من الدين، وتقصيرٌ في جانب آخر، وأخذٌ بالسنة في جانب، ونقصٌ في الأخذ بها في جانب آخر، وملازمةٌ للسنة في جانب، وابتعادٌ عنها في جانب آخر، كما أنَّ نجاته من الابتداع والنار يتبعَّض: فقد ينجو من بدعٍ ويقع في أخرى، وينجو من الخلود في النار ويكون متوعَّدًا بها.
وبمقدار التقصير في الأخذ بالسنة والاتباع تظهر المخالفة، وإنْ كانت المخالفة في العقيدة فهي الابتداع.
ومن الطبيعي أنَّ أهل السنة والجماعة يتفاوتون في مقدار الالتزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهمًا وعملاً واتباعًا، وهذا التفاوت هو ما أدّى لظهور «مدارس» متعددة، ومن الطبيعي أن يدَّعي كلٌ منهم الالتزام الحقيقي بها، ويُنازع على لقب أهل السنة، وهو ما يُطلق عليه «أهل السنة» بالمعنى الخاص، والذي يُقصد به اتباع السنة المحضة، والابتعاد عن البدع والأخطاء التي وقعت في الأمة الإسلامية، في أبواب معيَّنة من العقيدة، والفقه، والسلوك.
ومن أثبت لنفسه اتباع السنة، والتزام ما جاءت به النصوص الشرعية فإنَّه سينفي هذا المقدار عن غيره ممن خالفه فيها، وينسبُه إلى المخالفة والبدعة، وإن رجعنا إلى مدوَّنات أئمة هذه المدارس وكبار رجالها فسنجد هذا الاتجاه الخاص في تعريف السنة؛ وذلك بحصرها بمنهجهم دون الآخرين، ومن أمثلة ذلك:
قول ابن تيمية رحمه الله: «فلفظ «أهل السنة» يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يُثبت الصفات لله تعالى ويقول: إنَّ القرآن غير مخلوق، وإنَّ الله يُرى في الآخرة، ويُثبت القَدَر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة»[29].
وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي: «وأبو الحسن الأشعري إمام أهل السنة، وعامة أصحاب الشافعي على مذهبه، ومذهبه مذهب أهل الحق»[30].
المسألة الرابعة: مقدار الخلاف بين أهل السنة ومكانته:
الخلاف بين مدارس «أهل السنة» خلافٌ علمي، وهو في أصولِ مباحث رئيسة في عددٍ من أبواب العقيدة، وليس في مسائل ثانوية أو فرعية، كالخلاف في بعض مصادر التلقي، وتأويل الصفات، ومسمّى الإيمان، وبعض مسائل القدر، وغيرها، لكنها ليست في مقام الأصول الكبرى التي يقوم عليها الدين (أهل السنة والجماعة بالمعنى العام)، كما أنَّها ليست من الخلاف السائغ الذي يجوز فيه تعدُّد وُجهات النظر، بحسب الضوابط العلمية المعلومة للتفريق بين السائغ وغير السائغ من الخلاف[31].
لذا فإن إنكار وجود الاختلاف بين أهل السنة، أو العمل على إلغائه أو تجاوزه ضربٌ من العبث.
كما أنَّ الوقوفَ عندها، وتضخيمَها، وعقدَ الولاء والبراء عليها يُعدُّ من التحزُّب المذموم.
ومحلُّ نظر مسائل الاختلاف بين هذه المدارس: المباحثُ العلميةُ والتعليميةُ المتخصصة، وليست للامتحان ولا التفريق، ولا إرباك عموم الناس بها، وليس مكانُها المنابر ولا المناسبات العامة.
روى مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «ما أنتَ بِمُحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة[32]».
إنكار وجود الاختلاف بين أهل السنة، أو العمل على إلغائه أو تجاوزه ضربٌ من العبث. كما أنَّ الوقوفَ عند الاختلافات، وتضخيمَها، وعقدَ الولاء والبراء عليها يُعدُّ من التحزُّب المذموم.
وقال الشاطبي ناقدًا من يسلُك أمثال هذه المسالك الخاصّة والدقيقة مع عامة الناس: «ويُتصوَّر ذلك فيمن يتبجَّح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقله إلا صغارَها، على ضدِّ التربية المشروعة، فمثلُ هذا يوقع في مصائب، ومن أجلها قال علي: حدِّثوا الناس بما يفهمون…، وقد يصير ذلك فتنةً على بعض السامعين، حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب… فلا يصح للعالِم في التربية العلمية إلا المحافظة على هذه المعاني، وإلا لم يكن مُرَبِّيًا، واحتاج هو إلى عالم يُرَبِّيهِ[33]».
وقال ابن تيمية: «والواجب أمر العامة بالجمل الثابتة بالنص والإجماع ومنعهم من الخوض في التفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله[34]».
المسألة الخامسة: ضوابط ومعالم في التعامل مع مصطلح أهل السنة
مسمى «أهل السنة» بين الانتماء والتحزب:
تتعدَّد دوائر الانتماء للشخص، فهناك دائرة المشترك الإنساني، ودائرة الإسلام، ودائرة القرابة، ودائرة الجيرة، ودائرة الوطن،… ونحوها.
والعاقل هو من يستطيع ترتيب هذه الدوائر وأولويَّاتها، ويعطي كلَّا منها حقَّها، ويضعُها في حجمها ومكانها اللائق بها.
وبالنظر إلى ما نحن بصدده: فإن المسلم يعيش في دائرتين: دائرة أهل السنة العامة، ودائرة أهل السنة الخاصة، ولكلٍّ مكانُها ومقامُها، وأحكامُها.
فمن أخصِّ ما يتعلق بدائرة أهل السنة العامة: موالاةُ جميع المسلمين، ومحبَّتهم، ومناصرتهم، وإقامة شعائر الدين معهم، تعليمًا وعملاً، كالصلاة والصيام، والحج، والجهاد، ونحو ذلك، وإقامة مصالح الدنيا المختلفة. وهذا لا يقوم على وجهه إلا بالثقة وحُسنِ الظن بهم وديانتهم وعلمهم، تمامًا كما يُحسن الظن بمن في دائرته الخاصة.
وهذا الانتماء هو الذي وردت به النصوص الشرعية، كالآيات التي تخاطب المسلمين بألفاظ (الأمة، والمسلمين، والمؤمنين)، والأحاديث النبوية التي تفصِّل حقوق المسلمين على بعضهم.
ومن أخص ما يتعلق بدائرة أهل السنة الخاصة: العناية بالمسائل العلمية التخصصية، تأصيلاً، وبحثًا، وتعليمًا، والتعرف على أدلة المخالفين، ومناقشتها.
وإنه لمن الخطأ والخطر نقل ما تختص به الدائرة الخاصة إلى الدائرة العامة، مثل خطب الجمعة، أو بناء مناهج الدعوة والتعليم الموجهة لعامة المسلمين عليها، الذي يجعلها مادة للفرقة والنزاع والاصطفاف الحزبي.
أمَّا عقد الولاء والبراء، والحب والكره، والنصرة على المعنى الخاص فحسب، فهو التعصُّب الأعمى والتحزُّب الممنوع، الذي يؤدِّي إلى تفرُّق الأمّة وإثارة النزاعات بينها.
قال ابن تيمية رحمه الله: «ليس لأحد أنْ يعلِّق الحمدَ والذمَّ، والحُبَّ والبُغضَ، بغير الأسماء التي علَّق الله بها ذلك، فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أيِّ صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أيِّ صنف كان، والذي يبني محبَّته وبُغضه ومُعاداته ونُصرته على الانتساب لأسماءٍ معينةٍ أو مذهبٍ معينٍ أو جماعةٍ أو حرفةٍ فهذا من أمور الجاهلية المفرقة بين الأمة[35]».
وقال: «فإنْ كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وإنْ كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصُّب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرُّق الذي ذمّه الله تعالى ورسوله؛ فإنَّ الله ورسوله أَمَرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأَمَرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان»[36].
أخطاء التعامل مع مصطلحي أهل السنة والجماعة بالمعنى العام والخاص:
ويمكن -بناء على ما سبق- إجمال أخطاء التعامل مع مصطلحي أهل السنة والجماعة، بالمعنى العام والخاص بما يلي:
1- الخجل من الانتماء لأهل السنة أو رفض ذلك، بزعم الانتماء للإسلام فحسب، وإنما الإسلام هو السنة والجماعة، وما عداه بدعة وانحراف.
2- قصر التسمية بأهل السنة والجماعة على المدرسة الخاصة ونفيه عن البقية دون تفصيل.
3- الخلط بين المصطلحين بتنزيل أحدهما مكان الآخر، وما يتبعه من مشاريع وأعمال.
4- الانشغال بالمصطلح الخاص ومشاريعه عن المصطلح العام، وعقد الولاء والبراء عليه، وخاصة في أوقات المدلهمات والخطوب.
5- إنكار وجود الاختلاف بين أهل السنة، أو العمل على إلغائه، أو تجاوزه.
ولعلَّنا بهذا التأصيل نكون قد حرّرنا هذه المسألة بما يضع النقاط على الحروف، ويؤسس لقواعد التعامل بين أهل السنة، ويقطع دابر من يريد الفتنة بين المسلمين.
[1] باحث ومتخصص في الدراسات الإسلامية، نائب رئيس مجلس الإفتاء في المجلس الإسلامي السوري.
[2] الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، لابن عبد البر (1/35).
[3] الاعتصام، للشاطبي (1/77).
[4] أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وأحمد (17144).
[5] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (63).
[6] أخرجه أحمد (22029)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (132).
[7] أخرجه أبو داود في الزهد (189)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (10)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (1/359).
[8] أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/32).
[9] أخرجه مسلم (1/15).
[10] هو شعبة بن عيَّاش الأسديِّ، أحد رواة القُرَّاء السبعة، إمام عَلَمٌ كبير، مُقرئ عالم حجَّة، من كبار أئمة السنة وفقهائها، ينظر ترجمته: سير أعلام النبلاء (8/495).
[11] ذكره الشاطبي في الاعتصام (1/114)، والآجري في الشريعة (5/2550).
[12] أخرجه الدارمي في سننه (1/135)، وقال المحقق د.مرزوق الزهراني: «فيه صفوان: سكت عنه البخاري (التاريخ 4/309) وفيه انقطاع بين بقية وتميم، وعبد الرحمن مقبول، وانظر: القطوف رقم (167/ 258)».
[13] أخرجه اللالكائي في شرح أصول أهل السنة (6/13)، والآجري في الشريعة (1/298)، واللفظ له.
[14] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2671)، وشرح السنة للبغوي (1/209).
[15] تفسير ابن كثير (2/79).
[16] ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة، للالكائي (1/78).
[17] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4131)، وعبد الرزاق في المصنف (4755).
[18] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (37144).
[19] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (37155).
[20] تفسير الطبري (5/644).
[21] غاية الأماني (1/550).
[22] تفسير ابن كثير (6/317).
[23] هناك من يُرجع نشأة المذاهب والبدع إلى أسباب سياسية فحسب، وهذا خطأ؛ فمن المذاهب والبدع ما تكون نشأته معرفية محضة، ومنها ما تجتمع فيه الخلفية المعرفية والسياسية، ومنها ما تكون نشأته سياسية، ونحو ذلك، كما ينبغي التفريق بين نشأة البدعة وبين استغلالها السياسي بعد ذلك. والخلاصة أن البعد السياسي لنشأة بعض البدع ليس مطردًا فيها كلها.
[24] طبقات الحنابلة (1/294) باختصار.
[25] الفصل في الملل والنِّحل (2/90).
[26] الاعتصام، للشاطبي (1/212).
[27] أخرجه الترمذي (2641).
[28] الاعتصام (3/720).
[29] منهاج السنة (2/221).
[30] طبقات الشافعية (3/376).
[31] ينظر: الخلاف أنواعه وضوابطه، حسن العصيمي، و: منهجية التعامل مع المخالفين، سليمان الماجد، و: فقه الوفاق، إعداد مركز البيان للبحوث والدراسات، و: كي لا يكون الخلاف معولاً للهدم، د.معن عبد القادر، و: معالم منهجية في الخلاف، عاصم الحايك.
[32] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/11).
[33] الموافقات (1/123).
[34] الفتاوى (12/237).
[35] الفتاوى (12/237).
[36] الفتاوى (11/92).
2 تعليقات
التعليقات مغلقة